مصرع دياب وأبناء الشهداء
وما إن ساقت الجازية أبناء قتلى بني هلال وشهدائها، حتى أرضعتهم من حديد الثأر، وربتهم على القتال عند ملك يُدعى شمعون، بلاده حارة يرجح أنها الحبشة.
والسيرة هنا في جزئها الأخير، إنما تؤرخ لجيل تالٍ، أصبحت تطحنه بدوره الحروب القبلية أخذًا للثأر، وتشفيًا بالدم الواحد المراق، الذي أصبحت تغذيه الانقسامات القبلية والعشائرية.
بالإضافة إلى النداءات التحريضية للجازية وموثباتها في اتجاه الحرب، كمثل إيزيس حين خبأت ابنها المنتقم لأبيه حورس في أحراش الدلتا، إلى أن اشتد ساعده، فقتل عمه ومغتصب عرشه ست أو شنح، والذي هو في موقع دياب بن غانم، الذي كان قد تزوج بامرأة من قومه أو قبيلته اسمها «نسرين»، ذلك أن الحرب كانت قد التهمت كل أبنائه فيما عدا وطفة التي تسمى بها، لكنه أنجب من نسرين أميرًا يُدعى نصر الدين، وفي ذات الوقت الذي اعتنت فيه الجازية بتربية اليتامى وأهمهم الأمير بريقع ابن السلطان حسن مع أبناء أبي زيد.
والملفت أن عين دياب بدوره لم تغفل عن نمو الأمراء — الأيتام — وحاول جاهدًا مطاردتهم والتنكيل بحلفائهم وحماتهم أينما كانوا، سواء في مراكش أو الحبشة أو الأندلس، أو حتى من اختبأ واحتمى منهم في نجد والحجاز.
حتى إن دياب تحايل باتجاه التودد لبعضهم لاغتيالهم بالمكيدة ذات عيد للحم أو الضحية بإحدى القلاع، على عادة مذابح القلاع الجماعية الخادعة.
فقال لهم: «إن الرأي عندي أن نعمل وليمة على العيد وعندما تجتمعوا أوهموهم واقتلوهم، ولا تدعوا من أكابرهم أحد.»
«وكان ثاني يوم عيد الضحية، فعمل دياب الوليمة، ومد السماط، وكان شيء يدهش العقول، وعزم بني دريد وأكابرهم، فحضروا ودخل نصفهم، وجلسوا على الطعام، وبقي النصف الآخر على ظهور الخيل، وفي تلك الساعة ارتفع الصياح، وعلا من كل ناحية، ورفع الصوت في بني هلال، وارتجت الأرض من كل مكان، ووقعت الضحية الصحيحة، وإذا بالطبول دقت والرايات ظهرت وانتشرت، والرماح انعكفت، والأصوات ارتفعت، والنساء زغرطت، فعند ذلك سأل عن الخبر، فأخبروه بما جرى من اليتامى، وأنهم نهبوا البوش، وقتلوا الرعيان، وطافوا على البلد من كل مكان، فعند ذلك أرسل دياب إلى ابن أخته بريقع جوابًا يهدده بالقتل وبعته مع تجاب، فأخذه وسار إلى بريقع، فأعطاه الكتاب، ففضه وقرأه، وعرف رموزه ومعناه، وقال: الله يعلم إن خالي خرفان، ومراده أن أرد له البوش، ونحن لا نرضى بالبوش ولا بغيره إلا أخذ روحه.»
وهكذا اشتد ساعد بريقع بن أبي زيد، بفضل حنكة الجارية أو الغازية إلى أن راسل خاله دياب بن غانم، وتهدده بالثأر وطالبه بالقتال.
