الأدب المصري
الإيمان بالشخصية المصرية عقيدة يخفق بها قلب المصري، كلما تواثبت مياه النهر المقدس منسابةً من مجراه الأزلي.
وهو روح الحياة، يتنفَّسه المصري كلما هبَّت نسمات الوادي، مطيفةً بمعالم المجد الأدبي في جنباته، حاملةً من أعطاف تلك الشخصية المصرية عبير الخلود، الذي أخضع الدهر وقهر الزمان.
وإيمان الحي بنفسه هو فيه رغبة الحياة التي تُمسك عليه كِيانه، وتحفظ وجوده، والحي بغير هذا الإيمان لقي مضيع، وجماد ممتهن، وحي ميت.
ولو كان درس الأدب المصري عملًا ينبعث عن هذه العقيدة، وحاجةً تدفع إليها الحياة الشاعرة بنفسها؛ لكان هذا الأدب المصري وحده هو مادة الدرس الأدبي في مصر، المعتدة بشخصيتها، لا تؤثِر غيره عليه، بل لا تعرف سواه معه.
ولو كان درس الأدب المصري وفاءً بحق الوطن، وأداءً لواجب كلية الآداب في الأرض المصرية؛ لكان هذا الأدب المصري وحده هو ما تعرفه قاعات الدرس في تلك الكلية، لا يرتفع فيها لغيره صوت، ولا يُسمع لسواه رِكز، إلا على أنه لون من الترف الدراسي، والتوسُّع الجامعي، بعد أداء الواجب الأول، والوفاء بالحق الأقدس.
ولو كان درس الأدب المصري، يأخذ مكانه بين بواعث النهضة المصرية ومقوِّماتها؛ لكانت العناية بهذا الأدب المصري أولى خطوات النهضة، كما جرت بذلك سنة الحياة، إذ تسبق نهضات الفنون سائر النهضات في الأمم، ثم تليها غيرها من النهضات بعد أن يكون الفن قد مهد له. وبهذا شهد التاريخ انبعاث الأمم في الشرق والغرب جميعًا.
ولو كان الأدب المصري يأخذ مكانه بين مواد الدرس التي تلزم المناهج الصحيحة العناية بها والعكوف عليها؛ لكان درس هذا الأدب المصري هو ما يستطيعه المصري قبل غيره، ودون غيره؛ إذ يتولى ذلك الدرس في بيئته التي هو صاحبها وربيبها، وأقدر الناس على فهمها، وذو العيان شاهد فيها، والاختبار الممارس لها. فلو لم تكن الجامعة مصريةً إلا بقدر ما هي في أرض مصر، لكان من الأجدى على دراستها أن تعكف على أقرب ما حولها من المصادر، وتُعنى من ذلك بما تلمس مثله الحاضر وماضيه الجاثم.
ولو كان درس الأدب المصري لونًا من التجدد المساير للحياة؛ لكان هذا الأدب المصري هو مظهر تجدُّد المشاركين في الحياة، وأقرب سبيل إلى الاتصال بها؛ لأن الحياة الوجدانية في الأمم هي أقوى ما يحس به أفراد الأمة جميعًا، أو أكثر ما يكون اشتراكهم فيه جميعًا. فالفلسفة مثلًا تنفرد بها خاصة قليلة، والعلم تُعنى به قلة متميِّزة، وكذلك صنوف النشاط المختلفة، تختص بكل واحد منها بيئة بعينها، على حين يشترك أولئك جميعًا في حياة وجدانية شاملة، يلتقي في الانفعال بها الصغار والكبار، والخاصة والعامة، وأصحاب النظر والعمل.
وهكذا كلما قلَّبت الرأي، وجدت جميع الاعتبارات النفسية، والوطنية، والفنية، تقضي بتوافر العناية بهذا الأدب، بل تؤذن بإفراده وقصر الهمة عليه دون غيره، إلا ما يكون من ذلك وسيلةً إلى فهم هذا الأدب وتمثُّله، أو ما يكون توسُّعًا في الدرس، ورفاهيةً فيه، بعد ما لا بد للدارس منه.
(١) إقليمية الأدب
«منذ اقتبس المتصلون بالغرب هذا النمط من الدراسة التاريخية الأدبية، ووجدوا الغربيين يقسِّمونه إلى عصور لها وحدة اجتماعية واضحة؛ قسَّموا تاريخ الأدب العربي الإسلامي إلى عصور زمنية؛ مجاراةً لمن أخذوا عنهم. واستقرَّت قواعد هذا التقسيم يقفِّي فيها الخلف على آثار السلف، في أكثر من طبقة، ولم ينلها تغيير إلا ما كان أخيرًا من إنكار دوران تاريخ الأدب، رفعةً وانحطاطًا، مع العظمة السياسية والضعف الحكومي؛ فعُدِّل تقسيم العصر للعباسي تلافيًا لذلك، وظل هذا التقسيم الزمني يجعل دمشق ثم بغداد مركز تاريخ الأدب، ويدير عصوره حول رفعة هاتين العاصمتين وسقوطهما، وكأن هناك وحدة تامة شاملة للأمة الإسلامية أو العربية تتعرَّض بها لظروف واحدة، ومؤثِّرات متحدة، تتغيَّر بها تغيُّرًا متسقًا مطردًا، مظهره الوحيد هو النفوذ السياسي والسلطان الحكومي، الذي يمثِّل وحدة التدريج الاجتماعي فحسب.
وهذا الصنيع نستطيع أن نسميه خطأً، ونطلب بل نسعى إلى إصلاحه، وذلك أنه إن كانت الأمة الإسلامية المنبثة من بحر الظلمات — الأطلنطي — غربًا، إلى سور الصين شرقًا، ومن مجاهل آسيا وأوروبا شمالًا، إلى ما يسامت جنوب أفريقيا، قد اكتملت لها وحدة سليمة ذات مزاج أدبي واضح، وكوَّنت جسمًا قامت منه العاصمة في الشام طورًا، وفي العراق تارة، مقام القلب من الجسم، وكانت مجمع النشاط ومحور الحياة. إن كان ذلك فإن لسائر أجزاء هذا الجسم عملها في هاتيك الحياة، ومشاركتها في ذلك النشاط، ولكل إقليم منها طابعه الخاص فيما يحمل عنه إلى دار الخلافة، وينتقل ولا بد إلى قاعدة الدولة. وإذا ذاك لا يهون فهم حياة هذا القلب دون فهم أجهزة الجسم المختلفة، ولا يتيسَّر إدراك حقيقة هذا المزيج إلا بعد إدراك بسائطه عنصرًا عنصرًا.
وإن كانت الأخرى، ولم نفرض تماسك هذه المملكة الإسلامية المترامية الأطراف، تماسك الجسد الواحد، بل قدَّرنا في دقة، أن هذه الأمة الإسلامية — في حقيقة الأمر — ليست إلا خليطًا غير تام التجانس، خليطًا لم يصبر طويلًا على التوحُّد المركزي حتى في السياسة، بل بدأت تتشعَّب منه الدويلات المستقلة منذ عهد مبكر، وفي عنفوان قوة الدولة المركزية، وكانت مصر مثلًا من أسبق هذه الدولات ظهورًا؛ إذ تحيَّزت وحدها لعهد الطولونية في القرن الثالث الهجري. فإن قدَّرنا أن هذا هو الذي كان إذ ذاك؛ فليست للأمة الإسلامية في كل حال تلك الوحدة المدعاة في تاريخ الأدب العربي، وليس من اليسير تقسيم هذا التاريخ عصورًا زمنيةً لا غير.
ولئن كانت المدرسة الأدبية قد حملت أخيرًا على الفكرة السياسية، ورأت من الخطأ أن يُقصر تدرُّج الأدب على تقلُّبات السياسة وحدها؛ فلقد كان يجب أن تنظر إلى أبعد من ذلك المرمى، وأوسع من ذياك الأفق، فتتحرَّر من الخطأ المكاني في تاريخ الأدب كما تحرَّرت من شيء من الخطأ الزماني، بل لعل التحرُّر من الخطأ المكاني كان أولى وأهم — فيما أرى — لأن هذه الوحدة التي يدَّعونها للناطقين بالعربية، وهذا الامتزاج التام بين أقطار مترامية البعد، من الشرق النائي إلى الغرب الأقصى، وبين أمزجة متباينة الخصائص، من آرية وسامية وغيرها، وبين ألوان مختلفة من بيضاء وصفراء وسمراء، وبين حضارات متفاوتة من قديمة أزلية؛ قد ذهب عرقها في أغوار الدهر، إلى حديثة غضة، إلى ما بين هذين من درجات متغايرة. هذا الامتزاج الغريب لا يسهل قَبول ادعائه، وهذا التوحيد الشاق على الدهر نفسه لم يكن ليتم بمجرد أن يُحكم كل أولئك بدولة واحدة، أو ببسط سيطرة سياسية، أو نفوذ حكومي واحد.
والعجب أن دارسي الحياة الإسلامية الفكرية يرون اختلاف الأقاليم في المقالات الاعتقادية والآراء الدينية، ويشهدون توزُّع المذاهب الفقهية العملية المختلفة، على تلك الأقطار، إلى غير ذلك من مظاهر التخالف التي يقرِّرونها في صور متغايرة وألوان شتى، ثم لا يلتمسون مثل ذلك في الفنون الأدبية وتاريخها، مع أنها أشد خضوعًا لعوامل المغايرة، وأسباب المخالفة من تلك الآراء الاعتقادية، وهاتيك المذاهب العملية.
وعمل هؤلاء الدارسين لتاريخ الأدب على نظام العصور الزمنية، متناقض متدافع؛ فهم حين يزعمون أنهم يدرسون تاريخ الأدب في عصر من العصور، إنما يقصرون جهدهم العملي على بيئة واحدة من تلك البيئات المتعدِّدة التي غشيتها اللغة العربية، ونشأ فيها أدب عربي. فيعنون بالعراق وما حوله من الشرق القريب مثلًا، حتى ليجدوا في أنفسهم الحاجة الشديدة إلى أن يُفردوا بالبحث أقاليم أخرى، يدركون بُعدها واضحًا كالأندلس مثلًا. وما المغرب، أو أقصى المشرق، بأقل حاجة إلى الإفراد بالبحث من الأندلس، بل إن مصر تحتاج إلى مثل ذلك الدرس المفرد تمامًا إذا ما أنصفنا.
وأخيرًا — بل أولًا كذلك — نحن نرى العلم يقرِّر أثر البيئة فعَّالًا عنيفًا ينازع الوراثة أثرها، فكيف يريد علماء تاريخ الأدب أن ينسوا أو يهملوا تأثير البيئة؟ وكيف يريدون أن يجعلوا هذه الدنيا العريضة التي حكمها الإسلام، وسكنتها العربية، بيئةً واحدة؟! ذلك ما لا قوة لمنصف عليه.
فالرأي الصائب أن يعدل مؤرخو الأدب عن توزيع دراسة الأدب العربي الإسلامي على عصور زمنية، وأن يقدِّروا الأثر القوي لكل بيئة نما فيها أدب عربي، وأن يتتبَّعوا هذا الأثر بالدرس المستقل، وأن يدرسوا العربية في المواطن المختلفة التي نزلتها، موطنًا موطنًا، فيكون أساس التقسيم هو اختلاف البيئة وتغايرها، ووحدة المؤثرات المادية والمعنوية فيها — وإن لم يسر ذلك مع التقسيم المتعارف عليه للأقطار والبلدان — بل تُفرد كل بيئة متجانسة بدرس خاص، لا كل قطعة من الزمن ببحث.
ومن هنا تكون الدراسة الأدبية لمصر وحدها، هي الخطة العملية المثلى، كما كانت وفاءً بواجب اجتماعي حيوي، إلى جانب أنها مصلحية عملية، قائمة على المشاهدة الجلية، والاختبار القريب».
•••
«إقليمية الأدب» هي قضية العلم في تاريخ الأدب، قضية العلم التجريبي التي يقرِّرها واثقًا، حينما يتحدَّث عن علاقة الكائن ببيئته، وأثر تلك البيئة بنوعيها، من طبيعية واجتماعية، في الحي الذي يعيش فيها ويختص بها.
يقرِّرها هذا العلم التجريبي واثقًا حينما يرصد الفوارق الفاصلة بين البيئات، ويدرك أن مصر قد تميَّزت من ذلك بمميِّزات واضحة الفصل، قوية التأثير في التحديد والتمييز، من بحار وصحاري، وبمقومات خاصة جعلت هذه البلاد وحدةً ماديةً بارزة المعالم، جلية الخصائص، ماثلة الفوارق.
«إقليمية الأدب» هي قضية العلم التي لا يتسع فيها المجال لترديدات احتمالية، واعتبارات كلامية؛ تُساق لإرضاء هوًى من الأهواء، أو تأييد ميل من الميول، اعتمادًا على فلج الحجج، واللحن بها، كما يجري ذلك في الميادين الكلامية والأبحاث اللفظية. وقضية العلم تلك إذا ما ارتفعت على تأثير البحث النظري، فأولى بها أن ترتفع، بل وتتمنَّع على نواحي التأثير الفني من الاستهواء والخلابة، واللباقة الخطابية، والمبالغات الصناعية، فلا ينال كل أولئك منها شيئًا، أو تثبت غيرها شيئًا.
«إقليمية الأدب» قضية يصدق القول بها على الجزيرة العربية نفسها، كما يصدق على الإمبراطورية العربية أو الإسلامية — أو ما شئت أن تنعتها — فأمَّا صدق هذه القضية العلمية على تلك الإمبراطورية فقد مضى ما يكفي فيه، وأمَّا صدق هذه الفكرة في الجزيرة نفسها، وتقرير أن هذه الجزيرة — أو شبه الجزيرة — العربية لم تؤلف في حياتها وحدةً جامعةً شملت البحرين، واليمن، والحجاز، والعراق، في الحياة اللغوية والأدبية، كما قد يشيع تقرير ذلك في تاريخ العربية وأدبها. لم تؤلِّف الجزيرة هذه الوحدة لأن بيئتها قد حالت بالغمر الصحراوي الجدب الذي يتوسَّطها، دون أن تؤلِّف هذه المناطق وحدةً متجانسةً أو أجزاءً مترابطة، وسيأتي لذلك فضل بيان شافٍ عند الموازنة بين البيئتين المصرية والعربية. وإنما تعجَّلنا ذلك هنا ليقدِّر منكرو الإقليمية أنها متحكمة في أقرب ما عرفوا من وحدة، وما نسوا من واقع.
«إقليمية الأدب» تصحيح مادي لخطأ شائع لن ينصره شيوعه، كما لن يعوق هذا التصحيح أنه جديد أو غير مألوف، أو لم يشعر به القدماء، أو لم يتقبله المحدثون بعد، فما كانت البيئة الجامعية لتؤمن بذلك الشعار السخيف في إيثار الخطأ المشهور على الصواب المهجور. على أن العهد بتاريخ الأدب وتقسيمه لم يبعد ولم يطل، حتى تكون له أصول راسخة يستعصي تعديلها أو يشق تغييرها. فتلك حركة حديثة عهد بوجود، وهي أحدث عهدًا بالتنسيق العلمي والتقسيم الصحيح، فلا عليها إن أصاخت للنقد، واستفادت من التصحيح ما استطاعت.
وإني من جانبي لشديد الإصاخة إلى هذا النقد، والالتماس لذياك التصحيح، وفي سبيل ذلك سأقف عند مكتوبات ومقولات، لعلها هينة، يسيرة الخطر، ولكنها الحقيقة المحببة لذاتها، والتحرِّي الواجب أمانة للدرس، آخذ نفسي به، وألتزمه؛ ليكون القول بالإقليمية نزيهًا صحيحًا ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.
حول الإقليمية
«إن رأي الإنسان في أي موضوع — غير الرياضيات والطبيعيات — لا يستحق اسم المعرفة، ما لم يكن صاحبه قد سلك في تكوينه طوعًا أو كرهًا، تلك الطريقة التي ينبغي عليه اتباعها في مجادلة خصم عنيد، ومناظرة قِرن شديد.»
إذا ما كانت إقليمية الأدب هي قضية العلم في تاريخ الأدب وحياته — وإنها لكذلك لا غير — فلا موضع بعدها للَّعب بالألفاظ وإثارة جدل نظري الأدلة والمقدمات، ولكنها الرغبة الصادقة في أن يطمئن الدارس للفكرة اطمئنانًا لا ينفِّره عنه تشكيك لفظي، ولا ترديد كلامي؛ ومن أجل ذلك أوثر أن أعرض لما شاع حول هذه الإقليمية من ريب أو ظنون، سمعت بعضها من أفواه قائليه، وقرأت بعضها في كتابتهم. ولئن آثرت النظر في المكتوب من ذلك أولًا، فليس لفضل قوة فيه، من أجلها أقدِّمه؛ وإنما لأنه أكثر تحدُّدًا بعبارة صاحبه ضبطًا في نصه.
