اغتيال دياب للسلطان وأبي زيد
وبسجن دياب وأسره بالقيروان عند السلطان حسن الهلالي، تحدث بضعة أحداث جانبية؛ منها مقتل الأمير يونس، وحزن بني هلال عليه طويلًا، ومنها حكاية استطرادية تحدث لزوجة أبي زيد عليا، تستدعي منه العودة إلى الجزيرة العربية والوصول إلى نجد لفك أسر زوجته العالية بنت جابر.
أما دياب فحاول جاهدًا التوسط لفك السلطان أسره دون جدوى:
إلى أن تشفع له أبو زيد لدى السلطان، وساعدته نساء بني هلال في الإفراج عنه.
فناشدونه أولاد الأمارة والشبان الذين لم يسمعوا بذكر دياب إلا باللسان، فتشوقوا إلى مشاهدته ولو ساعة، فترجوا السلطان وساعدوهم الأمارة والنسوان، فقبل السلطان حسن رجاهم، وأمر أن يأتوا بدياب مكبلًا بالقيود والحديد، وفي الحال أحضروه بالجنازير، وأمام السلطان أوقفوه، وإذا هو أصفر اللون بهيئة الموتى، فصاروا أولاد الأمارة يضحكوا عليه، فقال السلطان حسن: «كيف ترى أمورك الآن بالذل والهوان؟» فقال: «ما دمت راضيًا علي.» وبعد مداولة طويلة أراد أن يرجعوه الأمارة إلى السجن، فقال دياب: «أنا شمسية تهزني، ولا قمح تكدني بغربالك، فإن كان الذئب يصفى للغنم أنت تصفا لي، وأنا أصفا لك.» فصاح حسن: «ويلكم، دياب أمسكوه وإلى السجن ودوه.» فعند ذلك أخذ دياب يرتجف مظهرًا الخوف الشديد، فوقع على الأرض مغشيًّا عليه، كمن قارب الموت، فعند ذلك ترجوا الأمارة الأمير، وقالوا له: «إن دياب في حالة نزاع.» فأمر أن يدخلوه دار الحريم لعند أخته نوفلة، وما أتم كلامه إلا وحضرت الرجال، ورفعوا دياب بكل إكرام إلى بيت أخته، فلما نظرته على هذا الحال، وهو محمول على أيادي الرجال صرخت بالبكاء، وأنَّت واشتكت، ومزقت ثيابها، وأخذت تقول:
«وأسرعت ومدت إلى أخيها فرش من ريش النعام، وأخذت ترش عليه من ماء الجذام، وهو ينتفض ويرتعش، وبقي على هذا الحال ثلاثة أيام، لا يذوق طعامًا ولا يقابل منامًا، وهو يستغنم الفرصة حتى تناصف ليل اليوم الثالث، فدخل على حسن وهو غارق في منامه، فعند ذلك استل الشفرة التي كانت معه في مدة حبسه، وهو يحضرها لمثل هذا الوقت، فانطرح على حسن وذبحه من الوريد، وتركه يتخبط بدمه، وسار يجد السير تحت ظلام الليل، إلى أن وصل إلى قومه وعشيرته، وعند الصباح فرحوا به كثيرًا وانسروا لرؤيته، وأخذوا يسألونه عن قصته، وعن كيفية إطلاقه من سجن حسن، فأخذ يقص عليهم القصة، ويخبرهم كيف صار من البداية للنهاية إلى أن أخبرهم بقتله السلطان، فحزنوا وقالوا: أصبحنا عبرة عند العرب، فسوف يصير بنا كما صار مع جساس بن مرة والأمير كليب، ومن الآن أصبحت عداوة كبيرة بين عشائر بني هلال، وسوف يصلون إلينا، فلنرحل من هذا المكان قبل أن تدركنا جميع بني هلال. فلما سمعوا كلامه وفهموا مرامه، قالوا: إن هذا هو الأمر الأحسن لنا؛ لئلا تدركنا جيوش بني هلال.
فهدموا الأطناب، وأودعوهم ظهور الجمال، وأركبوا النساء والأطفال، وصاروا يجدون بقطع الروابي والبطاح، وما إن عم خبر اغتيال دياب للسلطان حسن بن سرحان، حتى عمت الأحزان القيسيين والعامريين، وما إن وصل الخبر مسامع أبي زيد حتى شق ثيابه، وألقى بشاله، ونتف لحيته، وأهال التراب مع النساء، وبكته أخته الجازية:
وبكينه:
وما انتهت مراسم الجنازة وشعائر الدفن، ونحر الذبائح، حتى تنادوا في صيوان أبي زيد بالثأر ورفع العار، وبالطبع دقت طبول الحرب الثأرية الانتقامية من جديد، وساروا حتى دخلوا إلى حيث قصر دياب بتونس، فاستقبلهم التونسيون معزين، وأخبروا أبا زيد برحيل دياب وقومه إلى بلاد الأحباش.
فاستقر رأي القيسيين على تعقب دياب، إلا أنهم أجمعوا في النهاية على تنصيب أبي زيد الهلالي سلطانًا على «تونس والمغارب».
بينما رحل دياب بقومه إلى الحبشة إلى أن كان يوم، تذكر فيه أبو زيد صباه وصداقته لدياب وحربهما جنبًا إلى جنب، فأرسل يستعطف بخاطره طالبًا منه العودة.
