بنو هلال في دمشق
وتتوقف السيرة في جزئها الخامس على أبواب دمشق، عقب انتصار بني هلال على أبي بشارة العطار — حاكم بلاد صهيون — الذي هو بحق مثال التاجر السامي اليهودي مثل يعقوب الذي تسمى بإسرائيل.
ومن التباعنة اليمنيين تبع أسعد، وابنه تبع حسان اليماني، أو ذي اليمنيين، صاحب السيرة المهشمة التي أشرنا إليها، الذي سبق أن غزا الشام ولبنان وفلسطين بألف سفينة حربية ومائة ألف جندي إلى أن فتحها، والذي اغتاله بعاصمة ملكه دمشق بالحيلة والمكيدة ليلة عرسه الدامي من الجليلة بنت مرة، كليب التغلبي «ملك العرب» الأخ الأكبر للزير سالم، الذي هجر منفاه الاختياري في بئر السبع الفلسطينية، وقاد حرب البسوس الشهيرة انتقامًا لأخيه المغتال بدوره كليب من أخ زوجته الجليلة، ذهل بن شيبان الملقب بجساس بن مرة: «فما أن واصلت القبائل الهلالية زحفها جدوا في قطع الفلوات، حتى أقبلوا على مدينة الشام، وكان الحاكم في تلك الأيام على دمشق ملكًا أشد فرسان المعارك، واسمه شبيب التبعي بن مالك، وقد كان رأى حلمًا في المنام، فقام خائفًا، فجمع أكابر الديوان والوزراء والأعيان، وقال لهم: قد رأيت رؤيا الآن، قالوا: ما هي يا ملك العصر والأوان؟ قال: رأيت في منامي أنه قد أتى إلى هذه البلاد سباع شبه جراد. وكان كل سبع يأتي إلى شجرة يقلعها بأنيابه، ولا يبالي من الأخطار. وكان لهذا الملك وزير عاقل خبير، واسمه الوزير عميرة قال:
فلما سمع شبيب هذا الشعر، وفهم فحوى الحديث، فقال للأكابر والأعيان من حضر في الديوان رأيكم في هذا الشأن؛ لأن بني هلال قد حضروا الآن إلى هذه الأطلال بعساكر كعدد الرمال، فقالوا: «إن الرأي هو أن نبادر بالقتال، ولكننا في أول القتال نرسل ونطلب منهم عشر المال، فإن أجابوك إلى هذا الطلب بلغت القصد، وإلا نحاربهم ونشتتهم في البر.» فاستصوب شبيب رأي القوم، وأرسل يطلب منهم عشر المال، وكتب إليهم يقول:
وما إن قرأ السلطان حسن رسالته، حتى نشبت الحرب، بل إن في دمشق بالتحديد برز أكثر دور زيد وقدراته، فالمهم أن في هذا السياق الشعري الملحمي، المفضي كما هو الشأن بالنسبة لسيرتنا عن بني هلال، للكشف عن دور وقدرات أبي زيد الهلالي لتبرز طاقات ذكائه ومعرفته المستفيضة عبر سلسلة من مباريات الذكاء التي يشهد بها التبع حاكم دمشق ذاته له، سواء في مباريات الفروسية، حيث وقع اختياره على جواد الملك التبع ذاته الملقب بغطاس، وفاز به على فرسان التبع.
إلا أن التبع المتجبر قبض على أبي زيد وتابعيه من فرسان بني هلال، ووصفهم بالعبيد الجواسيس، وقادهم إلى المشنقة، لحين تدخل ابنه ووريثه الأمير الملقب بصقر الذي أنقذهم من المقصلة.
«وإذا بصقر ابن الأمير شبيب أتى من الصيد والقنص، فلما نظر ذلك سأل عن الخبر فأخبروه بالأمر، فعند ذلك نزل عن ظهر الجواد إلى الأرض، وخلصهم وقطع المراس من رقابهم، فوصل الخبر إلى شبيب، فأحضرهم عنده في الديوان، ووبخ ولده على الشأن، وقال هؤلاء من بني هلال أعداؤنا، أُوتوا إلى منازلنا والأطلال؛ لأجل أن يقتلوا الرجال، ويدعونا بأوشم الأحوال، قال صقر: يا أبي، ما عندي خبر من ذلك الأخبار، وهذا الأمر قد جرى، وصار شفعتي في هؤلاء الشعار وتبطل كلامي، ونقص بين الشباب مقامي، فالأوفق أن نبصر لهم إهانة ولا تقتلهم، وإلا يرموا عليهم رموز أسامي ما عرفوهم، فحينئذ قتلوهم. قال شبيب: هذا هو الصواب.»
