كيف ندرس الأدب المصري؟
(١) أدب وتاريخ أدب
كان القدماء يدرسون المتن الأدبي من النثر والشعر على النحو الذي نعرفه، فيخدمونه لغويًّا، ونحويًّا، وبلاغيًّا، وبعد تفهُّمه باستخدام هذه المواد وما إليها؛ يتذوَّقونه، وينقدونه على هدى هذا التذوُّق الفني، وكذلك فعلوا في كتب الأمالي والمجالس، أو في كتب الموازنة والنقد. وأثناء هذا الدرس كانوا يوردون ما لا بد منه لفهم النص من خبر أو قصة، يتم بها فهم ملابسات المتن. وجوُّه الزمني أو المكاني أو النفسي، الذي يزيد فهمه وضوحًا وبيانًا، فكانوا يدرسون مع المتن «ما حول المتن» من هذه المبينات، كما نراهم في جمع دواوين الشعراء، يوردون في ثنايا القصائد ما لا بد منه من ذلك، فيذكرون زمن القصيدة وسببها ومن قيلت فيه، وما قيلت فيه، ويستوفي شُراح الدواوين ما وراء هذا من بيان ذلك الجانب الذي سمَّيناه «ما حول النص».
تلك هي دراسة الأدب، أمَّا ما بعد ذلك من تاريخ الحياة الأدبية جملة، والنظر فيها من هذا الجانب نظرًا مفردًا، وتبيُّن خطى سيرها ونظام تنقُّلها، فذلك ما لا نعرف لهم فيه البحث المفرد ولا العناية الواضحة. ولعل ذلك لما كان يطمئن إليه العقل إذ ذاك في فهم التاريخ وتصوُّره مقصورًا على التاريخ السياسي، بأخص معناه، وإدارة الحياة على الحكام وعهودهم وولاياتهم ووفياتهم، وما يتصل بهذا.
وإذا كان في ذلك من الأخطاء ما فيه، فإنما تعنينا الإشارة هنا إلى أننا ذهبنا في دراستنا الثانوية أو العالية على السواء، نَصف تلك العصور أوصافًا مجملةً جامعةً شاملة، دون أن نبذل ما يجب من جهد لدرس الأدب، أو الحياة الأدبية في هذه العصور. فالعصر العباسي مثلًا أو الأموي، أو ما لُقبوا من ذلك، توصف فيه حياة الشعر وفنونه، أو حياة النثر — حينما يريدون بالأدب العربي معناه الخاص — ولكن كيف استقامت هذه الأوصاف؟ وهل درسنا أصحاب الشعر في هذا العصر، أو أصحاب النثر؟ أو قل هل هيَّأنا مواد الدرس اللازمة فجمعنا ثروة هذا العصر الأدبية، وحقَّقناها، ومكَّنا الدارسين منها؟ لم نفعل ذلك ولا حاولناه، ولا قمنا بشيء من الدراسة المفردة لشعراء هذا العصر أو كُتَّابه دراسةً أدبيةً بمعناها القديم، نتذوَّق بها آثارهم وما خلَّفوا، أو ما وصل إلى يدنا من تلك الآثار والثمار. ما لنا دراسة جامعة شاملة لهذه الآثار، ولا لنا دراسة جزئية خاصة لفن بعينه من آثار شاعر أو ناثر، ولكن لنا رغم ذلك أحكامًا أدبيةً عامة! وتسأل نفسك، وتسأل أصحاب هذه الأحكام: كيف تهيَّأت لكم أحكام عامة شاملة مجملة كلية، قبل أن يصح لكم علم، وتتم لكم معرفة، بل قبل أن يصح لكم ما يشبه العلم والمعرفة بمواد هذا العصر وجزئياته، حتى تصدروا على ذلك بأجمعه حُكمًا كليًّا عامًّا؟ تسألهم فلا تجد عندهم جوابًا، ولا تجد السبيل إلى تسوية المسألة في نظرك ومع نفسك.
ولكن القافلة تسير، والضجيج يدوي، والحياة راتبة قارة، راضية مطمئنة، فلا محاولة ولا شبه محاولة للاتصال بالآثار الأدبية وجمعها وتحقيقها، ولا دراسة موزعة أو منظمة، ولا شبه موزعة ولا منظمة لفنون هذه الآثار فنًّا فنًّا، وكيف تكون هذه الدراسة وموادها لم تُجمع، بل لم تُعرف؟!