والذي قرأت من ذلك مكتوبًا هو فصل لأحد أبنائنا الجامعيين من رسالة في العالِمية، كل قيمته أنه مما جرى به قلم شاب، والشباب أقبل للجديد، وأكثر إقدامًا على التصحيح، على حين هم أقوى شعورًا بالشخصية والقومية، لما تنبَّه إليه عصرهم منها، وما جاهد به في سبيلها، فممَّا ورد في إنكار الإقليمية قوله:
«فنحن نجد المؤرخين للأدب العربي يذهبون إلى أنه وُجدت آداب قومية في المملكة الإسلامية مع ابتداء القرن الرابع الهجري.» كما يقول: «ونحن نعود فنحترس ثانيةً من فكرة الإقليمية في الأدب العربي، وما يذهب إليه الباحثون من أنها نشأت مع القرن الرابع.»
ومع أن فكرة الإقليمية في أصلها لن تحتمل التعرُّض لتقرير مثل هذا القول الجامع عن المملكة الإسلامية، ولن تطمئن إلى شيء من هذا التحديد بقرن خاص تعدُّه بدءًا موحدًا، لظواهر متفاوتة مختلفة، لا تعترف لها بوحدة؛ فإنا مع ذلك كله لا نعرف من مؤرخي الأدب العربي من ذهب هذا المذهب في تحديد الزمن، إلا أن يكون ذلك لمحًا سريعًا غير منضبط من صنيع «الثعالبي»، حين ألَّف كتابه «يتيمة الدهر» عن شعراء الأقاليم، كما تشير إلى ذلك عبارة هذا القائل حين يقول: «ولعل صاحب اليتيمة هو أول من أعد لهذه الفكرة؛ إذ قسَّم كتابه إلى أقسام أربعة بحسب الدول والأقاليم.» وفي كل حال، إذا كان من مؤرخي الأدب العربي، أو من الباحثين من ذهب إلى هذا التحديد، فإن هذا التحديد الجامع الموحد لنشأة الآداب الإقليمية، خطأ يناقض الأساس العقلي الذي قامت عليه فكرة إقليمية الأدب، وهذا الأساس هو: «أن لكل بيئة منفردة مزاياها وخصائصها التي تنفرد بها بين الأقاليم، وتلك المزايا والخصائص هي التي توجِّه الحياة الأدبية فيها وتؤثِّر في سيرها، وباختلاف هذه المميزات المادية والمعنوية تختلف حياة الإقليم الأدبية، ويختلف نظام سيرها، من نشأة وتدرُّج وتفرُّع، وعلى هذا فلا محل لحذر الكاتب وتحذيره حين يقول: «ينبغي دائمًا أن نحذر تحديد نشوئها — الآداب الإقليمية — لأن أحدًا لم يُعنَ بهذا اليوم».»
•••
وفي بيان مخالفته لفكرة الإقليمية، يقول موضِّحًا وجه احتراسه من الفكرة ما عبارته: «فقد كان العالم الإسلامي حتى هذا القرن — الرابع — لا يزال متشابكًا بالرغم من ظهور الأوطان السياسية، ولم تظهر بعدُ الصفات التي تميِّز وطنًا عن وطن في العلم أو في الشعر. وقد اعتبر المقدسي مملكة الإسلام تمتد من كاشغر في أقصى المشرق، إلى السوس الأقصى في المغرب. وقد حدَّدها ابن حوقل في الشرق بأرض الهند وبحر فارس، وفي الغرب بمملكة السودان الذين يسكنون على المحيط الأطلسي، وفي الشمال ببلاد الروم وما يتصل بها من الأرمن واللان، والران والخزر والبلغار والصقالبة والترك والصين، وفي الجنوب ببحر فارس. ويلاحظ الأستاذ «آدم ميتز» أن المسلم كان يستطيع أن يسافر في هذه المملكة فلا يشعر بوحشة؛ إذ يجد شريعةً واحدة، وعرفًا وعادات واحدة. ويلاحظ أيضًا أن ناصر خسرو طوَّف في هذه المملكة أثناء القرن الخامس الهجري، دون أن يلاقي من المضايقات ما كان يلاقيه الألماني الذي كان يسافر في ألمانيا أثناء القرن الثامن عشر الميلادي.»
•••
وإذ ما طرحنا نحن هذه الإطالة الجغرافية في بيان حدود تلك المملكة الفسيحة، بقي اتساع رقعتها شاهدًا على عدم الوحدة لا على الوحدة؛ لأنه اتساع شمل ألوانًا من البشر وأجناسًا، ولغات، وثقافات متفاوتة، مختلفةً متغايرة، شديدة التفاوت، عظيمة الاختلاف، عنيفة التغاير. ولا نبيِّن هذا التفاوت والاختلاف والتغاير؛ فهو أبين من ذلك وأوضح، ولكن ننظر في مظاهر الوحدة التي يحتج بها القائل، فأول ذلك قوله:
«لم تظهر بعدُ الصفات التي تميِّز وطنًا عن وطن، في العلم أو الشعر.» والجمع بين العلم والشعر في هذا خطأ بيِّن؛ لأن العلم بطبعه لا وطن له، وستتطاول القرون دون أن تظهر الصفات المميِّزة للوطن العلمي؛ لأن العلم ليس إلا حقائق ذاتية، لا تتغيَّر بالزمان ولا بالمكان، ولا بالمتناول، ولا بالمتذوق، ولا بالعارض، ولا بالدارس، ولا بغير ذلك من مؤثِّرات تُغيِّر الأدب وتُلوِّنه، وتخالف بينه، وتعدد صنوفه وفنونه. ولعل هذا الجمع بين العلم والشعر رأس الخطأ في تفكير من ينظرون في تاريخ الأدب، فيُجرون الفن على منوال العلم وأساليبه.
ومظهر هذه الوحدة عند مدعيها هو: «استطاعة المسلم السفر في هذه المملكة …» إلخ، ما يُنقل عن آدم متز، فهل صحيح أن هذا المسافر كان يجد شريعةً واحدة؟ هل صحيح أنه لا يجد الفقه الشيعي في فارس، والتشريع الخارجي حينًا في جنوب بلاد العرب، والأصول الباطنية — أيام القرن الرابع — في فاطمية مصر، ويجد المذهب الحنفي في البيئات التركية، غير المذهب المالكي في المناطق المغربية، وبين هذه الألوان من الفقه الإسلامي، بل بين هاتيك المذاهب المختلفة من الفقه السني نفسه، ما لا يُعد معه القول بشريعة واحدة إلا قولًا خطابيًّا استهوائيًّا لا حظَّ له من الدقة.
•••
ولا يقف الأمر عند الشريعة، وهي ظاهرة عملية في الحياة الإسلامية، بل يمتد إلى العقيدة نفسها، وهي مظهر نفسي داخلي يكاد يختلف به الإسلام عن غيره من الأديان، حين يضيِّق شقة الخلاف فيه بين المسلمين. ولكن الباحث المؤمن بالأساليب العلمية الصحيحة في فهم الحياة، لا يرى أن هذه الفروق في العقيدة الإسلامية نفسها يسيرة الشأن، فلقد كانت العقيدة الإسلامية في نفوس الأتراك، وما والوا من الشعوب الصفراء، موئلًا لألوان من التفسير والتكييف والاقتباس، والتقبُّل لأنواع من الأوهام والآراء، تمتاز بها هذه المناطق. كما كانت تلك العقيدة ذاتها في أنفس الفرس الآريين، أصحاب المثنوية المعروفة والوثنية الخاصة، تتجه نواحي من الاتجاه، تخالف هذا الذي في نفوس الأتراك وما تكيَّف به اعتقادها وتفسره، كما تختلف عن مثلها في نفوس العرب البداة أو البربر البداة مثلًا.
وليس يعنينا هنا أن تكون شقة الخلاف التصوُّري والتفسيري للعقيدة الإسلامية واسعةً أو ضيقة، فنثبت ذلك أو نبيِّنه؛ لأنا إنما نهيئ بالإشارة إليه، لرد القول بأن الشريعة الإسلامية كانت واحدةً في هذه المملكة الفسيحة الرقعة، المنبسطة الأرجاء. فنقول إن هذه الوحدة لم تتحقَّق حتى في العقيدة نفسها، لا في الشريعة فحسب، وإلا ففيمَ هذه الملل والنحل المختلفة الكثيرة التي وصلت في عد الحديث ذاته إلى كذا وسبعين فرقة، وهي في عد العلم والتحقيق هكذا أو أكثر؟
وهل صحيح أن المسافر كان يجد عادات واحدةً وعرفًا واحدًا؟ وأن آية ذلك وحجته أن ناصر خسرو طوَّف في هذه المملكة أثناء القرن الخامس الهجري دون أن يلاقي من المضايقات … إلخ؟! كانت العادات واحدةً والعرف واحدًا في مراكش وخراسان، وقد اختلف الجنس وتغاير الدم، وتنوَّعت الحياة، وتفاوت الحظ من الحضارة وميراثها. ومن ذلك كله تكوَّن العرف ورسخت عروق العوائد، في أرض من الماضي المختلف، بل المتباين، وهذا الحاضر المتفاوت المتخالف؛ فبكت الشيعة يوم عاشوراء، حين ابتهج غيرهم يوسعون فيه على عيالهم، وشرب التتر في آسيا ألبان الخيول، حين عافها غيرهم في إفريقية وسواها، وجال علماء الأندلس عراة الرءوس، وشهدوا مجالس القضاء بغير عمائم، حين أُرخيت العذبات وكُورت العمائم في المشرق، وعُدت تعرية الرأس ضربًا من الإخلال بالأدب، وبيضت المغاربة بالأندلس حزنًا، وسودت المشارقة حدادًا، فكادت العادات أحيانًا تُمثِّل في خلافها، أو تمثِّلها في هذا الخلاف قصة الحجازي الذي قال له القيل الحميري: ثُب، فرمى بنفسه من أعلى الدار، والقيل إنما يريد منه — فيما حكوا — أن يجلس. تلك هي العادات والعرف.
وقضية تكوُّن العادات والأعراف نفسها واستقرارها في بحث النفس البشرية، تشهد باختلافها الشديد وتفاوتها العنيف، بل قضية الفقهاء المسلمين أنفسهم تقضي بهذا الاختلاف، إذ يعلِّلون به اختلاف رجال المذهب الفقهي الواحد في الآراء، بعد ما يتأصَّل بينهم من وحدة الأصول، واستقرار وجهات النظر الأساسية.
وهكذا جعل هؤلاء الفقهاء العرف من مناشئ اختلاف الحكم الشرعي، وعدوا هذا أصلًا مُقرَّرًا، وإذا ذُكر العرف والفقه، تذكرنا أن الشافعي في نحو خمس سنوات وشهور — بین شوال ١٩٨ﻫ، ورجب ٢٠٤ﻫ — أقامها بمصر، قد خلَّف مذهبه الفقهي الجديد، بعد مذهبه القديم في المشرق — العراق والحجاز — فما بال هؤلاء الباحثين ينسون مثل تلك الحادثة المشتهرة حين يتحدَّثون في الأدب والفن؟ ومثل أولئك أخلق بالاختلاف والتفاوت — بل التباين — من التشريع العملي والفقه التنظيمي، الذي يسوس علاقة ما بين الناس في أمور مادية منضبطة، أصلها كلها واحد، ومصدرها بيان واحد، أو عمل واحد.
•••
لعلنا حين نقدِّر ذلك ندرك أن طواف ناصر خسرو أو أمثاله من المطوفين، لا يكفي لأن ينهض حجةً علمية، وسندًا لباحث يتحدَّث عن اختلاف البيئات وتفاوت الفنون، وتغاير ذلك بمعالم كبرى من الجنس والدم، والثقافة والبيئة والوراثة، وما إلى ذلك ممَّا يكفي أقله لأكثر من مثل هذه الدعاوى في الاختلاف والتفاوت! نعم لن ينكر أحد أن هذه الجماعات كانت تلوذ بأصل واحد هو القرآن، وتجمعها معالم كبرى موحدة، ومظاهر عامة مشتركة، ممَّا يلتقي حول مثله الناس في حياتهم. لكنه لا يكفي لأن يصرف الباحث عمَّا بينهم وراء ذلك، من خفي عوامل التفريق وظاهرها، وكانت هذه الظواهر المشتركة، والخطوط الرئيسية الكبرى الموحدة، هي التي تقرِّب ما بين قلوب أصحاب الدين الواحد، وتيسِّر للراحلين الأنس والأُلفة لأهل هذه البلاد، واستطاعة التقلُّب بينهم. وشاهد هذا اليوم قائم قريب، فقد قصدت في رغبة قوية إلى زيارة المناطق التي فيها مسلمون بأوروبا الشرقية، كرومانيا ويوجوسلافيا وغيرهما، وكانوا يأنسون بي وكنت آنس إليهم، ولعل ذلك كان بيننا متبادلًا وقلبيًّا، أكثر ممَّا بين هؤلاء ومواطنيهم من غير المسلمين، وإن لم يقم هذا على شيء من أصول الوحدة، ووشائج الامتزاج التي تؤلِّف بيننا، أكثر من العقيدة المشتركة، والعاطفة الدينية المتبادلة.
على أن هذه الدولة الإسلامية التي كان يسهل على السائح التنقُّل بين أطرافها المترامية، مهما يكن فيها من أسباب التوحُّد فوق العاطفة الدينية، فإن تلك الأسباب مهما تتعدَّد، لن تزيل منها مظاهر اختلاف، ومعالم افتراق، أوضح وأجلى من أن تخطئها عين باحث غير عشواء. وإذا كان السفر في ألمانيا في القرن الثامن عشر الميلادي لم يتهيَّأ للراحل، فليس تهيُّؤه في المشرق للمسلم دليل توحُّد، ولا برهانًا كافيًا لنسيان الواجب العلمي، وإهمال حقيقته الناطقة في إقليمية الأدب.
وممَّا سمعت من اعتراض المعترضین على الإقليمية في نقاش وحديث:
أن هذه الأقاليم بعد الفتح الإسلامي وانسياح العرب فيها، لم تعرف إلا العروبة التي أتمَّت تلك المعجزة الاجتماعية، حين ذهبت في الأرض تحمل قبس الدعوة الإسلامية، تعطي بيمينها هذا الهدي الديني، وتتم بيسارها هذا الصوغ الفني. أليست العربية قد صارت لغة كل أولئك الأقوام، فنسوا بها ما سجَّل آباؤهم في صفحات الدهر، مهما تكن صفحات خالدة، وانصرفوا لا يلوون حتى على الصخور الثوابت، والأهرام الرواسخ، قد استعربوا لغةً ومزاجًا، وفنًّا وعقلًا، كما أسلموا، أو حمدوا للإسلام ما هيَّأ لهم من ذمة وعهد لا يخيس ولا يخفر؟ ولا تحسبن هذا الذي يوصف من الخلق الاجتماعي الجديد الذي أتمَّه الإسلام بدعًا من السنن الاجتماعية، ولا خروجًا على النواميس الكونية، فإن له لنظيرًا أو نظائر، في محاولات الإسلام الأخرى؛ فالفتح الإسلامي قد أُنجز في سرعة لم تُعهد من قبل، ولو قيست بغيرها من صنيع الدول الفاتحة؛ لأزرت به في غير جدال؟ وها هو ذا ما بقي من أثر إسلامي في تلك البيئات التي جاءها الإسلام، تراه أثرًا قد أربى في ثباته ورسوخه وبقائه وصموده، على كل ما عرفت تلك الأودية والأقاليم من آثار أمم أخرى عمرت الأرض أكثر ممَّا عمرها المسلمون، وكانت أشد قوة، وأكثر جمعًا، ولكنها زالت وامَّحت آثارها، بعد يسير من الزمن، ولم يبقَ منها ما بقي من طابع الإسلام في حياة أهل هذه البلاد. فإن كانت للفتح الإسلامي تلك السرعة المسرفة، ولاستعماره ذلك البقاء العتيد، فلا تعجب لقولنا إنه مسح بيده القادرة على ماضي تلك الأمم، وأنساها قديم شخصيتها ونفسها، فيما أنساها من لغة لها، وما أنساها من دين، وما هوَّن عليها من حرمة ماضٍ موغل في القدم، ذاهب العرق في الزمن.
