الهلالية في مصر
ويبدو أنه عن طريق العريش، وعبر برزخ السويس قدمت جحافل الهلالية المهاجرة الغازية إلى مصر — العليا — مرورًا منها إلى ليبيا وتونس؛ لتحط رحالها في أرض تونس الخضراء، بحجة تحرير أسراهم «يونس ومرعي ويحيى» الذين احتجزوا بسجن القصر المنعزل البديع المطلي بالرصاص، للأميرة سعدى ابنة حاكم تونس وفارسها الزناتي خليفة.
وعندما وصلت الهلالية إلى مصر، كان قد مضى سبع سنوات على احتجاز الأمراء الهلاليين الثلاثة، وإيداعهم سجن سعدى، التي أحبت — الأوسط — مرعي إلى حد العشق.
هكذا يخبرنا الرمَّال المنجم الذي استقدمه حاكم مصر في ذلك الحين، ولقبه «فرمند مصر»، الذي رأى حلمًا أرعبه:
وعلى هذا فمن المرجح أن ذلك الرمَّال أو النجَّام الذي توجه إليه «فرمند مصر» بالاستشارة، كان يعمل لحساب بني هلال، ذلك أنه أعظمَ من شأنهم وقوتهم ناصحًا بعدم التعرض لهم، وهم في طريقهم مرورًا إلى تونس والمغارب، للإفراج عن أسراهم، ملمًّا بتفاصيل أحداثهم:
وعلى الفور قدم إلى الملك — الفرمند — حاكم الصالحية؛ ليخبره بوصول بني هلال، بل ودخولهم عليه في هيئة نساء سبايا هدية من سلطانهم حسن بن سرحان في أعقابهن أبو زيد الهلالي بلباس ومكياج مهرب الكواعب «قشمر بن منصور».
«فاستبشر الملك وشرب كثيرًا، ومدت الموائد، وعند ذلك غنت البنات، ودقت على الآلات حتى كاد يرقص القلب، وكان الملك وقعت عينه على الجازية فهام بها، وتعلقت نفسه؛ لأنها كانت جميلة المنظر، فأجلسها على جانبه، والتفت إلى أبو زيد: مَن تكون هذه يا قشمير؟ فقال: هذه الجازية ذات الوجه الحسن أخت الأمير حسن. فالتفت إليها، وقال لها: غني لي على الكأس يا صبية الجمال، فإن قلبي قد مال. وما زال يشتد عليها، ويتذلل إليها حتى أجابته إلى مناله، وأخذت تغنيه بهذه الأبيات تقول:
«فلما فرغت الجازية من كلامها، أطرب الفرمند من نظامها، وشرب الكأس عن اسمها، وهو يتأمل في محاسنها وبياض جسمها، ثم أمر قشمر أن يملى له كأسًا آخر، فملأه وناوله إياه، فأخذه وتقدم وطفا بنت الأمير دياب، وقال غني على هذا الكأس يا بنت الأمجاد، فجعلت تغني وتقول:
حتى إذا ما وصل حاكم مصر إلى أقصى نشوته، وضعن له البنج أو العقاقير، وأخرجوا فرسانهم من داخل الصناديق، بحسب الحيلة الطروادية الشهيرة، ودارت معركة داخل مخدع فرمند ذاته، تذكرنا بذات الخدعة التي أحدثها كليب الفلسطيني بمشاركة خطيبته الجليلة بنت مرة داخل مخدع التبع الغازي للشام وفلسطين، حسان اليماني.
إلا أن الحيلة هذه المرة لم تأتِ فعلها السريع، فامتدت الحرب بين الهلالية وفرمند مصر وابن أخته الأمير محمود، إلى أن قتل أبو زيد محمودًا، وسقطت القاهرة في أيدي الهلالية الدخلاء.
وتستطرد السيرة في تقديم محصلة من المعلومات — الإثنوجرافية — المفيدة للمصريين وطبائعهم في ذلك العصر الوسيط.