وليس الأدب بمعناه العام — كما يقولون — أحسن من ذلك شأنًا؛ فكذلك يتناولون الحياة العقلية على اختلاف فروع المعرفة والعلم، بدراسة جامعة وأحكام شاملة، دون جهد ما في سبيل جمع مواد درسها، وآثارها، ودون وقوف ما عند رجالها وأعلامها، وقوفًا يتهيَّأ من مجموعه فهم دقيق صحيح للعصر إذا أريد ذلك. ورغم كل هذا فالكتب تؤلَّف، والجامعة تعيش، والرحى تطحن، والدولة تبذل، ودعوى النهوض والتجدُّد تخرق الآذان في الوادي، والرضا شامل، والطمأنينة سابغة!
•••
ولْنترك هذا كله مؤقتًا، لنسأل هل كان يجب مع هذه الحال، أن يكون تاريخ الأدب مادة ثقافة في الدراسة الثانوية، تزجى فيها تلك الأحكام القاصرة، أو الأوهام المقرَّرة، يزدردها الفتيان ما تزدرد النعام الحصى، ثم يتقدَّمون إلى الدراسة العالية الأدبية وقد سمعوا ما قيل، ومن يسمع يَخَلْ؟ فاستقرت لديهم فكر هيهات أن يقدروا معها أن الميدان خال، بل مقفر، وأن التاريخ الأدبي، بل السياسي أيضًا، مَجهل لم يُخض، ومفازة لم تُكشف، وأن هذه الأحكام الشاملة لا يقيمها أساس أي أساس، من بحث أو درس، أو معرفة بآثار هذه العصور؛ فيمضون يردِّدون ما ردَّدوا، في توسُّع يحسبونه فتحًا مبينًا، وعملًا جامعيًّا خطيرًا، ما داموا يجعلون من السطر ورقة، أو من الصفحة كُراسة، بمثل ما ينفث الغلام في كرة المطاط، فإذا هي قبة طائرة!
•••
ليس يعنينا والأمر منهجي على أن نقف طويلًا عند خاطئة أخرى، هي أن هؤلاء الفتية يستبقون من الحياة طرائق قددًا، فمنهم المزارع، والمهندس، والطبيب، والقانوني، وصاحب العلم الطبيعي، ومعلمه، وغير هؤلاء من ذوي الفنون أو الشئون العامة، فما لهؤلاء جميعًا وتلك القضايا التاريخية العامة عن حياة الأدب، حتى لو كانت قضايا صحيحةً محققةً قد انتهى إليه بحث، وأيَّدها درس؟! فكيف بها وهي على ما علمنا من وهن الأساس، واضطراب القول، ومبالغة التزيُّد؟! بحسب هؤلاء لو كانت هناك دراسة صحيحة لتاريخ الأدب، أن يقصروا على الدراسة الصحيحة للمادة الأدبية، يتأثلونها ويتذوَّقونها، فيصيبون منها معونةً على استعمال اللغة في الحياة، والوفاء بأغراض النفوس من فنون القول.
•••
هذا في الدراسة الثانوية التي ندع إصلاحها إلى مكان القول فيه؛ فما هو من شأننا هنا. وأمَّا الدراسة الأدبية العالية، فما كان عجيبًا أن يقدر فيها ما بسطناه من الاعتبارات، وندبِّر لتحقيقها.
وهل كان بدعًا من الأمر أن تسير تلك الدراسة الأدبية العالية المتخصصة عندنا مع حاج الحياة، وعلى تدرُّجها؟ فتختلف الدراسة في جيل عن جيل، كما كان ذلك مسايرًا للحياة الأدبية في الأمة العربية منذ عرف تاريخها في التحضُّر. أعني أنه كان يكون لدينا جيل أو أجيال يدرسون تحقيق النصوص، وتصحيح المتون، ويُلِمون بأصول ذلك وقواعده، ويكون هذا عماد دراستهم التاريخية الأدبية، إلى جانب ما يؤخَذون به من دراسة المتون الأدبية حفظًا وشرحًا وتذوُّقًا؟
ثم إذا ما اكتمل لنا ذلك، كان لنا بعدهم جيل أو أكثر، يدرس رجال هذا الأدب، أو وجوههم البارزين واحدًا واحدًا، يُلمون بأدبه، ويدوِّنون خصائصه، بعد أن يكون قد أحصى، وحقَّق، وشرح.
ثم يكون لنا جيل أو أكثر، يدرسون عوامل التأثير في الحياة الأدبية عاملًا عاملًا، يتتبَّعون ذلك جمعًا وضبطًا، ثم فحصًا وتحقيقًا.
