أبو زيد يزور الأسرى في زي امرأة
وجاء اغتيال الخفاجي عامر فاتحة لعقد الهلالية المنفرط بموت قادتهم واندحارهم، ذلك أن الدور جاء هذه المرة على القاضي بدير بن فايد، وتبعه الأمير بدر بن غانم، الذي قطع الزناتي خليفة رأسه، وأرسلها وهو ما يزال في الميدان إلى تونس، لتعلق على بواباتها السبع إلى جوار رأس أخيه زيدان «شيخ الشباب»، ثم قتل ولديه الواحد بعد أخيه، نصر وعقل، الذي تشدد الزناتي خليفة بخاصة في قتله، واعدًا كبار فرسانه في تونس بأن من يقتله سيهبه ابنته سعدى زوجة وحليلة، إلى أن قتله الزناتي بنفسه.
وكان أن بكتهما أمهما الأميرة «هولة» بأقوى مراثيها:
بل إن راوي السيرة لا يغفل وصول الإمدادات بالجند والعتاد التي دفع بها تحالف تونس والملوك المغاربة إلى الميدان، لصد جحافل عرب المشرق — الهلالية — وإيقافهم طويلًا في حصارهم خارج بوابات تونس المنيعة، دون أدنى تقدم.
ولم يكن هناك من منفذ أمام التحالف الهلالي بعد إبعاد دياب بن غانم، بحجة حراسة «البوش» والإمدادات والأموال، سوى لجوء أبي زيد إلى الحيلة لاختراق الحصار، خاصة بعد أن رجحت كفة التونسيين في ضرب تلك المؤن واستلابها، وهي الحيلة الحربية التي دبرها الزناتي ذاته مع أحد فرسانه، ويدعى «أبو خريبة» وأنزل بها ضربة قاصية بإمدادات الجند والمهاجرين ومؤنهم، وبالطبع ذخيرتهم.
«حين أمر الزناتي الركوب إلى وادي الغباين، ويحضر البوش منه، فركب من ساعته، وأخذ معه عشرين ألف فارس قروم عوابس، ولم يزالوا ضرب السيف فيهم، فقامت الرعيان بالعياط والصراخ، فلما سمع دياب سائرين حتى وصلوا إلى وادي الغباين، وغاروا على قوم بني هلال، وعلقوا ركب جواده، وطلعت فرسانه وراه، فلما التحمت الحرب بينهم بطعن الأعمار، فعندما قام دياب في عزم وضرب خريبة بالسيف فوقع على الأرض، ولما شافوا قومه أميرهم قتيل ولوا هاربين، فلحقوهم بني زغبة، ومدوا السيف في أعناقهم وأعدموهم أحبابهم وأصحابهم حتى وصلوا إلى عند الزناتي وأخبروه عن قتل أخيه، فاستدعى أخاه الثاني وكان اسمه مكحول، وقال له: خذ قومك وامضِ إلى دياب بن غانم، خذ ثأرك منه، وانهب بوش بني هلال، ومهما جبت من هؤلاء يكونوا هبة مني إليك، فركب بسائر عسكره مقدار خمسين ألف همام، وغار حتى وصل إلى الوادي، وكان دياب وقومه في الصيد، وما بقي من البوش إلا مقدار ألف فارس، فثارت عليهم الخيل، وساقوا البوش جميعه، فراح لصوت إلى دياب وأعلموه بالخبر، فعندها صار حتى وصل إلى القوم، وبرز إلى مكحول، وغار على قومه، وبدأ يذبح فيهم حتى مقدار عشرة آلاف فارس وهربوا الباقي حتى وصلوا لعند الزناتي وأعلموه بقتل أخيه.»
وهكذا لم يعد أمام الهلالية، سوى الاستنجاد بذكاء أبي زيد وسعة حيلته، خاصة بعد أن أمر الزناتي «بإغلاق بوابات تونس في وجهه»، حين وقف تحت زغلة الباب والأبواب مسكوكة لا أحد يخرج ولا يطلع سوى النسوان التي فوق الأسوار يتفرجون، فعندما صاح في البواب افتح وأرسل مولاك، فسار البواب لعند الزناتي، قال له: قم كلم أبو زيد واقف بالباب يواجهك. فقال الزناتي: يا بواب من يقدر يشوف عزرائيل حتى يقضي روحه، هات المفاتيح التي معك. فعند ذلك أخذ مفاتيح أبواب تونس، وضعها عنده وخبأها، وقال: اقعد خلف الباب لا تفتح لأحد. فعاد البواب، وأعلم الأمير أبا زيد بالكلام.
