شخصية أبي زيد في سيرة بني هلال
وإذا ما توقفنا عند ملامح ومكونات البطل المحوري لهذه السيرة، والقوة الدافعة لأحداثها، أبي زيد الهلالي سلامة، نجد أنها خليط غير بعيد عن بطل ملحمي مثل عنترة من حيث اللون، والمأثورات أو الفابيولات المصاحبة لنموه كطفل قدري، جاء على غير لون آبائه، ولازمه بالتالي الاضطهاد، بسبب لونه «الغرابي» الأسود حتى إنه برغم ما أسداه «أبو زيد» من انتصارات للتحالف القبائلي على الهلالي فأصبح الفارس الهلالي الأول، ظلت تلاحقه سياط لونه الأسود، وبالتالي السقوط العبودي الطبقي أو الاجتماعي.
فعندما وقعت المشادة الشهيرة بين الجازية كاهنة التحالف الهلالي، وابنة عمه، وبين زوجته «العالية» بنت جابر حين تزاحمتا على مشارف إحدى مخاضات المياه بمصر ثم بتونس بعد فتحها بهودجيهما، فما كان من الجازية رأس «الأرستقراطية» القبلية إلا أن سبَّت العالية زوجة أبي زيد واصفة إياها بأنها «عشيقة عبدنا»، وكانت تعني بهذا طبعًا أبا زيد، وهو الذي فتح لتلك القبائل التي ثقل عليها الحصار بالقحط، طريق هجرتها الجماعية إلى تونس والمغرب العربي بعامة.
فمنذ أول أسر وقع فيه أبطال بني هلال، حين أسرهم الملك الدبيس — الفارسي — حاكم حلب الشهباء في ذلك الحين، تنكر على هيئة درويش أعجمي ولبس طيلسانًا وحادث الملك الدبيسي بلسانه الفارسي بعد أن تحايل على حراسه المقربين وخدَّرهم بملبسه الحلبي، حين سألوه: «ماذا تأكل يا شلبي؟»
فأجابهم: «هذا ملبس حلبي.»
إلى أن حقق انتصاره على الحكام الفرس منشدًا:
فحيَل أبي زيد الهلالي لا تتوقف عند المعرفة بلغات عصره، وما يتفرع عنها من لهجات، متناهية الانغلاق، ولا في القدرة الفائقة على التنكر والتحولات، بل إيماءات الدراويش والشعراء الجوالين والحواة والحكواتية والكهنة والحكماء والنساء الخليعات والغوازي والمهرجين والعيَّارين … بل هو كان على معرفة كبيرة بمحصلة معلومات، منها ما هو أسطوري وجغرافي وكوني، تبدت في حلوله للمحاذير والألغاز التي من مهامها اختبار قدرات البطل وذكائه وتعويق مآربه وطموحاته.
فقال له: «تسعة: الذباب والنمل والنحل وطير الأبابيل والجراد وطير عبس وهو الخفاش والغراب والهدهد.»
هي بالتحديد الطيور السامية — التابو — وهي كما يُلاحظ تخلط بين الطيور والحشرات.
كذلك كثيرًا ما تعرَّض أبو زيد لألف باء الأشجار العربية السامية، وأجروميتها الطوطمية المقدسة، وكيف أن مَن دهن جسده العاري بزيت السندال لا تلمسه النار.
بالإضافة إلى معرفته بالأقوام والقبائل المنقضية مثل: «الزهل والزهول والسبط والنبطان»، والأخيرون يُرجح أنهم الأنباط الأردنيون.
كذلك يتبدى أبو زيد على طول سيرة بني هلال بالإضافة لمآثره المستقلة، على معرفة بالكيمياء وكيفية منازلة «طباخين الكيمياء» وحجر المغناطيس، ومآثره التي لا تنتهي والتي يغلب عليها الهجاء والمزاح، على طول معظم الكيانات العربية مرورًا بنجوع الجزيرة العربية والشام، وقرى مصر بخاصة وكفورها، حتى إذا ما انتقلت مأثوراته إلى ليبيا وتونس ومراكش اكتست مأثوراته ونوادره مسحة شعائرية، فأصبح يُدعى سيدي بو زيد «فيتبرك به الفقراء والواجفون والمضطهدون المهانون بعامة.»
