منهج الأدب المصري وتاريخه

(١) أثر الإقليمية في المنهج

ما مضى من القول في الأدب وتاريخه، وكيف يُنسَّق درسهما، هو القولة الشاملة العامة في ذلك، تَصدُق في درس أدب رجل، صدقها في درس أدب عصر، أو أمة، كما تَصدُق حين يُتَّبع المنهج الشائع في تقسيمه الزمني المتعارف، كصدقها حين يُصحَّح هذا المنهج تصحيحه الذي تنشده؛ فيُدرس الأدب في بيئته التي نمَّته، ومؤثراته التي وجَّهته. وإذا كانت تلك هي القولة الشاملة الصادقة في كل حال، فإنا نقصد بعدها إلى الحديث الخاص، عن أثر الإقليمية في المنهج، وما نقضي به من النظر في حياة الأدب المصري المدروس، من حيث اتصاله ببيئته، وتأثُّره بالعوامل التي وجَّهته، وانفعل بها، كما هو شأن كل كائن مادي أو معنوي؛ لنرسم بذلك المنهج الصحيح لدراسة الأدب المصري وتاريخه، على هدًى الاعتبارات العلمية المجرَّبة، لا الاحتمالات والفروض المظنونة.

•••

وأول الحديث الخاص عن أثر الإقليمية في المنهج، أن نلفت النظر إلى أن هذا الأدب المصري، الذي نقصد إلى دراسته فيما تُخصِّصه ملابسات حياتنا، وتُقيِّده ظروفنا العلمية والعملية، من حيث ما نقوم به من عمل في كلية الآداب، وعلى خططها؛ إنما هو أدب مصر الإسلامية منذ عرفت مصر هذا العهد من الحياة الجديدة بعد مجيء الإسلام إليها، واستقرار الشعب الذي حمل هذا الدين بين أهلها. وهذا العهد في حياة مصر، ليس أول، ولا أسبق، ولا أجمل ما عرفت مصرنا من عصور تاريخها؛ فلقد كتبت مصر تاريخها قبل مجيء الإسلام بآلاف من السنين غير قليلة، ثم جاءها هذا الإسلام بعدما مرت بألوان من الحياة متنوعة، وصور فيها متعددة. ولو كنت ممن يشبِّهون حياة الأمم بحياة الأفراد في أعمارهم، لوسعني أن أقول: إن العرب والإسلام قد جاءا مصر وهي في نضج واكتمال، بل جاءاها وهي على تمام واكتهال. ولكني لا ألتزم هذا الرأي في جعل حياة الأمم كحياة الأفراد في أعمارها، ثم هذه مصر نفسها ينفي واقع حياتها هذا الرأي وينقضه؛ فلقد جدَّدت مصر شبابها في الإسلام، واستأنفت مجدها، بل جدَّدته قبل الإسلام غير مرة، وستظل تتجدَّد آمادًا وآمادًا، لا يعلم مداها إلا الله.

وإذا ما كانت هذه العربية والإسلام قد جاءا مصر عن تاريخ مستقر، وماض راسخ، وحياة قارة، فقد وجب ألا يكون موقفنا في الحديث عن هذا الشعب العتيد، أو عن البيئة أو اللغة، على غرار حديثنا عن أمة، يؤرَّخ أدبها منذ أول عهدها المعروف بالوجود، وتاريخها الثابت على النقل، وبخبرها الذي يمكن أن يُلتقط، كالأمة العربية مثلًا حين نبدأ تاريخها الأدبي، بما يسمونه جاهليتها الثانية، قبل الإسلام بقرن وبعض الآخر! كلا، بل إن علينا أن ننظر في مصر إلى هذا التحوُّل الجديد والانتقال الطارئ، ونقدِّر أنه ليس إلا امتدادًا مسايرًا لما كان، واستمرارًا لماضٍ تأبى سنن الكون أن ينقطع ويندثر، أو يختفي من الحياة ويُمحى، وقد سبقت لنا الإشارة إلى هذا المعنى، وما قرَّره المستشرق «بيكر» بشأن الأمم التي جاءها الإسلام فسَير حياتها في طريقها الأول، بعد تغيير شكلي، أو تدوين خارجي (انظر [الأدب المصري – إقليمية الأدب – ملاحظة]).