ثم يكون لنا أخيرًا وبعد ذلك كله من يستطيع الكلام في العصور جملة، وبأحكام عامة، إذ يجد مواد هذه العصور الجزئية مجموعة، ثم محقَّقةً وممحَّصة، ثم مدروسةً ومقدرة، كما يجد حواليها المؤثرات في الحياة الأدبية مجموعة، ثم مدروسة، ثم مؤرَّخة.
وبهذا تقوم تلك الأجيال بالعمل الطبعي، في تكوين التاريخ الأدبي لأمة طويلة العمر، تقادِم العهد بلغتها، فأفنت بضعة عشر قرنًا. وهي يقظة ناشطة مثمرة، تكفي حاجات الملايين في مختلِف الأقطار والأنحاء من الدنيا القديمة، ثم من الدنيا الجديدة أخيرًا. وهو العمر الطويل، لم يُتَح للغة ما، ولم يتنفس به أدب ما من آداب العالم. وهو الامتداد الفسيح المدى، لم يكد يتهيَّأ كذلك للغة في هذه الأنحاء من الأرض، على ذلك التطاول من العمر.
•••
وهل يبدو هذا المسلك في الدرس غريبًا حينما نصفه الآن، مع أن هذا التدرُّج هو الذي كان طريق سير الدراسة الأدبية، فيما مضى من العصور، على ترتيب الزمن ومقتضى الحاجة؟! ألم يكن المتأدِّب أيام غلبة البداوة يتأدَّب بملازمة الشاعر يتبعه ويروي له، ثم راح بعد المشاركة في التحضُّر يتأدَّب بالخروج إلى البادية، يأخذ عن الخلص فيها. أو جعل يتأدَّب باستقدام البُداة إلى المدن والقصور، ثم مضى يتأدَّب بالرواية والتلقي والحفظ، ثم صار يتأدَّب بالإملاء والتدوين، ثم تحوَّل يتأدَّب بالدرس والقراءة … إلخ، ما كان من خطوات ذلك مسايرةً للحياة؟
لقد كان ينبغي أن يكون تأدُّب المتأدبين اليوم فينا، منذ أردنا مجاراة نهضات الأمم، بالعناية الموفرة على مرحلة الدرس التي تتطلَّبها طبائع الأشياء، ويقوم بها سداد العوز. ولكنا لم نفعل، ولا أدري متى سنفعل؟ فقد بدأنا من النهاية فلم نُقم آخرنا على أوَّل صحيح، ولا صحَّحنا أولًا ليُقام عليه بعدنا آخر، يتولاه غيرنا. فمتى يُصحَّح هذا ويستقيم فيه سير الدرس الأدبي، والنظرة الأدبية إلى حياة هذا الشرق؟!
بين الأدب وتاريخ الأدب
على أن وراء ذلك كله شيئًا لا يمكن إغفاله، وهو اضطراب الأمر فيما بين الأدب وتاريخ الأدب؛ ذلك أن هذا التاريخ الأدبي إنما مادته الكبرى هي المتون الأدبية نفسها، يجب أن تُفهم وتُتمثل، لتُؤرَّخ ويُؤرَّخ أصحابها. ثم هذا الفهم الصحيح للمتن الأدبي يقوم على أشياء؛ منها ما يعد الآن من التاريخ الأدبي نفسه، مع أنه لا بد منه لفهم هذه المتون على وجهها! فكيف يكون الأمر ما دامت الحال على هذا الدور بينهما؛ يقوم تاريخ الأدب على فهم الأدب، ويقوم فهم الأدب على شيء «يُعد من تاريخ الأدب»؟!
أحسب أنه كان من هذا الاضطراب أن اضطرب منهج مؤرخي الآداب عندنا، فلم يقيموا درس تاريخ الأدب على أساس من فهم الأدب نفسه، ذلك الفهم الكامل المتعمِّق، بل راحوا يلتمسون ألوانًا من الفروض والاحتمالات، لا سند لها ولا أساس، بنوا عليها هيكلًا ورقيًّا من تأريخ الأدب. وأكثر هذه الفروض يُنتزع انتزاعًا من وادي المشابهة المزعومة، التي تقام على أيسر وجه من الشركة بين الأدب العربي في عصر من العصور، وبين أدب أمة أخرى في عصر ما من عصورها، فينتزعون من هذه المشابهة التي يكفي القائل بها أن يجد لها بوادر لائحة، ومخايل مخيَّلة — مهما تكن بعيدة — لينتزع منها مسالك لسير الحياة الأدبية، على صور المسالك والاتجاهات التي لمحها مؤرخو الآداب المحققون عند أهل هذه العصور في الأمم الأخرى. فآونة ترى صورةً من الحياة اليونانية القديمة، أو الرومانية القديمة، أو هي الفرنسية الحديثة، أو لتكن الإنجليزية الحديثة، تقتسر الحوادث على أن تسير في طريقها وتُفسَّر بمعالمها؛ وهي من ذلك بعيدة جد البعد غير ملتئم أولها مع آخرها. وسر المسألة أن هذا الأدب العربي المؤرَّخ لم يُدرس درسًا يفتح مغالق الطرق التي مر بها، وهؤلاء الأدباء الذين صنعوه لم نفهم حياتهم، فتفهم بذلك آثارهم، وتستبين أغراضهم، وتتضح مسارب هذه الاتجاهات والنزعات إلى نفوسهم؛ فلم يبقَ للدارسين المستريحين إلا هذه المشابهة الظاهرة، فالفروض المنتزعة من المشابهة المزعومة، فالضغط القاتل الحاطم الذي يضع هذه الحياة الشرقية، وهذا الأدب الشرقي في قوالب الحياة الأخرى البعيدة التي شُبهت، بها لمخايل لائحة من بعد!
