الريادة
تُعد سيرة بني هلال، وتغريبتهم، ورحيلهم إلى بلاد الغرب — المغرب العربي — وحروبهم مع الزناتي خليفة، وما جرى لهم من الحوادث والحروب المخيفة، بحسب وصف الطبعات المتعاقبة على نصوصها، مدونةً كانت أو شفاهيةً، أهمَّ أنموذج واضح لسِيَر الأنساب القبائلية، أو لذلك التحالف العشائري الذي لم يقتصر بحال على عرب الجزيرة، بقسميها الشمالي القيسي، في نجد والحجاز، وجنوبها القحطاني في عدن وحضرموت والجنوب اليمني العربي بعامة. فالسيرة ذاتها لا تغفل هذا الدور في التأريخ لرءوس وممثلي وشخوص ذلك التحالف، منذ الإلهة الأنثى القمرية «شمة» وسليلتها الجازية أو الغازية، وأخيها رأس التحالف المعدي القيسي، حسن بن سرحان سلطان الهلالية، وأبنائه، يونس ومرعي، ويحيى، وفارس بني هلال أبو زيد الهلالي سلامة.
ثم عرب الجنوب اليمنيين وفارسهم هنا دياب بن غنم، الذي تعارف عليه جماهير السيرة بالزغبي، مرورًا بمن اجتذبتهم الهجرة الجماعية الزاحفة لتلك القبائل المتحالفة عبر التغريبة تحت شارة أو شعار الهلال، أحد أطوار الدورة القمرية، وما يستتبعها من أخذ بالتقويم القمري أو العربي (الهجري) وليس الشمس، إلى أيامنا.
فلقد اجتذب عرب الجزيرة عبر زحفهم من أقصى المشرق العربي، بدءًا بالخليج العربي إلى مغربه على طول الشمال الإفريقي حتى المحيط ومداخل أوروبا الجنوبية بعامة، الكثير من التحالفات القبائلية من العراق وما بين النهرين والشام ولبنان وفلسطين ومصر، إما بالانضمام للحرب أو بالتضامن الذي يحققه — التزاوج — والزواج السياسي كما سيتضح.
فمنذ الأحداث المبكرة للريادة التي اضطلع بها أبو زيد الهلالي حين حدث جوع في الأرض؛ بسبب انقطاع المطر في نجد ومعظم بوادي الجزيرة العربية، فاصطحب أبو زيد الهلالي ابني السلطان الهلالي حسن بن سرحان، يونس ومرعي؛ لريادة الطريق تمهيدًا للهجرة الجماعية إلى تونس الخضراء، وتملكها بتخوتها السبع وقلاعها الأربع عشرة حتى الأندلس.
فنجد الأمراء الهلالية المقنعين على هيئة شعراء جوالين حجازية، ينزلون مضارب الخفاجي عامر حاكم بلاد العراق، الذي سيرافق الهجرة الجماعية بفيالقه المحاربة أيضًا، حتى إذا ما نزلوا حلب ثم حماة وحمص وطرابلس حتى دمشق، اجتذبوا قبائل خليفة تمد يد العون لجحافل الجيوش العربية المتحالفة تحت شارة الهلال، الذي سيصبح رمزًا موحدًا للعالم الإسلامي فيما بعد.
إلى أن اكتشف أمرهم «العلام» ابن عم الزناتي خليفة «ونائبه في معاملات الأحكام»، فاحتال بدوره للقبض عليهم ومواجهتهم بأنهم أمراء وبصاص بني هلال المتسللين أو الجواسيس.
وبعد مفاوضات طويلة شارك فيها الزناتي خليفة ذاته انتهى الأمر بتدخل الأميرة سعدى ابنته التي هددت أباها بأن هؤلاء الأغراب لا يستحقون القتل، وإلا أدان مثل هذا الفعل القبيح لإذلال الغرباء وأسرهم أو قتلهم، بدلًا من إكرامهم والترحيب بهم في تونس، خاصةً وهم شعراء جوالون بما يساعد على إشاعة خبر اغتيال الزناتي لهم؛ ليصبح مسبة في الأفواه.