ومعنى هذا أن أدب مصر الإسلامية في لغتها العربية، لا يبدأ درسه من حيث اتصلت مصر بهذه العربية، واتخذتها لغة حياة وفن؛ لأن هذا في حساب التاريخ ليس مبدأً تاريخيًّا، وليست العربية في هذه البيئة كما كانت في بيئتها بالجزيرة، لا تضبط ماضيًا ذا آثار، ولا تتصل بتراث باقٍ على الأيام، فكان أول درسها، وبدء النظر فيها، هو هذه الجاهلية الثانية كما أشرنا. ليس أمر العربية في مصر على مثال هذا، بل هي في تلك البيئة قد لقيت لغةً أو لغات، وخالطت أدبًا أو آدابًا، عرف الزمن لها جميعًا وجودًا قويًّا، ومنزلةً معروفة؛ فتأثَّرت العربية بكل أولئك، وتأثَّر به أدبها وفنها الذي ظهر في هذه البيئة الجديدة. وتلك الفكرة هي — كما أسلفنا — حجر الأساس في فكرة الإقليمية، وهدف التوجيه الذي تبغيه في درس الأدب المصري وتاريخه، والنظر في ذلك على دليل من واقع الحياة، وبصيرة من سير التاريخ.

وإذا لم تكن أولية العربية في مصر هي أوليتها في الجزيرة، بل إنها قد بُنيت في مصر على أساس، ووصلت وجودها — لا محالة — بما قبله من وجود سابق، للغة أخرى أو لغات، وأدب آخر أو آداب، وفنون أخرى وعلوم، فقد وجب — في حساب العلم — ألا يرتفع بناء لأدب مصر الإسلامية، إلا على أساس راسخ من الأدب في مصر السابقة على الإسلام، إلى أول ما عرف الدهر من قديمها؛ لأن هذا الجديد الإسلامي ليس إلا امتدادًا متصلًا، واستمرارًا متتاليًا لما كان، على ما بينا.

وهذه البيئة المصرية أو غيرها من البيئات، كما تُحدِّدها الفطرة، إنما هي بوتقة تصهر فيها الطبيعة عناصر ومواد تكثر أو تقل تبعًا لما يطرأ على تلك البيئة، فتُخرج منها يد القدر موجودًا له خواصه، ومميزاته. والعربية عنصر أو مادة ممَّا ألقت يد الله في هذه البوتقة، فصهرته حرارة الحياة، وقوة التحوُّل، ووصلت بينه وبين غيره من عناصر أو مواد كانت في هذه البوتقة، وسواء أغلب هذا العنصر العربي غيره، ممَّا كان في البوتقة أم لم يغلب غيره؛ فإنه في كل حال لم يبقَ على حاله التي جاء بها إلى مصر أول ما جاءها، فكان ذلك تجدُّدًا متصلًا للكائن الذي نسميه «المصري»، أو الأمة التي نسميها «المصرية».

•••

ولا يَهِمَنَّ واهم أن الشقة بعيدة، والصلة منقطعة، والفواصل قائمة بين مصر المسلمة ومصر المسيحية، أو بينهما وبين مصر الوثنية، في العهد الفرعوني السحيق، أو في المتأخر، فيتخيَّل أو يخال أن العربية البدوية، بنتَ الجزيرة، نزلت مصر وقد صمَّت تلك العربية وصلبت واستحجرت، فلم تصُغ لشيء ممَّا في مصر، ولا خالطت شيئًا ممَّا حوت مصر، ولا أخذت من شيء بمصر، وإنما أفنت ذلك كله إفناءً، وأبادته إبادة، فبقي لها من مصر جو لم يعلق بنسيمه شذًى قديم، وأرض لم يمسَّ ترابها موجود قديم، وسماء لم يظل أديمها مصريًّا قديمًا، فبدأت حياتها عربية، جزرية، غير مصرية في شيء. كلا، فذلك كله، بل بعضه القليل، ممَّا لا تقبله نواميس الوجود.