•••
وما يعنينا هنا أن نبيِّن في إسهاب مآثم هذه الاتجاهات الفرضية وما ماثلها في حياة الدراسة الأدبية. إنما الذي نقصد إليه أولًا هو بيان أثر هذا التدخل بين الأدب وما هو من تاريخه؛ لنلفت إلى وجوب تنسيق الدراسة الأدبية، مع وجود هذا الذي يبدو من التراكب والتداخل، في فهم المحدَثين للأدب وتاريخ الأدب.
•••
وأساس هذا التنسيق — فيما يبدو لي — يستقر على ما قدَّمت آنفًا من فهم دقيق لتاريخ الأدب، وأنه ليس إلا تبيُّنًا لمظهر من مظاهر الحياة الإنسانية في سيرها وتدرُّجها، وتفهُّما لتطوُّرها وانتقالها؛ كيف كان ذلك؟ وكيف تم؟ وما معالمه الخاصة به المميِّزة له، في جوه المعين، غير مضبوط بمعالم أجنبية من اعتبارات سياسية، أو فواصل من الدول والأسر على ما يفعلون؟
وهذا التاريخ الأدبي إنما هو وصف علمي بقدر ما تستطيع الطاقة الإنسانية، للون من ألوان الحياة الفنية في وجود الجماعات البشرية، وصف يرصد نواميس تلك الحياة ويسجل ظواهرها، ويكشفها للدارس، كما يكشف البحث العلمي حياة كائن من الكائنات، ويعرِّف بمعالم ذلك وقوانينه. وهذا المعنى المرجوُّ في تاريخ الأدب والأدباء يباعد كثيرًا بينه وبين التشبُّث الساذج بالسنين والأعوام، والأماكن، والسرد القصصي، لواقعات الحياة وأحداثها، كما يجعل هذا التاريخ الأدبي يفرق من أن يطلق هاتيك الأحكام العابرة الفضفاضة عن حياة عصر، ووجود فن، وطابع متفنِّن، وخصائص فرد أو جماعة، على نحو ما يطلق ذلك اليوم، في سهولة مستهينة، ويسر مستخفٍ.
وهذا المعنى المرجوُّ في تاريخ الأدب يقطع الطريق على مثل هذا كله، حين يتمثَّل وعورة السبيل، وخفاء المعالم، وصعوبة المطلب، وجلال الغاية؛ فيطيل الدرس، ويمعن في التأمُّل، ويحسن التثبت، ويجيد التدقيق، ويجعل كل هذه الهنات التي اكتفينا بها في تاريخ الأدب، وخُدعنا بها عن الواجب الأمثل فيه، يجعل كل هذه مقدمات أولى، يمكن أن تُخص باسم «ما حول المتن الأدبي»، أو «ما لا بد منه لفهم الأدب»، أو «أدوات الدرس الأدبي»، أو ما شئت أن تتخذه من أسماء مُشبهة لذلك، لا جناح عليك في تخيُّرها، فإنما موضع العناية عندي أن تشعر بأن هذه المحاولات كلها، شيء يتيسَّر به درس النص الأدبي، ويجعلك تفهم المتن فهمًا مجديًا، له أثره في تكوين الذوق الأدبي، أو تكميل شخصيات الموهوبين من دارسي الآداب، بإرهاف أذواقهم، ثم له بعد ذلك معاونته الهامة في تحقيق التاريخ الأدبي على النحو الذي تمثَّلناه آنفًا.
