اغتيال الخفاجي عامر وابنته دوابة
وكما ذكرنا، فإن الخفاجي عامر شخصية تاريخية، ترد بسماتها مترددة في الكثير من المصادر
الكلاسية العربية كأحد الملوك اليمانيين الذين حكموا العراق، وإنه آثر الانضمام إلى ذلك
التحالف — القمري — الهلالي لريادة الغرب وفتحه، هو وأبوه الأمير الشيخ ضرغام، وابنته
دوابة التي تسمى بها على عادة الآلهات القمريات، أبو دوابة، مثله مثل سالفه حسان
اليماني، أبو تدمر التي أصبحت مدنًا وحضارات تسمت باسمها — الطوطمي — تدمر، ومثل المهلهل
أو الزير سالم أبو ليلى وأخيه الأكبر كليب — ملك العرب — أبو اليمامة، وهي بدورها
«اليمامة» أصبحت مدنًا وحضارات، مثل بقية أبطالنا، أبو وطفة دياب بن غانم، وأبو سعدى
الزناتي خليفة … وهكذا.
وتحفظ مأثورات الشعر الشعبي المصري والعربي الشفاهية، آلافًا مؤلفة من أبيات الشعر
الشعبي حول اتخاذ الخفاجي عامر قرار التخلي عن جاهه وسلطانه ومصاحبة الهلالية باتخاذ
مكانه ومعه قبيلته، بأخذ المكان في الصف — العربي — فاتحًا ومعربًا، منها:
قال بيض الليالي مضت
واللي بقى صار غام
رايح تغرب يا أبو دوابة
وفايت الاصطبل والخيل فيه
ما بكى ضرغام وقال بيض الليالي
مضت واللي بقى صار غام
ما بكيت بنته دوابة وقالتلو
يا أبا أن شايفة عينك ع السفر حاتزول
ضرغام أبوك كبر وأمك شولة
عقلها حايزول
الغربة تربة يابا تقل الأصول وتزول
فقال النجع:
بطلي يا دوابة مع الناس دول حانروح
العلام أخويا وصاحبي بالروح
ومكتوب على باب تونس قايمة في اللوح
تفنى الخلايق وكل العباد حاتزول
وهكذا اتخذ الخفاجي عامر أو النجع قراره بالانضمام إلى التحالف الهلالي، حتى إذا ما
اشتد أوار الحرب بين الهلالية، الذين وصلوا بزحفهم وحصارهم أبواب تونس السبعة، بنفس ما
فعله الإغريق مع الطرواديين لذلك الحصار الذي دام عشرة أعوام.
ويبدو أن دفة الانتصارات قد تراجعت هذه المرة لصالح الزناتي وقومه أو تحالفه القبلي؛
وذلك أن دياب بن غانم أصبح لا يعتلي المقدمة، بل هو يحرس إمدادات الحرب ومؤنها — البوش
—
بوادي العباين حيث المؤخرة، وأبو زيد الهلالي يلتزم عقابه طائعًا، وإن كانت السيرة
تخبرنا في بعض المواقع بأنه كان مصابًا أو ملسوعًا، كما سيرد في شعر الخفاجي
النجع.