وما الحياة في بيئة ما إلا وحدة لا تنفصم، مهما تبدُ في نظر السُّذَّج، وإدراك الأغمار، مقطَّعةً مبتورة، لا يتصل فيها سابق بلاحق، ولا يرتبط منها آخر بأول. ومهما تحمل العصبية الهوجاء، وفي إدراك معنى التديُّن وحقيقة الإيمان، وقوة أثر الإسلام على الاطمئنان إلى شيء من هذا والتمسُّك به، فإن هذا وشبهه لن ينفي حقائق الوجود الإنساني، ونظم ذلك الكون الدنيوي الثابتة المطردة.

بل إننا لنقول هنا — وإن يكن ذلك استطرادًا — إن هذه الصلة قائمة معقودة بين الأديان نفسها في أُسس إيمانها، وأصول اعتقادها، وقضايا تكليفها، على نأي الدار وبُعد الأقطار، فما يباين فيها دين دينًا، ولا تحادِّ ملة ملة، ولا تتقاطع شِرعة شِرعة، إنما هي ظواهر اجتماعية للحياة الإنسانية تشترك فيها جميعًا، على اختلافٍ يسير أو كثير لا يغير الجوهر. وقد أصبحت تلك القضايا في سير الحياة أهون من أن يوقَف عندها، ويجدَّد القول فيها؛ لأنها من الأصول العامة في ثقافة هذا العصر المستنير.

•••

وإذن فسندرس مصر المسلمة على أنها امتداد لمصر التي قبلها على اختلاف لغتهما، واختلاف دينهما، وتغاير فنهما؛ لأن الشخصية هي الأصل الثابت والمدار المستقر لكل هذه التدرجات والانتقالات. وهنا يكون كل ما نعرفه عن هذه الشخصية المصرية التي يتنفَّسها الوادي نسيمًا، ويشربها نيلًا، ويخلِّدها آثارًا، ويتناقلها وراثة، ويخلقها تراثًا، وتحميها على الدهر قوًى، لم تشِب بشيب الزمن، ولم تُهَن لتطاول العمر؛ فكل ما نعرفه عن هذه الشخصية لمصر هو العُدة والعتاد لنا في دراسة الأدب المصري وتاريخه، وقوتنا في ذلك هي كل ما نتأثله من جهاد دارسي الآثار المصرية، وكاشفي أسرار اللغة المصرية، ومذيعي خفايا الحضارة المصرية، العملية والعلمية والفنية، ومرتقبي خطى الفن المصري في تلك الحقب، ومميزي مظاهره ومعالمه المبيِّنة له، وكاتبي التاريخ المصري كتابةً علميةً على المنهج الذي رنونا إليه، فيما مضى من حديث عن التاريخ وتناوله. كل أولئك ممَّا تؤسَّس عليه دراسة هذا الأدب المصري وتاريخه في العصر الإسلامي.

وإذا ما كانت الدراسة الأدبية دفعًا لحاجة قومية معنوية، وتوجيهًا مسدِّدًا لحياة الأمة الفنية، وكان أصحاب الجامعة أقوى الناس شعورًا بهذه الحاجة القومية المعنوية، وأقدر الناس على التوجيه الرشيد لحياة أمتهم الفنية؛ فقد حق على أصحاب الدراسات المصرية المختلفة١ أن يتبادلوا فيما بينهم هذا التعاون الوثيق، على تجلية الشخصية المصرية من جوانبها ومظاهرها المختلفة، وفي عصورها المتطاولة، وآخرها هذا العصر الإسلامي، الذي امتد بنا إلى اليوم، ويمتد بعد ذلك إلى ما شاء الله.

•••

كذلك تقضي فكرة الإقليمية بأن يكون المنهج الصحيح للدراسة الأدبية قائمًا على الصلة الوثقى، بين أدوار الحياة في البيئة الواحدة، ولا يكون ذلك إلا بأن تستوثق الصلة بين أصحاب المصريات على تنوُّعها، فيرتبط دارسو الآثار المصرية، والتاريخ المصري، بدارسي الأدب المصري وتاريخ الأدب المصري في هذا العهد الإسلامي، ونلتزم نحن بأن نقيم ما نزاوله من تلك الدراسة على نتائج دراسة واسعة الآفاق، بعيدة المدى، تمس أعرق العصور قدمًا، وأبعدها عهدًا؛ لنقتبس ونستعير نتائج درسها، وثمار عملها، ونعتمد عليها في فهم سير الزمن، وتنقُّل الحياة، تنقُّلًا فنيًّا وغير فني.

