مأساة سعدى ومرعي
وهكذا استتب الأمر للهلالية من عرب قحطانية وقيسية. أو نجدية حكم المغرب العربي وصولًا إلى مداخل أوروبا الجنوبية دون مناوئ.
واتساقًا مع ما هو متبع، فما إن هدأ صراع الحرب والنزال، حتى اندلعت حروب القصور، والمضاجع والحريم.
ذلك أن دياب بن غانم ما إن عاد فاتحًا منتصرًا إلى حيث مقره تونس، وبالتحديد قرطاج عاصمة ملكه المترامي، ليعيش حياته المترفة داخل حريمه «بعدد شعر الرأس»، حتى بدأ صراعه مع أسيرته سعدى ابنة الزناتي خليفة التي تمكنت بدورها، من أن تصبح عينًا مسلطة داخل حريم دياب لحساب الشق الثاني من التحالف، السلطان حسن وأبي زيد، فهربت من فورها المكاتبات والرسائل للسلطان حسن ومرعي تخبرهما بما أصبحت فيه من ذل وتَجبُّر دياب وتنكيله بها إلى حد التهديد اليومي بالقتل والتشويه، وهي التي نسيها، وتخلى عنها الجميع.
لكن ما إن علم السلطان حسن بمدى ظلمها والخطر المحيط بها، حتى بادر من فوره إلى جمع خمسة آلاف فارس، وشدوا الرحال إلى الأندلس للاجتماع بأبي زيد الهلالي، وبلاغه بمعاناة سعدى وتسلط دياب.
وما إن أُبلغ السلطان أبو زيد بما حل بسعدى، وهي خطيبة ابنه مرعي، الذي أصبح كالمجنون لا يعرف كيف يتصرف بإزاء جشع دياب وتسلطه، على الأميرة التي أبلت الكثير في مساعدة الهلالية، وترجيح كفة انتصاراتهم في مواجهة قومها وقبيلتها، وما تعرضت له من الامتهان.
بل هي ذاتها سعدى التي خاطرت مخترقة حصار أعداء بلادها، مشيرة عليهم بأهمية عودة دياب بن غانم، فهو وحده المقدر له قتل أبيها الزناتي وفتح تونس.
وهكذا تأهب السلطان حسن وأبو زيد للرحيل «وسارا حتى دخلا إلى تونس المغرب، فلما نظرهما دياب، لاقاهما بالترحيب والإكرام، وأدخلهما القصر، وذبح الذبائح وأقام بضيافتهما ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع قال لهم دياب: لقد شرفتونا بمنازلكم، وكان الواجب أرحل أنا لأول إليكم، وأقدم الواجب علي. فقال حسن: نحن ما أتينا إلا لأمر مهم. ثم أشار يقول:
فلما فرغ حسن ودياب يسمع تضايق، لكنه أخفى الكمد، وقال إن سعدى باقية كما هي، وأما قولك: إني طلبت أن أتزوجها، فهذا كذب، فقال حسن: هذا كتاب سعدى اقرأ. فقرأ دياب واغتاظ أكثر من الأول وقال: يا حسن هذه سعدى بواقعة وحالته، فالتي تخون أبوها لا يكون فيها خير لأحد، فالواجب إذلالها. فقال: هذه خطيبة مرعي أطلبها.»
ويبدو أن السلطان ودياب قد وصلا في احتدامهما إلى حد الاشتباك، وذكر دياب للسلطان، كيف يهينه من أجل فتاة خانت والدها وقبيلتها ويحق بالتالي قتلها.
ثم إن دياب اقترح وضع سعدى في مكان بعيد في آخر الميدان المتصدر لقصره، الذي كان قبلًا قصر أبيها الزناتي، ثم يركبون خيولهم بأول الميدان، ويطلقون الأعنة، ومن يصل إلى سعدى تكون ملكه ويأخذها.
«فقال حسن رضيت. ودياب رضي أيضًا، ثم اتفقوا على ذلك، وفي اليوم الثاني أحضروا سعدى إلى الميدان، ووقفوها في آخره، ووقفوا هم في أوله، وأعطوا لبعضهم شارة، فخرجوا كأنهم نشاب، كان دياب راكبًا الشهبا ابنة الخضرا، وكانت أحسن من أمها، فراحت أمام الجميع ومن خلفه الأسمر الآخر على الحصان، وكانت المسافة مقدار ساعة، فلما وصل إليها، قالت له سعدى: أنا أختك يا دياب. وكان الأسمر علَّمها أن تقول ذلك، فلما سمع كلامها، عرف المضمون، فشهر حسامه فجرحها جرحًا بليغًا، فصار به حسن، وقال: ماذا عملت هكذا يا دياب؟ قال: أنتم قلتم إن الذي يسبق إليها تكون ملكه، وهي صارت ملكي، فأتصرف كيف أشاء، وبما أنها خاينة لا أريد أن أبقيها عندي. ثم نزلوا إلى سعدى، فوجدوا فيها روح، فحملوها وساروا حتى دخلوا القيروان، واجتمعت البنات والنسوان لما عرفوا بقتل سعدى، وكذلك مرعي فإنه مزَّق ثيابه، ونتف شعره، وسار كالمجنون، وأما سعدى فإنها فتحت عينيها من حلاوة الروح، وأشارت تودع الدنيا بكلام يفتت الأكباد:
فما فرغت سعدى من كلامها حتى شهقت وماتت، فقاموا عليها الصياح والنواح، ثم غسلوها ودفنوها، وصار حسن في قلبه من دياب نار، وأما دياب فإنه طغى في الحكم؛ لأنه ملك في آخر عمره، وكان يبغض على أهل العرب، وهم كلهم يبغضونه، وما عرف كيف يتصرف بالمُلك، فأفسد عليه أهل بني زغبة، وصاروا يوشون لهم حتى صاروا أكثرهم يبغضوه، ولكن ما حد منهم قدر أن يحكي كلمة؛ لأنهم يخافون من بأسه وسطوته، ودامت الأحقاد بين دياب وحسن وأبو زيد، ولكن في الظاهر كانوا يُظهرون المحبة والمودة، ويخفوا ما في قلوبهم.»