أسر دياب في قبرص
ثم ترد بعد ذلك أخبار حروب طويلة، معظمها من ذلك النوع الدخيل على جسد السيرة، وهو ما أشرنا إليه بالتراكم الملحمي أو ما يضيفه رواة العصور المتعاقبة، من ذلك سلسلة حروب ومنازعات انتقامية من جانب حاكم الموصل الذي استعان بالتيمور لنك، وأحد وزرائه المتآمرين يُدعى «الإسكندر».
كذلك تصفه السيرة، أنه عقب كل انتصار، كان يعود مضرجًا بالدم مثل شقيقه الأرجوان منشدًا:
كذلك تبدت بطولات دياب عقب وصولهم إلى حلب الشهباء وقتله لحاكمها بدريس ملك حلب، فاستقبل أهلها الهلالية بالترحاب، وبعد أن نصَّب الهلالية ابن الملك المقتول، واسمه جمال، ملكًا عليها مكان أبيه الشرير.
«فأمر أهل المدينة أن تطيع أوامره، وأقامت بنو هلال في تلك الأطلال نحو عشرة أيام في أكل وطعام وشرب مدام، وسماع أصوات الأنام، وفي اليوم الحادي عشر تجهزت للرحيل والمفر قد دق طبل الرجوع تنبهًا للعسكر، وفي الحال هُدت الخيام وركبت فرسان الصدام، وسارت النساء والبنات في الهوادج العماريات، وركب أيضًا الأمير حسن وباقي السادات ورفعت على رءوسهم الأعلام وجدوا في قطع البراري، وما زالوا يقطعون الروابي والآكام مدة ستة أيام حتى وصلوا إلى مدينة حماة، فنزلوا على نهر العاصي، ولم يعترضهم أحد؛ لأن أهل البلد كان قد بلغهم ما جرى على أهل حلب، فخافوا عواقب الأمر وإثارة الفتن فاستقبلهم الملك بالإكرام والوقار.»
«قال الراوي: ومن الأمور الغريبة والحوادث العجيبة، وهو أنه كان بمدينة حلب تاجر اسمه كساب، وكان من أشهر الناس ومن أتباع صاحب جزيرة قبرص الملك الهراس قد حضر إلى تلك المدينة، وكان يتاجر بالبضائع، فاتفق أنه لما قدمت بنو هلال إلى تلك الديار ونهبت أمواله، فشكى للأمير دياب وأعلمه وطلب رد أمواله التي كسبها بنو هلال، فلم يستفد وإلا حصل على حين ترك حلب ونجا بنفسه خوفًا وقصد الملك الهراس، فدخل عليه وأعلمه بما فعلت بنو هلال به، فاغتاظ الملك؛ لأنه كان يحب كساب، فأوعده بإحضار دياب، وكان عنده ثلاثة من أصحاب حيل وخداع، وكانوا من جملة محافظين المدينة فأحضرهم وأعلمهم بواقعة الحال، وقيد الأموال وطلب منهم أن يسيروا مع كساب ويأتوا بالأمير دياب، فقالوا: سمعًا وطاعة وغيروا ثيابهم وساروا بالمواكب من تلك الساعة وصحبتهم هدايا، وعند وصولهم إلى اللاذقية نزلوا في المدينة، وجعلوا يتجسسون أخبار بني هلال، فعلموا أنهم في حماة الأطلال، فعند ذلك ركبوا وساروا تحت جنح الظلام إلى أن وصلوا إلى البلد ودخلوا منزل دياب وبصحبتهم الهدايا مثل سيف معقرب وخنجر كالفضة جوهر وأبريق فضة وثلاث مماليك يساوي ألف دينار، وغير ذلك من الأشياء الثمينة، فلما وصلوا دخلوا على الأمير دياب وقدموا الهدايا فترحب وسألهم عن حالهم، فقال له كبيرهم: إن سألت عنا يا أمير نحن تجار وإخوة ثلاثة وجينا في تجرة عظيمة وتركناها في اللاذقية، خفنا من الطريق وحذرنا كل صديق ومرادنا تعدينا من هذا الطريق، وعند ذلك شالوا ثلاث منح من الجواهر المثنية التي تدهش الأبصار وتحير الأفكار وقالوا له هذه الأولى إلى الأمير حسن، والثانية إلى الأمير أبو زيد والثالثة إلى القاضي. فقال دياب: ومَن هؤلاء الذين تقول عنهم وكأنهم من تحت يدي؟ فقالوا: نحن أتينا لعندك، الذي تريده أعطيه والذي ما تريده لا تعطيه. فقال لهم: نحن ما ندري لأحدكم؛ لئلا يقوموا يلحقوا. قال كبيرهم: نحن تجار ولا أحد يجلب متاجر مثلنا ومعنا مركب موثوق خلاف ما بعناه نحن كل سنة تلاقينا نبيع ونشتري، ونكسب النصف في بضاعتنا ولا نحمي طريقنا إلا على حلب، وكان اللعين بدريس يشتري منا ما يلزم من البضائع كل سنة، وقد أتينا هذا المال على حسب عادتنا فلم نجده، وقد وجدناكم ناصبي على حلب، فسألنا بعض المسافرين، فأخبرونا عليك بأنك قتلته وملكت بلاده ففرحنا؛ لأن ذلك الملعون أخذ منا عشرة آلاف دينار، وهذا غير عشرة آلاف ثانية، فقلنا من شدة فرحنا: نقدم لك هذه البدلة حيث إنك قتلت هذا الملعون الخبيث.»