ويبدو أن ثقل المنزلة والقيادة تولاها السلطان الهلالي حسن بنفسه. وأنه اندحر مرات
أمام
الزناتي خليفة، إلى الحد الذي دفع الخفاجي عامر إلى منازلة الزناتي خليفة، برغم تعرضه
للكثير من المفاوضات والمساومة لخروجه من التحالف، والانشقاق عليه، والانضمام للزناتي
وقومه، حيث إن الزناتي واصل انتقاماته من الهلالية متجبرًا — كما يتضح من شعره التالي
—
بعد أن خلا الجو بغياب بطلي التحالف الهلالي، دياب وأبي زيد:
يقول أبو سعدى الزناتي خليفة
وقلبي عليكم يا هلال حقوم
قتلتم رجال في المجال غضيبة
وعاد دماهم في البلاد يدوم
قتلتم أخي الهصيص غدر وبوقة
وهو كان ضد الظالمين عنود
ولى طار سالف من عهود قديمة
طارئ عندكم من زمان جدود
والله لأجرد عليكم عساكر
وأحشد عليكم الأنام حشود
وآسر حلايلكم وآخذ أموالكم
وأبدل لطيب عيشكم بنكود
أنا أبو سعدى أنا قاهر العدا
ولي في فعالي يا كرام شهود
شهودي تهودي والقائم صارمي
بيض الدمارى وأخيات جمود
يا أبو علي قوم التقى بلا بطا
وتروح من سيفي طعام اللدود
خمسمائة ألف عدة جموعنا
عليهم من الزود المتين بنود
يا أبو على ارحل بصفتك من أرضنا
وفوز بنفسك تبلغ المقصود
ما لك عندي إلا الطعن والقنا
وضرب يشيب هامة المولود
فإن عانني ربي سريعًا أهلكتكم
وأعقد عليكم كل يوم عقود
أنا أبو سعدى الزناتي خليفة
هنيئًا لمن خالي عنا وحقود
«أراد السلطان أن يبرز إليه، فمنعوه الأمارة، وقالوا نخاف عليك من الزناتي وأبو زيد
ملسوع ودياب غايب، وإن صار لك حادث تروح بني هلال أسرًا في الجبال، فقام الخفاجي عامر،
وطلب الزناتي فمنعه حسن، وقال: أنت نزيل عندنا والنزيل ما له حرب، فقام الخفاجي وأقسم
يمين عظيم إن لم ينزل الزناتي يرحل بقومه عن بني هلال، فتركه وثاني يوم دق الزناتي طبله
إلى الميدان، فبرز إليه الخفاجي عامر، فالتقوا البطلين كأنهم جبلين وزعق رءوسهم غراب
البين، وفي اليوم الثالث كلَّ الزناتي وولى هاربًا من قدام الخفاجي، وكان عند الزناتي
خطيب يُسمى مطاوع، فقال الزناتي: باكر انزل إليه، وأنا مستخبي بين الزرد، وإن انكسرت
قدامه، فيلحقك حتى يفوتني، فأجيله من وراء، وأطعنه من قفاه، وأعدمه الحياة، وأما من
الخفاجي فإنه رأى منامًا أن قدام بيته شجرة طويلة، جاها نجار يقطعها، وحفر شلوشها، فقام
من منامه مرعوبًا، واستدعى دوابة وامرأته، قال لهم عن منامه:
يقول الخفاجي والخفاجي عامر
رأيت منام منه عقلي طار
رأيت شجرة ثابتة في وسط دارنا
قطعها سريعًا يوسف النجار
وقدم منشكة وحفر شلوشها
وقطعها بالقادوم والمنشار
وأمس أرسل الزناتي يقول لي
كلامًا أكيدًا وضح الأسرار
يقول لي يا أمير اترك قتالنا
وبطل عنا جملة الأضرار
وعدني بالمال والملك والعطا
يرغبني في معدن وأبهار
فما ردت في هذه العطايا دوابة
وأرمت في قلبي لهيب النار
يخاف أنهم حسبوا حسابي جميعهم
وقوم الزناتي كلهم مكار
لأن منامي يا دوابة راعني
وأرمى في قلبي لهيب النار
ولكن مهما يفعل الله جائزًا
الله تعالى واحدٌ قهار
قال المسمى الخفاجي عامر
من ذي المنام بقيت كالمختار
ردت دوابة بنت عامر تقوله
اترك خلية لا تزيدن أشرار
أنا خائفة ذا المنام يعيبنا
ويرمي لنا بالهم والأضرار
نخاف عليك من الزناتي خليفة
لأنه أمير بالملا غدار
له سطوة بالحرب ما شفت مثلها
يشبه لسبع الفلا غدار
ما شفت قوم هلال فيما جرى
خلي دماهم على الوطا فوار
فاهجم ولا تمنع واقعد وامتد
يا مصعب للفرقة وبعد الدار
