الهلالية يحاربون اليهود في فلسطين
ولعلني في هذا الباب أُكثر من الاستشهاد بالنصوص الحرفية للسيرة كمستند متحقق لمدى عبث النساخ اليهود — إن لم يكن الصهاينة — بالأصول النصية لهذه السيرة، وكيف أن كلمة صهيونية، حُرفت كتابةً إلى «سهيونية» عبر السرد والوقائع التي حدثت في أرض تدعوها السيرة بأرض عيام، نرجح أنها تخوم فلسطين وقلاعها التي وصلوها عقب رحيلهم عن قبرص نزولًا إلى اللاذقية.
والملاحظ أن هذه القلعة هي بالفعل بالقرب من اللاذقية نزولًا إلى حماة، وقد زرتها بصحبة زوجتي شتاء عام ١٩٧٥، وما تزال النصوص الشفهية التي سمعتها من الأهالي تحفظ هذه الواقعة المتواترة المائلة عند أسر أبطال بني هلال بها، وكيف كانوا يمارسون رياضتهم الفروسية بالسباق ومنازلات «الرجاس» عبر سهولها.
وهي بالفعل قلعة رومانية الطراز موحشة.
ولما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، واجتمعت بنو هلال عند أبو زيد، وقالت: ما هذا المصاب؟ وما يكون من الجواب؟ قال لهم: «قوموا بنا في ساعة الحال، ندور عليهم في البراري، ونفحص عن هذه الأحوال.» فبينما هم كذلك، وإذا برجل صابر في تلك الدكادل فساروا إليه، فسلموا عليه، فرد عليه السلام، فقال له أبو زيد: «يا أبا العرب، أنت من أين؟ وإلى أين قاصد؟» فقال له: «يا أمير، أنا كنت في صهيون، وسائر إلى بغداد، وتلك العيون.» فقال: «ما عندك من الأخبار؟» فقال: «اعلم بينما كنت أمس حائرًا في تلك الناحية، إذ وجدت أبا بشارة العطار، ومعه ثلاثة أمارة وخيارهم من بني هلال، ولكن واقعين في أوشم الأضرار، وأخذهم إلى قلعة صهيون، ووضعهم في الحديد والأغلال، وهذا ما عندي من الأخبار، وإذا كنتم ذاهبين إلى خلاصهم، ارجعوا واستجيروا بالله، لئلا يصير فيكم مثلهم؛ لأنه ما يقدر أن يصل إليهم.» فقال له أبو زيد: «من أي شيء؟» فقال له: «من أبو بشارة؛ لأنه سحَّار مكَّار لا يُطلى له بنار، ولكن أنتم من أي بلاد؟» فقال له: «من بلاد الحسار والقطهف.» فلما سمع الساعي كلامهم تركهم، وسار إلى حال سبيله، وأما أبو زيد فإنه قال لفرسانه والأبطال: «ما يكون عندكم من الرأي والإرشاد؟» فقالوا: «الرأي عندك يا ابن الأمجاد.» فقال لهم: «ارجعوا إلى الأطلاع، وأنا وزيدان نكفي لهذه الأحوال.» فعندها رجعت العرب، وأما أبو زيد وزيدان ساروا في سلك البراري والقفار طالبين قلعة صهيون في تلك الأوطان؛ إذ نظروا أبو بشارة العطار يدور في تلك البراري، وسايق قدامه الحمار، فلما نظرهم وقف حتى وصلوا إليه، وصاروا بين يديه، فصاح فيهم، وقال لهم: «ويلكم أيها الأنذال، وقعتم في أوشم الأحوال، وقعت يا أبو زيد أنت وزيدان، وتظنوا أن مكركم يدخل عليَّ، والله يا أبو زيد لا بد أقتلك وأريح الناس منك.» فقال له: «من عرفك بيننا حتى تعادينا؟» فقال: «عارفكم من وقت ما خرجتم من أوطانكم.»
فلما نظر أبو بشارة من أبو زيد تلك الفعال، خاف من الوبال، فقبض كوشة من التراب، وعزَّم عليها ثم حدفها على أبو زيد، وإذا برجليه قد لبست في الأرض، وكذلك يده يابسات ومرفوعات إلى فوق رأسه، فعُدم حواسه، ثم أنه أبو بشارة زعق في أبو زيد بصوت هائل، كأنه الرعد الصايل، ورفعه في يده ما شاف نفسه إلا وهو طائر ما بين الأرض والسماء هو وزيدان.
وعبر سلسة من الانتصارات السحرية، التي يحرزها اليهودي أبو بشارة ضد أبي زيد وبقية أبطال بني هلال عبر قلاع وأماكن خربة، لحين استعانة أبي زيد بالخضر أبي العباس، دون عون.
وكان أن لجأ إلى سلسلة حيله ومكائده، كما تصفه السيرة بدقة فائقة مع ملاحظة صراعه داخل قلعة «صهيون» تلك.