وكذا المسجد الذي شاده الذي شاده السلطان حسن الهلالي بها والذي ما يزال موجودًا إلى اليوم.
«فلما رأى المصريون تلك الأحوال خابت منهم الآمال، وأيقنت الهلاك والوبال، واجتهدت أن تخلص جثة ملكها فما قدرت، وقد أهالها ما رأت وأبصرت وامحلت عزايمها، وتأخرت واشتد عليها الحصر، وخاب أملها في النصر، فرجعت وطالت مصر، وهي على أسوأ حال لا تعرف اليمين من الشمال، فتبعتهم بنو هلال على الأقدام، وفي مقدمتهم أبو زيد ودياب وزيدان شيخ الشباب، وحكموا فيهم ضرب السيف القرضاب على الأجسام والرقاب، حتى دخلوا البلد وهم في حالة الذل والنكد، فلما رأت أكابر المدينة والأعيان ما جرى، وكيف أن الفرمند شرب كأس الهوان، وما خرجوا إلى عند السلطان حسن بن سرحان، وطلب منه العفو والأمان، فأجابهم إلى ذلك الشأن، وأوصى الأبطال والفرسان، لا ينهبوا من أمتعة المدينة لا رخيصة ولا ثمينة، بل يكونوا في هدوء واحتشام إكرامًا لمزارات الأولياء، ومقامات العلماء والعظماء، وكان للفرمند، ولد مقتدر اسمه الأمير منذر، فأحضر إليه قبلة بين عينيه، ثم ولاه مكان أبيه بحضور أكابر البلد والذوات والعمد بعد أن أوصاه أن يتصرف بحسن السلوك، ويتخلق أخلاق الملوك، ثم قامت الأفراح، وزالت الهموم والأتراح، وكان السلطان حسن قد استحسن مصر كل الاستحسان لكبرها، وما فيها من الأبنية الحسان، فصمم أن يبني له فيها على اسمه جامعًا ليكون ذكرى له على طول الزمان، فأمر البنايين والمهندسين ببناء الجامع المذكور في ظرف ستة شهور، فأجابوه إلى ذلك المرام، وبعد أن تم بتمام، أمر أن يفرشوه بنفيس الفرش، وينقش حيطانه بأحسن النقش، فامتثلوا أمره في الحال كما قال، فكان جامعًا عظيم المنال، يزهو كالهلال، وكان مكتوب على بابه بالذهب هذا جامع الأمير حسن الهلالي سيد العرب.»
وبالطبع، فإن الجامع ما يزال قائمًا إلى أيامنا — كما ذكرنا — ويُعرف بجامع السلطان حسن.
ولم يمكث الهلالية كثيرًا في مصر، بل واصلوا رحيلهم إلى ليبيا، لكن في الطريق وقعت عدة أحداث، منها المشاحنات المتجددة بين العالية بنت جابر زوجة أبي زيد والجازية خاصة بالقرب من عيون الماء المتفجرة التي تسميها السيرة بالمخاضة، حين سبَّت الجازية العالية «يا عشيقة عبدنا»، وكانت تعني أبا زيد.
ومنها ذلك الحب المشتعل من فوره بين الأمير ماضي بن مقرب وبين الجازية، وحين حاول التقرب منها بالزواج، نصحه المقربون منه بطلب فرس دياب بن غانم «الخضرا»، وفي حالة رفض مثل هذا الطلب؛ لأن روح دياب بن غانم في فرسته هذه يطلب بدلًا منها الجازية، مع ملاحظة توحد المرأة بأنثى الحصان، بل وأهمية فرس دياب هذه التي سيساوم حين موتها بأخذ تونس عوضًا عنها … إلا أن السلطان حسن الهلالي حقق طلب ماضي بن مقرب، وأرسل له الخضرا، فردها بدوره مع هدايا كثيرة، طالبًا الزواج بالجازية:
وما إن قرأ سلطان بني هلال خطاب ماضي بن مقرب، حتى استدعى الجازية، وأخبرها بطلبه، فذُعرت الجازية فكيف يحق لها الزواج، وهي زوجة الأمير شكر أمير مكة، وأن ولديها محمد وعمر، وهي التي ضحَّت بزوجها وولديها، لترافق قومها وقبيلتها، بمعنى أن ولاءها هنا إنما للقبيلة أولًا قبل الزوج والأبناء.