ما قالت دوابة والبكا حيلها
يا حسرتي إن راح عن الدار»
«قال الراوي: فلما فرغت دوابة من كلامها وأبوها يسمع نظامها، قال: يا بنتي إذا ركبوا
بني هلال ماذا يكون الجواب وأنا حالف يمين إني أحارب الزناتي عشرة أيام. فقالت له: عمل
ضعيف يعذروك بني هلال، دقوا طبولهم، وركبوا خيولهم، وفقدوا الخفاجي عامر فما وجدوه
بينهم، فسألوا عنه حسن فقالت الجازية: أنا أروح إليه، فراحت تلاقي دوابة قايمة تبكي،
فسألتها عنه، قالت أصبح مريضًا، فرجعت أخبرتهم، فقال حسن الخفاجي: أقسم يمينًا أنه يحارب
الزناتي عشرة أيام، وحاربه ثلاثة أيام، بقي عليه سبعة أيام، فكان حاضر أمير اسمه ظريف
محب في الخفاجي، فقال: أنا أروح إليه أنظر معانيه. فراح إلى عند الخفاجي، فلما وصل كان
نايم، فجلس على حفيلة، وقال له: حول يا خفاجي فحول عن جواده، فسأله عن حاله. فأشار
الخفاجي يقول:
قال الخفاجي ولد ديرغام عامر
يا ظريف حول تعالى أضيف
وحيلي اتخلى عني يا أمير وانقطع
وعاد جسمي يا أمير تليف
مرعوب مما نظرته في منامي
وقد عدت من هذا المنام وجيف
رأيت شجرة طالعة وسط دارنا
أنا كل عرس تائف وظيف
جانا يجري وقطع غصونها
وأحرقها بمنشاره تحريف
وشفت الزناتي راح مني هزيمة
كنت عليه بالطراد جنيف
خايف يكون دبر علينا حيلة
ومهما تشوره ما به تخليف
فرد المسمى ظريف وقال له
ألا يا خفاجي لا تكن مخيف
شد واركب الزناتي وصادمه
وأخاف تصبح بين الأنام مخيف
يا أمير إن العمر من رافع السماء
مكمن علينا ليس منه مخيف
ما دام لك أجل ما قط تقتل
ولو كنت نازل وسط بحر مطيف
حياة الفتى موته بظهر جواده
بيوم يكون الريق فيه نشيف
يقتل يكسب الحمد والثنا
يبيض لعرضه وثناه نظيف
انهض ولا تخشى المنايا جميعها
وإلا غشينا بالذل والتخويف»
«قال الراوي: فلما فرغ ظريف من كلامه والخفاجي يسمع نظامه، فوثب كالأسد، وشد على جواده،
وتقلد بالحرب والجلاد، وسار مع ظريف، فعندما زغردت البنات، ودقت العماريات، وحين شافه
الزناتي أنشد يقول:
يقول الزناتي من فؤادي معمر
نيران قلبي زايدات وقادها
أنا الخليفة بالحروب مجرب
لي سيفًا بالخيل أنا راددها
ألقى ألوف الخيل ماني خايف
أبطال تعرفني بيوم طرادها
أجول حربي وحين طرادي
وتريد في حربي ترى أنكادها
أبشر بقصر العمر جالك واكد
لا بد ما تكن عميق لحالها
رد الفتى المُسمى خفاجي وقال له
نار الحرب أنت قائم بشرارها
أرسلت لك مكتوب كون صديقي
وتعطيني تونس وكل جدادها
ما أرد أخون العيش يا أبو سعيد
أخاف ترخص عندنا أسعارها
أولًا أكون الخفاجي عامر
في جاه صغارها وكبارها
أصبح هزيل في هلال ممسخ
ويكشفون عروضها وصخورها
لكن اليوم جيت إلى حربك
لا بد أسقيك كأس مرارها»
«فلما فرغ من كلامه التقوا الفارسين في حرب وصدام، وساروا في حرب شديد يفتك زرد الحديد،
فانفك عزم الزناتي من شدة حربه، فولى هارب وللنجاة طالب، وحكم ضربه نحو جناين الورد،
وكان الخطيب كان من بين السجايا وماسك الرمح بيده، وإذا بالزناتي والخفاجي لاحقه، فطلع
الخطيب طعن الخفاجي بين كتفيه، خرج يلمع من لوحيه، فرماه قتيل، وفي دمه جديل، فغار
الفريقين والتحموا الطائفتين، وصاح على رءوسهم غراب بالرمح أصاب الجواد ورماه على الأرض،
فرد الزناتي إليه، وخلصه من بين يديه، وركب الجواد، ولا زال بينهم القتال حتى ولى
النهار، فانفصلوا عن القتال، وامتلأت الأرض من القتلى، وأخذ الظريف خفاجي عامر إلى بيته
ومدده، فأشاد يقول:
قالت دوابة دموع من مآقيها
نيران قلبي من يقدر يطفيها
جادت علينا سلمًا من نواتها
وأسقت لعامر شربة من أوانيها
فأبكت دوابة دموعها لأجل والد
ها بنت الخفاجي من يقدر تبكيها
يا حيف رحنا ما شفنا منازلها
يا حيف يا بدار العز نخليها
أنا دوابة أبو عامر الماجد
أنشد المكارم وقد شيد مبانيها
قد كان ملك في أرض العراق
له كم كربة من هموم الدهر يجليها
يا رب البين شتت لمومنا
حول الليالي تجهزنا لياليها
حالة مطاوع على شبه مبرشمة
تشبه لريم الفلا السرج محليها
طعنة بحرية طول الليل يسقيها
راح عامر طريح الفراش ساليها
جاله ظريف سريع من فوق سابقه
ضرب مطاوع ضربة جامدة فيها
وأضحى والدي بالعرى منطرحًا
أطن عدنا الأرض والشرق تفنيها
من ذا الذي يوصل الأخبار لأهلنا
وعلام عامر ترى من عاد يحميها
ما قالت دوابة ونار القلب مشتعلة
على أنواها وعربيها وتاليها
فلما فرغت من كلامها أفاق أبوها من غدوته، وأشار يقول:
يقول الخفاجي بن درغام عامر
بدمع جرى لا أظن مثله مدامع
نيران قلبي كلما أقول تنطفي
يهب لها جوا ضلوعي لدايع
أنا مثل صقر رابيًا تحت عشه
من المحل جابته بروق اللوامع
نسى وكره لما طلع من بلاده
وخلى في وركه فروخ الجوازع
يبات ويسر طالب الصيد العلا
يمنع حتى ما ترى الوقد جامع
وإن كان هذا الطير ضيَّع وكره
وراح على ذكره مديد آل سايع
إذا جفاك الدهر يوم بقربه
أمال عن الأجواد إن كنت ضايع
ولا تنزل إلا في بلاد رتيبة
بلاد العدية حولها السم ناقع
وشبانها تنقل السيف مع القنا
على كل طافح برعب الخيل قارع
وشيوخها ترمي العدا في المهالك
بالروح ما هو بالمسهمات القوانع
قولوا للطير الذي في بلاده
أيضًا طيور قد تجينا تواجع
ما جاك يكسب الحمد والثنا
تجيني وتأتيني بفعل رواجع
يا دوابة إن كانت دنت منيتي
فأوصي ظريفًا يجعل القبر واسع
وبعد موتي ابعثوا الكتب لأهلنا
عسى الخير منهم يجيكم مسارع
ولا أظن خبر يأتيك من بلادي
بلادي بعيدة سهلها والبقائع
أبي وأمي كيف ترى حالهم
ينتظروا رجوعي ولست براجع
ولا ولد من بعد مني بقى لهم
دعوهم بعدي يسكبون المدامع
وقولوا لهم عظم الله أجركم
ولدكم عامر عند ربه مطاوع
أوصيك يا حسن يا هلالي
دول يتامى ما لهم من مدافع
أنت شفوقًا على اليتامى ومحسن
يعطيك ربك عاليات المواضع
يا أيها الطير الذي طار بالفلا
تسعا إلى الدهر الذي بك مطالع
تأكل ربيع بأرض مصر وزرعها
وتبيض بأرض العراق المواضع
سلِّم على أبي وأمي وقل لهم
يرضوا علينا في صلاة الجوامع
وأشهد أن الله لا رب غيره
فهو واحد وما له من ينازع»
وعلى هذا النحو جاءت مرثية الخفاجي عامر عقب اغتياله غدرًا، وتوصياته لابنته، إن لم
تكن
إلهته الأنثى القمرية وكاهنة القبيلة — دوابة — باتساع قبره وبلاغ قومه فيما بين النهرين
بموته وانتهاء منيته، وما أروع شعره! — القومي — حين يقول:
يا أيها الطير الذي طار بالفلا
تسعى إلى الدهر الذي بك طالع
تأكل ربيعًا بأرض مصر وزرعها
وتبيض بأرض العراق المواضع
ويتضح من مرثية الخفاجي مدى التراكمات الملحمية التي تصنفها العصور، ملحقة ومضيفة،
بما
يذكرنا بمرثية التبع حسان اليماني، عقب اغتيال كليب الفلسطيني له داخل مخدعه بدمشق،
ومرثية كليب ذاته، عقب اغتيال جساس بن مرة له، وكذا الزير، وبقية شخوص سيرتنا هذه عالية
الهامة، السلطان حسن الهلالي، والزناتي خليفة، وأبو زيد الهلالي، وهكذا كسروا على
الخفاجي عامر السيوف، واستشرى الزناتي في قتال الهلالية.