«ثم إن الأمير أبو زيد قال لهم: قصدي أعمل حيلة تسوي قبيلة، اندهوا للجازية. ثم إنهم ندهوا إليها، فحضرت بين أيديهم، فالتفت إليها الأمير أبو زيد، فقال لها: مرادي تجمعي مائة بنت من أحسن بنات العرب، وأحضريهن في الليل. فمن ساعتها أحضرت مائة بنت إلى الأمير أبو زيد، فقام ولبس ثياب بيض مثل النسوان، ولبس درعه، واتحزم بسيفه، وسار هو والبنات والجازية نصف الليل، إلى أن وصلوا بوابة تونس، فقال أبو زيد: اقرعي الباب. فنادى البواب: مَن يقرع أبواب تونس في هذا الليل؟ فقالت الجازية: نحن من بنات العرب جايين معنا بضايع لكي نبيع ونشتري من عندك على قدر احتياجنا. فقال لها البواب: روحوا ما أفتح لكم الباب في الليل. ثم إنها تدخلت على البواب فما فتح، وإنما راح إلى عند الزناتي وأخبره، فقال: روح إياك تفتح لهم أنا قرأت كتبهم قبل أن حضروا إلى هذه البلاد؛ لأن هذه الحيلة من حيل أبو زيد. ثم إن البواب رجع إلى عند البنات، وأخبرهم بما قال الزناتي، ثم إن الجازية ابتدأت هي والبواب وأشادت تقول: يا بواب صاره افتح للعذارى، حنا مشندر إلى حد السواره.
– روحي يا ظريفة شاوري لنا الخليفة، له حربة رهيفة، تقسم الحجارة.
– يا بواب منصور افتح باب السور، ندخل بدستور ونبيع العطارة.
– المفتاح ما هو بيدي.
– افتح كون طايع جبنالك بضايع، وتحف بدائع، تصلح للأمارة.
– لا أفتح ولا شيء، ولا عقل بلاشي، وإن كنت عطاشى روحوا للبيارة.
– يا بواب افتح الباب مصفح بالزينات، تصفح وتنظر للعذارى، افتح لي شوية، وشوف الحسن فيَّه، تجيك رزية، قدشك حمارة.
– روحي يا مليحة أنا أخشى الفضيحة، رأتني تبقى مستريحة، وأنا أقع بنارة.
– افتح لا تبالي، يا بواب افتح يا حبيبي، وجودك لا تغيبى، ارحم للغريبى كلنا بكارة.
– السلطان حكالي، وقال لا تفتح ولال، ذول بني هلال من قوم مكارة.
– افتح خاب ظنك خللي الهرج عنك.
قال: أخاف أفتح يجينا رجال طالبين، يجوا عابرين على ظهر المهارة والأمير غايب، ومن طلب المكاسب يقع في الخسارة.
– افتح يا ابن عمي حتى يزول غمي، حزامي فوق تمي، تارة فوق تارة.
– روحي يا حمامة لا تزيد في الكلام، خايف من سلامة حيلاته كتارة.
– افتح يا أغانى، لا تزيدوا اللغاتى، جملتنا بناتى، ما فينا ذكاره.
– سلامة معاكم سامع لغاتى، هو واقف حداكم مع بنات الأمارة.»
•••
أردت من تقديم النص السالف للتحولات أو التقمصات لأبي زيد الهلالي والأميرات الهلاليات وعلى رأسهن الجازية، والتحايل على بواب تونس الذي أمره الزناتي خليفة بعدم فتحها ليلًا للمتسللين خاصة، وجحافل بني هلال الغازية أصبحت تطوق أسوار المدينة وبواباتها السبع عبر حصار طويل لا بد وأنه دام سنين، على ذات نسق الحصار الهليني لطروادة المنيعة، ما دفع الغزاة في كلا الحصارين الشهيرين إلى اللجوء للحيلة وخداع لحروب.
أردت من تقديم الحوار الشيق بين البواب وعذارى بني هلال الحفاظ على مدى أحاسيسه النسائية الجياشة، حتى ليستشعر القارئ بأنه إزاء إيقاعات الأغاني الشعبية النسائية، وأن مؤلف مثل هذا النص لا بد وأن يكون امرأة أنثى، وهي إحدى السمات الرئيسية لأصالة نص فولكلوري عن خسيسه.
إن النص يوغل في إضفاء الأحاسيس الأنثوية على الحوار بين النساء المتسللات، وبين البواب أو أصحاب المزلاج، إلى حد دعوتهن له إلى الحب والجنس، وهي البنات الصغيرات الحلوات العذارى.
ذلك إذا ما عرفنا أن عمر هذا النص الحواري يربو على الخمسة آلاف عام، منذ النصوص السومرية التي أوضحتها الحفريات الأثرية في العراق وما بين النهرين، خاصة النص أو الترتيلة المصاحبة لولادة إله القمر «شين»، حيث يطلب الإله «أنليل» الذي أصبح فيما تلا من عصور، هو بذاته تموز ثم أدونيس، من الآلهة العذراء ننليل، أي الراعي الذي يقدر المصائر والاتصال — الجنسي — إلا أنها رفضته وصدته عنها:
إلا أنه يغتصبها فتحبل، وكان أن نُفي من المدينة:
قال أنليل للحارس الموكل بالباب:
قالت ننليل لحارس الباب:
أجاب أنليل متقمصًا هيئة حارس الباب:
ومن هنا لا يبعد بنا الحوار عن ذلك الذي أجراه أبو زيد والهلالية مع حارس بوابة تونس الذي رفض دخولهم بأمر الزناتي.