وما محاولة العناية بالإقليمية اليوم إلا لونًا من مدافعة هذه القوة الدامغة، ومناضلة هذا الطابع الدامغ الراسخ، وهي محاولة لا خير فيها لدعاتها، ولا خير فيها لمن يراد تحقيقها لهم؛ لأنها لن تكون أكثر ممَّا مضى من نظائر، وما تكرَّر قديمًا من أشباه، تضاءلت جميعًا أمام ما صاغ الإسلام من نفوس أولئك الأتباع، وما خلَّف في قرارة أرواحهم من أثر.
•••
والمصغي لهذا القول يستمع منه أنغامًا لاهوتيةً تعتز فيها العروبة بالإسلام، ويدرك من خلاله ما قد يفصح عنه أصحابه في غير هذا الموضع؛ إذ يصلون بين العرب والإسلام، أو يرونهما في حساب الحياة والتاريخ شيئًا واحدًا. وهو رأي حظه من الصواب محدود، أو هو معدوم؛ فالإسلام عدو هذه العصبية بدمائها وأنسابها وأجناسها، وما قَبِل ولن يقبل يومًا أن يعرج منها على شيء، أو ينصر منها شيئًا. وإذا كان العرب هم الذين تلقوا الإسلام، ثم لقوا الناس به، فلن يجعل صنيعهم هذا الإسلام دينًا عربيًّا، ولا دينًا عصبيًّا، ولا دعوةً محدودة الأفق ضيقة العطن، على نحو ما تتكثَّر به الشعوب حينًا ما، أو تعتز به الأمم، أو تستغله الدول، وتتَّجر به السياسة.
وهذه الدعوى التي تصل بين الإسلام والعرب تلك الصلة، دعوى تعاون في تأييدها عناصر سياسية أو دينية السمة، لا إخال الإسلام يُبقي منها على شيء، ما دام هو ذلك الدين الإنساني العام العالمي الصالح للبقاء.
وإنه لعجب من العجب أن هذه العروبة التي اعتزت بالإسلام يومًا، واستندت إليه في لون من النضال السياسي، لم تلبث حين تغيَّرت بها الأحوال أن حورت في موقفها، وجعلت العروبة هي الشرق، والشرق هو العروبة، يستظهر فيها العرب المسلمون بقديم القول فيما بين الإسلام والعروبة من صلة، ويخافت غير المسلمين من العرب ويجمجمون بذلك في خفية، ليجهروا بعدها بأن العروبة هي الشرق، وأن الشرق هو العروبة. وتلك وأشباهها تيارات تحركها رياح وأنواء متغيرة، ولا يثبت مثلها على الزمن، فلا يقف عند مثلها العلم، مهما تدوِّي في الحياة، أو تحدث من ضجيج.
وفي حساب العلم يجب اطِّراح ذلك كله، وتجريد هذا الاعتراض من الخلط بين الإسلام والعروبة حينًا، أو بين الشرق والعروبة حينًا، لننظر بعد ذلك في أصل ما يدَّعيه هؤلاء القائلون من انسياح العرب في تلك الأقطار المستعربة بتعريب الإسلام، وأنها صارت إلى عروبة موحدة، يصح بعدها أن يؤرخ أدبها الواحد، على أنه كائن عربي متماسك، لا يُنظر في جزء منه إلى إقليميته، ولا يُقدَّر فيه أثر بيئته.
•••
ننظر في هذه الدعوى بعد أن جرَّدناها من الاستظهار بالعاطفة الدينية في الجمع بين الإسلام والعربية، وبعد أن أبعدناها عن السياسة، في اعتبار الشرق هو العروبة والعروبة هي الشرق، ننظر فيها بعد ذلك كله، غير منكرين مطلقًا أن هذه الحركة الدينية التي دفع الإسلام إليها الحياة الإنسانية بقيامه وامتداد دولته، حركة كانت إنسانيةً وكانت تمدينيةً تمتاز عن غيرها من الفتح والتمدين، بأنها كانت صاحبة رسالة حضارية، ودعوة إصلاح اجتماعي. وقد يقوم الفتح على رغبة التوسُّع وحب السيطرة وحق القوة، فيختلف بذلك في نشاطه وفي نظر الناس له، وفي قَبولهم لدولته، عن مثل هذا الفتح ذي الرسالة والدعوة، وبذلك يكون لهذا الأخير ما له من الميزة، والفروق في سيره وسرعته، ومدى نجاحه، وما إلى ذلك، فيظفر بما يفترق به عن غيره، لكن دون أن يكون ذلك أعجوبةً لم تجرِ على ناموس، أو معجزةً لم تنطبق على سنة، ولا يضبطها قانون.
ومن هنا ننظر في هذا القول، مقدِّرين أن الإسلام — وهو دولة ذات هدف، وفتح ذو رسالة — قد خلَّف في حياة من جاءهم آثارًا أبقى من غيرها وأعمق، فكانت في حياتهم أطول عمرًا، وفي كِيانهم أرسخ مدًى، وذلك إذ جاءهم على فترة من الإصلاح وظلم من الحكام، وحاجة إلى الحق، وظمأ إلى العدل، وهيَّأ لهم من ذلك ما خفَّف لأواءهم، وأراح أفئدتهم … كل ذلك قد كان، أو بعضه الذي كان. فهو سبب بيِّن، ووجه جلي لما ظفر به هذا الأثر الإسلامي من رسوخ وخلود، دون أن يكون ذلك لونًا من الأعاجيب، أو ضربًا من الخوارق، أو عملًا شاذًّا في حساب الحياة وسيرها.
وإذا كان هذا هو ما بيَّن به القائلون دعواهم عن تغلغل الدم العربي في هذه الأقطار وتعريب أهلها، فقد تم هذا التعريب أو ما تحقَّق منه، كما تمَّت الخطوات الأخرى في غير إغراب ولا إدهاش ولا مفاجأة للباحث الاجتماعي الذي يؤمن بسنة الله، ولن يجد لسنة الله تبديلًا.
لقد اتصل العرب بأهل تلك البلاد، فأخذوا وأعطوا، وخالطوا واختلطوا، وصاهروا ونسلوا، فكانت الشعوبية التي فتكت بالعصبية العربية، وأباحت حمى هذا الدم العربي الممنَّع، وكان من ورائها ما أصاب دم العرب، وشخصية العرب، ودولة العرب.
وإذا كان هذا هو نصيب المعتزين بدمهم الحريصين على نقائه، فكيف يُدَّعى أن هؤلاء القوم قد أصاروا الناس إليهم وأفنوهم فيهم، مع أن قضية الحياة الواقعة أنهم هم فنوا، وهم تبدَّدوا في الناس؛ ففقدوا فيهم شخصيتهم، وفقدوا بذلك ما فقدوا من سلطانهم.
•••
ولا أطيل في هذا، بل أريح هؤلاء القائلين، فأقرِّر معهم أن ما كان من العرب لم يكن انسياحًا في البلاد ليعرِّبوا أهلها، بل كان انتقالًا للعرب بقضِّهم وقضيضهم؛ فهاجرت قبائلهم يعمرون البلاد بعدما يزيحون عنها أهلها أو يبيدونهم منها. ليكن ذلك الذي كان، فقد صار الشعب العربي خارج جزيرته — إن كانت له منها بيئة مُوحَّدة في بعض الرأي — صار شعبًا تنوَّعت به البيئات، وتعدَّدت الأصقاع، وتفاوتت المنازل، ومثل هذا حين يتم للشعب الواحد، يظهر أثره في كِيانه العقلي، ووجوده، وشعوره الفني، وشخصيته الحيوية في جملتها. وها هم أولاء البريطانيون قد استعمروا أمريكا على نحو من هذه الهجرة المنتقلة، التي أبادت الهنود الحمر — أو كادت — وحلَّت محلَّهم، فكان دم واحد، وكان لسان واحد، وكان أصل واحد بكل معاني الوحدة. فهل منع هذا ناموس الحياة من أن يحدث أثره، فيجعل من البريطانيين في بيئتهم الجديدة أمريكيين، لهم شخصيتهم، ولهم مقوِّماتهم، ولهم فنهم، ولهم أدبهم الخاص؟
وإذا ما مثَّلت لك بما مضى من حياة هؤلاء البريطانيين في أمريكا، فإنك لا تزال تظفر فيه بأمثلة جديدة؛ خذ منها مثلًا هذا الشعب السوري المهاجر، وهو عربي من أولئك الذين نتحدَّث عن انسياحهم وانتقالهم، فقد هاجر السوري إلى أمريكا؛ جنوبيةً وشمالية.
وهاجر كذلك إلى أنحاء الشرق المختلفة؛ مصر، والعراق، والأفغان، وغيرها، ثم بقي منه من بقي في بلاده. وصح في واقع الحياة أن تكلَّموا جميعًا العربية، وهيَّأ لهم الزمن أن اشتغلوا بأدبها، في أزمنة واحدة أو متقاربة جد التقارب. فهل سوَّغ هذا كله لقائل أن يقول إن أدب السوريين في مصر، هو أدبهم في مهاجرهم الشرقية، وهو بعينه أدبهم في مهاجرهم الغربية، وأن ما بأمريكا الشمالية منه إنما هو عين ما في أمريكا الجنوبية؟! هل استعملوا لغةً فنيةً واحدة؟! هل صاغوا أساليب واحدة؟! هل طرقوا موضوعات واحدة؟! هل تناولوها تناولًا واحدًا؟ هل تنتظم حياتهم الأدبية أدوارًا موحدة، إذ كان يجمعها زمان واحد؟! كتلك الأدوار التي يُدرس الأدب العربي في أقاليمه المختلفة محبوسًا في داخلها، متى اتحد عصره، ويكفي لوحدته أنه في قرن كذا أو على عهد كذا، وتحت حكم سياسي واحد، هو الأموي أو العباسي أو التركي بعد سقوط بغداد … إلخ؟!
لا شك أن هذا وجه من الرأي لا يطمئن إليه أحد. وهل مطران والحداد، وشدودي، ومن إليهم في مصر، تنتظمهم وحدة فنية مع جبران وأبي ماضي وإخوانهم في أمريكا، ثم مع الخوري والمعلوف واليازجي وأضرابهم في سوريا، وإن اتحد بهم العصر أو تقارب؟! لا شك أن لا، ثم لا؛ فلا أصل يصح لهذا القول بانسياح العرب في البلاد الإسلامية المتباعدة، حتى عرَّبوها جميعًا ووحدوها جميعًا في هذه العروبة!
•••
وفيما ألممنا به من حديث العروبة والإسلام، والعروبة والشرق، ما يحتاج إلى مزيد بيان يحوجنا إلى أن نمس آراءً وفكرًا، ليست بسبيل ما نحن بصدده من حديث الدراسة والمنهج، وإنما هي مسائل عملية، ممَّا يُعنى به الحزبيون ويقف عنده المتحدِّثون في الحكم وتدبيره، يعلنون خشيتهم من هذه الإقليمية في الأدب والدرس، أن تغري بالإقليمية في العواطف والميول؛ فتنفصم بذلك عروة ما يستمسكون به من الوحدة الشرقية ورابطتها، أو الوحدة العربية وصلتها، ومع أن مثل هذه الوحدات ممَّا لم يخلقه مؤثر حقيقي، ولم تكن في أغلب الأمر استجابةً لفكرة ممحضة، أو رأي مختمر. فإنا بغير حاجة إلى التنقيب عن أصول هذه النوازع وأسباب رواجها، وإنا — في الوقت نفسه — لنحتفظ لأصحابها بعواطفهم نحوها، وبمصالحهم فيها، أن كانت استجابةً لحاجة عملية، أو خطة في النضال بين الشرق والغرب، أو ما إلى هذا. نحتفظ لهم بذلك كله؛ لنطمئنهم جميعًا إلى أن هذه الإقليمية الأدبية ليست إلا ضربًا ممَّا يعمد إليه البحث العلمي، من حل المركب إلى بسائطه ليبحثها شيئًا فشيئًا، توصُّلًا بذلك إلى معرفة المركب معرفةً دقيقةً تامة. فإن كانت وحداتهم التي يدعونها من التماسك بما يصوِّرونها به، وكما يريدون لها، فلا جناح عليها من هذه الإقليمية، ولا خطر عليها منها إن شاء الله؛ لأنا لا نهتف بالإقليمية استجابةً لرغبة أو هوًى، أو ميل أو غرض، حتى يعارض هذا شيئًا من آمالهم أو يناوئه — إنما ندعو للإقليمية — باسم المنهج التحقيقي الدقيق، في تصحيح البحث وتوجيهه وتوزيعه. فلا اتصال مطلقًا بين مصرية الأدب، وفرعونية مصر، بحيث نهدر فيها الجانب العربي، أو ننكر الميراث العربي، أو نهوِّن من شأن هذا الدور العربي في حياة مصر. كلا! لن يحركنا شيء من هذا، ولن نثير به أي قدر من النزاع حول أمثال هذه الدعاوات. وكيف ونحن إنما ندرس هذه المصرية الأدبية في صورتها العربية، ودورها الإسلامي، أيام إذ عرفت ذلك كله، وانحازت إليه، وشاركت فيه، وعملت من أجله؟ فلْيطمئن بال أولئك السياسيين أو العمليين من هذه الناحية، وما يمت إليها بصلة، فليس شيء منها يعنينا أن نثبته أو ننفيه، ولو فُرض أن شيئًا من ذلك ممَّا نعنى به أو نعرض له؛ فإنا سنقدِّر قبل كل شيء أن هذه الوحدة المركبة على ما يتمثَّلونها، لن يضيرها أن يشعر كل جزء من أجزائها، وكل جانب من جوانبها، بوجوده وذاته، وشخصيته، فيكون بذلك جزءًا وعنصرًا نافعًا مجديًا على الوحدة التي يدخلها، والاتحاد الذي يشاطر في تأليفه وتقويته. ونحن في كل حال نقدِّر في يقظة واهتمام، أن هذه العصور التي ندرسها عربية السنخ، عربية الجذر، إسلامية العرق، ما ننكر شيئًا من ذلك ولا نشاح فيه أحدًا؛ فمصر المدروسة لنا في هذا الأدب المصري، إنما هي مصر الإسلامية العربية، في العصر الذي امتدَّت فيه للإسلام دولة، وقام العرب بنصيب من دفع الإنسانية إلى الحياة، وتوجيهها للنهوض. وكذلك تؤرخ البلاد الأخرى هذا التاريخ الأدبي الإقليمي لهذا الدور، تفعل ذلك الشام العربية الإسلامية، والعراق الذي هو كذلك، والمغرب الذي له هذا اللون. ومن هنا تكون العربية الأولى منبعًا وأصلًا لهذه الآداب الإقليمية، في كل صورة من صورها، وتكون اللغة العربية الأولى، والأدب العربي الأول في الجزيرة، هي الأصل الجامع الذي انشعبت عنه هذه الآداب، فهو يقوم منها مقام النواة والجرثومة. وإن أبيت إلا أن تلتمس لذلك نظيرًا في لغات الدنيا، فاعتبر هذه اللغات الإقليمية وأدبها، ذات شبه قريب أو بعيد، بفروع اللاتينية مثلًا من لغات أهل أوروبا، أو بفروع الجرمانية من لغات هذه الأمم؛ فتلك وحدة أصل لا سبيل إلى نكرانها. ولا نحن نهوِّن من قيمتها في ربط ما بين هذه الفروع وتوحيدها إن قصدت السياسة ذلك، أو اقتضته الحياة العامة.
ويوم تتداعى تلك الأمم بالعروبة، فلن تنكر مصر المصرية الشاعرة بشخصيتها، المؤمنة بكِيانها المتحيز، ووجودها المتمثِّل؛ لن تنكر ما فيها من تلك العروبة، بل ربما تجد في بحثها عن عناصر هذه الشخصية المصرية، أن الدم المصري مثلًا قد تخلطه، فتجمعه بالعرب قرابة قوية، وصلة وثيقة، كما أنها ربما تجد من هذا البحث أواصر أخرى للتواصل وراء الدم والنسب، ممَّا يجمع بين الأمم معنويًّا وروحيًّا، ويقرِّب صلاتها ونواحي نشاطها. ومثل هذا سنعرض له كله فيما بعدُ عرضًا غير متعجل ولا موجز.
فلْيتركوا هذه المصرية تعرف نفسها حق المعرفة؛ لتعرف كيف تتصل بغيرها، ولتتبيَّن أساس هذا الاتصال، ولتقدر نواحي قوته. وسيكون هذا — فيما أرى — أجدى على تلك الصلة، وآكد لهذا الارتباط، وأقوى على إبقائه.