وقد يبدو للمستسهلين الذين يريدون لينالوا القمر وهم قعود — وما أكثرهم فينا — أن هذا الوصل المرجو بين دارسي المصريات كلها إنما هو لون من العنت، نرهق به دارسي الأدب المصري وتاريخه، ونضع في طريقهم صعاب العقبات، على حين أن الأمر أيسر من ذلك وأهون، فهذه دنيا وتلك دنيا، وهؤلاء ناس وأولئك ناس، ودُوِّن ذا ويُدرَّس الأدب المصري.

فنقول لهم: أمَّا الصلة بين هذا كله مهما تتباعد فروعه فوثيقة وطيدة بلا شك، وأمَّا العنت بملاحظتها والتزامها فنعم، لكنا مهما يكن لهذا الإعنات والإرهاق من أثر يثقل خطانا، ويؤخِّر أثمار دراستنا، فلن ننسى أن هذه هي الحقيقة، ولن ننسى أن هذا هو الواجب، وإن يكن عبؤه ثقيلًا، بل سنحمل أنفسنا على أشق من هذا، ونطمع في أن يكون لمصر من أبنائها من يتخصَّص في درس جانب من حضارتها وحياتها القديمة، منذ عهدها الأول، ليُسخِّر معرفته المستفيضة لهذا الجانب فيتابع نماءه، وامتداد الحياة به في مصر الإسلامية إلى اليوم، إيمانًا منا بوثاقة الصلة، ويقينًا بقدسية هذا الواجب. ولا غرو، فإنما هي آمال أمة، وأماني شعب متحضِّر، يدرك مشقة تكاليفها، ويصمد في صبر للوفاء بها.

•••

سيقول المتعجِّلون من الناس وماذا بقي لكم من العمل إذن، ما دام هذا الأساس البعيد الغور، لم يوضع بعد، ولستم أنتم الذين تضعونه؟! فتربَّصوا حتى يفرغ أصحاب الآثار والتاريخ القديم من الدرس الأوفى لأدب مصر الأول، ثم تقدَّموا أنتم بعدها لدراسة أدب مصر الإسلامي المتأخر.

ونقول لهؤلاء: لا بأس علينا في شيء من هذا، ما قضت به سلامة المنهج، وتسديد الخطة، فما يرضينا قط أن نزعم أننا نقول ونعيد في أدب مصر المسلمة، لنزعم أننا ندرسه، وإنما الذي يعنينا أن تُسدَّد خُطى هذه الأمة في حياتها العالمة، ويعنينا أن يُوفَّق عملها في سائر ميادين الحياة الأخرى وسبل الوجود، ولو كان ذلك التسديد والتوفيق لا يكون ثمنه إلا أعز ما نملك، وآثر ما نؤثر، تنتزعه منا أمتنا انتزاعًا، بل أحبب إلينا أن نسبق طلبها، فنؤثرها به، ونعجل إليها ما نريد، فكيف بما دون ذلك من ادعاء درس، وانتحال بحث؟

•••

على أنا نعود فنقول لهؤلاء المتعجلين، ربما لا ننتظر إلى أن ينهض أصحاب الآثار المصرية، والتاريخ القديم، بتمكيننا من آداب هذا العهد، وتيسير درسها، أو بإتمام هذا الدرس، وتقديم ثماره لنا، لأنا نعرف أنهم إلى اليوم قد أصابوا — أو بالأحرى أصاب الغربيون لهم — غير قليل من المعارف المتصلة بالشئون المصرية، ودوَّنوا فيه مقرَّرات غير يسيرة ولا تافهة. كما أن أولئك الغربيين قد فرغوا لدراسات طيبة في حياة الفنون المصرية الأخرى، سوى فن القول، وهي ممَّا يعين إعانةً جليةً على دراسة الفن الأدبي. وبالنظر في كل أولئك ممَّا أتمه أصحاب الآثار، غربيون أو شرقيون، نستطيع — ولو مؤقَّتًا — الاعتماد على نتائجه، ما دمنا إنما نقوم اليوم أولًا بالنظر فيما حول الأدب المصري من دراسات، أو فيما بعد ذلك من دراسة النصوص الأدبية المصرية نفسها بعد جمعها وتمحيصها وتحقيقها على نحو ما بَيَّنا قريبًا. وفي هاتين الناحيتين: — ما حول الأدب، والنصوص الأدبية — قد يوفي بنا ما يقدِّم أصحاب هذه الدراسات القديمة لمصر من حقائق، على شيء ممَّا يتمثَّله المنهج المحرَّر، أو لا أقل من أن نقبله مؤقَّتًا، معنيين بأن نجاهدهم مع هذا، على أن يضعوا بين يدينا المواد التي لا بد من أن نظفر بها أولًا، قبل أن نجرؤ على الحديث عن تاريخ الأدب المصري. وتلك المواد هي:
  • (أ)