وبهذا لا يكون هناك تداخل ولا تراكب بين صنفَي الدراسة، ولا دور في فهم الأدب وتاريخ الأدب حتى يتوقف كل منهما على صاحبه — كما يقول المتكلِّمون — إذ تكون الحقائق التاريخية أو الاجتماعية التي لا بد منها لفهم الأدب، من مواد دراسة الأدب وأدواتها. ثم إذا ما تم هذا الدرس على النحو المبتغى؛ فكَّرنا في كتابة تاريخ الأدب، تلك الكتابة الصحيحة الدقيقة التي تجرؤ على تقسيم العصور وتبيين معالم الأدوار، على هدًى من الاعتبارات الفنية المحتكمة في حياة الأدب نفسه، وعلى بيِّنة من حال هذا الأدب، حتى يبدو فرق ما بين العصر والعصر، وحد ما بين الدور والدور، جليًّا متميِّزًا. ثم تقدم لك من وصف العصر وخصائص العهد، ومسير الحياة الأدبية فيه، ما هو بيان حقيقي لحياة الفن القولي، لا التماس لظواهر موهومة، وفروض مفروضة، تُنتزع من بوادر لائحة، أو ملامح متخيَّلة، أو شواهد خاطفة. وإذن فلن يُعنى هذا الوصف التاريخي للحياة الأدبية — أي تاريخ الأدب — بأعلام الأدباء وتحقيقها، ولا بسِنِي الميلاد والوفَيَات ورصدها، ولا بأحداث حياة هؤلاء الأدباء مع فلان الوالي وفلان الحاكم، ونحو هذا؛ لأن تلك كلها قد ذهب بها درس ما حول الأدب، ولأن تاريخ الأدب إنما يعنى بما وراء ذلك جميعه من قوًى محرِّكة، وتيارات موجِّهة، ونواميس ضابطة. بعدما قد فرغ الدارس من فهم كل ما هو ضروري لذلك من أخبار وأحداث، وفرغ من الفهم النفسي لآثارها الفردية والاجتماعية … من الفهم الاجتماعي لنتائجها المترتبة عليها، كما قد فرغ من تقدير ما خلف ذلك من أثر في متون الأدب ونصوصه؛ ومن فرغ من كل أولئك فقد استطاع أن يستشف الخفي من هاتيك القوى، وتلك التيارات، وأولئك النواميس المتصلة بالحياة الأدبية، والتي يحاول المؤرِّخ التحدُّث عنها والتصدي لوصفها، فتكشَّفت له الحياة الأدبية ومسارب تطوُّرها وخطوات تدرُّجها، كما يتمثَّلها التاريخ بمعناه الصحيح ومفهومه الحديث، حينما يتحدَّث عن صنوف الحيوات الإنسانية المختلفة من دينية ودنيوية، ومعنوية وعملية.
•••
ثم الإلمام التام بما حول هذا المتن الأدبي من اعتبارات عملية ومعنوية، مادية ونفسية، فردية واجتماعية، كالحوادث الملابسة، والبيئة المؤثِّرة في صورتيها المادية والمعنوية، بأوسع ما تدل عليه البيئة.
ثم فهم هذا النص بهدايةِ تلك الأضواء الحافة به، ومع الاعتماد على وسائط هذا الفهم من علوم العربية وفنونها الأدبية التي لا بد منها؛ لإدراك النص الأدبي في لغة من اللغات؛ وبذلك يتم درس الأدب في معناه الصحيح.
وإذا ما تيسر ذلك كله استطاع مؤرخ الآداب أن يلمح على مصوِّر الحياة مناطق متميزة، وفوارق واضحة، أعتقد أنه باستبانتها قادر على تأريخ الحياة الأدبية ووصف أدوارها، ثم هو قادر في وصف هذه الأدوار، على بيان مسالك الحياة الأدبية فيها، وكيف سارت، فأسرعت أو أبطأت، أو توقَّفت، واعتدلت أو انحرفت، أو تذبذبت، وارتفعت أو انحطَّت أو جمدت، وأشباه هذه النتائج التي تستطيع الأمة بالنظر إليها أن تعرف هدفها من طريق التدرُّج وسبيل التطوُّر في الفن، وأن تدرك أين يقع حاضرها من ماضيها، وأي مستقبل فني وراء هذا كله ينتظرها. كما تستطيع الأمة أن تظفر بمثل ذلك في حياتها الاقتصادية إذا ما أرَّختها، أو حياتها السياسية إذا تتبَّعتها، أو غير هاتين من جوانب الحياة حين تدرسه.