ملاحظة
وفي مناقشتنا لهذه المقالة الأخيرة ضد الإقليمية، قد عرضنا لأثر الإسلام في حياة الأمم التي اتصل بها، وأقررنا من هذا الأثر ما أقررنا، واعترفنا من هذا التغيير بما اعترفنا، ومن الوفاء بحق المنهج الصحيح للبحث ألا نترك هذا الإقرار وذلك الاعتراف في إطلاق وعموم، قد يُفتن بهما من يسمعهما، وقد يخدعان الباحث، أو يخدعاننا نحن حينما نعرض قريبًا لما خلَّف الإسلام في حياة هذه المصرية، التي لقيها فيمن لقي من أمم وشخصيات.
لا نترك هذا الإقرار وذلك الاعتراف بأثر الإسلام في الجماعات، دون أن نشير إلى ضرورة القصد في تقدير هذا الأثر، والاعتدال في بيان عمقه ومداه، وبخاصة حينما نلاحظ أن بعض المتزيِّدين المتكثِّرين من أصحاب الدعوة الدينية الواعظة، أو من أولئك الذين لا يعرفون مجد الشرق إلا دعوى عن ماض باهر، وآباء أمجاد، وآثار غراء لا يسمح الدهر بمثلها، فيعيشون عظاميين في قفرة من الماضي ودنيا من الذكريات، يطلقون لخيالهم العنان في وصفها والإشادة بها، مفاخرين الدنيا جميعًا بمجدها، راجعين كل جديد إلى موروثها، وهي نزعة قد سيطرت على حياة الشرقيين حينًا من الدهر، وخلَّف فيها كُتَّاب وقوَّالون آثارًا، لعلها إن وقعت إلى الشباب تخدعه.
وما تعنينا هنا خدعتها الاجتماعية — وإن كانت خطرة — بقدر ما تعنينا خدعتها العلمية وتضليلها لطريقة البحث، والنظر إلى الحقائق في أناة واعتدال.
نريد لهذا كله أن نقول: إن الإسلام وقد جاء العرب وهم على حال بعينها، ثم جاء من عداهم من العالم وهم في حالة اجتماعية بذاتها، لم يمسهم مسًّا سحريًّا، يحوِّل العرب عن حالهم إلى ضدها، أو ينقلهم نقلةً معجزةً ترد ظلامهم نورًا، وجهلهم علمًا، وفظاظتهم سمو خلق، تحيل بإكسير سري، معدِنهم من النحاس إلى الذهب الإبريز. ولا كذلك فعل في حياة الأمم الأخرى التي جاءها، فعكس سيرها وغيَّر وجهتها وبدَّلها خلقًا غير خلقها، أو ابتدأ في حضارتها وحياتها، عهدًا جديدًا لا صلة له بسابقه، فجديدها لا يرتبط أبدًا بقديمها … إلخ. ما يمكن أن يشم من عبارات الاعتراض الأولى التي أوردناه بها، والتي قد ينخدع بها متساهلون، أو متنفجون، أو ساهون عن سنن الله ونواميس الكون.
لقد ظل العرب بعد إسلامهم هم القوم الأولون، قد دخل عليهم من الإصلاح بالإسلام ما تحتمله طبيعتهم، وما تستطيعه فطرتهم، وما تقبله شخصيتهم. وكذلك كانت حياة الأمم التي لقيها الإسلام، استمرارًا لحياتها الأولى، وإن تأثر هذا الاستمرار بما يمكن أن تتلقاه الطبيعة من تأثُّر بجديد يطرأ، أو علاج يتم، أو إصلاح يحاول. وفي هذا المقام يجدر بي أن أشير إلى ما يقرِّره الباحثون في هذا، ومنه ما عرض له المستشرق السياسي الألماني كارل هينريش بيكر، في مقال له عنوانه «تراث الأوائل في الشرق والغرب»، ترجمة الأستاذ عبد الرحمن بدوي، ضمن دراسات للمستشرقين عنوانها «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية». وفي هذا المقال، يتحدَّث بيكر عن اتصال النظام الاقتصادي الإسلامي بما قبله، ويعقِّب قائلًا ص١٤:
«وهذه العملية عملية طبيعية، إلا أنه لمَّا كان قد نظر إلى الإسلام باعتباره شيئًا جديدًا كل الجدة، واعتبر من جهة أخرى أن الدين والحضارة شيء واحد، فقد نشأت أسطورة حضارة العرب، تلك الأسطورة التي ألقت غشاءً على عيون المؤرخين فحالت بينهم وبين رؤية هذه الحقيقة الناصعة، وهي أن الحضارة القديمة قد استمر حاملوها هم حاملوها الأصليون، واستمر مسرحها هو مسرحها؛ ذلك أن الإسلام كان هو الأجنبي الغريب الذي أراد أن يغزو العالم القديم المتأخر، ولكنه خضع من بعدُ لما كان عليه هذا العالم القديم من تفوُّق وسمو، ولم يستطع أن يجعله عربيًّا إسلاميًّا إلا في الظاهر فحسب.» كما عاد إلى هذا المعنى ثانيةً فقال ص١٥: «وإذا ما بحثنا حضارات البلدان التي فتحها العرب؛ استطعنا أن نحكم بسهولة أن كل شيء بقي في الإسلام كما كان على عهده القديم، لم يُضَف إليه جديد، سواء في ميدان السياسة، وفن الحرب، والاقتصاد، أو العلم والفنون والصناعات. وإن المرء لتداخله الدهشة من المترجمات الضخمة العديدة، فيحسب أن أفكارًا جديدةً قد أُدخلت إلى مهد الحضارة الإسلامية، ولكن هذا الرأي باطل من أساسه؛ فكل شيء بقي عمليًّا كما كان من قبل.»
تلك هي عبارات للمستشرق حول الفكرة التي آثرنا استيقاف الدارس عندها، لفتًا إليها. وعبارة الكاتب إن يكن فيها شيء من خشونة التعبير أو عدم التحفُّظ فيه، ممَّا لا يلقاه المتديِّن المعتقد في سهولة، فإن الفكرة في أساسها وأصلها صحيحة مقبولة، على نحو ما قدَّمنا لها من بيان.
ولا يسع المؤرخ حين يؤمن بأن للحياة نواميس وقوانين تجري على وفقها، وحين يكفر بالطفرة في هذه الدنيا، ولا يدين بأن الأرض مسرح للخوارق، وميدان للمفاجآت، لا يسعه إلا أن يسلِّم بذلك كاملًا في حق العرب. وما يمكن أن يكون قد نالهم من تغيير وتغُّير بالدعوة الإسلامية، ودفعها الجديد، وأن يسلِّم كذلك بأن الإسلام حينما جاء من جاء من الأمم فدفع حياتهم دفعًا جديدًا، إنما دفعها لتسير من حيث كانت قد وصلت، أو لتتابع السير من حيث انتهت في أمسها القريب، وعلى ما ارتبطت به من ماضيها البعيد.
ولو كان العرب أمةً متحضرةً قد حملت إلى الأمم الأخرى نظمًا بعينها، وأوضاعًا خاصةً جربتها من قبلُ وأقرَّتها — وهو ما لم يكن من أمر العرب عند الفتح — لو كان الأمر كذلك لآمن كل باحث أن هذه النظم وتلك الدعاوى الجديدة التي حملها العرب إلى الدنيا، قد تفاعلت مع ما لتلك الأمم من أشباهها، ومضت الحياة تسير في ذلك، على المعروف الثابت من سننها.
وعلى هذا سنقدِّر في بحثنا دائمًا أن الإسلام والعرب قد جاءا مصر، على قديم من أمرها، وماض من دولتها، وسابق من فنها، ومستقر من حياتها؛ فكان بين الإسلام والعرب في مصر، ما يكون حين يلتقي كائنان، ويتبادلان التأثُّر والتأثير. وسنعود إلى هذا بالبيان بعد.
وممَّا سمعت في إنكار الإقليمية أن هذا القرآن وما إليه من أصول الإسلام كالسنة، قد وحَّد الثقافة الإسلامية في هذه البلاد التي اعتنقت الإسلام؛ فكانت الثقافة ذات الأصل أو الأصول الواحدة، مصدرًا لأدب واحد متماثل، لا يفرِّق فيه بين مصري وأندلسي ومشرقي.
وهذه القولة في جملتها تندرج تحت الوحدة العامة المدعاة آنفًا، والتي وقفنا عندها وقفةً غير قصيرة، إلا أن هذه الوحدة هنا تُخصَّص بأصول أدبية معينة، وتعد هذه الأصول دينيةً اعتقادية؛ ليكون لها بذلك ضرب من قوة التأثير على معتنقيها، يوحِّد منها ما افترق مع ضرب من قوة الإقناع، لسامعي هذه الدعوى. ولكنها مع ذلك كله لن تكون في حساب العلم وتصحيح البحث قوية التأثير ولا قوية الإثبات.
•••
فأمَّا وحدة هذه الأصول الثقافية، وأمَّا أنها لوَّنت الثقافة الإسلامية تلوينًا متشابهًا، فنعم. وأمَّا أن هذا التشابه يهيِّئ لوحدة تامة، وأن هذه الوحدة تصنع من الحياة الفنية لهذه البلاد كِيانًا لا يختلف فيه قطر عن قطر، فلا، ثم لا.
إن هذه الأصول من قرآن وسنة، خليقة أولًا بأن تكون منابع شريعة واحدة، وقد رأينا هذه الوحدة التشريعية ادعائية، أكثر كثيرًا ممَّا هي حقيقية، وسمعت من صور الاختلاف التشريعي ما شرحنا من قبل، وقد عرضنا عند ذلك للاختلاف الاعتقادي بما فيه الكفاية. فإذا كانت هذه الأصول — وهي أصول الاعتقاد والعمل — لم تترك لنا وحدةً في المقالات الاعتقادية، ولا في تفاصيل التقنين، فقد هان أمر ما تحدثه من وحدة أخرى وراء ذلك.
وأحسب أن صاحب هذه القولة المشتبهة وسامعها، يشعران بأن شيوع هذا القرآن بين تلك الأمم على اختلاف ألسنتها وألوانها، وأن كونه كتابها المعجز، ومثال أدبها السامي الفريد، كافٍ لأن يوحِّد تذوُّقها الأدبي، ومزاجها الفني، ويردها إلى أصول في ذلك مستقرة، تقيم حياتها الأدبية على أساس واحد. ولعل ذلك من أقوى ما يحسه المعترض ويشعر به سامعه، ولكن، لا أيضًا. ففي قضايا التاريخ قضية في تاريخ الأدب، والنقد الأدبي في العربية، وما إلى ذلك من دراسة أدبية، قضية كبرى في حياة هذه الدراسات وتاريخها؛ هي قضية «إعجاز القرآن». وقد رأينا معتقدي هذا الإعجاز ومتذوِّقيه، تختلف بهم السبل؛ فمنهم من ينكر على غير العربي أن يجده فهو يرده إلى حس أدبي لا يُعلَّل، ومنهم من يعلِّل هذا الإعجاز، ثم منهم بعد ذلك من يقول في التعليل بكذا وكذا، ومنهم من يقول فيه بكيت وكيت.
على أن منهم مع ذلك من ينكر هذا الإعجاز البلاغي إنكارًا، وما القول بالصرفة إلا إنكار جلي لأن يكون القرآن في لفظه ومعناه غير مقدور للناس ولا مستطاع، بل هو في متناولهم ومستطاعهم.
وإذا كانت تلك مذاهب القوم المختلفة في إدراك قيمة هذا الكتاب الأدبية — وهي مسألة أدبية آزرتها دعوة دينية عامة، وتوجيه قرآني موحَّد شامل — فهل تراهم في تأثُّرهم بهذا الكتاب إلا جارين على نحو هذا الافتراق والاختلاف، ومنقسمين شيعًا وطرائق؟! فإن اجتمعوا على قراءته ما شاء الله أن يجتمعوا، وإن اجتمعوا في بعض فهمه على ما يصح أن يجتمعوا، وإن اجتمعوا في بعض فهمه على ما يصح أن يجتمعوا عليه، فما أحسب ذلك سينتهي بهم إلى شيء من وحدة أدبية، أو إلى قريب من هذه الوحدة، بحيث يذهب عملهم الأدبي في حساب التاريخ مذهبًا موحَّدًا، ويكون في رأي الزمن كائنًا متمثِّلًا مشخصًا، يؤرخ في ظروف واحدة، وبخطوات واحدة، أحسب أن لا!
•••
وبعد، فما يستطيع البحث الصحيح أن ينكر قط أن أشياء قليلةً أو كثيرة، قد ألَّفت بين الأقاليم الإسلامية، وردَّت أهلها إلى ألوان من التشابه، وضروب من الاشتراك، قد يكون من بينها ما هو أدبي محض، صدرت عنه آثار قد تتشابه في هذه الأقاليم على تنائيها، ولكن الذي يسلِّم بهذا التشابه وأسبابه لا يسلِّم بأنه التشابه المطلق التام الذي يصير إلى وحدة تُلغي أسباب الافتراق والاختلاف، التي هي أمور طبيعية واقعية عملية، مادية أو نفسية، لها آثارها البعيدة الواضحة. فلا تسليم التشابه يثبت الوحدة، ولا تقرير التعدُّد ينفي في شيء ما ضروبًا من التشابه، وذلك قدر من الحق ينبغي ألا نغفله أو يغفله الباحثون حينما يلمحون مظاهر هذا الشبه أو يشعرون بأسبابه، وتلوح لهم عوامله، في أمور عقلية أو عملية أو فنية.
وليست الدعوة إلى هذه الإقليمية إلا محاولةً مُدقِّقةً في تاريخ الأدب، تقوم على أساس من سلامة بسلامة المنهج العلمي المحرَّر الذي يحاول تسجيل الحقائق الصحيحة مهما تكن خفية المظهر، ومهما تكن مستورةً وراء ظواهر خلَّابة أو خدَّاعة، وطالب هذه الدقة في عصرنا لحاضر لا ينبغي له، بل لا يحسن منه، أن يخطئ الفوارق أو يساير الظواهر، وينخدع بها.
وهذا أصل نؤصِّله لنعتمد عليه فيما بعدُ إذ نشبعه بيانًا.
وينظر قائلون في الثروة الأدبية العربية بعامة، بعد أولئك الذين نظروا في أصول ثقافتها الإسلامية، فينكرون بهذا النظر فكرة الإقليمية.
يقولون: ما هذه الثروة الأدبية في الأقاليم الإسلامية بمختلفة — كما تذكرون — في ألسنتها وألوانها، ثم ثقافتها التاريخية؟ إنما هذه الثروة الأدبية العربية رغم هذه الظواهر كلها تراث واحد، لا يتعدَّد ولا يتفاوت ولا يختلف، توزَّعته فنون واحدة في الشعر، فلم يظهر منه فن في إقليم دون إقليم غيره، بل الشعر هو هو في أبوابه المعروفة، وموضوعاته المتداولة المشتركة، لا تجد فيه حول هذا اختلافًا يلفتك، ولا تفاوتًا ينبهك. كما توزَّعتها فنون من النثر أيضًا هي هي، لا تتغاير في مشرق عنها في مغرب، بل جرت أبواب النثر على رسوم مؤصلة لم تختلف فيها بيئة عن بيئة، اختلافًا من هذا الذي ترجون أن تكون الطبيعة قد عملت فيه عملها، أو تركت البيئة فيه أثرها. وما يزال المتأدِّب يقرأ القصيدة الشعرية في عهد من العهود وعصر من العصور، لا يستطيع أن يتبيَّن فيها فرقًا، مصدره أن قائلها عراقي شرقي، أو يمني جنوبي، أو مصري بعيد عنهما، أو مغربي موغل في البعد. وكذلك الحال في الرسالة أو المقامة أو غيرهما من النثر.
نعم قد تختلف الأعصر، ويتفاوت فن عن فن ذلك التفاوت الواقع في رجال القطر الواحد والعصر الواحد، وأمَّا ما وراء ذلك فشيء لا نجده ولا نتبيَّنه، فلا نقول به.
وهم يقدِّمون لذلك مثلًا، يرونه صارخ الكفاية، قوي الإثبات؛ إذ يقرنون الأدب الأندلسي في أقصى المغرب، بالأدب العراقي في نائي الشرق، ويرون القدماء من قبلهم قد شعروا بوحدته، وقرَّروا ذلك؛ فهذا «الصاحب بن عباد» يرى كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه فيقول: «هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا.»