وحين علم دياب بعفو أبي زيد عنه استبشر وراسله، كاشفًا له عن حاله، وما ألم به في الحبشة، فحتى نساؤها تحدث عنها دياب باستفاضة:
«وسار الأمير دياب إلى الملك جوهر، وودعه وركب بقومه ورجاله إلى أن دخلوا بلاد الغرب، فخرج الأمير أبو زيد ولاقاهم، وتصالحوا ورجعوا إلى الأوطان، وعمل أبو زيد وليمة فاخرة، وذبح الذبائح. وصار الأمير أبو زيد والأمير دياب في محبة زايدة، ولكن أبو زيد لم يُرجع للأمير دياب ملكه، وبقي هو الحاكم، فما هان على دياب وسار يقول: متى ترجع لي البلاد التي أخذوها مني؟ وأبو زيد لواطي. فاغتاظ الأمير دياب، وكمن السر لأبو زيد، وقال في نفسه: أنا صنعت دبوس وسكين السين للأمير حسن، فخلصنا من واحد وبقي علينا الآخر. وصار من ذلك الوقت يحمل الدبوس، وكان بسبع فراشات من تحت العباية حتى لا يلحظ عليه أبو زيد، إلى أن كان ذات يوم خرجوا للصيد والقنص، وكان مع الأمير أبو زيد جماعة من قومه، ومع الأمير دياب جماعة من قومه، فوصلوا إلى البر، وخرجت الفهود والصقور، تفرق الفرسان تطارد الغزلان.»
«وبقي الأمير دياب وأبو زيد في جهة، وصار الأمير دياب يطارد الشهبا، ويلعب كأنه في الميدان، فصار يعمل مثله أبو زيد، فدار نصف ساعة فصاح فيه، وقال خذها من يد دياب، فالتفت أبو زيد مرعوبًا، فوجد في يد الأمير دياب سنبلة قمح، فضحك دياب وعمل هذا الأمر ثلاث مرات، ورابع مرة صاح دياب خذها من يد دياب، فما التفت أبو زيد، وظن أنها ضحكة مثل العادة عند ذلك، لكن الشهبا طلعت كالريح حتى قربت من أبو زيد وصار جنبيه، فسحب الدبوس، وضربه على رأسه، فطلع برز مخه فرأس الدبوس، فوقع أبو زيد على الأرض عميان، فوقع الأمير دياب، وقد أخذته الشفقة، فصار إليه يبكي ويلعن الحمق مدة من الزمان، فتح أبو زيد بعينه دياب واقف، فقال له: ما كان ظني فيك يا دياب. ثم تنفس منشدًا:
فلما فرغ أبو زيد من كلامه والأمير دياب يسمع نظامه دمعت عيناه ونزل إليه وضمه إلى صدره.»
وعلى عادة ما هو ملمح رئيسي بالنسبة لسيرنا وملاحمنا العربية، استرسل أبو زيد المغتال بيد دياب من مرثيته الذاتية، وما علق بها من تراكم ملحمي عبر العصور.
وهكذا تخلى عنه دياب مضرجًا في دمه، بنفس ما فعله جساس بن مرة عقب اغتياله لكليب.
«وصار دياب كالمذهول بقومه إلى تونس ودخل إلى سراية الأحكام ونادى باسمه، بل هو تجاسر معلنًا قتله لأبي زيد الهلالي، وأنه الحاكم الوريث لتونس والمغارب.»
وبكت نساء هلال «القيسيات» ورجالها أبا زيد، وكترت فيه المراثي، فأنشدت الجازية، عقب دفنه إلى جوار أخيها السلطان حسن:
ثم إن القيسيين أو عرب الشمال بزعامة الجازية تظاهروا بالخضوع لدياب، ووضعوا المناديل في رقابهم علامة الأمان، وخرجوا ينادون: «يا دياب، أنت ملكنا والحاكم علينا، ولا حد منا يعصي لك أمر.» لما نظروه وتقدموا وقبلوا أياديه ورجليه، وقالوا له: «أنت السلطان ومثلك يليق أن يكون سلطان.»
«ثم دخل الأمير دياب وجلس على كرسي الأمير حسن، وصارت تأتي إليه الأمارة واحد بعد واحد يهنوه، ويدعون له بطول العمر، وأما الجازية والنافلة والحريم والأولاد فإنهم اختلفوا، وعند الليل ركبوا وساروا، وسبقتهم كثير من قومهم، وتسلطن دياب على كل بلاد الغرب، وأمر أن يُنادى باسمه، وأنه هو الملك حاكم بلاد الغرب، وصارت تأتيه الهدايا والتحف ورتب الحكام وعزل.»
«ولما راق باله سأل عن أولاد حسن وأبي زيد، فأخبروه أن الجازية هربت فيهم مع بقية النسوان، وتبعهم ثلاثون ألف نفس من بني دريد وزحلان، فتكدر خاطره وقلوا حميت ظنوا السوء، وما آمنوا إليَّ، فأنا لا بد لي أن أذلهم وأقرهم؛ لأنه كان بفكري أن أرتب لهم معاش وأقوم بوصية الأمير أبو زيد، ثم ركب وتبعهم فما لحقهم، فرجع وهو متكدر.»