«ثم إنه التفت إلى أبو زيد وقال: يا صنديد ما كارك اليوم يا أديب؟ قال: شاعر لبيب. قال: مرادي أدعي شعرائنا وأحضرهم إلى دياره وأدعيهم أن يرموا عليك رموز ما عرفتهم، فإني أقتلك، قال أبو زيد: افعل ما تريد يا ابن الأماجيد. فعند ذلك أدعى الأمير شبيب إلى شعراء بلاده، وكانوا أربعة وعشرين شاعرًا، وكبيرهم يُدعى صولجان بن ماهر، فلما حضروا أمرهم أن يرموا رموزًا على أبي زيد ورفاقه، فأجابوه السمع والطاعة، فاحتبك الديوان في تلك الساعة، فالتفت أبو زيد إلى صولجان، وقال له: يا سيد الفرسان، مرادي قبل أن تبدي شعرًا وقصيدة، تسير إلى موضعك، وتأتي لنا بطعام حتى يصير بينا خبز وملح. فأجابه بما قال، وسار إلى بيته في ساعة من الزمان، وأحضر إلى أبو زيد قصعة ملآنة عصيد، وفيها ملعقة، وقال: كُل يا ابن الكرام. فأخذ أبو زيد شفقة برأس الملعقة وذاق شيئًا قليلًا، فوجدها مرة مثل الحنضل. قال: هذا زادك! قم يا ذليل يا مهان، وهات ما عندك من الأوزان. فعند ذلك تقدم الصولجان وأخذ الرباب، وبدأ حتى أطرب ذوي العقول والألبان. وأما أبو زيد فكان يراقب الكواكب، ظن أنه ينظر إلى بنات نعش أشار يقول:
فلما فرغ الصولجان وأبو زيد، سامع نظامه، وأشار يجاوبه يقول:
فلما فرغ أبو زيد من كلامه، وتعجب الأمارة من ذكائه، فحزن التبع شبيب، وحلق ذقن الشاعر، وطرده من عنده، والتفت إلى أبو زيد، وقال له: بقى لي عليك ست أشياء إن عرفتهم خلصت من دهاهم، وإذا ما عرفتهم قُتلت أنت ورفقك. فأجابه: ما هم؟ أخبرني عنهم؟ فقال له: المصارعين والمشاكين والمدافقين ورمايين الذهاب، وشايلين العلم وطباخين الكيما. باتوا تلك الليلة إلى الصباح، فقام شبيب، وأحضر كبير المصارعين، وكان بطلًا رزينًا وما له من قرين، فلما رآه أبو زيد قال له: يا أخا العرب، دونك العرب؛ لأنه أن أجعلك في التراب، ولا تظن الصراع أكله حلو. فقال له المصارع: دع عنك شنشقة لسان يا ذليل يا مهان، واليوم يبان الشجاع من الجبان. فقال أبو زيد: اليوم عندي عيد يقتلك يا مهان. ثم نهض وأثبت الأقدام، وأسرع إليه مثل الأسد الضرغام، والتقى البطلين كأنهم جبلين، وكان المصارع دافن في ركن التبان حربة مثل الثعبان، وهي شغل بلاد الروم، ويريد بها هلاك أبو زيد، فرآها دياب وقال له: خذ بالك يا أمير، وانظر هذه الحربة التي كأنها نقمة، أنا رأيتها قبلك يا أمير دياب، وهذا اليوم أدعيه ملقى على التراب.»