ويكاد يصعب للغاية، تصور الكم الكبير جدًّا من المأثورات والأشعار الشعبية والهجاء والنكات، التي تدور في فلكه على طول البلدان والكيانات العربية، التي كانت يومًا مسرحًا لتلك الهجرة الجماعية التي فاض بها الخزان البشري للجزيرة العربية وأعرابها.
فمأثورات تغطي سوريا العليا، ووادي الرافدين بعامة، ومصر العليا «الصعيد»، ومدن الدلتا — خاصة بلدة بلبيس — بالإضافة للمغرب العربي في ليبيا وقرى تونس والمغرب والجزائر حتى الأندلس، وجبال البرانس.
فشخصيته عبارة عن وعاء كوني لكل المتناقضات: فهو شاعر عنيد، ونائحة وماجن ولوطي — كما وصفه دياب بن غانم — ومنقذ لكل حائر، كالخضر وغيره، وقديس أو أنه مسحة شعائرية تطغى على مجمل ما ذكرنا من نقائص وفضائل.
فكانت تصل به حيله وأحابيله إلى حد التنكر تحت جلود الحيوانات في هيئة مهرج لأميرات بني هلال عبر احتيالهن على حكام البلاد التي يجتازونها، ومنهم حاكم مصر الملقب بالفرمند، وتَسمَّى بقشمر: «فعند ذلك تجهزت البنات في الحال وفعل أبو زيد كما أشار، وكانت هذه البنات من المحصنات وكان في جملتهن وطفا بنت دياب، وجمال الطعن بنت أبي زيد، وبنت القاضي بدير، والست ربا، النعام، وجوهر العقول وسعد الرجا. ولبس أبو زيد قرون من جلد الثعالب والذئاب وتقلَّد بالسيف من تحت الثياب، وأرخى له سوالف طوال من أذناب الكدش والبغال وجعل بزمام ناقة الجازية أم محمد، وقد تعجبت من أفعاله السادات والعمد، وقال له السلطان حسن: لله درك على هذه الحيلة التي لم يسبق عليها أحد! وودَّعه وسار بمن معه من البنات الأبكار والصناديق والبكار ومن داخلهن الأقمشة الحسان والأبطال والفرسان حتى دخل إلى المدينة، وطلع إلى قصر الفرمند.»
وتنكُّر أبو زيد الهلالي أمام فرمند مصر، يذكرنا بتنكُّر كُليب — ملك العرب — الأخ الأكبر للزير سالم أبو ليلى المهلهل تحت جلود الحيوانات، لتحرير حبيبته الجليلة بنت مرة التي اغتصبها التبع اليمني حسان اليماني.
بل الملفت أن كليهما — أبا زير وكُليب — اتخذ ذات الاسم للمهرج قشمر.
فالمعتقد هنا بالنسبة لشعيرة التنكر تحت جلد الحيوان، واكتساب صفاته وقواه الخارقة، فالشخص أو البطل الشعبي بارتدائه جلدَ الحيوان يطابق بين شخصه والحيوان الضحية، والذي يكون بمثابة الحاجز بينه وبين إيذاء القوى الشريرة، بتخليصه من هذه القوى الغريبة حتى لا تتملكه، عبر شعائر التحولات والتمثل بالمولود الجديد من الجدي إلى النعجة والكبش والذئاب في حالة المتنكر، باكتساب خصائصها من وداعة وافتراس، كذلك كثيرًا ما تنكَّر أبو زيد في زي النساء، من غوازٍ ودلالات وقابلات ومومسات، خاصة حين تحايل برفقة الجازية وبقية عذارى بني هلال على بواب تونس؛ ليسمح لهن بالدخول، وطوره النسائي وأغانيه الأنثوية؛ لاكتساب موافقة صاحب الباب أو القفل الذي كان قد شدَّد عليه الزناتي خليفة بعدم فتح بوابات تونس.