هزائم الهلالية وعودة دياب
ويُستشف من سياق نصوص السيرة أن إبعاد دياب بن غانم، ممثل التحالف اليمني القحطاني، عن القيادة والمقدمة للتحالف الهلالي، لم يكن لمجرد حراسة البوش والأموال وعتاد الحرب ومؤنه، بقدر ما هو جاء أشبه بمؤامرة محكمة التدبير من جانب تحالف عرب الشمال القيسيين أو الإسماعيليين من جانب سلطان بني هلال، حسن بن سرحان، وأبو زيد ومن في فلكهما.
ذلك أن الهزائم المتوالية التي أنزلها التونسيون المحاصرين بقيادة الزناتي، بقادتهم وأمرائهم، الخفاجي عامر، والقاضي بدير، وعقل ونصر، وزيدان قد وصلت إلى أربعين رأسًا جزَّها الزناتي خليفة، ونصبها فوق أسوار تونس.
ودفعت الهزائم بنساء بني هلال إلى الاستنجاد بالمنقذ دياب بن غانم، فهو بذاته القادر على دحر الزناتي خليفة وجنده، وهو دون سواه المنوط به قتل الزناتي خليفة وفك طوق الحصار المزدوج.
فاندفعت وفود نساء الهلالية إلى حيث مضرب والد دياب الأمير غانم، ورحن يكتبن إلى دياب يستدعينه لأخذ الثأر، دوابة بنت الخفاجي عامر التي جزت شعرها، وأرسلته إلى دياب، ونفس الشيء فعلته ابنته — وكاهنته — وطفا التي تسمى بها — أبا وطفة — فأرسل له والده معددًا ما نزل الهلالية من هزائم الزناتي بهم وأمرائهم.
وأنشد مشيرًا إلى مشورة سعدى ابنة الزناتي خليفة ذاته، التي تنبأت بأن قاتل والدها الزناتي هو بذاته دياب بن غانم:
وأرسل غانم بكتابه وشعور النساء وتوسلاتهن لدياب، حيث مكانه في المؤخرة، في وادي الغباين أو المغبونين أو المنفيين، وما إن تسلَّم دياب الرسالة وقرأها، حتى رد الرسول سائلًا: «وأين مكاتيب السلطان حسن وأبو زيد؟»
ولم يجب الرسول.
هنا رد دياب الرسول قائلًا: «جئت هذا المكان برأيهما، فكيف أرجع بشورة النساء؟»
حتى إذا ما عاد الرسول، من وادي الغباين إلى حيث مضارب بني هلال، وأبلغ والده والنساء برفضه وحاجته إلى أمر أو تكليف من قادة الشورى، أحاطت النساء بمقر السلطان حسن وأبي زيد في شبه مظاهرة أو تمرد.
ورغم ذلك فقد رفضا بدورهم الكتابة إليه بالعودة والإغاثة.
لكنهما من جديد دفعا والده الشيخ، بل وأمه والبنات إلى التوجه إليه ومناشدته العودة بدلًا من التراجع — عن قرارها السابق — وطلبه مباشرة للغوث والنجاة.
فهجته أمه:
وخاطبه والده مستنجدًا بوطفا ابنته:
على هذا النحو أحاطت النساء الثكالى والأبوان الشيخان يستنجدون بدياب الخيال العودة لنصرة القبيلة قبل أن — تسيب — أو تفجر أو تُسبى حريمها في وجوده، وهو حامي المحصنات.
إلا أن ما حرَّ في نفس دياب بحسب شعره التالي عدم تلقيه أمرًا بالعودة من السلطان وأبي زيد، برغم ما حل بالجميع من اندحار وقتل في غيابه.
«قال الراوي: فلما فرغ دياب كلامه وأمه تسمع نظامه فرحت، وقالت: يا غانم، مرادنا نسير؛ لأن بني هلال في انتظار. فقال: تأهبوا حتى نسير، وتعلم بني هلال أن دياب يحضر يوم الأحد عندهم. فركبوا وساروا حتى وصلوا إلى بني هلال، فطلعوا الجميع ملاقاتهم، فكانت ضجة قوية، فنظروا غانم وحرمته وحده، فقالوا: أين دياب؟ فقال غانم: أبشروا بالغنيمة يا بني هلال، نهار الأحد يصل إلى عندكم، وأما دياب بعد ما راحوا والديه من عنده أمر الرعيان بلم البوش من كل جانب ومكان، وساروا الجميع قدامه، وسار طالب بني هلال وفرسانه الذين معه قلعوا الصوان، وأمر العكام بسيفه وبنصبه على أبواب تونس في نصف الميدان، ودق طبول ونشر أعلامه، وسار حتى بقي بينه وبين هلال يوم كامل، وكانوا جميعهم في انتظاره.»
«وثاني يوم الأحد خرجوا الأربع تسعينات ألوف وتابعيهم، ولاقوه وما فضل من هلال لا كبير ولا صغير، حتى طلع ملتقى الأمير دياب وخرجوا بالطبول والنوبات السلطانية، وزالت عنهم الهموم بقدوم دياب، وأدخلوه إلى الحي بنوبة سلطانية عظيمة.»
«وأما أهل القتلى، فإنهم اجتمعوا على التراب، وهم في الواد وأثواب الحداد لكي يشكوا إلى دياب ما فعل الزناتي بهم.»
«أما حسن وأبو زيد ظلوا في الصيوان ما خرجوا إلى الخيام، وأما دياب لما وجد حسن وأبو زيد عرف المضمون، وإنما أخمد الكمد، وأظهر الصبر والجلد، ولم يزل سائرًا في الموكب العظيم حتى وصل إلى أبواب تونس، فرُجت منه تلك الأرض في طولها والعرض، وطلعت الحريم على الأسوار للفرجة على الزينة، وارتعدت من الزناتي خليفة، ومن عنده القلوب، وانحلت المفاصل وقال: الله يعينا على حربه. وأما دياب رفع رأسه إلى سور تونس، فوجد رءوس الأمارة ثمانين رأس مشكوكين على الرماح، فسأل: من يكونوا هؤلاء، فقال له عمه عرنديس: هؤلاء رءوس بني هلال الذين قتلهم الزناتي وهم أولاد عمك، فقال: كل هذا جرى في غيابي! وظل سائرًا إلى التربة، فلاقوه أهل القتلى والبنات، وشالوا البراقع، وحدفوها إلى دياب، فطيب خاطرهم وأنشد يقول:
ويذكر أن دياب بن غانم كان يلاعب طفلة صغيرة، وهو غائب الفكر كالتائه المأخوذ في الكيفية التي سيقتل بها الزناتي خليفة اسمها «نجيبة» ملاعبًا سائلًا، وهو يقبلها في شره: «أين أطعن الزناتي؟»
فقالت له: «في عينه.»
فقال: «مبارك قولك يا صغيرة، لن أطعنه إلا في عينه.»
وقد كان.