وهذا «ابن بسام» صاحب «الذخيرة» وهو أندلسي، يقول: «إلا أن أهل هذا الأفق — يعني الأندلس — أبَوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام أو العراق ذباب؛ لجثوا على هذا صنمًا، وتلوا ذلك كتابًا محكمًا» (ج١، ص٢).
يحتج أولئك القائلون بمثل هذا، ثم يمضون قدمًا فينكرون الفروق المنتظرة من اختلاف الإقليم وتفاوت البيئة، ولهم في ذلك مكتوب أحور إليه، فهو من صنَّف ما قدَّمت أول هذا الموضوع، من قول الشباب المدوَّن عن فكرة الإقليمية. ولعل أشد ما فيه — كما قلت — أنه من قول الشباب! ومن أهل الجامعة! ومن أبناء مصر! فهم يقرِّرون اشتراك عناصر مختلفة في ماضي هذا الأفق الأندلسي، ثم ينكرون أن يكون لهذه العناصر أثر في الحياة العربية التي خلفت عليه، ويستظهرون أن تأخُّر النهضة العلمية والأدبية في الأندلس حتى القرن الرابع الهجري، هو الذي ساعد على اندثار هذه المدنيات دون أن يبدو لها شأن في الحياة العقلية، فيقولون:
ومهما يكن فإن أثر التراث العقلي القديم في الأدب الأندلسي كان ضعيفًا، بل إن الإنسان ليلاحظ أن هذا الأدب مدين في نهضته للتراث العباسي، كما يلاحظون مع ذلك أنه لم تقم بالأندلس حركة ترجمة كالتي قامت بالمشرق، ولم يكن فيه طوائف دينية من مجوس وزنادقة كما كان هناك، إنما كان يقرأ الثقافات الأجنبية فيما يأتيه من المشرق. وإن الإنسان ليُخيَّل إليه أن كل شيء في الأندلس قد أُسس على نظام القوم هناك، كما كان الشأن في أمريكا الحديثة حين هاجر أهلها من أوروبا؛ فإنهم ظلوا يستمدون منها حتى القرن الحاضر ما شكَّلوا به حياتهم وعلمهم وفنهم. ويمضون في بيان هذه المشابهة بإسراف يجعلهم يرون «المجتمع الإسباني — أي الإسلامي — مدينًا في كثير من نواحيه للمجتمع العباسي»، إلى حد القول بأن الناس فيه كانوا يعيشون على نحو يشبه معيشة العرب في المشرق. وقد عمَّ التأثير كل شيء في الجانب الاجتماعي. وأمَّا الجانب العلمي والأدبي فقد مثل التقليد فيهما في كل شيء؛ إذ لا نجد في الأندلس قبل القرن الرابع شيئًا من ذلك مستقلًّا، إنما كل ما عندهم بضاعة مجلوبة. ونفس القرن الخامس، قلَّما نجد فيه فلاسفةً أو علماء مستقلين، فما يزال الأندلسيون يلخِّصون أو يعلِّقون على الثقافات والمذاهب المشرقية. وإذا رجعنا إلى الآثار الأدبية التي خلَّفها القوم وجدنا ظاهرة الصوغ على نماذج المشرق واضحة؛ فالكتب والمؤلفات تؤلَّف على نمط ما في المشرق، ونماذج الشعر نفسها كأنها تصاغ على أنماط مشرقية خالصة، ففلان يتكلَّم على نمط فلان، وفلان ينظم على نمط فلان.
وعلى هذه الشاكلة لا يزال من يقرأ في آثار الشعر الأندلسي أثناء القرنين الرابع والخامس، يجد هذا التقليد للنماذج المشرقية، وهو تقليد لا يقف عند المشابهة في الوزن والروي، بل يمتد إلى المشابهة في المعاني والأساليب. والمذاهب الفنية في المشرق كانت تُنقل نقلًا إلى الأندلس، وكان الشعراء يقلِّدونها هناك، ولو أنه تقليد لهم يكن دقيقًا، ويجمعون بين طرق ومذاهب مختلفة لغير شاعر واحد. ولم تحدث بالأندلس مذاهب جديدة في صناعة الشعر، بل وقفوا عند المذاهب التي عُرفت بالمشرق. وإذا كان الأندلسيون قد أحدثوا شيئًا من التغيير في الشعر العربي بموشَّحاتهم وما إليها من أزجال ونحو ذلك، فإن حدوث هذا لم يُحدث ثورةً على الأوضاع القديمة في الشعر العربي إلا من حيث الأوزان والقوافي.
ولا يزال الأمر من الوحدة عند صاحب هذا القول بحيث يقرِّر فيه أخيرًا: «أن الطبقات التي كوَّنها هذا الشعر أثناء هذه العصور — القرنين الرابع والخامس — والعصور التالية، كانت متماثلة، وأن تحليل إحدى طبقاته كافٍ للوقوف على معرفة ما انتهى إليه شأنه في الطبقات الأخرى، فحتى الفارق الزماني في العصور المختلفة لا يتحرَّج أصحاب الوحدة في الآداب العربية، من أن ينكروه على أدب الأندلس، وأن يروا أن تحليل إحدى طبقات الشعر في عصر كافٍ للوقوف على معرفة ما انتهى إليه شأنه في الطبقات الأخرى!»
والفكرة السابقة في إنكار إقليمية الأدب ذات شقين؛ أصل مجمل هو وحدة الآداب العربية والثروة الفنية من القول، على اختلاف أقاليمها المتنائية، وحدةً في الفنون والموضوعات، والأغراض والمعاني.
ثم فرع هو كالتطبيق على هذا الأصل، يثبته ويؤيِّده؛ وهو أن الأندلس على نأي الدار، وبعد الشقة، والتفاوت، قد كانت صورةً من المشرق لا تعدو ذلك في شيء ما.
وفي عرض الفكرة بشقيها على نحو ما رأينا، شيء من الدخل يحسن قبل التصدي لها أن نبيِّنه ثم نزيحه ليبقى الجوهر السليم منها، نتحدَّث بعد ذلك عنه محدودًا نقيًّا.
وأكثر هذا الدخل في الحديث عن الأندلس مكتوب منضبط، يؤمَن الاختلاف فيه عند الملاحظة عليه.
فمن ذلك ما في دعواهم من أن الأقدمين أنفسهم قد قرَّروا عدم الفرق بين المشرق والأندلس، واحتجاجهم في ذلك بعبارة الصاحب عن العقد الفريد: «هذه بضاعتنا رُدت إلينا.» فإن ابن عبد ربه إذا ما ألَّف كتابه في الاختيار من عيون الأدب المشرقي؛ ليتأدَّب به الشادون في الغرب، لا يكون ذلك في نفسه حجة عدم الفرق عند ابن عبد ربه والمتقدمين. والصاحب إذا دفعته العصبية الشاعرة في نفسها بالفرق بين المغرب والمشرق، فقال: «هذه بضاعتنا ردت إلينا»، لا يكون ذلك — فيما أرى — شاهد تسليم الأقدمين بعدم الفرق!
«وذهب كلامهم — أي أهل الجزيرة — بين رقة الهواء، وجزالة الصخرة الصماء، ما قال صاحبهم عبد الجليل بن وهبون يصف شعره:
على كونهم بهذا الإقليم ومصاحبتهم لطوائف الروم، وعلى أن بلادهم آخر الفتوح الإسلامية، وأقصى خُطى المآثر العربية، ليس وراءهم وأمامهم إلا البحر المحيط، والروم والقوط.» فهلا تراه يشير بذلك إلى جمل من خاص حال هؤلاء القوم في منزلهم وطبيعته، وبعدهم من الوطن العربي وأثره؟ وتلك منه فطنة على شيء ممَّا يقال اليوم عن أثر البيئات، وإن كنا لا نقف عند هذا لنستوفي منه شيئًا؛ فلذلك مكانه الخاص، وإنما حسبنا من ذلك إنكار أن يكون ابن بسام هذا قد قال بوحدة تلف المشرق القصي والمغرب الأندلسي!
وإذا ما أشرنا إلى الدخل في الاحتجاج بالنصوص المقتطعة وما أشبه ذلك الانحراف أو التحريف، فإنا لنحس الحاجة الشديدة إلى التعليق على مظاهر للدخل في التفكير، ربما لا يقوم عليها إنكارهم للإقليمية، لكنها قضايا عن سير الحياة الاجتماعية، يُخشى خطرها لو تُركت هكذا دون تعليق، فلمثلها يعرض مؤرخ الأدب فتزل قدمه لو ظن هذه هي الجادة. فلْنشر إلى ما فيها، ولو على ضرب من الإجمال.
فمن ذلك ما رأينا من إشارة في هذا الحِجاج إلى العناصر المختلفة التي اشتركت في ماضي هذا الأفق الأندلسي، وإنكار أن يكون لهذه العناصر أثر في الحياة العربية التي خلفت عليه، واستظهار أن تأخُّر النهضة العلمية والأدبية في الأندلس حتى القرن الرابع الهجري، هو الذي ساعد على أن تندثر هذه المدنيات، دون أن يبدو لها شأن في الحياة العقلية الإسلامية! وهم يعنون بهذه العناصر المختلفة — فيما يصرِّحون به — العناصر الفينيقية، بما كان للفينيقيين من مستعمرات هناك، وما جرى من صراع بين رومية وقرطاجنة. ثم العناصر الرومانية بعد ذلك، حين تم الأمر في إسبانيا لدولة الرومان، وصارت البلاد مستعمرةً رومانية. ثم الموجات الجرمانية الشمالية، ولا سيما القوط الذين خضعت لهم البلاد، إلى أن فتحها العرب. وقد كان لكل عنصر من هذه العناصر الثلاثة أثره في حضارة البلاد، لكن الأثر الفينيقي — في رأيهم هم — يُوقف عند الناحية الاقتصادية، والأثر الروماني يُوقف عند الناحية الدينية، كنشر المسيحية، وجعل اللاتينية لغة الكنيسة الرسمية. ثم يعدون تأخُّر النهضة العلمية والأدبية في الأندلس حتى القرن الرابع الهجري، هو الذي ساعد على أن تندثر هذه المدنيات، دون أن يبدو لها شأن في الحياة العقلية لمسلمي إسبانيا. ويقولون:
ما نصل إلى القرن الخامس حتى نرى أهل إسبانيا هجروا اللاتينية واتخذوا اللغة العربية مكانها، وترجموا إليها التوراة وغيرها من كتب الكنيسة. ويعلِّق الناقل على هذا القول بما يرد نسبته إلى المؤرخ دوزي.
والحديث عن هذه المدنيات القديمة في بلاد آل أمرها إلى الإسلام، والقول بعدم وصول آثارها إلى الحياة العقلية الإسلامية بعد ذلك، حديث يتصل بما كان من مثل هذا من حضارة راسخة في مصر، ووصولها إلى المسلمين حينما حلوها. وهذا هو ما يدفعنا إلى الوقوف عنده، فوق ما لهذا الحكم العام من قيمة في التأريخ الأدبي.
ومظهر الدخل في هذا القول، ما نراه من توجيه آثار المدنيات، وقصر كل مدنية على ناحية بعينها دون أخرى، فهذه دينية وتلك اقتصادية وهكذا، على مثال ما سمعنا من قولهم.
ثم الاطمئنان إلى القول باندثار هذه المدنيات دون أن يبدو لها شأن في الحياة العقلية! فإن هذا التوجيه لآثار المدنية لا يكون إلا عن دراسة طويلة عميقة مستقصية لتاريخ هذه المدنيات وأثرها في حياة إسبانيا، وذلك ما أحسب أن الكاتب العربي لم يتصل بمصدر واحد من مصادره، وهو طبعًا لم يقم بهذه الدراسة بنفسه، ولو كان قد اتصل بمصادر هذا من مباحث عظماء المؤرخين المتخصصين؛ لبقي عليه بعد ذلك أن يتصل هو بالحياة العقلية الأندلسية في العصر الإسلامي، اتصالًا يهيِّئ له أن ينفي أن شيئًا من هذه الحضارات القديمة لم يصل أثره إلى تلك الحياة. ونحن — ولو أنها حقيقة مرة — لم نصل إلى قدر مادي من آثار هذه الحياة العقلية الأندلسية في الإسلام، تناله أيدينا وحدها دون عقولنا. وأكثر هذا في يد الغرب لم نعرفه ولم نره، أو في أطواء الغيب ضائع مغمور. وما أحسبنا نجرؤ على حد أن نقول إن الحياة العقلية الإسلامية في الأندلس أيضًا قد دُرست منا نحن درسًا يهيِّئ لنا القول بعدم بُدُوِّ آثار الحضارات القديمة في إسبانيا في هذه الحياة!
وبعد هذا كله، أليس من الدخل المفسد هذا التوجيه الفاصل لآثار الحضارات؟ فمتى كانت الحياة الاقتصادية تنفصل عن الحياة العقلية، كما تنفصل عنها الحياة الدينية، انفصالًا يبقي لهذه أثرًا في تلك، ولا يجعل واحدةً منهما تلاقي صاحبتها، أو تتفاعل وإياها فتؤثر فيها وتتأثر بها؟! فمتى كان هذا في سير الوجود ومشهود الدنيا؟ وأي شيء هي البيئة التي يُبدئ الناس فيها ويُعيدون، ويحسبون منها المعنوي الاجتماعي، ينعمون النظر في آثاره على الكائنات الإنسانية وغير الإنسانية؟! أليست الحياة الاقتصادية والدينية عناصر وجوانب لهذه البيئة المعنوية؟! فكيف يذهل جامعي عن هذه المقرَّرات الأولى التي كان القدماء في مستواهم العقلي يدركونها في إجمال وعموم، والمحدثَون يدقِّقون فيها ويفصِّلون؟! وكيف لا تتصل الحياة العقلية بهذه الجوانب من الحياة العملية، أو تلك العناصر من البيئة المعنوية؟! هذا عجب من النسيان، أو ما هو أشد منه.
ثم أليس من الدخل الغاش أيضًا أن تكون هذه الأشياء لم تؤثِّر في الحياة الإسبانية العامة التي ورثها الإسلام وقام على آثارها؟! وكيف يقول مؤرخ إن إسبانيا القرطاجنية، أو التي استعمر جوانبها القرطاجنيون لم تتأثَّر بهم، أو أن إسبانيا الولاية الرومانية لم تتأثَّر بالعصر الروماني، أو أن إسبانيا الرومانية لم تتأثَّر بالعصر الروماني، أو أن إسبانيا القوطية لم تجد أثر هذا العصر القوطي في حياتها عامة، وإسبانيا التي تلوَّنت بذلك كله، لم تجد أثر هذا كله في تاريخها؟ لعل القائل لا يعنيه أن ينكر ذلك، وإنما ينكر أن يكون هذا الأثر قد وصل إلى الحياة الإسلامية العقلية، التي خلفت على كل ما كان من هذا، وهي دخيلة أخرى مريضة؛ لأن ما وصل إلى إسبانيا التي ورثها المسلمون، لا يمكن أن ينفي وصوله إلى المسلمين، الذين خلفوا عليه، واتصلوا به، وتقلَّبوا فيه، وتمثَّلوه. وقد وصلت الآثار الإسبانية بجلاء إلى الحياة الإسلامية، على اختلاف ألوانها في هذه البلاد، ما في ذلك شك، ولا يلحقه إنكار، إنه الناموس الحق.
ومن الدخل الذي يأباه العلم — وإن بدا في حساب الأديب غير المتثبِّت سهلًا — ما في هذا النص من «أن تأخُّر النهضة العلمية والأدبية في الأندلس حتى القرن الرابع الهجري، هو الذي ساعد على أن تندثر هذه المدنيات دون أن يبدو لها شأن في الحياة العقلية.» فإنه لن يهون في رأي العلم وحكم الواقع أن تقوم مدنيات واضحة الأثر، طويلة العهد في إقليم من الأقاليم، ثم تُمحى آثارها أو تنعدم، حتى ما يبقى لها في خالف الأجيال أثر مهما يتباعد بها العهد أو يتراخى الزمن. وإن العلم الذي يُقدِّر أن الإنسان يتقلَّب في مختلِف الأدوار التي تطوَّرت فيها الحياة الحيوانية، ويمثِّلها في تكوُّنه الجنيني، لما أبت تلك الأدوار من أثر في حياته، مع ما بينه اليوم وبينها من ملايين السنين. وإن العلم الذي يرتقب الوراثة البعيدة بعد الأجيال الطويلة، ويرصد آثارها في الفرد منحدرةً إليه، من أجداد بينه وبينهم عقود السنين المتباعدة، والعهود المتمادية. وإن العلم الذي لا يزال يرى اليوم بعد آلاف السنين آثار حياة الغابة في إنسان المدينة، وإن العلم الذي لم يؤمن بعدُ بالفناء، ولم يسلم بالاندثار. هذا العلم هو الذي يعرف نواميس الحياة، ويُجبر التاريخ حين يسجل ظواهر هذه النواميس على أن يكون علميًّا دقيقًا غير متهاون، ومن هذا التاريخ المسجل لنواميس الحياة المنضبطة بالسير الدقيق، تاريخ الآداب والفنون. فلا سبيل لهذا التاريخ إلى التهاون والتساهل، وإلقاء القول على عواهنه، والارتياح إلى أن مدنيةً كالمدنية الفينيقية، أو أخرى كالمدنية الرومانية، وعهدًا كالعهد القوطي، قد اندثر من الحياة الإسبانية، ولم يصل أثره إلى الحياة العقلية الإسلامية فيها؛ لأن النهضة العلمية والأدبية بها قد تأخَّرت إلى القرن الرابع الهجري!