ثم أشارت سعدى، أو سعدى، بحبس الشابين في قصرها المنعزل بالسجن الملحق به وإطلاق سراح العبد أبي زيد ليعود بالإثبات والفداء:
وحينما اقتنع الزناتي خليفة على مضض برأي سعدى ابنته أمر وزيره العلام بإطلاق سراح أبي زيد ليعود بالفدية، أما سعدى فأودعت الأمراء الأسرى سجنها.
«وحين انطلق أبو زيد الهلالي واصل من فوره استطلاعه للمدائن حتى أشرف إلى وادي الغباين وتلك الأماكن، فوجدها كثيرة المياه والنبات متسعة البراري والفلوات، تصلح للحرب والقتال ومرعى النوق والجمال، ثم صار من هناك إلى قابس ومنها إلى دروس فوجدها أحسن محل لامتلاك تونس، وقد تعجب من خيرات البلاد وكثرة ما فيها من الإيراد ومشاهدة من البلدان الكثيرة والمياه والبساتين الغزيرة، فانشرح خاطره وطابت سرائره.»
ويتضح من ظاهرة اهتمام أبي زيد الهلالي برصد كل ما تقع عليه عيناه من معالم وجغرافية الأراضي التونسية، مدى إخصابها وخيراتها المتفجرة، بالإضافة إلى معالمها الواقعية وحصونها في قابس ودوس بما يسهل على قومه طريق الهجرة وسهولة فتحها.
«أما يحيى ومرعي فأخذتهم سعدى عندها ويبقوا في سرور وأفراح وبسط وانشراح، أما الأمير أبو زيد فبعد أن دار جميع البلاد وعرف السهول والوهاد، رجع ليرى أحوال البلاد، ولما دخل قصر سعدى فألقاه مطليًّا بالرصاص.»
وعلى هذا النحو دأب فارس الهلالية على معرفة كل ما يسهل على عشائره طريق هجرتهم وفتوحاتهم، بل إن الأحداث التي صادفت فرسان بني هلال جاءت هي بذاتها بالمبرر لهجرة القبائل وحربها لاسترداد أسرارها من الأمراء الرهائن بقصر سعدى الجميلة ابنة الزناتي خليفة، وغرامها الذي سيشتعل حبًّا بمرعى عدو بلادها الذي جاء غازيًا.
فتحرص السيرة على ترصُّد أبي زيد الهلالي لكل ما يشاهده ويراه من معالم ومراكز قوة، تسهل على التحالف القبلي الهلالي سهولة فتحها وتملكها.
وما زال يجِّد في السير مدة خمسين يومًا حتى أقبل إلى نجد وتلك الأوطان، وحين دخوله إلى نجع بني هلال التقاه الكبار والصغار، وكلما تقدم إلى قدام يزاحمه الجميع وهم يصرخون بصوت واحد: «اليوم قد أتانا مَن هو عزنا وحمانا»، وما زال سائر حتى أقبل إلى صيوان الأمير حسن والأمير دياب والقاضي بدير والأمير زيدان شيخ الشباب، تقدموا إليه وقبَّلوه بين عينيه، وأجلسه الأمير حسن بجانبه، ودارت البشائر في بلاد نجد بأن الأمير أبا زيد حضر من بلاد الغرب، فاجتمعت الفرسان من كل مكان وحينئذٍ سألوه عن الأمراء مرعي ويحيى ويونس، فعند ذلك بكى الأمير بكاءً شديدًا، وأشاد يخبرهم عما جرى له من التعب والمعاناة حاكيًا مرة ومنشدًا أخرى.
إلى أن استقر رأي كبار العشائر على الرحيل والهجرة عن الديار، إلى تونس والمغارب، لفك أسرى أمراء بني هلال.