•••
هذا هو الأدب، وذاك هو تاريخ الأدب — فيما أفهم — أمَّا أن ذلك يسير سهل، أو عسير شاق، وماذا يحتاج من زمن، أو جهد، أو تعاون، فما يعنيني أن أقف عنده لأبتهج بيسره إن كان يسيرًا، أو أهوِّن من عسره إن كان عسيرًا؛ لأنه واجب، ولأنه لا بد أن يتم، ولأنه سيقوم به من يتمه إذا قعدت بنا وبمن قبلنا الهمة عنه، وستكون لنا لذة المعاناة، ثم غبطة الظفر، إذا ما تهيأ لنا إتمام شيء منه، ولكل عامل من الظفر ما أراد وطلب.
تلك هي الخطة التي ندعو إليها جادين، ونحاولها مجتهدين، ونطمع أن يكون لتلك الدعوة، وهاتيك المحاولة أثرهما في نهوض حياتنا الأدبية، ومهما يحملنا التواضع على التهوين من شأن ما نستطيعه وما نقدر عليه فيها، وما تقوم به لها، فإن هذا التواضع لن ينسينا دقة نظم الكون، حتى ما يتخلَّف أثر عن مؤثِّره، ولا يضيع عمل مهما يكن يسيرًا أو صغيرًا. والأمل معقود دائمًا بأن ما انغمر من هذا كله، أو خفي عن الإعلان، لن يخفى على حس النواميس الاجتماعية، ولن تخطئه عين الدهر، ولن يفوت أذن الزمن، وإن أعوزه الدوي الصاخب، والضجيج اللافت، والصيت الكافي، فما زال حجر الأساس لا تراه الشمس ولا يغمره النور.
حضرة صاحب العزة عميد كلية الآداب
لعلي حين أتحدث إليكم أنتم عن الجامعة ورسالتها، أكون أغنى الناس عن الإشارة، إلى ما كابدت مصر المجاهدة في سبيل الجامعة، وما رجت مصر — ولا تزال ترجوه — من الجامعة. ثم ما على كلية الآداب بخاصة من واجب، وما يُناط بها من أمل، في رعاية الحياة الأدبية في مصر، وتوجيهها والتدبير لذلك كله، والجهاد في سبيله. كما لا أجد بي حاجةً في هذا المقام، إلى الإشارة لشيء من نواميس الاجتماع، في النهضات وأدوارها، وما تقوم عليه من عناصر، فأدع الحديث في شيء من هذا كله؛ لأنكم تقدرونه خير التقدير، بل تحسنون الدعاوة له.
•••
وأتحدث في موضوعي مباشرةً فأقول:
إن النهضات فيما عرف التاريخ تقوم بعناصر؛ من ميراث يُتلقَّى عن الأسلاف، ثم تلقيح خارجي بما يجتلب ممن حول أصحاب النهضة، من أمم عاملة ماضية أو شاهدة، ثم استثمار جاد يفيد من ذلك كله، حين يصل بين أجزائه وينمِّيه. ولغة يسيرة لحياتنا العقلية والفنية تكفي لإدراك أن هذه العناصر الثلاثة لم يكتمل لهذه النهضة واحد منها اكتمالًا صحيحًا، أو قل لم تُدبَّر هذه النهضة لإكماله تدبيرًا منظَّمًا ذا أثر.
أنا لا أنكر أن محاولات ما في سبيل جمع التراث القديم لحضارة أسلافنا، قد بُذلت بالأمس القريب، أو لا يزال يُبذل القليل منها اليوم، لكنها متقطعة فردية فاترة. كما أن محاولات أخرى قد بُذلت وتُبذل لنقل أطراف من ثقافة الغرب الأدبية والعلمية إلى لغتنا، لكنها كذلك محاولات ضعيفة فردية، مُبدَّدة، وكثيرًا ما تكون مضطربة الوجهة، غير مسددة لغاية.
كل هذا وقع، ويقع حولنا، في الوقت الذي تدأب فيه كلية الآداب في سبيل أن تؤصِّل منهجًا دراسيًّا صحيحًا، سليم الأصول، وقد قطعت في هذا الطريق أشواطًا لا بأس بها، في سبيل هذا المنهج. على حين تدأب كليات الجامعة الأخرى — أو يجب أن تدأب — على بث الحياة والروح، في سائر فروع المعرفة. فإذا ما أرادت كلية الآداب، أو أرادت كليات الجامعة بعامة، أن يكون عملها في سبيل هذا الإحياء مؤثِّرًا، ومسايرًا للخطى الموفقة في سير النهضات، وجب أن يتيسَّر لها جميعًا الاتصال التام بتراث أسلافها العقلي. لكن واحدًا من هؤلاء — سواء الأديب والعالم — لا يظفر بالمصادر اللازمة له من هذا الميراث الذي خلَّفه أهله، فلا يهتدي لشيء ذي قيمة من تاريخ حياة هذه الدراسات عندهم، وما يستطيع أن يبني عليه اليوم، من عمل قام به من قبله في حياتها. والأديب والعالِم فينا مَيَّال أو مضطر — ويا للأسف — للاعتماد على الغرباء عنهم، فيما يمكن أن يهتدي إليه من مخلَّفات هذه الثروة التي نحن أهلها وأحق بها!