وفرق جلي بين ما لا يُرى، وما لا يكون. فما لا يرى وما لا يُعرف، ليس هو ما لم يكن ولم يوجد. فلو صحت العزمة على شيء من الدقة وتقدير المسئولية؛ لشق على القائل هذا الاطمئنان إلى تقرير أن أثر تلك المدنيات لم يكن ولم يوجد. على أننا لم نقم بشيء من الدرس الصحيح، بل لم نقم بشيء من التهيؤ الصحيح لدرس الحياة الإسلامية في الأندلس، عقليًّا وعلميًّا وأدبيًّا، حتى نقول إننا نظرنا فلم نرَ، وحاولنا فلم نجد.
وإذا جاوزنا تلك الملاحظات العامة لننظر في أصل الفكرة التي يردون بها الإقليمية، وهي وحدة التراث الأدبي العربي في الفنون والموضوعات والمعاني والتناول، وجب أن نلفت أصحاب هذا القول إلى أن الحياة الأدبية الإنسانية، بأوسع آفاقها، وأبعد ظواهر اختلافها، فيها وراء ذلك نواحٍ للتوافق والتشابه، أو للاتحاد إن شئت. فقد نجد أصول التقسيم للفنون الشعرية أو النثرية، في آداب الأمم على اختلاف الألسن والألوان، ممَّا يمكن أن يلتقي في أمور مشتركة وأصول معينة. وقد نجد فن كذا من فنون الشعر، أو النثر، كالغزل أو الوصف أو الرثاء، أو الخطبة، وأضراب ذلك؛ نجدها فنونًا مشتركةً متماثلةً في الآداب كلها، تقوم على أصول بذاتها، يمكن أن ينتظمها درس واحد أو ينتفع فيها برأي باحث واحد، فننظر في كتاب ككتاب الخطابة أو الشعر لأرسطو مثلًا، لأنه ليس إغريقيًّا فقط، بل هو ممَّا يمكن أن يكون عالميًّا، ثم إن وراء ذلك من أوجه التشابه أو التوافق في الآداب العالمية، على تباين الأمم نواحي أخرى، فإنك لتجد أصول الحس، ومصادر المعنى من العاطفة الإنسانية، والمشاعر البشرية واحدةً متشابهةً متفقةً في الشرق مع مثلها في الغرب؛ فالحب والبغض، والغيرة، والانتقام، ألوان للحياة النفسية، أعراضها في البشرية متماثلة، وخصائصها في الناس متوافقة، فهل نجد أن الناظم أو الناثر أو القاص الذي يغنِّي عاطفةً من هذه العواطف، ويترجم عن حس من هذه الأحاسيس، يتميَّز غناؤه، ويتباين فنه، ويختلف غرضه، عن غيره، حتى ما يلتقي في ذلك شرقي وغربي، ولا يتقارب فيه أبيض وأصفر وأسود؟! أحسب أن ذلك شيء ليس صحيحًا ولا مقولًا به، وهو في العلم نفسه لا يلتزم ولا يُدَّعى، فلا أصل لالتزامه في الآداب بالأَولى.
ومن أبين المثل لإيضاح الافتراق والتخالف مع وحدة الأصل، هذه الأجناس البشرية، يقيم العلم بينها الفواصل المفرِّقة، ويقرِّر المميِّزات المغايرة بين جنس منها وآخر، ثم لا ترى هذا التفريق — مهما يتسع القول فيه ويعمق — قد قضى على الوحدة الإنسانية، أو وحدة أصل هذه الأجناس في رأي العلم وتقريره! فالأمر على غرار هذا في الميدان الفني، بل هو في الحقيقة أفسح ممَّا في العلم وأوسع؛ فلقد تلتقي الآداب الإنسانية في الأقاليم المتعددة، والعصور المختلفة، على لسان المتفننين المختلفين في ظواهر مشتركة، فيتفق فيها أدب أمة آرية مع أدب أمة أخرى سامية، ويتشابه فيها عصر جاهلي مع عصر حضري حديث، ونحو ذلك؛ لأن لهذه الآداب على تنوُّعها وتغيُّرها، بل على تخالفها وتباينها، وحدة عليا بعيدة، تتلاقى عند فروعها المختلفة، وأنماطها المتعددة، كما التقى الجنس البشري في وحدة الأصل ووحدة الجنس العليا، ثم اختلفت وراء ذلك فصائله وتمايزت في كل شيء. فليس يجب حين نقرِّر إقليمية الأدب أن تكون هذه الآداب في أقاليمها قد تقطَّعت بينها الوشائج حتى ما تتشابه فنونها. فيبطل الغزل في الشرق إذا تغزَّل من في الغرب، ولا يقال الرثاء في الغرب إذا قاله الشرقيون، وحتى ما تتشابه موضوعاتها بحيث لا يعرض هؤلاء لما عرض له أولئك، من موضوع رسالة أو خطبة أو مناجاة شاعر، أو موادة مترسل؛ لأن هذا ممَّا لا يكون بين أدبين غير موحدين. أو حتى ما تتشابه الصور البيانية، والأساليب الأدائية بين الشرق والغرب اللذين تأثَّرا بمؤثرات متشابهة، فتكون للشرق استعارات وتشابيه لم يعرف الغرب مثلها ولا نوعها، وحتى يستقبح هنا ما يستجاد هناك، وبدون هذا لا يكون افتراق الشرق في دأبه عن الغرب في أدبه، بل تكون لهما وحدة تامة جامعة!
•••
قسَّمت المعاني الأدبية إلى كبرى وصغرى؛ فالأولى هي مواد الفن القولي، وأدوات العمل الأدبي، من حب متغزِّل ناسب، أو عتاب متلطِّف، أو استعطاف متشوِّق، أو هجاء كاره، أو ما إلى ذلك من معانٍ، أو إن شئت من عواطف وأحاسيس بشرية، تعطيك مجال العمل الفني في القول أو غير القول من الفنون.
وأمَّا المعاني الصغرى فهي الصور الجزئية في هذا الأصل الأكبر، كأن يكون تغزُّل المتغزل، أو استعطاف المستعطف، أو رثاء الراثي بقول كذا دون كذا، أو بفكرة كذا دون كذا، أو بصورة أداء دون صورة أخرى، أو بلون تعبير دون غيره، وتلك الأخيرة هي التي نسميها المعاني الصغرى.
وفي القسم الأول وهو المعاني الكبرى، لا يجب أن يختلف أدب جنس عن أدب جنس، ولا أدب أمة عن أدب أمة، ولا أدب عصر عن أدب آخر شديد المباعدة له، فقد يكون ذلك كله إنسانيًّا تجده البشرية جمعاء، وتُحسه الناس كلهم، وهو موضوع الأدب الخالد تستطيع الألسن المختلفة أن تجري به، والألوان المختلفة أن تنتشي به، وتهش له. وحظ الأدب من الخلود مرهون باختيار المتفنِّن لهذه الكبريات من المعاني، ينتقي منها موضوع عمله الفني، ثم يصوِّر فيه شعورًا إنسانيًّا عامًّا مشتركًا باقيًا. وبعد هذا الاتفاق الأساسي في المعاني الكبرى تختلف الأمة عن الأمة، والعصر عن العصر، والمتفنِّن عن المتفنِّن، فكلهم يحب، ولكن هذا عذري الحب، وذاك طائر القلب، وهذا موحِّد متفلسف يعرف معنى الحب في نفسه، وهذا متنقِّل أو متكثِّر، يعرف الحب في نفس محبوبه، إلى فروق من ذلك قد تتميَّز بها الأمم، والأفراد، والعصور، فتتميَّز الفنون، وتكون موضوعات العمل الفنية المختارة متأثرةً في صورتها العامة بهذه الفروق.
وأمَّا ما دعوناه المعاني الصغرى، وهي الخواطر الجزئية التي تؤلِّف الأقسام الرئيسية للفنون القولية، فهذه أقبل بطبيعتها للاختلاف والتغاير، فطريقة هذا في ترجمته عن حبه، وأسلوبه في إبلاغ عواطفه، وتجليته للصورة النفسية التي يمثل بها هذه العاطفة بتلوينه لها وعرضه إياها على قارئه أو سامعه، كل أولئك قابل بطبعه للتفاوت والاختلاف، يتفاوت في أمة عن أمة، وفي جيل عن جيل، وفي شخص عن آخر، بل يتفاوت في الشخص الواحد لزمنين مختلفين من حياته.
وهكذا ليس يجب إذا ادعيت الإقليمية أن يُمدح المصريون بالبخل إذا مُدح العرب بالكرم، ولكن يُرجى أن يكون عرض المصريين لصور كرم الممدوح مخالفًا لعرض العرب هذه الصور في ممدوحهم. وهنا تعطي البيئة أثرها، تبعث وحيها، فإن كان العربي سحابًا وغيثًا يهطل، فالمصري فيض ونهر يروي ويُنبت، ويغل ويغني. وليس يجب إذا تغزَّل المشرقي، العراقي أو الشامي، ألا يتغزَّل المصري ولا المغربي! ما قال هذا أحد. ولكنما يجب أن تكون الصور الأدبية لهذا المعنى الأول الكبير مختلفةً عند العراقي أو الشامي عنها عند المصري. فإذا يمثِّل أحدهما القمر والبدر والنجم مثلًا، تمثَّل الآخر الروض والزهر والعطر والشذى، وهكذا. بل يمكن أن يختلف الأدبان وراء ذلك في حركة القلب، وهدف النفس، ومطمح الروح في الحب؛ لاختلاف المؤثرات المعنوية في البيئتين الاجتماعيتين مثلًا. وقد يختلف الأدبان أيضًا فيكثر في أحدهما فن كذا دون كذا، أو يُخلق في أحدهما فن كذا مبكرًا، ويتأخَّر ظهور مثله في الأدب الآخر، وما إلى ذلك.
•••
وما نقرِّر هذا كله ممَّا أسلفنا بيانه إلا وفاءً للبحث، ونحن نعرف في الوقت نفسه أن في قالة أصحاب هذه الوحدة أنفسهم شواهد الاختلاف الجلي بين العراق وغيره من المشرق، والأندلس وأُفقه من المغرب، يوردونها هم ساهين عن تقديرها وترتيب أثرها عليها، أو مهوِّنين — في غير حق — من خطرها، زاعمين أنها ليست بذاك. فهم يذكرون من هذه الفروق التي لم يَعْنِهم أن يرتِّبوا آثارها عليها، أنه لم يكن في الغرب طوائف دينية من مجوس وزنادقة كما كان في المشرق، وذلك شيء له أثره لو نظروا إليه النظر الدقيق البعيد الواجب في مثل هذا البحث؛ إذ يكشف لهم أن بين الحياة الدينية في الأُفقين فروقًا ليست باليسيرة الشأن.
ثم هم أنفسهم يذكرون كذلك أنه لم تقم بالأندلس حركة ترجمة كالتي قامت بالمشرق، ولكن هذا لا يقف أثره عند ما قرَّروه في سذاجة، حين يقولون إن الأندلس كان يقرأ الثقافات الأجنبية فيما يأتيه من الشرق، إذ لو كان الأمر ينتهي عند الاعتراف بفضل المشرق في تغذية هذا المغرب؛ لما كان ذلك موضعًا للمشاحة والخلاف. ولكن المسألة أعمق من هذا وأبعد غورًا؛ فإن تلك الثقافة الأجنبية التي تُرجمت، قد تقدَّم بها الزمن في المشرق حين تأخر في المغرب، وهذه واحدة، ثم عرفها المشرق محتاجةً إلى التنقيح، وفيها مواضع للنقد وآثار للاختلاط والاضطراب، من عمل التراجمة الأولين من سِريان ونحوهم، ممَّا أحوج إلى تحرير ثانٍ، وترجمة ثانية أحيانًا. لكنها لم تجئ المغرب إلا بعد ذلك، وفي غير هذا الحال، وتلك ثانية.
ثم كان لاختلاط هذه الثقافة بالثقافة العربية، وما جرى بينهما من تجاذب وتدافع أثره، الذي دخل على الحياة الدينية والحياة الفنية بأشياء من الاهتزاز والاضطراب، قبلما تولاها القوم بالتوفيق أو بالتخفيف، أو بالتفسير أو بالرد، أو ما إلى ذلك ممَّا تقتضيه الهزة الاجتماعية الناجمة دائمًا عن مثل هذه التغيُّرات. ولكنها جاءت المغرب بعد ما انتهت هذه التجربة، أو بعد ما ثبتت على حال ما آلت إليها، فلم يتعرَّض المغرب لما تعرَّض له المشرق من هذه الهزة وأثرها، وتلك أيضًا ثالثة.
ومن هذا وغيره كانت حياة الفلسفة في الأندلس — مهما تكن قد اتصلت أو تأثَّرت بحياتها في المشرق — لا بد أن تختلف بها الطريق وتفترق الخطوات، وهو ما كان فعلًا شأن الفلسفة في هذا الأفق، وتلك رابعة جعلت اتصال الأدب بالفلسفة في المغرب لا يؤمَن فيه القول بالمشابهة لما كان في المشرق، وهذا هو ما يمكن الاطمئنان إلى تقريره مؤقتًا.
•••
ولقد جاءكم من حديث القوم عن الحياة الأدبية في المشرق والمغرب أن المغرب كان يصوغ على نماذج المشرق، لكن كانت المذاهب الفنية تنقل إلى الأندلس نقلًا مضطربًا، فلم يكن التقليد دقيقًا؛ إذ كانوا يلفِّقون بين طرق ومذاهب فنية مختلفة لغير شاعر واحد. وهذا نفسه من قولهم فرق واضح، بل شديد الوضوح؛ فالمذهب الأدبي في المغرب حين قلَّد المذاهب المشرقية — إن صح قولهم في وصف التقليد — كان مذهبًا انتخابيًّا، جمع نواحي من المذاهب المختلفة، أو كان مذهبًا اختلاطيًّا اضطرب بين المذاهب المختلفة حين كان الأمر في المشرق ليس على شيء من هذا الانتخاب أو الاختلاط الذي في المغرب.
وهكذا أراد القائلون أن يذهب الشرق بالفضل كله، والإمداد كله، وأن ينكروا على الأندلس أن يكون قد أحدث مذاهب جديدةً في صناعة الشعر، وأسرفوا في ذلك وأطنبوا في بيانه، فقرَّروا في هذا البيان أن حال الأندلس من هذه الناحية، لم تجرِ على ما جرت عليه الحال في المشرق، بل تغايرت وتخالفت، وإن يكن هذا التغاير والتخالف اضطرابًا واختلاطًا.
وجلي أن سبق المشرق وابتكاره شيء غير ما نحن فيه، فإنما يعنينا تغاير ما بين المشرق والمغرب، وهذا السبق نفسه، وهذا الابتكار مفرِّق بينهما ومغاير، له تأثيره، وله بالبيئة صلته. ولو لوحظ مع هذا أن الأخذ كان تخليطًا وجمعًا، ولم يكن محاكاةً صحيحةً ولا دقيقة، فإن هذا الاختلاف أيضًا بين الأخذ وبين التقليد والمحاكاة اختلاف له أثره، وهو حقيق بالوقوف عنده. ولا محل لاختلاط الأمر بين الذهاب بالفضل والسبق، وبين الوحدة وعدم أثر الإقليم والبيئة، فإن قولهم في تقرير هذا الفضل يقرِّر هو بنفسه الاختلاف والتغاير الذي يعنينا النظر إليه.
