دياب يقتل الزناتي ويسبي سعدى ويحكم الغرب
ويبدو أن سعدى ابنة الزناتي تونس تدخلت في مجرى الحصار والقتال المستمر على بوابات تونس، إلى حد الاتصال ببني هلال في العلن هذه المرة، خاصة في مركز السلطة الجديدة التي رجحت كفتها إلى جانب اليمنيين في مواجهة القيسيين — السلطان وأبي زيد — ومركزها هنا القائد المنقذ دياب بن غانم، فراحت سعدى تخاطبه، في اتجاه إيقاف القتال، والعفو عن والدها الزناتي خليفة:
ولما لم تجد آذانًا صاغية من جانب دياب المتسلط في الانتقام والثأر، راحت تلهب الزناتي والدها للخروج له وحربه محرضة، والزناتي يجيبها:
وهكذا تجددت الحروب والصدام بين دياب والزناتي.
وهكذا حرَّم دياب بن غانم — كالزير سالم في حرب البسوس الانتقامية — حرَّم دياب مجامعة النساء حتى ينتهي من قتل الزناتي واقتحام تونس وسبيها.
وبادره الزناتي بدوره بأحقاده: «في القلب منك يا دياب نيران.» حتى إذا ما طالبه الزناتي بالتفاوض لإيقاف القتال الضاري والصلح، جاء دور كاهنة بني هلال التي لها ثلث الشورى «الجازية» محرضة:
بل وصل الأمر بالزناتي خليفة إلى حد مناشدته الصلح الذي لا يبعد كثيرًا عن الاستسلام:
حتى إذا استنجد الزناتي بابنته سعدى مستشيرًا متخطبًا، حثته من فورها على مواصلة القتال حيث لا مهرب.
ويبدو أن الزناتي خليفة حقق بالفعل في تلك الواقعة انتصارًا على دياب إلى حد إيقاعه وقتل الخضرا فرس دياب، «التي حزن عليها أشق الأحزان، وأمر بغسلها وتكفينها بشقق الحرير، ثم يدفنونها في مهابة، وبنى على قبرها قبة عظيمة، وذبح على قبرها ألف ناقة فرقها على الفقراء.»
«لكن أيقن بنو هلال عندئذ بأن دياب لن ينسى أبدًا ثأر الخضرا فرسته، وأن راية الزناتي قد اقتربت بالنصر، وبالفعل فركب دياب ابنها ونازله الزناتي إلى أن هرب الزناتي، فقام دياب بإطلاق الرمح؛ لأن الزناتي كان هاربًا، فالتفت لكي ينظر إلى دياب، فأصاب الرمح عينه وعدة «ومرقت» الحربة من قفاه، فتذكر الأمير دياب وقت قول ابنته نجيبة حين قالت له: «اطعنه بعينه»، فمال أبو سعدى عن الجواد، وعول على الوقوع، فسلب «فسل» دياب على رأس السنان، وعاد هو ورجال بني هلال على قوم الزناتي، فبدلوا أفراحهم بالكد، فلما شافوا الزناتي على الأرض مطروح، كثرت عليهم المصائب والأهوال، ما عادوا يعرفون اليمين من الشمال، فولوا هاربين، وأما قرايب الزناتي وقومهم دخلوا وصاحوا الأمان، ودخلوا واقعين على دياب، ورموا سلاحهم، وسلموا أرواحهم، وطلبوا الأمان، وأولهم كان العلام، وطلبوا من دياب مكان يقيموا فيه، ويلجئون حريمهم، فأعطاهم مدينة الأندلس وما حولها.»
«ورحل العلام وقومه الحريم والعيال، وقطنوا بذلك المكان، ورجع الأمير حسن والأمير أبو زيد وبنو هلال نحو تونس لينظروا كيف قتل.»
«أما دياب ملك تونس، وبالحال نادى عبده خليل، وأعطاه الرمح، وأمره أن يوضعه فوق تونس، وينادي باسم الأمير دياب، وكل من لا يدخل تحته يقتل، ففعل كما أمره مولاه، وصار ينادي بنداه، فسُرت سعدى بقتل أبيها، ولبست أفخر ملبوس، وصارت تتبختر كأنها العروس، حتى أتت إلى عند الأمير مرعي وهو يتمشى بجناين القصر عند العصر وهو لابس الملابس الحرير، وهو على رأسه طربوش مغربي، حسب عادات أهل الغرب، ثم دخلت عليه سعدى، وقبَّلت يديه، وقالت له: اعلم أيها الأمير الخطير، قد جاء الفرج بعد التعسير. وتعهدت وإياه ألَّا يأخذ غيرها من النساء، وعدته أيضًا ألَّا تأخذ غيره من الرجال ولو قطعت بالسيف.»
على هذا النحو البديع يجيء سرد السيرة للكيفية التي اغتال بها دياب الزناتي في عينيه كمثل طالوت مع جالوت.