    مجموعة أو مجموعات تنتظم جميع ما وصلت إليه أيديهم، من نصوص أدبية مصرية للعصور المختلفة، في أغراضها وفنونها المتعددة، على ما هو معروف في فنون الشعر والنثر. وأن تترجم تلك المجموعة أو المجموعات، عن أصولها المصرية القديمة ترجمةً دقيقة؛ لينظر فيها أصحاب الأدب منا نظرةً متذوِّقةً فاحصةً ناقدة، تكفي لتبيُّن خصائصها بأدق وأعمق وأهدأ، ممَّا نظر به إليها الغربيون في هذه النصوص، ويحكم فيها أصحاب الأدب منا كذلك أحكامًا أدبيةً وتاريخيةً أصح وأصدق وأضبط، ممَّا حكم بها عليه هؤلاء الغربيون؛ لأنهم أجانب عن ماضيها وحاضرها وذوقها، على حين ورثنا نحن ذلك كله، دمًا جاريًا، وحسًّا نابضًا، وشهدناه واقعًا شاخصًا، نغدو بين معالمه ونروح.

  • (ب)

    دراسة فاحصة عميقة للفنون المصرية الأخرى، عدا هذا الفن القولي، بحيث تتكشَّف لنا حياة هذه الفنون وتاريخها، تكشُّفًا يجلي لنا ما امتازت به بين فنون الأمم من طابع وخاصة، تحدث عن الروح المصرية، والمزاج المصري، والشخصية المصرية، فنستطيع بهديها فهم هذا الطابع، وتلك المميِّزات في فننا الأدبي، الذي نستشف تأثير قديمه التالد، في حديثه العربي الإسلامي التالي.

  • (جـ)

    دراسة صحيحة المنهج، كاملة الأجزاء، عن نواحي الحياة المصرية الأخرى، ومظاهرها المختلفة من اجتماعية واعتقادية وغيرها، ليمدنا ذلك بالمعنوية اللازمة لفهم هذا الأدب الذي هو أحد تلك المظاهر الحيوية. ولعلنا نحن المصريين من أحسن الناس حظًّا في هذا الميدان؛ إذ خلَّف أسلافنا ما خلَّفوا من معالم حياتهم، فكفت آثارهم لتصويرها أدق تصوير وأصدقه.

وجليٌّ أن التاريخ بمعناه العام يكون قد دُرس أصح الدراسة حينما يمكننا الظفر بهذه الصور المنتقاة، فلا ضرورة للفت النظر إلى الفراغ من درسه أولًا.

تلك صورة عامة لما سنجاهد أصحاب المصريات على أن يضعوه بين يدينا وفي لغتنا، حتى تكون دراستنا للأدب المصري الإسلامي وتاريخه، قد أقيمت على أساس صحيح، ومنهج سليم. وليس ما نزاوله فيها قبل اكتمال هذه النواحي إلا عملًا مؤقَّتًا، وضرورةً يلازمنا معها الشعور القوي بالنقص، والطموح الجاد إلى الاكتمال، غير قانعين بما يقدِّم الآن أصحاب المصريات مؤقَّتًا من معلومات عن الحياة والفن المصري.