•••
وآخر من قولهم قد اعترفوا فيه بالفرق، لكنهم هوَّنوا من شأنه في غير سبب، إلا أنهم أرادوا ذلك، فلقد سمعتهم يذكرون ما أحدث الأندلسيون من التغيير في الشعر العربي بموشَّحاتهم وما إليها من أزجال ونحو ذلك، فيهوِّنون من شأنه بأنه لم يُحدث ثورةً في الأوضاع القديمة في الشعر العربي إلا من حيث الأوزان والقوافي. وهو توهين يخلقه الغرض، وإن كان لا يسوغ في تقدير الفن. فهذه الأوزان المستحدثة كما تعرف لم يُحدثها إلا الضيق بالأوزان القديمة، والشغف بطراز من الحرية الفنية، والسعة الموسيقية التي لا تواتي عليها الأوزان القديمة، ولا تسعف بها أبحرها، وما يكون هذا إلا أثرًا لتطلُّع فني موسيقي خليق بأن يعد شيئًا خاصًّا بأهله له قيمته ودلالته، وما هذا الوزن الشعري إلا إدراك موسيقي يتبع شخصية الشاعر، ويساير جو الموضوع، ويتغيَّر بتغيُّر ذلك كله، فيلون الفن القولي، ويشف عن صنوف من الإحساس تنم عن الأشخاص، وتوائم موضوعات القول، فليس كل بحر يصلح لكل غرض، ولا كل مزاج يستسيغ كل وزن، أو يحس بالشاعرية في التفاعيل كلها على السواء، وما يستطيع هؤلاء القائلون — مهما يكابروا — أن ينسوا أن رواج أبحر الشعر هذه قد تفاوت بتفاوت العصور، وتفاوت باختيار الشعراء، وتغيَّر بتغيُّر الموضوعات، وتأثَّر ذلك كله بالحياة الموسيقية والغنائية، رُقيًّا وانحطاطًا، وإذا لم يكن مجال القول هنا ذا سعة فإنا نكتفي بأن نقول: إن هذا الوزن ليس من السطحية بحيث تسقط دلالته، وتُهمل قيمته، فلا يعد في شيء من الفروق بين فن وفن، ولا يحتسب التغيير فيه والابتداع — على نحو ما كان بالأندلس — ذا أثر في الدلالة على فرق ما بين أصحاب هذا الابتداع وبين غيرهم! وليس إهمال هذا الفرق وتيسير شأنه إلا ضربًا من عدم الدقة التي تؤذي الحياة الفنية، والتي نعتبر نحن القول بالإقليمية خروجًا عليها، أو تلافيًا لنقصها وعلاجًا.
•••
وإن تعجب فعجب أنهم وهم ناشئة المذهب السياسي في تاريخ الأدب، قد لُقِّنوا ربط حياة الأدب بحياة السياسة، يديرون عليه عصوره، ويُتبعونها رُقيَّه وانحطاطه، قد نسوا مع ذلك أو أُنسوا صلة السياسة بالأدب في هذه الناحية، فلم يقدروا فرق ما بين هذا المشرق وذاك المغرب في السياسة، فقد اختلفت المنعة في الجانبين، وتغيَّرت أيما تغيُّر عوامل التأثُّر السياسي في البيئتين، وافترقت افتراقًا — ليس باليسير — المؤثرات الحيوية على السياسة في الأفقين، فلم يكن في الأندلس ذلك النزاع بين الأُسر العربية في الحكم، ولعله لم تكن تحتكم بذلك تيارات دينية أو روحية في سير الحياة السياسية، فلا شيعة غلاة أو معتدلون، ولا طالبيون ولا علويون، ولا زنادقة ولا متصوفة، يعملون في سر أو علن لشيء ممَّا يعملون لمثله في المشرق، ويهزون به أصول الحياة الاجتماعية والأوضاع السياسية هزات عنيفة. هذا إلى ما للأندلس من علاقة قريبة بمن صاقبهم من البشكنس وفلول الإسبان، ومن إلى هؤلاء من الفرنجة المطبقين جمعيًا على هذه البلاد، المناصبين أهلها العداء، الجادين في سبيل إجلائهم وغلبتهم. وكل ذلك وأمثاله من فروق كثيرة بين السياستين المشرقية والمغربية، والحكومتين الأندلسية والشرقية، والبناء السياسي للجماعتين، كل ذلك ممَّا يتصل من قرب أو بُعد بالحياة الأدبية، ففي الشرق أحزاب لها شعراؤها، وأُسر لها مقاولها، وشِيع لها دعاتها. وللعقائد والمنافع، والدعاوة، والاستقلال، ثم للعصبية حينًا، ولغير ذلك ممَّا يشبهه تأثيره العنيف في حياة فن القول، وتوجيهه، ودفع المتفننين في الشرق إلى أغراض ومعانٍ كبرى، ليس لها شبه ولا مثل في هذا الغرب المتميِّز. فما هذه الدعوى المجازفة بوحدة الفن فيهما وحدة تامة!
وممَّا يلقاك به بعض من يتصل بالأدب أو من لا صلة له بأدب أيضًا، منكرين فكرة المصرية، أن يقولوا: أين هذا الأدب المصري فإنا لا نجده ولا نعرفه؟ يعنون بذلك أن ما تناقل الناس من أدب سائر، وما ردَّدوا من أسماء مشتهرة ليس فيه مصري، فقد عرفوا البحتري وأبا تمام والمتنبي والمعري ومن إليهم، وحفظوا من الشعر كذا، وتمثَّلوا بكذا ونحوه من النثر، فما كان بين هؤلاء أسماء مصرية، ولا كان في هذا لذي دار بينهم ما هو مصري.
•••
وتلك فكرة نرى فيها جورًا على المنهج، ما نستطيع أن نلقاه بمثله؛ ذلك أن قضيتنا عامة، إنما تقوم على أثر البيئة في الفنون ومنه الأدب، وهذه المصرية بيئة كملت لها المزايا المتفردة، وتهيَّأ لها التميُّز الواضح، فوجب أن تترك أثرها فيمن فيها من الأحياء، أشياءً أو أشخاصًا، وعلى الدارس أن ينطلق باحثًا عن هذا الأثر، واثقًا أنه لن يخلفه. تلك مقدمات وقضايا ما أحسب فيها ما هو موضع لمشاحة أو إنكار، وكذلك تكون النتيجة لازمةً لها، وهي أن لهذه البيئة أثرًا ما بعينه؛ فاللغة العربية وأدبها ممَّا عاش في هذه البيئة، ووجب أن يكون قد تأثَّر بها، أمَّا أن يكون هذا التأثُّر كذا وكذا لا كيت وكيت، فشيء لم ندَّعه، ولم نتعجل فيه قولًا.
وعلى هذا إن صح في رأي هؤلاء أن تكون هذه العربية قد جفت في مصر، وما نمت، وأن يكون العرب الذين نزلوا مصر قد يكئوا لا يقولون شعرًا ولا نثرًا، وكذلك كان المصريون من أهل هذه البلاد لم يشعروا بهذا التحوُّل الذي تم في حياتهم حين اتخذوا العربية لغةً لهم بعدما اتخذوا — أو اتخذ أكثرهم — الإسلام دينًا، فلْتكن تلك هي النتيجة التي يصل إليها بحث الباحث، ويسجلها راضيًا مغتبطًا؛ لأنه لا يبحث عن شيء يريده أو يفضِّله، ولكنما يبحث عن شيء يصحِّحه ويصدِّقه.
وتكون هذه البيئة المصرية قد استعصت على العربية لم تنفعل بها، أو قد عرض لها من الموانع والعوائق ما حال دون تأثُّرها بهذه العربية، أو ما شأن الله أن قد كان من الأسباب والظواهر، فتلك هي النتائج التي يدوِّنها دارس الأدب المصري في الإسلام.
•••
وإذَن فلْننظر هذه الأمة المصرية التي تشق طريقها في الحياة، وتبني نفسها، فنجد أن هذه العربية لغة قد ماتت بها الحياة الفنية في مصر، وأجدب الوادي أدبيًّا، وتلك آفة لا تصبر على مثلها أمة تشعر بحقها في الحياة، وترنو لأملها في المستقبل. وإذ ذاك فلن ينفع القائلين بالعروبة أو الشرقية، أن تكون مصر هذه عربيةً لا مصرية؛ لأنها لم تعرف من آثار العربية الأدبية شيئًا خلال بضعة عشر قرنًا من الزمن، ولن ينفعهم أن تكون مصر هذه شرقيةً لا مصرية؛ لأنها لم تجد نفسها، ولم تخلِّف أثرًا لحياة لا يمكن أن تفقدها جماعة من الجماعات، وهي تعد في الأحياء، وهي الحياة الفنية، وبخاصة الحياة الفنية القولية.
على أنه مهما تكن هذه النتائج خطيرةً أو يسيرة، فإنا لن نستغني عن دراسة الحياة الفنية القولية في مصر خلال هذا العصر الإسلامي المتطاول، لنخرج من هذا الدرس بصحة النتائج التي يريدها أصحاب هذا القول، ونسجل أن مصر لم تعرف فنًّا مصريًّا عربيًّا يمكن أن تكون قد شعرت به، أو تطلَّعت له، أو حاولته فما وجدته، وإنما كانت تُردِّد في ذلك — إن ردَّدت — آثارًا أخرى صلحت لغيرها كما صلحت لها على السواء، ودفعت حاجة غيرها الفنية كما دفعت حاجتها تمامًا. وإذا كانت مصر هذه بين الأقاليم الأخرى من أقاليم الإمبراطورية الإسلامية أو العربية، هي الإقليم الذي لم يُنشئ، ولم يتفنَّن، ولم يُخلف ثروةً من الفن القولي، وإنما كان عالةً على الشام طورًا، وعلى العراق تارة، وعلى غيرهما أحيانًا، وقد كفاه أولئك حاجته الفنية حتى لم ينهض لها، ولم ينشط لعمل فيها، فتلك في ذاتها — إن صحَّت — ظاهرة تستحق الدرس، ويجل الوقوف عندها لتتبيَّن هذه الجماعة أمرها وتعرف نفسها. وعلى هذا يُدرس «اللاأدب المصري» بهذه القوة والرغبة التي يُدرس بها «الأدب المصري» لنشخص تلك العلة، ونستقر على رأي بيِّن صحيح في صلة هذه العربية بمصر، وتَلقِّي مصر لهذه اللغة، وكيف كان الأمر بينهما خصبًا وجدبًا، وإثمارًا وعُقمًا، وتلك هي دراسة الأدب المصري التي ندعو إليها، بل التي تصبح — إذا صح هذا من كلام القائلين — أشد ضرورةً لحياة مصر وسلامتها، وفهم كِيانها، وتبيُّن مزاجها.
•••
وفي الذي سلف بيان لما سميناه «جورًا على المنهج»، إذ يفرض المعترض أن للدارس رأيًا خاصًّا بعينه، ودعوى مثبتةً يتصدَّى لتأييدها، فينكرها عليه حين ينفي أمامه أن يكون هناك أدب مصري قد وُجد. وهذا الغرض أو التقرير خاطئ منهجيًّا؛ لأن الدارس إنما يبتغي الحقيقة كما تكون، وكما ينتهي إليها، وكما تجيء، لا كما يريدها أو يتمناها، أو يتعصَّب لها.
وشيء آخر من الجور على المنهج في هذا الاعتراض، هو سبق الدراسة بالنتيجة، والتقدُّم بالنهاية على البداءة، فإن وجود أدب مصري أو عدم وجود ذلك الأدب، إنما يثبته درس متصد لذلك يجمع الآثار المصرية الأدبية، أو قل يعرف هذه الآثار المصرية ومواطنها، ويتصل بها، فيعرف أن فيها ما يكافئ هذا المشهور الشائع من الآداب، التي هُيئ لها أن تسير وتروج، أو ليس فيها ما يكافئ هذا المشتهر. وذلك هو ما لم يقم به — ولا بشيء منه — أصحاب هذا الكلام.
•••
ولقد كان يُظن — والحال على ما وصفنا — أن نلقى هؤلاء القائلين بآثار لمصر والمصرية في هذه الآداب الرائجة، وأن نضرب لهم مثلًا بأنها كانت نجعة الرائدين حينًا، ومباءة الناشئين حينًا، فشاركت بذلك في توجيه هذا الأدب المشتهر أو تكوينه، وكان لها نصيبها — الذي تبيَّن أو اختفى — فيمن وفد عليها من هؤلاء؛ ككُثير وجميل وأبي نُواس، أو اتصل بها؛ كأبي تمام والمتنبي ومن إليهما، أو أن نشير إلى مدارس في الأدب العربي باصطلاحهم، كانت مصر مُنضجتها، وصاحبة الأثر الواضح فيها، كالمدرسة الرمزية ومثالها البارز في ابن الفارض، أو نلتفت إلى أثر مصر والمصرية في الأدب بمعنًى أوسع وأعم، فنشير إلى مدارس مصرية، وأعمال مصرية في العلوم الأدبية ومؤلفاتها، وما إلى هذا.
كان يُظن أن نُعنى بشيء من ذلك ونتجه له، ولكن هذا هو ما عددناه جورًا آخر على المنهج، ما نستطيع أن نلقى به جور الذين ننقدهم؛ لأننا نكره أن نشير إلى شيء من ذلك، عن نظير من الرأي، أو ظاهر من الأمر، لم يهدِ إليه درس مستقل، ولا بحث مستقص، إذ لم تُوجه بعد عناية لدرس الأدب المصري، ولا منح ما هو خليق به من الرعاية. فالسبق إلى بعض النتائج قبل وجود ذلك كله جور منهجي، ما في ذلك شك.
وشيء آخر نفسي نعده جورًا آخر، هو أن نكون بحيث نناضل عن فخار، ونذود عن عصبية لإقليم، أو ندَّعي فضلًا لوطن، فذلك ممَّا لا ينبغي أن يكون له في حساب العلم، ودستور البحث، أثر ولا شبه أثر، مهما تكن الأمنية المفاخرة قوية، والرغبة الوطنية متملِّكة، ففي ميدان المفاخر المصرية الأخرى غير الآداب متسع، قد أيَّده الدرس، وأثبته البحث، فيتهيَّأ به الشرف الفاخر، دون جور على حقيقة.
وعندي أنه لا ينتقص مصر في شيء ما، أن تكون قد قعدت عن أن تحدث فنًّا أدبيًّا عربيًّا في عصرها الإسلامي؛ لأنها غنية بفنون أخرى، وفنون في غير هذا العصر. ولكن ذاك كله ينبغي أن يؤخَّر أخيرًا إلى ما بعد الفراغ من الدرس الكامل، والانتهاء إلى شيء ننفيه أو نثبته، عن علم لا عن هوًى، ولا عن نفور من جديد لم يؤلَّف، هو تسمية «أدب مصري»، والتفرُّغ الجاد لدرسه، وفاءً بواجب علمي أول شيء، ثم اجتماعي قومي بعد ذلك.
ويتصل بهذا الذي نحن فيه من بحث فكرة الإقليمية، إيضاح تتفاوت فيه كلمة القائلين بها، حين يبيِّنون مرادهم بالمصرية عندما ينشطون لشيء من درسها، فتسمع مثلًا منهم من يقول:
«يجب أن نلفت النظر إلى أن مصر التي نعنيها ليست هي مصر بحدودها الجغرافية المعروفة، بل مصر بحدودها الفنية التي تجاوزت البحر الأحمر إلى شواطئ الفرات، أو مصر التي كانت تضم فيما تضم إليها البلاد العربية عامة، والقُطر السوري منها بنوع خاص.»
«على أن الدين الإسلامي نفسه لم يعرف الوطنية، ولا العصبية، ولا عرف التفرقة بين الأقطار التي تضمها الراية الإسلامية، وإذا كانت الحكومات المصرية في العصور الوسطى قائمةً على هذا الدين، فمن العبث أن نحاول فهم التاريخ الوسيط في مصر وغيرها على ضوء الوطنية ونحوها من الأفكار. ومن التعسُّف أن نتتبع الدم المصري وحده، أو الشامي وحده، في كل قطر من هذه الأقطار. ومن الخير لنا وللتاريخ أن ننظر إلى المصريين وإلى غيرهم من الشعوب الإسلامية، نظرةً تتفق وروح العصر التي يراد أن يؤرَّخ لها، ولْيكن عذرنا في ذلك أن المصريين كغيرهم من سائر المسلمين، لم ينشأ في نفوسهم ميل إلى التعصُّب الوطني المعروف، أو ليكن عذرنا في ذلك أننا نستعرض تراجم الرجال في تلك العصور، فنرى فلانًا المصري، المقدسي اللخمي! ونرى فلانًا المغربي الإسكندري الشافعي، وقل أن نعثر في هذه التراجم على رجل يقال عنه فقط، إنه المصري، أو على آخر يوصف فقط بأنه الشامي أو المقدسي، وهكذا.»