•••
لقد أُغري أبناؤنا بالمنهج الجديد في دراسة الأدب والتاريخ مثلًا، فلمَّا ذهبوا يحاولون درس شيء من هذا الأدب والتاريخ، على قوانين هذا المنهج؛ لم تتهيَّأ لهم مواد الدرس، إذ لم يجدوا المصادر المعرِّفة به، ولا الثروة المسعفة من المراجع ومادة الدراسة. ومن يتصدَّى لشيء من هذه الأبحاث مضطر إلى أن يكد ويشقى في الوصول إلى بعض المراجع الخطية، فيقاسي في سبيل الوصول إلى شيء من هذه المصادر والآثار القديمة، أضعاف ما يقاسي في بحث الموضوع ودرسه، على أنه سيظل بعد ذلك رهن الصدفة المحضة، والاتفاق الصرف، شاعرًا — مع كل مضض — بأن هناك مراجع، قد تكون أغنى وأجدى ممَّا استطاعت أن تناله يده، ولكن كيف السبيل إليها؟!
ولقد تذكر كلية الآداب أنها حين ابتغت إحياء أبطال الجهاد الأدبي والفكري، بمثل ما أقامته من أسبوع الجاحظ، في العام الماضي، لم أتردَّد في الجهر بأن من الخطأ المنهجي أن نتحدَّث عن دقائق الحياة الفكرية والفنية لرجل، لا نعرف مواضع آثاره، ولا يقع لنا قليل أو كثير منها صحيحًا أو محقَّقًا. تلك كلها مشاهدات وشواهد دفعتني إلى التفكير في ضرورة إمداد هذه النهضة بتنظيم يُكمِّل نقصها، ويسدِّد خطواتها؛ فيوفِّر وقتها، ويزيد جدوى عملها، ويدفع عنا معرَّة الرضا البليد، بما قطعته تلك النهضة من خطًى وئيدة، غير مرضية للطموح المصري.
وقد رأينا أن أولى تلك الخطوات هو الإحياء الكامل الصحيح لميراثنا العلمي والفني القديم، وتيسير مصادر تاريخنا، تيسيرًا يعين على تحقيقها والانتفاع الصادق بها، وهذا الإحياء بلا شك هو الأساس لكل ما نحاول بناءه في مختلِف الميادين، وجميع نواحي النشاط.
وإنما يبدأ هذا الإحياء بجمع الآثار العلمية والفنية التي تناهبتها الأيام، وفرَّقها الدهر بددًا في الغرب والشرق، ولا يتحقَّق هذا الجمع بصورة تلائم كرامتنا، وتغذِّي نهضتنا، إلا بأن نُصمم على استكمال ما يأتي:
- (أ)
أن تملك مصر أصلًا — إن استطاعت — وإلا فصورةً شمسية، على الأقل، من كل ما عرفه العالم من أثر يتصل بالحضارة الإسلامية، في أي فرع من فروعها المختلفة، سواء في ذلك ما كان بالعربية، وما كان بغيرها من اللغات، على أن نبدأ بالعربي منها نستكمله، وحسب مصر أن تُعنى به وحدها. وأمَّا غير العربي فتتعاون على إتمام جمع آثاره الشعوب الشرقية الإسلامية، متآزرة. وهو مشروع آخر، يفكَّر فيه على هدأة، بعد إتمام العمل الخاص بالآثار العربية.
- (ب)
أن يوضع لذلك كله فهرست وصفي تفصيلي، يعطي الفكرة الكاملة الواضحة عن الأثر وما احتواه من أبحاث، كما هو الشأن في فهارس المكتبات عند الأمم الراقية، فيكون هذا الفهرست الوصفي تاريخًا تخطيطيًّا جامعًا لمصادر الثقافة الإسلامية المختلفة، وبه يتهيَّأ لمن يدرس فرعًا من الفروع المتعدِّدة في هذه الحضارة، أن يهتدي إلى كل ما رأى النور، من آثار الأقدمين في موضوعه، فبرجعة أخرى إلى فهرس المطبوع من الآثار القديمة يجتمع للباحث في وقت قصير، وبجهد يسير، ما هو في حاجة إليه من المصادر، واثقًا من عدد هذه المصادر، وقيمتها العلمية، ودرجة حاجته إلى كل منها، فيوجه موفور قوته إلى تصحيح منهج الدرس وتقويم خطته؛ ليخرج من عمله بنتائج قيمة.