ويبدو أن الهدف الرئيسي لأبي زيد الهلالي المتنكر وسط جوقة نساء بني هلال، لم يكن قاصرًا على مجرد التسلل المتنكر إلى داخل بوابات تونس، بل هو كان التلصص أو التجسس لجمع المعلومات من عيون بني هلال وبصاصيهم داخل أكثر أماكن الأعداء اقترابًا وحساسية، أي مخدع الأميرة الوريثة سعدى ابنة الزناتي خليفة ووصيفتها — الهلالية — مي، والأمراء الأسرى الثلاثة، يونس ومرعي ويحيى.
ذلك أنه بينما تخبرنا السيرة برفض البواب الموكل بالباب فتحه لهم أو لهن، فعاد أبو زيد والجازية والبنات من جديد إلى ربع أو مضارب بني هلال مخفقين.
ذلك أن أخبار مثل هذا الإخفاق بعدم الدخول، تواتر من فوره إلى سعدى وفتيان بني هلال، حتى إن مرعي ضغط على حبيبته سعدى، وحملها على الاتصال هي بنفسها بالهلالية، وإبلاغهم بأهمية التغيير في خططهم الحربية، ورأب الصدع من جديد بين قطبي التحالف — القحطاني اليمني والقيسي، أو السعودي اليوم — وإعادة مصالحة دياب بن غانم، ودفعه إلى المقدمة.
«مرعي قالت له سعدى: لا أبكى الله لك عينًا. فقال لها: يا سعدى، إلى متى الانتظار، وقد طال علينا المطال، وأبوكِ لا يطلع على محاربة أبي زيد، ولا يفتح الباب؟ فضحكت سعدى، وقالت: أنا أفضُّ هذا المشكل؛ لأن مرعي ما يقتل أبي إلا الأمير دياب؛ لأن بان عندي في الكتب، ولكن سأروح الليلة لعند أبوك، وأدعيه يحجب دياب. فلما دخل الليل، استعدت سعدى على أربعين بنت من بنات الأمارة مثل الأقمار، فلما حضروا أقبلوا ونادتهم، وقالوا: ما تريد؟ فقالت لهم: أريد آخذكم معي، تتفرجوا على بنات بني هلال، والأمير حسن أبو المحابيس الذي عندنا، ونرجع في هذا الليل. فقالوا: سمعًا وألف طاعة. ثم أمرت لهم بأربعين خلعة من خاص الحرير والديباج الملون، وأمرت بأربعين جوادًا من خير الجياد، فصاروا يأخذون العقول، وركبت سعدى أمامهم مثل البدر المنير؛ لأنه ما كان يوجد في عصرها أحلى منها، وتقلدت البنات بأفخر السلاح، وساروا حتى وصلوا إلى باب البلد، وقالت للبواب: افتح الباب، إياك تتكلم قدام أحد، أعدمك الحياة. فقال لها: يا ستي ما في تعب من فتح الباب إن أردت تروحي أو تعدي، ولكن المفاتيح مع أبيك أخذهم مني. فقالت: أنا لا أحتاج إليهم. وتقدمت للباب وضربته، انفتح من وقته، وخرجت هي والبنات، وأمرت عبدها الطواشي يقعد على الباب لحين رجوعهم، فقفل الباب، وقعد ينتظرهم إلى الرجوع، فعند ذلك سارت سعدى هي والبنات حتى وصلوا لعند الحارس، فقال: ما هذه الخيل في هذا الليل؟ فقالت له سعدى: ضيوف. فقال: مرحبًا بالضيوف. فقالت: أين ملوك الأمير حسن؟ فقال لها: نايم. فقالت له: ادخل عليه، وقل له سعدى بنت الزناتي تريد تواجهك، وترجع بالليل. فقال لها: انتظري وراء الستار. ودخل لعند جارية اسمها مباركة، وقال لها: اعلمي أن بنت سلطان تونس حضرت لعندنا، ودخلت وأعلمت مولاها حسن. فتعجب حسن من حضورها بالليل، فخرج وقال لسالم: مالك؟! فأنشد سالم يقول:
«قال الراوي: فلما فرغ العبد من كلامه والأمير حسن يسمع نظامه فرح فرحًا شديدًا ما عليه من مزيد، وقال للعبد: اعزمهم. فراح العبد عزمهم، ونزلهم عن خيولهم، وربطها ومشى قدامهم، فسلمت سعدى على السلطان، وعرَّفته بنفسها وبرفقتها، فسلموا عليه، وسلم على سعدى ومن معها من الحريم. وأما أم مرعي لاقتها وضمتها إلى صدرها، وقالت لها: دخلك مرعي كيف حاله؟ وقبلتها بين عينيها، وسلمت عليها سلام الأحباب، وأما حسن سلم على سعدى، وصار يبكي ويقول:
وهكذا نجحت سعدى في إيصال الرسالة، الخطة.