وهنا أرسل السلطان يستأذن زوجها أمير مكة، وحصل منه على موافقة بالتخلي عنها للزوج — السياسي — القادم الفرمند حاكم مصر العدية.
وهكذا تم الزواج بالفعل بين الجازية، وذلك الأمير ماضي، وتصف السيرة الفرح أو العرس المصري على نحو لا يختلف كثيرًا عما يتواتر ممارسته إلى أيامنا.
«وكان الماضي قد زين القصر بأنواع الحرير والقماش الفاخر، واستقبلهم أحسن استقبال، ونزلت العروس عند الحريم، ثم دارت الحلويات وكاسات الشربات على مائدة الأمراء والسادات، وبعد ذلك حضرت سفرة الطعام، وفيها من جميع اللحومات كالضأن والدجاج. وبعد أن أكلوا وشربوا ولذوا، رقصت النساء والبنات، وغنت المغنيات بأنواع الأصوات، واستمر الحال والقوم في فرح وسرور مدة ثلاثة أيام، واتفق في اليوم الرابع أن استأذن الأمير حسن من الماضي بالمسير لبلاد الغرب، فقال الماضي: أيها الملك تقوم عندي في هذه الأطلال، فبلادي واسعة كثيرة المراعي والأوفق نبقى معًا.»
«ولما صممت بني هلال على الذهاب والرحيل، جعلت الجازية تبكي بدمع غزير؛ لأنه لم يكن صبر ولا سلوان على فراقهم، فلما زاد عليها الحال أكثرت من النحيب والأعوال، فانزعج الماضي، وسمح لها بالذهاب معهم إلى الغرب، ففرح بذلك الأمير حسن، وحالًا أمر الفرسان بالركوب، فركبت الفرسان، وساروا قاصدين بلاد الغرب، فعند ذلك ركب الماضي بالفرسان، وساروا بصحبتهم مسافة ٣ أيام، ثم حلف حسن عليه بالرجوع.»
وما إن وصل الهلالية تونس، حتى نزلوا بين جبلين بوادي مزهر اسمه وادي الرشاش.
وكالعادة، حاوطت المخاوف الزناتي خليفة، فجمع مجلس حربه، وعلى رأسه ابن أخته الأمير الملقب بالهصيص، الذي هوَّن من مخاوف الزناتي، وهو الذي «تحت يديه أربعة وعشرون أميرًا، وكل أمير يحكم على مائة ألف عنان»، وأمره الزناتي بإحضار قلم وقرطاس، وأشار إليه أن يكتب إلى ملاك بلاده على طول الديار التونسية والمغرب العربي، الأندلس وشبه جزيرة أيبريا بعامة وما بها من ممالك ودويلات، سبق أن غزاها ذات هذا التحالف العربي الهلالي، وفي طليعتهم الفينيقيون من شعوب بحرية لبنانية وفلسطينية وسورية، منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، حيث حطوا رحالهم أول أمرهم في قرطاج أو تونس، انطلاقًا منها إلى إسبانيا والبرتغال، أو ما يُعرف فيما بعد بالأندلس، حيث وصلت الدويلات أو المدن الدول العربية إلى ١٤، منها بنو الأحمر، وبنو طليطلة، وبنو الزيري، ومظلوم … إلخ.