ثم كيف انتهت المفاوضات بينه وبين قائد التحالف التونسي المغربي العلام الذي آثر الفرار عن تونس هو وقومه إلى الأندلس ورحلوا إليها.
وكذا الكيفية التي تملك بها دياب لكل السلطة بوضعه رمحه أمام ديوانه، لينحني تحته كل داخل إليه، آخذًا مكان الزناتي، مرتديًا تاجه المتوارث منذ أيام مهران خليفة كما تصفه السيرة، وذلك بعد أن «علَّق رأس الزناتي على أسوار تونس، وحرَّم دفن جثمانه طارحًا إياه في العراء، لتنهشه جوارح الطير، وأمر بتنزيل أمارة أمراء بني هلال ليدفنوهم، وتملك دياب تخت الزناتي وحلال الملك والمال والنوال والخدم قدامه، وأمر بإطلاق مرعي ويحيى ويونس، وخلع عليهم، وأرسلهم لعند أهلهم، وجلس دياب على تخت الزناتي، ولبس التاج، وهذا التاج مصنوع من قديم الزمان من أيام مهران خليفة، ومرصع كله بالمرجان الأحمر والياقوت الأخضر، ومنسوج بالدر والجوهر والذهب الأصفر، واجتمعت حوله بنو زغبة صُفوا صفوف مئات وألوف وأتوا الجميع حبوًا، قبَّلوا يده، فلما سمعت سعدى بجلوس دياب على كرسي أبيها خافت وارتعدت فرائصها، وخاب ظنها بمرعي، وندمت حيث لا ينفعها الندم، وتوجهت لعند الأمير دياب، وحبَّت يداه، وترجته في دفن أبيها، فقبل طلبها دياب أن يدفنوا أبوها بين قبور إخوته بدر وزيدان وطيَّب بخاطرها، وأدخلها بين حريمه، فأكرموها غاية الإكرام. هذا ما جرى إلى دياب، وأما ما جرى إلى حسن وأبو زيد وهم راجعين إلى تونس سبق منهم ناس، وشاهدوا رماح دياب، والمنادي ينادي اسم دياب والعبد خليل حين رأى الأمير حسن أو الأمير أبو زيد مقبلين، ارتعد نداه، ورجع شاور مولاه، فقال له دياب: «ارجع ونادي كما أمرتك.» فرجع العبد وصار ينادي ألَّا سلطان إلا دياب، وكل من لا يدخل تحت رمحه يعدمه الحياة، فحين سمع حسن هذا الكلام، قال: «كيف الرأي يا أبو زيد؟ ندخل أم لا؟» فقال أبو زيد: «هينة يا حسن ندخل، وإن شال الرمح.» فكان عبد الأمير حسن وراه ضربه بالرمح قطعه نصفين، فضربه العبد خليل قطعه كما قطع الرمح، وأما حسن هجم على ديوان الزناتي، فوجد دياب جالس على التخت، وحوله أكابر بني زغبة، والخدم والعبيد بين يديه، والتاج على رأسه، فلما نظروا حسن، هجم مثل الجمل الهايج، وقال: «ما هذه السعادة يا دياب؟ أما كفاك مرقتي من تحت رمحك، وتلبس التاج على رأسك، وتريد تورثني، وتعزلني من منصبي ورثة جدي وأبي، ونحن من الذي قصر منا عن حرب الزناتي، لا بد عن قتلك يا نحس بعد هذا العمل.» وانحدف على دياب فوق أبي زيد، والرجال بوجه حسن وقبلوا أياديه، بل إن أبا زيد أكرمه:
وحين بدءوا بتقسيم تونس وتوابعها ساومهم دياب من فوره على موت فرسته الخضرا:
فاعتذر له الأمير حسن، وقال: «الخضرا خذ عوضها مدينة تونس من غير حساب، وأقسِّم لك ثلث الغرب الذي تريده، وأنا مثلك وأبو زيد مثلي.» فحضروا جميعًا الديوان تقاسموا الجميع.
ولا تغفل السيرة بعد تقسيم الهلالية الملك المستباح كيفية تصرف قوم الزناتي الذين يحكمون سبعة تخوت بلاد الغرب، أو المغرب العربي عبر أربع عشرة قلعة، وتقبلهم لخبر مقتل قائد تحالفهم الزناتي، وهرب العلام بقومه إلى الأندلس.
فاجتمعوا إلى ملكهم المسمى بالملك الناحر شقيق الزناتي خليفة، ومن فوره أرسل لخاله العلام في الأندلس الذي رفض في البداية الاشتراك في الحرب القادمة، سوى المساعدة بالمال والعتاد.
ولم يمضِ طويل وقت حتى تجددت الحرب بين الهلالية وعرب المغرب أخذًا بثأر الزناتي خليفة، وتحرير البلاد.