فاجتمعت القبائل مع مطلع نهار الرحيل يتقدمها شيوخ القبائل وفرسانها، السلطان حسن بن سرحان، وأبو زيد الهلالي ودياب بن غانم والقاضي بدير، وزيدان شيخ الشباب، ثم الأميرة الجازية، التي هي في موقع الكاهنة — القمرية — الأم لهذا التحالف القبائلي الهلالي.
وتصادفهم سلسلة من الحروب والمنازعات أول ما يلتقون في بلاد الأعاجم بالعراق وتخوم إيران وبلاد التركمان، مثلما حدث مع الدبيس بن مريد، ووزيره المدعو همام، عقب سبي إحدى أميرات بني هلال وهي المارية ابنة القاضي.
وفي تلك الحروب تبدت شجاعة وفروسية رأس التحالف اليمني السيرة وهواجسها التي اشتعلت، فأنشدت تمنع أبيها عن منازلة الدبيس دياب بن غانم الملقب بأبي موسى، وابنته وطفاء، أو وطفا، بحسب نطق متوجسة كمثل كاهنة متنبئة:
وتشير هذه السيرة التي توغِل في إغراقها في المأثورات الغيبية والخرافية، من ضرب للرمل واستثارة وأحلام وهواجس أبطالها، خاصة الجازية، إلا أن كابوس وطفاء ابنة دياب تحقق هذه المرة بانكسار فرسان الهلالية أمام الدبيس الذي أسر منهم الكثيرين من قادتهم وأمرائهم، منهم الأمير عقيل أخو أبي زيد الهلالي والأمير زيدان الملقب بشيخ الشباب إلى أن جاء المنقذ، وهو أبو زيد الهلالي وألاعيبه وأحابيله الكاشفة عن مدى ذكائه وقدراته الفائقة في اجتياز المآزق وتحقيق غاياته في النصر على أعدائه.
«فما إن أسرَ الملك الدبيس أمراء بني هلال، حتى هاجت النساء والرجال واستعظموا تلك الأحوال، وذهب منهم جماعة من الأعيان إلى عند أبي زيد فارس الفرسان، فوقعوا عليه وفوضوا إليه، وطلبوا منه أن يسعى لتخليص الفرسان والأبطال من الأسر.»
«إنه غيَّر زيه وتنكر ولبس حلة من الحرير الأخضر ووضع طيلسانًا على رأسه حتى لم يعد يعرفه أحد، وقصد الملك الدبيس وحادثه باللغة الفارسية، فلما رآه الدبيس تلك الصفة ظن بأنه من دراويش الأعجام، فاحترمه وقال له: من أين أتيت يا ابن الأجواد؟ قال: من مدينة بغداد وإني من فقراء عبد القادر رب الفضائل والمآسر، فقال: ادعو لنا يا درويش الأعجام بالنجاح والانتصار، وأن الله يرزقنا بأبي زيد المخادع الماكر حتى نقتله على رءوس الأشهاد ونبلغ منه سرور الفؤاد، وهو الذي كان السبب في قدوم بني هلال إلى هذه المنازل والأطلال، فإذا أجاب الله طلبك بلَّغناك إربك، فتعجب أبو زيد من هذا الكلام، وقال له: بلغك المراد، وما دام كذلك أريد منك أن تأمر لي بالذهاب إلى البلد. فسمح له بالذهاب وأمر الحجاب أن يفتحوا له الأبواب، وعند دخوله إلى البلد قصد باب الحديد وهو المكان الذي كانت مسجونة فيه فرسان بني هلال، ووجد هناك جماعة العبيد وهم يطوفون تحت جنح الظلام، فسلَّم عليهم، فردوا السلام، وقال: من تكون من الأنام؟ فقال: قد أرسلني الدبيس بن مزيد لأدعو له في جامع عبد الصمد بأن الله يبلغه المراد وينتصر على أبي زيد من الأوغاد. وأنتم من تكونون من الناس؟! فقالوا: إننا من جملة الحراس، وقد أمر الملك أن نحافظ على أسر بني هلال خوفًا من أبي زيد؛ لئلا يأتي إليهم بالمكر والاحتيال.