وهكذا ما إن اندلعت الحرب بين الهلالية، وتحالف الزناتي، حتى نازلهم في البداية أخوه الأمير الهصيص، الذي تولى منذ البداية تجميع تحالفهم القبلي على طول المغرب العربي والأندلس، كما يتضح من قصيدته هذه:
وبالطبع اندلع القتال بين الهلالية وفرسان تونس والمغرب العربي بعامة حتى الأندلس، كما يتضح من القصيدة السالفة، والدعوة للتحالفات القبائلية التي كانت تتزعمها في ذلك الوقت تونس أو قرطاج.
وفي البداية نازلهم العلام بفرسانه، مستخدمًا الحيلة والكمائن التي اشتهر بها، ذلك أنه حاصر الهلالية بدءًا من المؤخرة بدلًا من المقدمة ليسبي مؤنهم وخيولهم ومواشيهم، وبالفعل أثار فيهم وفي صفوفهم الذعر والتشتت، مما دفع بالنساء والأطفال إلى الاستغاثة بالسلطان الهلالي طلبًا للحماية، فما كان منه إلا أن جمع مجلس مشورته وفي المقدمة «الجازية»، الذين بعثوا في طلبها من ليبيا، على اعتبار أن لها الكلمة العليا، فللجازية ثلث المشورة، وهكذا أجمعت المشورة أو الشورى إلى انتداب الأمير دياب بن غانم إلى حماية المؤخرة، حيث إمدادات ومؤن الحرب، من خيل وماشية ومأكل وربما سلاح وعتاد وعبيد ونساء وعجائز … وهكذا.
ووافق في النهاية دياب بن غانم على هذه المهمة القاسية في حماية الخيل والنساء على مضض، بل إن تلك الواقعة ستظل سببًا دفينًا مؤرقًا لدياب للانتقام المتجبر فيما بعد من الهلالية — القيسيين — لاعتقاده الراسخ فيما انطوت عليه مهمته هذه من إهانة، بانتزاعه من القيادة والمقدمة، إلى حيث يصبح مكانه الذيل والمؤخرة، وهو الذي هاجمه أعداؤه على الدوام واصفين إياه بدياب الخيل.
والملاحظ أن السيرة تطلق على إمدادات الحرب من بهائم وخيول ورعيان وعجزة، تعبير «البوش».
وهكذا ودَّع أبو زيد الأمير دياب بن غانم بأروع أشعاره دون إنقاص من قدره وقدراته:
لكن هيهات، ذلك أن مغتال أبي زيد عقب فتح الغرب وحكمه دون شريك، هو بذاته … دياب بن غانم الزغبي.
وتشتد ضراوة المعارك بين الهلالية بقيادة أبي زيد والتحالف المغربي بقيادة الزناتي خليفة وأخيه الأمير الهصيص.
ويبدو أن أبا زيد الهلالي تفرد في تلك الوقائع بمبادرة اتخاذ القرار بالحرب وحده، عقب رحيل دياب بن غانم لحراسة المؤخرة، ذلك أن السلطان حسن استدعاه إثر غزوة أبلى فيها أبو زيد إلى حد قتل الهصيص، لكن دون مشورة، فجمع السلطان مجلس المشورة أو الحرب، وواجهه: «لماذا يا أبا زيد تقاتل القوم أنت بنفسك دون أن تخبرني، ما عدت تركب معنا.»
وأمره بالامتثال للسجن، ووضع قدميه في قيد الحديد بإرادته واختياره.
وبالفعل امتثل أبو زيد للقيد، ووضعه في رجليه، واقتعد صيوانًا للسلطان حسن الهلالي.
لكن في صباح اليوم التالي، ما إن دقت طبول الحرب، وعلم الزناتي بغياب أبي زيد، حتى استشرى في قتال الهلالية.
إلا أن أبا زيد فاجأ الزناتي وقواده بنزوله المعركة، ورد جنودهم منسحبين مدحورين إلى أربع عشرة مرحلة أو انسحاب، إلى أن دخل الزناتي أبواب المدينة، وأغلقوها من خلفه، بعد أن خلع أبوابها بحرابه مشرفًا.