«فركبوا الثلاثة هجنهم وركب الأمير دياب أيضًا، وساروا خوفًا من أن ينظرهم أحد لئلا تظهر حيلتهم، وبينما هم سائرون وإذا بالأمير عمار أخي الأمير حسن التقى بهم فلم يعرف منهم سوى الأمير دياب، فقال: يا بن غانم! إلى أين ساير مع هؤلاء القوم؟ فأجابه: هؤلاء ضيوفي وموصلهم خوفًا عليهم من سفهاء العرب.»
«فسار الأمير عمار إلى منزله، وأما الأمير دياب فسار مع أصحابه من العشاء إلى ثاني يوم للظهر حتى أشرفوا على البحر المالح، فسمع دياب صوت دوي الماء مثل الطبل، فدخل عليه الوهم.»
«ولما رآه الثلاثة قد تغير، قالوا له: أما تنزل معنا في البحر؟ فأجابهم: إن نزولي معكم في البحر ما هو ضروري، وإن كان كلامكم صدق انزلوا وهاتوا ما قلتولي عليه، وأنا ما عدت أخطي ولا خطوة واحدة. ثم نزل عن الشهبا، ومسك سرجه بيده اليسار والسيف بيده اليمين، ووقف ينتظر فتركوه ونزلوا إلى البحر حتى أتى إلى الغليون، وجابوا له خيمة من الحرير الأصفر، وتلك الخيمة مكللة بالدرر والجواهر والياقوت والمرجان والزمرد الأخضر، فلما رأى دياب تلك الخيمة وفرشها الذي يدهش، تعجب وظن أن كلامهم صحيح، ودخل معهم إلى الخيمة ودخلوا يتحادثون وأتوا بالمأكل والمشرب، وفي الحال جابوا السلاسل قيدوه ونزلوا إلى المركب ورفعوا المراسي، وأقلعوا ولما قطعوا مسافة طويلة أعطوه ضد البنج، ففاق فلما نظر الجماعة كانوا في ملابس بيض يلاقيهم في برانيط سود، فعرف أن الحيلة تمت عليه، فتنهد وأنشد يقول:
ثم قالوا له: لا بد من قتلك. وما زالوا سائرين إلى أن وصلوا جزيرة قبرص، وطلعوه مقيد وأدخلوه إلى عند الملك هراس، وكان عنده جماعة من الناس، ففرح الملك وألقاه تحت العذاب.»
•••
«أما ما كان من بني هلال، فإنهم كانوا في مسرات إلا والخضرا قادمة مثل هبوب الرياح، وهي كئيبة حزينة على فقد خيَّالها الزغبي دياب، فأول ما نظرتها ابنته وطفا، فصاحت وولولت، فتراكض جميع الفرسان على صاحبها، وفي تلك الساعة صار ضجة عظيمة.»