«وقال غيره يا أمير شبيب، فتقدم رامي النشاب، فذهب أبو زيد ووقف في تلك الهضاب، فضربه أبو زيد، رماه فوقع قتيلًا بدمائه، فعند ذلك تقدموا شايلين العلم فغلبهم، وكذلك طباخين الكيمياء، طلعت طبخته أحسن من طبختهم، ثم التفت إلى شبيب، وقال له يا أمير المؤمنين: لك عندنا شيء بعد من هذا التنكير، فاتركنا نذهب إلى أهلنا وعيالنا، فعند ذلك غضب غضبًا شديدًا، قال له: لا شك أنك عفريت من عفاريت سليمان. وبعد ذلك أمر الخدم أن يأخذهم إلى السجن لأجل القصاص والانتقام، فأخذوهم في الحال، ووضعوا في أرجلهم القيود والأغلال ووكلوا بهم جماعة من صنايد الرجال. وكان الأمير دياب ومن معه من الأصحاب في خوف وشدة، فجعل أبو زيد يشجعهم، فنهضوا في الحال، وجدوا في قطع الروابي حتى وصلوا إلى بني هلال، وكان وصولهم عند الصباح.»
«وأمر العساكر والأبطال للاستعداد إلى الحرب والقتال، فاجتمع عنده مائة ألف مقاتل لقتال بني هلال، وكانت بنو هلال قد استعدت للقتال.»
«وكان يوم شديد الأهوال، انتصرت فيه عساكر الشام، وأسرت فيه عدة من البنات والنسوان، وقتلت جملة من الفرسان، ولما أقبل الظلام رجعوا وباتوا في قلق واهتمام، وفي الحادي والثلاثين برز الأمير حسن، وطلب شبيب، فما أتم كلامه حتى صار شبيب أمامه، وانطبق على بعضهما، حتى حجبهما الغبار عن العيون والأبصار، وما زال الأمير حسن يحارب شبيب حتى قرب وقت المغيب.»
«وأما الملك شبيب فإنه كان كما تقدم قد أشرنا من ذلك الرمح على العدم، فلما رأى حاله طريح الفراش، زاد عليه الخوف والارتعاش، وأنشد يقول:
«ولجأ أبو زيد إلى الحيلة، فسار إلى مضربه، وهو يؤمل ببلوغ مأربه، ولما أصبح الصباح نهض أبو زيد، ولبس أفخر الحلل، وتعمم بعمامة كبيرة، ولبس جبة قصيرة، وغسل وجهه ببعض العقاقير، فصار أبيض مثل الثلج، وأنعم من الحرير، لم يعد يعرفه أحد من الأنام، ثم ركب ظهر كديشة عرجا، ودخل مدينة الشام، وهو في هذا الزي والهندام، وجعل يجول في الأسواق وهو ينادي: أنا الطبيب، أنا الحكيم، فمن كان فيه علة أزلتها عنه بإذن الإله الفتاح. وما زال يطوف ويجول وينادي ويقول: أنا الحكيم، أنا الطبيب، حتى وصل إلى قصر شبيب، وكان لشبيب ولد مثل البدر، يقال له صقر، فاتفق أنه كان هناك، وسمعه من الشباك فقال في نفسه: إن هذا الطبيب رجل غريب، ولو لم يكن من الشطار والحذاق ما كان يطوف في الأسواق، فمرادي أن أتعرف بيه، أو أجعله يداويه لعله يشفيه. ثم طلبه فحضر وسلم، وقال: أنت حكيم؟ قال: نعم. قال: إذا شفيت أبي من هذه العلة والمرض، وأزلت عنه المرض أغنيتك إلى الأبد، وقدمتك إلى أطباء البلد. فقال: إني سأبذل الجهد وأداويه، ولا أخرج من هذا القصر حتى أشفيه. ففرح كل مَن حضر هناك بهذا الخبر، وزال عن قلوبهم الغم والتكدر، ولم يعلموا بأن الطبيب عدوهم الأكبر. ثم تقدم أبو زيد إلى شبيب في صفة حكيم وطبيب، وهو يترقب الفرصة ليعدمه بالحياة عن قريب، وكان رأسه معصوبًا بمنديل، وهو يتنهد من قلب عليل، ففك العصبة، ومسح الدم، ووضع له المراهم، وقال: لقد زالت الأقدار بإذن الواحد القهار. فاتفق أن شبيب فتح عينيه، فرأى أبو زيد حوله فخاف وأندر، وأيقن بالموت الأحمر، فصاح من حلاوة الروح بصوت خفيف: هذا أبو زيد صاحب المكر والكيد. فقال الحاضرون: ما هذا الذي يقول أيها الطبيب؟ قال: يريد أن تملوا الأسراج زيت، أو تخرجوا جميعكم من البيت؛ حتى يستريح أو يزول عنه اليأس؛ لأن العليل تضيق أخلاقه بكثرة الناس. ففرحوا وخرجوا من القاعة، ولما خلى المكان أخرج أبو زيد من جنبه السكين، وذبح شبيب من الوريد إلى الوريد، وقد بلغ قصده، ثم غطاه إلى فوق رأسه وخرج، فسألته عن حال شبيب الجماعة، فقال لها: إنه بخير، فلا تدخلوا عليه إلا بعد ساعة، بينما يكون قد صحى من النوم، ولا بد أن يشفي من علته في هذا اليوم؛ لأني عالجته بأحسن علاج، فلا تكونوا في قلق. فشكروه على ذلك، ووعدوه بالخلع والأنعام ثم ودعهم وسار.»