وسيكون تقريب هذه الآثار على هذا الوجه، من أيدي الباحثين، وتعريفهم بها، سببًا للعناية بإخراجها ونشرها، محقَّقةً مصحَّحة، فتُطبع وتُذاع، وينتفع بها الدارسون انتفاعًا كاملًا يسيرًا.
فإذا ما تم هذا الجمع والوصف المقرِّب لهذا الميراث، فتم تحقيق أنساب الكتب ونصوصها، وهان نشرها نشرًا علميًّا، كانت المرحلة الثانية وهي: إمداد هذا التراث بالدم العصري، وتلقيحه بعناصر الحياة الجادة؛ بأن تُترجم الأصول الكبرى للدراسات القديمة والحديثة، ترجمةً صحيحةً دقيقة. وإنها لمرحلة تحتاج — ولا غرو — إلى جهد منظم، لا نصفه هنا؛ لأنا نقصر هذا التقرير على مرحلة الإحياء الأولى، التي نحس بأنها قد تُخطيت، ونخشى ألا تعود العناية إليها، مع أنها أساس أسبق وأقوى.
•••
والعمل الذي نقترحه في الإحياء على هذا الوصف ضخم، أُقدِّر تمام التقدير ما يتطلَّب من وقت وجهد ومال، وقد أطلت التفكير فيه، قبل أن أقول عنه كلمةً ما، وكدت بعد هذا التفكير أتصدَّى لوضع خطة تفصيلية، أو شبه تفصيلية؛ لأهوِّن من صعوبته، وأقرِّب تنفيذه، ولكني آثرت آخر الأمر أن أترك ذلك إلى ما بعد تقليب الآراء المختلفة، والانتفاع بمختلِف التجارب من أصحاب الخبرة في ذلك كلهم.
وحسبي هنا أن أشير إلى أن هذا المشروع في الإحياء ليس مشروع كلية الآداب وحدها، ولا مشروع الجامعة وحدها، بل ليس مشروع وزارة المعارف وحدها أيضًا؛ وإنما هو مشروع الحيوية المصرية، والنهضة المصرية، ندرك جميعًا من قرب أن التآزر فيه، والتأتي له، والجود عليه بالمال والإرادة الواثقة بنفسها، ضروري جد الضرورة. فتتآزر عليه الوزارات المختلفة، كوزارة المعارف، ووزارة الأوقاف، ووزارة الخارجية، وتتكاتف في سبيله الهيئات المختلفة، كالجامعة، والأزهر، ودار الكتب أو دورها إن كانت، إلى جماعات ولجان ومعاهد حرة، وأفراد هاوين، وتُرصد له الأموال من أوجه مختلفة، حكومية، وأهلية، ويوزَّع على بضع سنوات، فيكون مشروع خمس سنوات أو سبع سنوات، ويُستعان فيه بنشاط الشبان أول تخرُّجهم، وقبل اشتغالهم بأعمال راتبة، فيبذلون إذ ذاك من نشاطهم ما يفيد، ويكتفون من المكافأة بأيسرها. وتلك وما إليها تخطيطات عامة أدع تفصيلها إلى حين البحث التنفيذي للمشروع، إذ يستعان فيه بخبرة أصحاب الخبرة جميعًا.
ولعله ليس من التعجُّل أن أقترح منذ الآن تأليف لجنة أولى مؤقَّتًا، من عميد كلية الآداب، ومدير دار الكتب، ومدير مكتبة الجامعة، ومن يشترك في ذلك من المكتبة الأزهرية مثلًا، ومن يضمُّونهم إليهم؛ لتضع هذه اللجنة التخطيط العام التقريبي لتنفيذ المشروع، وتقسِّم دراسته وتوجِّهها، وتقدِّر الأموال والأعوام لذلك.
أمَّا الدعوة إلى هذا الإحياء، وإقناع الحكومة به، واكتساب عطف الجمهور عليه، فذلك وما إليه هو ما آمل فيه الخير كله، من عنايتكم الخاصة، واقتناعكم بفائدته، وتقديركم أن من واجب كلية الآداب الدعوة له أداءً لرسالتها، وإقرارًا للنهضة المصرية على أصولها القوية، وتوجيهًا للحياة الأدبية المصرية إلى غايتها الرشيدة.