«وأما ما كان من الأمير حسن، فإنه قال لأبي زيد: إن دياب صار له مدة ما حضر لعندنا، وأظن أنه مغتاظ علينا؛ لأننا ما خليناه ينهب حلب، فقال له أبو زيد: قم نزوره. ولما ساروا تحت منازل دياب سمعوا البكاء والنواح، وتقدم غانم أبو دياب وهو باكي العين، وأشار إلى الأمير أبي زيد بهذه الأبيات، يقول:
فلما فرغ غانم من كلامه، وسمَّع الحاضرين، حزنوا على فقد دياب إلى أن تصدى لإنقاذه أبو زيد الهلالي بعد أن ضرب الرمل، ورأى أهوال دياب وحاجته للنجدة، بعد أن عرف بمكان دياب، وأسره في جزيرة قبرص عند ملك يُدعى الهراس.»
«وتجهز للسفر، فأخذ عشرة فرسان، وصار يقطع البراري، وما زال سائرًا حتى وصل قبرص (؟!) إلى أن وصل إلى باب المدينة رأى الهراس خارج بجماعة إلى الصيد والقنص، فعرف أبو زيد أنه الملك، فتقدم إليه وسلَّم عليه بأفصح لسان، وسحب المبخرة، وحط بخور، فعقد الدخان، وقال له: هذا البخور من دير الحيران، وطلع ثلاث شمعات، وقال له: خذ هذه من دير البنات ودير الحميرة المباركات، فقال الهراس: وقعت يا أبا زيد، وكيف خلصت وأنا مربط عليك الطرق؟ فقال سلامة: لا تقول هذا الكلام يا ملك الزمان، أنا خدام الملك مثقال ولي مائتين عام سابع ما خليت دير ولا صومعة ولا مجلس، وإنك الثالث على دياب وأسرته؛ لأنه قتل بدريس. فقال الهراس: يا راهب! أما دياب فقد مسكناه في الحديد رميناه، ولكن بحياتي عليك أنت بعينيك مثقال. فقال أبو زيد: أي وحق الإله المتعال. فعندما أخبروه والهراس كيف عمل في دياب وسريعًا دخلوا إلى الديوان، وأمر أبو زيد بالجلوس، فجلس للطعام، فأكل ثم بدأ أبو زيد الملك حديثًا ما سمع مثله في طول عمره، حتى ولا من العلماء والفلاسفة، فسُر منه جدًّا، ونادى في أكابر ديوانه بأن يكون أبو زيد الكبير فيهم جميعًا، فتقدم كبير الرهبان، كان حاضر ضرب الرمل، فعرف أنه أبو زيد، فقال الجميع: هذا كبير إنه إذا تغلب يكون اتغلبنا، وكان يُسمى أو برناس، فتقدم لعند أبي زيد، يقول:
فأجاب أبو زيد:
«فلما فرغ سلامة من كلامه، تعجبوا الحاضرين من فصاحة لسانه، فما بقى عند الهراس أكبر منه، وقال: تمنى علي ما تريد يا سلامة؟ قال له: أن تريني دياب حتى أُشفي قلبي منه. فأمرهم بما قال، فعند ذلك قاموا في ساعته، وأخذوه والشمع قدامه أشعلوه، وساروا حتى وصلوا إلى السجن، فأدخلوه، ولما شاف دياب في هذا البلاء والعذاب كلَّ عن الصواب، وتقدم إلى عنده، ورفع يده، وضربه كف، طير الشرر من عينيه، فتألم دياب وصاح: الله يقطع يمينك. فقال له: وأنت الله يقطع عمرك من هذا السجن. وخرج من عنده، وتوجه إلى عند الهراس، وقال: يا ملك الزمان! هذا دياب ما بقى ينفع، قال الهراس: كيف يكون الرأي عندك، فقال: فكه من الحديد.»
«وعلى هذا النحو واصل أبو زيد احتيالاته إلى أن نجح في فك وثاق دياب، وتحريره من الأسر، ومعه اثنا عشر ألف أسير، استخدمهم في حصار سرايا حاكم قبرص الملك الهراس، وهو في ثياب الراهب سلامة، فقتل دياب الملك الهراس، ثم تفرقوا في الأسواق والأزقة، وحملوا السيف بمن لم يطق حتى قتلوا اثني عشر ألفًا، وباقي الناس طلبوا الأمان، ووضعوا المحارم في رقابهم، فعفوا عنهم، وطلع منادي في الأمان، وجلس أبو زيد في الديوان، وأتى عنده الأكابر.»