«ثم إنه أخذ حماره، ونزَّل عنه بضاعته، ففردها ونظر ما فيها، وبعد ذلك حزمها، ووضعها على الحمار، وبقي في ذاته محتار، ثم أنه شلح ما كان عليه من الثياب بدون ارتياب، وتزيا بزي أبو بشارة العطار، وساق قدامه الحمار، وقال له: الله يحرق عظام صاحبك ابن الأوغاد. وسار في تلك البراري والوهاد، وسار على قلعة صهيون، وصاح أنا الحنون، ساقي الضد كاس المنون، ومعي فلفل وكمون وحنة وأساور وأبر وحلتي ودهان أحمر، وسيبداك وخطوط لكم البضائع في هذه السفرة يا بنات. فتكاثرت عليه النساء من كل مكان، فصار يكبش ويعطي لهم بلاش من غير دنانير، ويقول لهم: هل من سفرة كسبنا شيء كثير؟ فعادوا به بكل شفة لسان، فتركهم وسار في تلك البراري والكُسبان، ولم يزل أبو زيد ساير حتى وصل إلى قلعة صهيون وتلك المعالم، فما نظر إلى واحد، فنزل له واثب على الأقدام، والتقاه بالترحيب والإكرام، وأجلسه بجانبه على مراتبه، وأمر له بالخمر والشراب، فقال أبو زيد في سره: أنا عمري ما شربته، وكيف أشرب الآن؟! وعاد بأمره محتار من هذا الضرر، فقال له صاحب القلعة، وكان اسمه حنا: علامك يا بشارة ما تشرب وتضرب؟ فقال له أبو زيد: ما لي حاجة حيث حلفت عنه يمين جمعة كاملة أنني لا أذوقه؛ لأن من خاطري قتل هؤلاء الأسارى، وأسقيهم كأس الذل والخساء. فقال له: ونحن عندنا ننظرك حتى أنك تحضر، وتفعل فيهم مرادك. فقال لهم أبو زيد: لأجل أن أسقيه كأس الهوان. فلما أحضروه نظر إليه إلى أن تمكن أبو زيد في النهاية من الانتصار على عدوه الصهيوني عقب سلسلة من المكائد والتحولات السحرية، أنشد خلالها أبو زيد أبلغ الأشعار والمراثي الذاتية:
«وعن طريق تضمينه الاستعانة بالخمر للإفلات من أسر، تمكن أبو زيد من فك وثاق أبطال بني هلال من الأسر الصهيوني، وأخذهم في جنح الظلام، وساروا حتى وصلوا لقومهم، ففرحوا بهم فرحًا شديدًا، وطلعوا لاقوهم بالطبول والزمور وشكروا الأمير أبو زيد.»
«وأما ما كان من أمر حنا والأبطال، فكانوا خمرانين — كما تقدم الكلام — ولما كان الصباح استفقدوا الأسارى فما وجدوهم، وفتشوا أبو بشارة فما وجدوه، فحينئذ علموا القضية، ثم صاح في الفرسان، وأمرهم يركبوا الخيل، فعند ذلك ركبوا ظهور المهارة، وجدوا في قطع الصحارى طالبين بني هلال، زالوا مجدين في سيرهم، حتى قاربوا الأرض التي فيها بني هلال، فقال لهم الوزير وأخوه مريض: خذوا أهبتكم للقتال، واستعدوا للحرب والنزال، ذلك وإذا بخيل بني هلال طلعت ولمعت رماحها في شعاع الشمس، وهي غائصة في الزرد والسلاح تحن خلفها قطع الرماح، وفي أوائلها أبو زيد، ومن جواره دياب وحسن القاضي وزيدان فرسان الحرب والطعان، فتبادرت إليهم عساكر جريس، وصاحوا بهم، فارتجت لصيحتهم الوديان، ثم سأل: من أنتم أيها اللئام؟ فجعل عليهم دياب بدون جواب، فتلقاه فارس يُقال له الدهقان، وتجاول هو وإياه ساعة من الزمان، حكم دياب عليه السنان، وطعنه في صدره، خرج يلمع من ظهره، وكان معه عشرة من الفرسان، فلما نظروا ما حل به حملوا على دياب فتلقاهم كأنه أسد، وفي أقل من ساعة قتل سبع فرسان، وانهزم الباقون، وهم ينادون بالعرب أنقذونا. فكأن أبا زيد الهلالي في موقع الرأس المدبر للتحالف القبائلي الهلالي، ودياب بن غانم هو ذراعه الضارب.»
وأما دياب وبقية الفرسان، فإنهم فرقوا الكتائب، وأظهروا العجائب، ولما رأت عساكر الأعداء ما حل بهم من الدمار ولَّت الأدبار، وأركنت إلى الفرار، والتجأت إلى القلعة، فتبعهم أبو زيد والفرسان، فعندما طلبوا الأمان، فأعطاهم الأمان، ورتبوا عليهم الجزية في كل عام، ورجعوا إلى مضاربهم كسبانين غانمين، وفرق الأمير حسن ما غنموه من الجميع، وأقاموا على شرب قهوة وأكل وطعام مدة ثلاثة أيام، وبعد ذلك صمموا على الارتحال من تلك الأطلال، فهُدمت الخيام، وانتشرت الرايات والأعلام، وركبت الفرسان ظهور الخيل، واعتقلوا بالرماح والنصول، وركبت النساء والبنات في الهوادج والعماريات، وجدوا في قطع البراري والآكام، حتى وصلوا إلى حمص، فأقاموا فيها خمسة أيام، وكانت تأتيهم الهدايا من جميع الولاة والحكام، وارتحلوا من بعلبك، ومنها إلى زحلة، وقد طابت أيامهم في هذه الرحلة؛ لأنهم كانوا يصرفون الأوقات في السرور والطرب، وقد زال عنهم العنا والكرب، وبعد ذلك صاروا قاصدين مدينة الشام، فوصلوا إليها عند الظلام، ونصبوا المضارب والخيام.