«وأما زوجة شبيب وباقي الجماعة، فإنهم بعد ذهاب أبو زيد بساعة، دخلوا على شبيب، فوجدوه على تلك الحال، وعلموا أن الطبيب كان أبو زيد المحتال؛ لأنهم كانوا يسمعوا عنه أشياء كثيرة، فاستعظموا الأمر، وأخذتهم الحيرة، وأقاموا العزاء والنحيب على وفاة شبيب، وهم يلعنون ذلك الطبيب، وكان لشبيب أخ اسمه الصحصاح، وكان من أبطال الكفاح، قال: لا بد لي أن أتبع هذا الغدار. وركب وسار وراءه، وهو يهدر كالأسد إلى أن التقى به بقرب طاحونة خارج البلد، فلما نظره أبو زيد، ورآه عرف أنه الصحصاح، وأنه يريد قتله ووفاته، فدخل على الطاحون وغيَّر لونه بالأعشاب، ونزع منه الثياب، ثم خرج، ووقف على الباب، فلما وصل الصحصاح إليه اشتبه أمره، فقال له: علمني مَن صاحب هذا الكديش، فقال في الطاحون، فنزل على ظهر الحصان، وسلمه مع الرمح لأبي زيد، ثم سلَّ سيفه، ودخل إلى الطاحون مثل المجنون، فلم يجد سوى الطحان هناك، فضربه وخرج في الحال، وهو يظن أنه قتل أبو زيد المحتال، فوجد أبو زيد على ظهر الحصان، يتعجب من ذلك الشأن، وقال له: من تكون قافلًا؟ فما أتم كلامه حتى طعنه أبو زيد بالرمح في صدره، فوقع على الأرض قتيلًا، وسار أبو زيد حتى دخل على الأمير حسن في الصيوان.»
«أما أهل شبيب، فإنهم لما علموا بقتل الصحصاح زاد عندهم النواح، وأحضروه لجانب أخيه، وأقاموا عليهما النحيب، فتقدمت جنوب زوجة شبيب ترثيه بهذه الأبيات، وزادت عليهم الحسرات:
«فلما فرغت هذه المرثية جعلت تبكي وتنوح من فؤاد مجروح، وتلطم على خدودها من شدة الأسف، وتقول: والله لقد انهدم شبيب العز والشرف. فبكت الناس لبكاها، وعزوها على ما دهاها، ثم أجلسوا شبيب على كرسي من الذهب الأصفر، مرصع بالدر والجوهر، وألبسوه عدة الحرب، وبكوا على ملكهم حتى كثر الصياح، وارتفع البكاء والنواح، وتكسرت السيوف والرماح، ثم تقدمت جنوده وهي ترقص بالسيف.»
وتوغل السيرة في سردها لتفاصيل الأحزان التي عمت دمشق، وطقوس الدفن واستخدام الإيقاعات العنيفة من سيوف ودفوف، عبر طقوس الانفصال، كما أسماها فان جنب، أي انفصال — روح — الميت عن الأحياء.
فلقد وصلت المناحة إلى حد رصد السيرة عبر ما تقدمه وتسوقه إلينا من معلومات إثنوجرافية تلقي المزيد من الضوء القوي على الكثير من الممارسات الشعبية التي ما يزال جانبها الأعظم سائدًا لدى مجمل شعوبنا وكياناتنا العربية، منها الكيفية — الآسيوية — التي انتحرت بها تلك الزوجة النائحة «جنوب»، حين وضعت رأس السيف في بطنها، بينما قبضته في الأرض، وظلت ترقص في عنف من حوله، ثم انكبت عليه، فخرج يلمع من ظهرها، عندئذ ضج الجميع بالعويل.