•••
وفي الحق إنه بعد الإغضاء عن الهنات اليسيرة في هذا البيان للمصرية، يظل هذا البيان يحمل من آثار الضعف ما يؤذي فكرة الإقليمية، بل يفسدها؛ ذلك أنه إذا كنا لا نعني بالمصرية مصر في حدودها الجغرافية المعروفة، وإذا كان من التعسُّف أن نتتبَّع الدم المصري وحده، فماذا بقي من هذه الإقليمية بعد ذهاب الجنس وفقدان أثر البيئة؟! وأي شيء هذا الذي نطمَئن له، ونُطمْئن الناس معنا، من أن الإقليمية إنما هي قضية العلم في تاريخ الأدب؟!
•••
لقد أصاب هذا البيان ضعف مهون، جاءه من محاولة تقدير واقع تاريخي هو امتداد الإمبراطورية المصرية في عصور مجدها، إلى ما وراء حدودها الإقليمية، وامتداد نفوذها السياسي والاجتماعي، وما يتبعه من النفوذ العلمي أو الفني، إلى ما وراء هذه الحدود شرقًا وغربًا. وهو واقع تاريخي يستحق التقدير، ولكن ما هكذا يكون تقديره.
وعدت إلى هذه الفكرة مكملًا لتطبيقها [الأدب المصري – إقليمية الأدب]، فقلت: «ولو قدَّرنا — ونحن مُحقون — أن هذه المدرسة الأدبية المصرية إنما كانت مدرسة الشرق الأقرب كله، مركزها مصر — أو أهم مراكزها مصر — لما بيَّناه سابقًا من تصدُّرها في ذلك العهد سياسيًّا واجتماعيًّا؛ لو قدَّرنا ذلك لعددنا من كتب هذه المدرسة مثل كذا وكذا … إلخ.»
وهذه الإشارة — فيما أحسب — هي التي وجَّهت النظر إلى عدم التزام الحدود الجغرافية عند دراسة مصر أدبيًّا أو علميًّا، لكن لا على أن ينتهي هذا إلى إهدار الأصول الكبرى لفكرة الإقليمية.
•••
ومن طريف اختلاف النظر أن ينظر شابان جامعيان إلى هذه الفكرة حين عُرضت هذا النحو من العرض، فيكتب أحدهما في مجلة أدبية: إن هذا القول بها هدم للشخصية المصرية، ما دامت المدرسة كانت مدرسة الشرق الأقرب كله، إذ لا يكون لمصر خصوصية بها. ويكتب الثاني ما سمعناه آنفًا من تحديد فكرة المصرية، وبيانه معالم الشخصية المصرية بهذه الفكرة، دون التزام الحدود الأرضية، والمميِّزات الإقليمية.
ولا يبدو أن أحدهما قد نظر في دقة إلى هذه الفكرة؛ فالأول قد عد فيضان الشخصية المصرية على ما حولها، وتوجيهها الدرس الأدبي في الشرق الأقرب وجهات تمليها شخصيتها، عد ذلك هدمًا للشخصية المصرية، وعدم إثبات خصوصية خاصة بها. كأنك إذا ما قلت إن مبادئ الثورة الفرنسية قد فاضت على أوروبا في عهدها، ووجَّهت الحياة السياسية والاجتماعية، تكون قد أنكرت خصوصية فرنسا في هذه المبادئ وجهادها في سبيلها! وهو قول لا يحتاج إلى طويل تعليق لإبطاله.
وأمَّا هذا الثاني فقد رأيتموه يأخذ من انتشار الطابع المصري على ما حوله، أن هذا الطابع القوي الذي وجَّه الحياة الأدبية فيما حول مصر من أقطار عرفت النفوذ المصري، في أدوار من التاريخ مختلفة، يكون من أثره أن هذه الشخصية لا تقوم على جنس بعينه، ولا على كِيان متميِّز خاص، ولا تُحَد ببيئة معروفة لها معاملها الجغرافية، وحدودها الطبيعية!
•••
ونحن ننكر هذا الإهدار لمعالم البيئة المصرية، وننكر القول بأن مصر التي تؤرِّخ أدبها، هي مصر بحدودها الفنية التي تجاوزت البحر الأحمر؛ لأن الإقليمية كما أسلفنا في بيان مطول، إنما هي قضية البيئة الطبيعية حيثما تهيَّأت البيئة المتميِّزة المستقلة المنفصلة، التي تكون بهذا التميُّز والاستقلال أهلًا لأن تحتضن شعبًا بعينه، وتُبرز بهذا التميُّز خصائصه المادية والمعنوية. فنحن إنما نقدِّر أن مصر من هذه الناحية قد ظفرت بعوامل التميُّز المادي الكافي؛ إذ قامت عليها حدود من الفواصل العنيفة ذات التمييز القوي، وهي البحار المائية في شمالها وشرقها، تعاونها بحار الرمال في غربها والشرق، والفواصل الجوية والأرضية في جنوبها؛ وبهذا صح أن يكون لهذه البيئة الطبيعية أو المادية مؤثراتها التي تدفع نازليها إلى التفرُّد والتبيُّن، حتى يحق ما قلناه من قبل، ورددناه كثيرًا من قيام الإقليمية الأدبية على أصل علمي واقعي مادي، يمكن معه القول بأن هذا التميُّز الفني إنما هو قضية العلم في تاريخ الأدب، فتكون هناك الشخصية المصرية بمعالمها الواضحة، ومقوِّماتها المميزة، ثم تؤثر تلك الشخصية بعد ذلك فيما حولها شرقًا وغربًا، ويفيض أثرها على ما حولها.
وأمَّا ما أشار إليه متناسي الحدود الجغرافية من أن الإسلام لم يعرف الوطنية ولا العصبية، ولا عرف التفرقة بين الأقطار التي تضمُّها الراية الإسلامية … إلخ، فهذا شيء ما إن ننكره، ثم ما إن نقدِّر أثره تقديرًا خاطئًا.
هو تدبير علَّمه الإسلام للناس، ودعاهم إليه، وعمل لتحقيقه، لكنه ليس إلا أملًا مثاليًا دفع إليه الحياة، وهذا الأمل المثالي مهما يكن له من قوة الدعوة وصحة النظرة، ولطف التدبير، وحسن التناول، فلن يأتي على الواقع الطبعي نسخًا وتبديلًا، ولا إعدامًا وتبديدًا، وإنما يحاول أن يوفِّق ما استطاع بين غايته وبين هذا الواقع، أو إن شئت الدقة في الملاحظة، فقل إن نواميس الحياة تعمل لهذا التوفيق عملًا يُحقِّق المستطاع من تلك المثالية، بقدر ما تستعد الواقعية لتقبُّلها ومجاراتها، وقد يكون هذا الاستعداد قليلًا وضئيلًا فتكون النتيجة المتحقِّقة من التوفيق بين المثالية المرجاة والواقعية المحتكمة، نتيجةً يسيرةً هينة، وبطيئةً متأخرة. خذ لذلك مثلًا قريبًا، لك بالحديث عنه عهد قديم، هو العصبية العربية، فقد أنكرها الإسلام وحاربها، وقاوم مثيراتها، فهل ترى الحياة منذ قال الإسلام ذلك ودبَّر له، قد غيَّرت طبيعة العرب واستلَّت العصبية من نفوسهم استلالًا ردَّهم أبرارًا غير متدابرين ولا متناحرين؟! لعل الحياة إنما جرت في مجراها الواقعي، متأثرةً في ذلك بالممكن من مقاومة العصبية، وكان ذلك الممكن قليلًا يسيرًا، ففتكت العصبية العربية بالشخصية العربية نفسها، والنفوذ العربي ذاته، على ما هو معروف مقرَّر، وكان ذلك قريبًا بعد يسير من ظهور الدعوة الإسلامية.
•••
فوجه الرأي في هذه المسألة أن دعوة الإسلام كانت عاملًا مقاومًا، أو ظرفًا غير ملائم لشيوع الوطنية واحتكام الإقليمية؛ فأخَّر ذلك ظهور الوطنيات، واستقلال الدولات حينًا ما — ربما لا يكون طويلًا في عمر الأمم — ولكنه لم يوقف ذلك أبدًا، ولم يعدمه أبدًا. ثم أثَّر ذلك في صرف بعض قوى الأمة إلى نواحي الإخاء الشامل خارج حدود البيئة والإقليم، فأخفى بعض الخصائص الإقليمية مؤقتًا، أو غطَّاها إلى حين ما، ولو تُركت تعمل عملها دون مقاوم معوق، وفي ظرف ملائم مناسب؛ لسخَّرت كل قواها لإظهار نفسها، وتثبيت شخصيتها، فكانت تظهر الوطنية مبكرة، وتبدو الشخصية الإقليمية بطابعها الواضح في كل شيء لا يزاحمه ظل من نسيان، ولا جنوح إلى تأخير أو تنحية، في سبيل إرضاء عواطف دينية أو اجتماعية، تؤيدها عقيدة أو فكرة مسيطرة يُدعى لها.
ومن ذلك مثلًا أنك ترى الحجاز بمدنه ومعالمه، يحتل مكانةً واضحةً في الآداب الإقليمية المختلفة شرقًا وغربًا، بفضل العقيدة الدينية، وأنه مركز الحرمين المكي والمدني، وموضع شعائر فريضة الحج، فترى شعر التوسُّل، والمدح النبوي، يظهر في الأقاليم المختلفة كذلك، ويتردَّد في آدابها ذكر الأماكن الحجازية كثيرًا، مهما تكن ظواهر الإقليمية في أدبها واضحة قوية، ومهما يكن لها من شخصية جلية واضحة المعالم؛ لأن هذه الاعتبارات الدينية خليقة بأن تداخل ذلك كله، وتخالط ملامحه ومعالمه. أمَّا أن ذلك أو أكثر منه من الاعتبارات، يدعونا إلى اطراح مشخِّصات البيئة وخصائصها، فننكر أثر الحدود الجغرافية القوية الفاصلة، ونهمل مقومات الشخصية؛ لأن البيئة قد امتد أثر أهلها إلى خارج حدودها الأرضية، أو ظهرت آثارهم فيمن حولهم من مناطق أو أناسي، فذلك ما لاحظَّ له من الصواب. وليس من الحق في شيء أن يمضي قائل بالمصرية على غير هدًى، فلا هو قال بفكرة المتساهلين المتوسِّعين بين المفترقات والمختلفات، ولا هو حافظ على دقة المدققين الذين يريدون أن يثبتوا الفواصل والفروق، ولو دقَّت واستبهمت! ذلك ما لا نحبه لأصحاب المصرية، وإن كان لهم عذر ما في فترة الانتقال الحاضرة.
والآن وقد وضَّحت فكرة المصرية، وجادلت الإقليمية عن نفسها نريد لننتقل إلى وصف المنهج الذي تحب أن تخضع له دراسة هذا الأدب.
«درسنا للمعاني يدور على قسمين؛ هما معانٍ جزئية أو مفردة أو صغرى، ومعان كلية أو مركبة أو كبرى. وأساس هذا التقسيم أن هناك عناصر مفردةً يتكوَّن منها جزء من عمل المتفنن، وتلك هي المعاني الجزئية أو المفردة أو الصغرى. ثم هناك الأجزاء التي يتألَّف من مجموعها صورة كاملة لعمل المتفنن، وهي المعاني الكلية أو المركبة أو الكبرى. ولإيضاح هذا نقول: إن هناك ألوانًا وخطوطًا يتألَّف منها عضو من أعضاء الصورة الفنية، ثم هناك الأعضاء يلتئم من مجموعها صورة تامة لشيء. فالألوان والخطوط الأولى هي المعاني الجزئية أو المفردة أو الصغرى، والأعضاء والأقسام الرئيسية هي المعاني الكلية، أو الكبرى، أو المركبة. مثال ذلك أنك تريد في دفاع لك أن تصف هول جريمة، وتُصوِّر فظاعتها، وترسم لذلك صورةً بشعةً تستثير نفس القضاة على المجرم، فالأسلحة المستعملة في تلك الجريمة وشناعتها جزء من هذه الصورة، وقسوة مرتكب الجريمة وتعذيبه لفريسته جانب آخر، وشباب المجني عليه وفتوُّته، وازدهار أمله في الحياة ناحية كذلك، وكفالة هذا المجني عليه أطفالًا صغارًا وكبارًا وعجزةً يعولهم، وقد خلَّفهم وراءه مشرَّدين جانب أيضًا. فتلك كلها أجزاء ونواحٍ تبتغي أن تُكمِّل منها صورةً رهيبةً لجريمة المجرم وأثرها. وهي معانٍ كبرى، أو معانٍ مركبة، وفي إخراجك لكل واحدة منها لا بد لك من معانٍ مفردة، في وصفك السلاح، أو في وصف القسوة، أو في وصفك المجني عليه، وما إلى ذلك. وفي كل واحدة منها تعمد إلى اختيار مفردات بعينها، أو تراكيب بذاتها، وتتجوَّز أو تستعير أو تُكنِّي أو تُشبِّه أو تلتمس من وسائل الأناقة في قولك، ما يجعل سامعك يشعر معك بما تريده من ذكر هذا السلاح وغيره من الأجزاء التي كَوَّنت منها صورتك. فتلك هي المعاني الصغرى، أو الجزئية، أو المفردة، يكتمل من كل منها جانب من عمل المتفنن، إذا ما تضامَّ مع غيره كوَّن الصورة التامة. وكذلك يفعل المتفنِّن إذا ما رثى، أو مدح، أو قص وروى، أو خطب ودعا … إلخ. في كل واحد من هذه الأنواع مناحٍ يجول فيها، وأغراض يجلبها هي معانيه الكلية أو … أو … إلخ. وبيان كل ناحية وغرض بما يتخيَّره ويُؤثره صاحب القلم في استعمال المفردات والتراكيب؛ فالمعاني الجزئية أو المفردة، تكون في مفرد أو جملة، وأمَّا المعاني الكلية والكبرى فتكون في فقرة أو فِقَر، أي في أكثر من جملة.
وفي المعاني المفردة تتجلَّى الصورة الواضحة، من الفرق بين الآداب المختلفة للأمم المتعددة؛ لأنها أصدق ما تكون تأثُّرًا بالبيئة الطبيعية والمعنوية، وأشد ما تكون ارتباطًا بمدنية الأمم وحياتها الاجتماعية. ومن هنا نرى من التشابيه والاستعارات والكنايات، في أدب أمة ما يهش له بنوها ويطربون، على حين أن هذا بعينه ربما لا ينال من نفوس آخرين منالًا، ولا يتجلَّى لهم به معنًى، ومن أمثلة ذلك أنك ترى الإيطاليين يُشبِّهون فيقولون: «طيبة كالخبز»، «وحيدة كالأسبراجو»، «وهو يرتقب الفرصة ارتقاب الخنزير للقسطل». ويشبِّه الإنجليز فيقولون «كسمكة في الماء». وربما لا يُسيغ الذوق العربي ذلك كله، أو لا يكون له أثر في إيضاح غرض، على حين تسمع مثلًا من قول العرب: «يُقعي جلوس البدوي المصطلي»، «وكأنه عَلَم في رأسه نار»، و«كجلمود صخر حطَّه السيل من علٍ»، «وآثار السيوف كمشافر الإبل القرحي». وليس شيء من ذلك يدور بخَلَد غربي لم يرَ الإبل في حياته، ولا اصطلى مُقعيًا، ولا أوقد نار القِرى.
ويستعير الغربيون فيقولون: «يتبوَّأ مكانه تحت الشمس»، «وهو يتكلَّم في سن الشوكة»؛ أي بدقة وأناقة، «وهو يغسل رأس الحمار»؛ أي يضع الجميل في غير موضعه، حين تقول العرب: «يجر النار إلى قرصه»، «ويضع الهناء مواضع النقب»، «وتثلج له الصدور»، «وهذا تُشد له الرحال وتُضرب له آباط الإبل». ولو قُدِّرت الأساطير التي يُخلدها أدب كل أمة، واستمداد هذه الأساطير صورها من صميم البيئة التي خلَّدتها، واعتماد كثير من الاقتباس والاستشهاد والتمثيل والتشبيه على هذه الأساطير؛ لبدا لك جانب واضح للتخالف.
وإلى جانب هذا وحْي البيئة إلى نفوس أصحابها، بعواطف ومشاعر في قوة معينة، أو لها قدسية خاصة، أو يؤيدها إصرار عنيد، على حين تجعل هذه البيئة مقدس الآخرين مضحكة هؤلاء، وقربهم بعيدًا على غيرهم، وهكذا.»