ثم إن أبا زيد بعد هذا الحديث أخرج من جيبه شمعة مبنجة، فأضاءها عند فرك مناخيره، فلما اشتعلت فاح منها رائحة زكية، ولم تكن إلا برهة يسيرة حتى وقعت الحراس كالأموات من ذلك البنج، وبعد ذلك أخرج حجر المغناطيس ووضعه على الأقفال، فتساقطت في الحال، فرأى فرسان بني هلال في القيود والأغلال وهم يقاسون الأهوال، فأعلمهم بالأمر، وفكهم من الأسر، ثم أعطاهم أسلحة الجماعة، وقال لهم: اتبعوني بعد ساعة؛ حتى أكون فتحت لكم أبواب المدينة، فتخرجوا بالراحة والأمان.
ثم سار حتى وصلوا إلى الباب، فوجد الحراس جالسين في أيديهم السيوف والحراب، فردوا عليه السلام، وقاموا على الأقدام، وأجلسوه بجانبهم، وجعلوه يخاطبهم ويخاطبونه، وكان كثيرًا يمد يديه إلى جراب، ويأخذ قطعة من السكر ويأكلها أمامهم، فقالوا: ما هذا الذي تأكله يا شلبي؟ قال: هذا هو ملبس حلبي. فقالوا: أطعمنا ونحن ندعو لك بالتوفيق والخير. فأعطاهم قبضة كبيرة، وكانت مبنجة فأكلوها، فما استقرت في بطونهم حتى سقطوا أو ناموا، والأسرى فقد خرجوا ومدوا في قطع البراري والبطاح، فوصلوا لأهلهم عند الصباح، فقامت الأفراح، وكثر الصياح، واشتدت ظهور الأبطال وشكروا أبا زيد على تلك الأفعال، رأوا الحراس راقدين والأسرى غير موجودين، ولما بلغ الدبيس هذا الخبر طار من عينيه الشرر وتأكد عنده بعد التحقيق والتفتيش أن البلا من الدراويش، وما هو إلا أبو زيد صاحب المكر والكيد، ودارت الدائرة واستمر القتال على المنوال حتى كثرت الأهوال على بني هلال، فلم يعد لهم ثبات فتأخروا إلى الوراء فتفرقوا إلى جانب الصحراء، وقد قُتل من الفريقين في ذلك نحو عشرين ألف بطل كرار، ولما أظلم الظلام اجتمعت بنو هلال في الخيام في حالة الذل والانكسار مما أصابهم، وعقدوا ديوان مع الأمير حسن، وطلبوا منه أن يمدهم برأيه، فأخذ حسن يحمسهم بالمقال ويشجعهم على الحرب والقتال، ويقول لهم: إنه من الواجب أن تركب الجازية مع المعمارية وتحمل عليهم في الصباح بالكتائب والمواكب.»
فأرسل إليه أبو زيد الهلالي منشدًا:
وحين وقعت الحرب بين الخرمند أو الفرمند — ويبدو أنه كان لقبًا ملكيًّا — تبدت شجاعة أبي زيد، وما ألحقه بهم من هزائم.
«فعند ذلك ولت الأعجام هاربةً إلى النجاة طالبة، وخلَّص أبو زيد من أيديهم النساء والبنات ورجع بالنصر والإقبال إلى المضارب والأبيات مع باقي الأمراء والسادات.»
«هذا ما كان من أبي زيد البطل وما فعله في ذلك النهار، وأما المارية ابنة عم الأمير غنيم فكانت في هودج على جمل أهوج، فما اشتد القتال انهزَّ بها الجمل وسار بها على عجل، فرأت نفسها بقرب الحلة والكوفة والصلصيل وراء هودجها طالب أخذها، فصاحت على ابن عمها من ملو رأسها، وكان المذكور بالقرب منها، فلما سمع نداها ترك القتال وأتاها فجعل يطعن الأبطال ويمدد الفرسان.»
وابن عمها هنا ليس سوى أبي زيد الذي أنقذ أميرات بني هلال من أيدي العجم بقرب الحلة والكوفة.