فعند ذلك برز الأمير دياب إلى الميدان، وقال إلى الجازية: «من تكون أيها الفارس المفتخر على أبناء جنسه؟» فقالت له: «أنا ابن هذا الميدان، فمالك والسؤال؟» فقال لها: «لا أقاتل إلا من كان حسبه من حسبي، ونسبه من نسبي. فقالت له: «ما أكثر منك حسبًا ونسبًا، أنا الجازية أخت الأمير حسن وصديقة الأمير أبو زيد، وقد جئت لأخذ الثأر.» فضحك دياب حتى استلقى على قفاه، وقال لها: «متى تعلمتِ الفروسية؟ وأنا إن قتلتيني لا أقاتلك؛ لأنه عار أن أقتل امرأة مثلك؛ لأنه لا يليق بي هذا الأمر، وإذا قتلتك يقول الناس دياب عامر ملوك الأرض بالطول والعرض يبرز لحرب امرأة، روحي أرسلي الأمارة.» فقالت له: «ما أروح من هنا حتى أحاربك يا خائن يا غدار.» فقال: «يا جازية، بطلي كلامك الفشار، وارجعي إلى أولاد الأمارة أتنعم بآبائهم.» فقالت: «ما بالك ولهذا الكلام؟ انزل الميدان حتى أذيقك الموت؛ لأنك رديء خائن، وما جزاك إلا قطع رأسك.» فلما سمع دياب كلامها لعبت برأسه نخوة الرجال، فرفع رجله وضربها على جبينها بقوة عزمه، رفعها عن الحصان ٨ أذرع، فوقعت على الأرض ميتة، فقال أولاد الأمارة: «موت عمتكم؛ لأنها قد تطاولت، فنالت جزاها.» رجع دياب محزون عليها وقال في باله: «الله يلعن الشيطان ما كان لازم هذا أمره.» وأما الأمارة أخذوا الجازية كفنوها، وعملوا عليها مناحة عظيمة.
«وفي ثاني يوم برز بريقع إلى الميدان، فبرز إليه دياب والتقيا.
فلما نظرهم دياب ضحك وقال: والله مرادي أقاتلكم بلا درع وعلى كديشة عرجا. فمنعوه قومه، وقالوا له: أنت رجل كبير فما نسلم معك على ذلك. فبرز دياب بلا درع، وما معه إلا السيف والترس، فالتقاه الأمير بريقع، ووقع القتال، وانحدفوا اليتامى مرة واحدة، فالتقاهم وصاح فيهم صيحة ارتجت منها الجبال، وأراد أن يضرب بريقع بالسيف يقطعه قطعتين، فطرحه شيبان بالرمح من بعيد، وقع في جنبه دياب على الأرض من عظم الألم، فعند ذلك تقدموا الأمارة، وقال له بريقع: كيف حالك الآن؟ ثم تنفس دياب، وقال: أنا شبعت من الدنيا، وهذه مقدار كل موتة، ولها سبب، وأشكر الله الذي مت قتيل أولاد حسن وأبو زيد ولا قتلني أحد غريب. فلما فرغ دياب من كلامه، غاب عن الوجود مقدار ساعة، ثم أفاق وصار يودع الدنيا:
«وبعد أن مات قال بريقع: أحضروا السكين التي ذبح بها أبي، فأحضروها، فقطع بها رأس دياب، وفصله عن جسده وتركه ورجع، فأتوا قوم دياب فأخذوه، وكثروا عليه البكاء والعويل، ومزقوا ثيابهم وناحوا وصاحوا، وسرجوا الخيول سود، ورفعوا البيارق السود، ودقت طبول الحزن، واجتمعت الأمارة من كل ناحية، وعند ذلك دفنوه.»
«وجلس بريقع ملك على بلاد الغرب، وراقت له الأحوال من نسرين زوجة دياب، فإنها لما قُتل زوجها قالت لابنها: «لا بد من أن أولاد عمك يعملون حيلة عليك، ويقتلونك ويرتاحوا من دياب، ويخافون منك لئلا تأخذ ثأرك منهم، فهيا اركب الشهبا وسير عند أحد أصحاب أبوك.» فبينما يصير وقت مناسب لأخذ الثأر، فعند ذلك ركب نصر الدين على الشهبا، وأخذ أمه وراءه وبالطبع هربا.»