عشق سعدى لمرعي وخيانتها لقبيلتها … وطنها
ويبدو أن فتيان بني هلال الثلاثة المأسورين داخل السجن الملحق بقصر سعدى ابنة الزناتي، والذين كانوا على مقربة أكثر مما يحدث، سواء على جبهة القتال، أو داخل أروقة القصر الحاكم في تونس، وما يعتمل داخله من مؤامرات على عادة القصور المحاصرة بالرماح واللهب، مضافًا إليه بالطبع مؤامرات المضاجع من مؤامرات يكيدها العلام ابن أخي الزناتي والطامع في عرش تونس وقلاعها الأربع عشرة حتى الأندلس.
لذا لم يوفر العلام مكيدة في سبيل الحصول على مبتغاه في وراثة حكم قرطاج، التي صمدت ذات يوم في مواجهة الزحف الإمبراطوري الروماني، وعليه فقد دأب العلام على وضع العراقيل في طريق سعدى ابنة الزناتي، لاقتناصها والزواج منها ووراثة حكم تونس، إلا أن سعدى التي ولدت على كره العلام والنفاذ لأطماعه الدفينة التي هدفها بالطبع العرش المتوارث عن طريق الابنة — الأنثى — في ذلك المجتمع القبلي الأموي الذي ما يزال يقدس الخال إلى أيامنا.
ومن هنا وجدت سعدى مهربها في حب مرعي الأمير المتسلل عدو بلادها الطامع، والسبب — السياسي — الظاهري الذي يسوقه الغزاة الهلاليون لغرض هذا الحصار بالحرب على تونس بحجة الإفراج عن أسراهم الأمراء الثلاثة.
فيبدو أن الأمراء الهلاليين الثلاثة كانوا أكثر إدراكًا بصائب بصيرتهم أن سبب هزائم قومهم وقبائلهم الهلالية، هو الانقسام على جبهة القتال وليس غيره، ذلك التصدع الذي نزل بقطبي التحالف بين عرب الجنوب اليمني، والشمال القيسي، ممثلًا في الصراع الناشب بين أبي زيد والسلطان من جانب، ودياب بن غانم من جانب مقابل، مما دفع إلى إبعاده لحراسة — البوش — بدلًا من قيادة المقدمة.
إنه الصراع الدفين المفضي إلى كل الانقسامات والهزائم، والذي لم تبرأ منه سيرة شعبية عربية، خاصة سيرة الأميرة ذات الهمة، والتي تؤرخ للحروب الإسلامية البيزنطية، والانقسامات على جبهة القتال بين كل من عرب شمال وجنوب الجزيرة العربية، مما دفع بالأمير الشاب الأسير مرعي، ويونس ويحيى للتوسل إلى سعدى، وإرسالها سرًّا إلى حيث مضارب بني هلال، والإشارة عليهم بأن قاتل أبيها الزناتي خليفة — القدري أو السحرى — ما هو سوى دياب بن غانم.
وبالطبع فإن السبب الدافع إلى مثل هذا التصور الغيبي السحري الذي تسوقه السيرة، مرجعه إلى أن سعدى بدورها، كانت أقرب إلى كاهنة — قمرية — لها دورها المتحقق في المشاركة والشورى السياسية والحربية، أما السبب الأقرب فهو يتمثل في قربها من أبيها الزناتي خليفة، والمعرفة بهواجسه التي مؤداها أن قاتله لا بد وأن يكون على شاكلته: عربيًّا جنوبيًّا قحطانيًّا … ولا بد وأن يكون في هذه الحالة «دياب بن غانم».
فكلاهما يمني قحطاني.
ومن هنا جاءت المخاطرة الكبرى لسعدى ابنته لتقف في صف أعداء بلادها ضد أبيها الزناتي.
وهي تيمة أو فكرة رئيسية في فولكلورنا العربي السامي بخاصة، والعالمي بعامة للابنة خائنة أبيها، وبالتالي قبيلتها، واستطرادًا وطنها وحماها، ومن هنا حق قتلها ولو من جانب حبيبها ذاته.
وبالفعل يعدها الشاطر حجازي بهذا، لكن ما إن يحقق انتصاره بقتل والدها البين، حتى يقبض عليها، ويقتلها حرقًا، ويذري رمادها في الهواء مع أبيها رمز الشر والشؤم، بدلًا من الزواج بها، على اعتبار أنها خائنة أبيها وبالتالي قبيلتها، ومن هنا حق عليها العقاب بالموت حتى ولو من جانب حبيبها أو عشيقها.
وهو ذات المصير — التراجيدي — الذي سيصادف هذه الابنة المحبة سعدى ابنة الزناتي خليفة، من جانب دياب بن غانم قاتل أبيها المنتصر.
فلقد وصل الأمر بالنسبة لتعلق سعدى بمرعي وتعشقها له إلى حد أنها وجهت أبيها الزناتي خليفة إلى التمسك والاستمرار بسجن الأمراء الأسرى، ومنهم حبيبها مرعي، وعدم الإفراج عنهم، وإرجاعهم إلى قومهم، وإنهاء الحصار والحرب، حين أشار عليه ذات مرة أبو زيد الهلالي وكاتبه بشأن الإفراج عن الأمراء الثلاثة الأسرى وإنهاء الحرب، كما تروي السيرة شعرًا:
فبعث الزناتي إلى ابنته سعدى، وقال لها: «أطلقي المحابيس حتى ترسلهم إلى أهلها.» فلما وصل الخبر أتت سعدى إلى عند أبيها، وقالت: «يا حيف أبي! أنت صدقت كلام العرب، هؤلاء العرب ما بقوا يفارقوا هذه البلاد.» فقال لها: «والله لقد صدقتي لوعد منا الحياة ما عدنا نرسلهم.» وكان تلك الساعة مرعي عندها:
«قال الراوي: فلما فرغت سعدى من كلامها، أنشد مرعي يجاوبها:
«فلما فرغ مرعي من كلامه لسعدى فبقوا على ما كانوا عليه أولًا في النهار تنزل إلى الحبس وفي الليل تجيبه إلى عندها وتنام واياه، أما ما كان من بني هلال لقوا أولادهم ما طلعوا إلى الحبس قام أبو زيد، ودق طبوله، ونزل إلى الميدان.»
وهكذا يتضح من نص السيرة السابق. مدى تعشق سعدى لمرعي إلى حد إخراجه من السجن ليلًا، وإيداعه فيه نهارًا.
بل إن اتهام الزناتي خليفة لابنته وصل إلى حد وصفها بالباغية التي يحق قتلها، وتحميلها ذلك الخطر الرابض بعودة دياب بن غانم، قاتله القدري الذي أصبح يدق أبوابه متحديًا.
وهكذا استعرت الحرب ضارية هذه المرة بين الزناتي خليفة، ودياب وقومه إلى حد أنهك الزناتي، ودفع به الشكوى لابنته سعدى.