•••

بهذا لا ننتظر متعطلين، ولا نمضي راضين، مخلدين إلى الراحة، مكتفين بما لدينا، بل سنقدِّر كلما قرَّرنا قضية، أو اطمأننا إلى فكرة في هذه الدراسة الأدبية، أننا لا نقول الكلمة الأخيرة، ولا نقطع الطريق على عمل مستمر التكامل، متجدِّد الرقي، يَفرغ فيه الدارس لهذا الأدب المصري وتاريخه، بعد أن تتوطَّد الأسس المتينة له، من الخبرة الوافية الكاملة بأدب مصر في عصوره الغابرة، التي سلك فيها ذلك الأدب سبيله، في أثناء الدهر ومسارب الزمن، ومضت الشخصية المصرية المخلَّدة تتقدَّم به على الأجيال، متأثرةً بمختلِف ما تلقي عليها الأيام، من ظلال جنسية وسياسية واجتماعية، من بينها ظل الصلة العربية، والراية الإسلامية، في البضعة عشر قرنًا الأخيرة.

من أجل ذلك لن نكف عن أن نذكِّر أنفسنا، ولا عن أن نذكِّر كل متصل بأدب هذا العصر، بأن الأساس الذي يقام عليه بناء هذا البحث، إنما هو مصري مصري، قديم قديم، يتصل بعمل أصحاب المصريات، قبل أن يتصل بأي شيء آخر، وأكثر ممَّا يتصل بأي شيء آخر، ويستعين بمعارفهم قبل أن يستعين بغيرها. ولن تقال كلمة مؤرَّخة في وصف الحياة الأدبية لمصر الإسلامية، على نحو ما نرجوه من الدرس الصادق لتاريخ الأدب، إلا بعد أن نكون قد ظفرنا بالجهد المفرد للمصريين أنفسهم، وبذوق المصريين ذاتهم، وبجدِّهم هم، ويقظتهم هم لذواتهم، في ماضي حياتهم، وفنونهم، وآدابهم، بحيث تكون في يد كل مزاول لهذا الأدب المصري الإسلامي، أكبر وأكمل مجموعة، من المنشآت الأدبية للعصور المصرية السابقة، كلها يحيا فيها حينًا إلى جانب حياته في مصر الحديثة، فيرهف بذلك حسه، ويدق تذوقه لهذا الأدب، ويظفر بمفاتيح إغلاقه، ومصابيح سراديبه، من ماضٍ بعيد قد تأثَّر به ولا شك، حاضرنا القريب.

•••

ذلك شعورنا حين نتقدَّم ولا ننتظر، وهذه أمانينا حين نصيب شيئًا من هذا الدرس، ولمَّا يتوطَّد لنا ما نبغي من أساس بعد. فإن أبى الناس إلا أن يعتبرونا فيما نتعجَّل من ذلك، قبل الظفر بالأصول الكاملة، دارسين مؤقتين، أو عاملين في دور الانتقال، ومرحلة الإعداد لا أكثر ولا أقل، فلهم ذلك، وما جاروا. ونحن أطيب نفسًا بأجف من هذا الوصف، وأقسى من هذا النعت، نؤثر ذلك على أن نكذب أنفسنا وقومنا، والأجيال الخالفة، فتُخفى الحقيقة الصحيحة في المنهج السليم، ونزعم لأنفسنا الكفاية الدارسة، والمقدرة الموفورة، والأستاذية الجليلة للأدب المصري وتاريخه.

وآمل أن تطيب بذلك نفوسكم معي، وأن يصح إيثاركم للحقيقة الجاهرة — ولو آلمت — على الوهم الخادع والادعاء الزائف ولو راج وأجدى، أو هوش ودوَّى.

(٢) خطة وادعة لدعوة مغيرة

تلك هي الوقفة الخاصة التي رغبنا في أن نلفت بها النظر إلى أثر الإقليمية على المنهج، فنكون بالقولة العامة في درس الأدب وتاريخه، وباللفتة الخاصة إلى أثر الإقليمية على هذا الدرس، قد أشرنا إلى الخطوط الكبرى، والمعالم العامة في تقسيم هذا الدرس وتوزيعه، ووضع منهجه على الطريقة، التي يبدو لنا أنها الصواب، ونرجو أن تؤمِّن المعاهد الأدبية معنا بصوابها؛ فتأخذ بها فيما تزاول من درس، غير متأثرة في ذلك بإلف قديم، أو اطمئنان إلى ماضٍ مُتَّبع.

•••

وما نريد أن يكون لهذه الدعوة ضجيج خلاف، ولا ضوضاء جدال، ممَّا تأيف به نوايا من يحاولون الإصلاح فيفسدون به جهدهم، ويفقدون قواهم في هذا الخلاف وذياك الجدال، ويخلقون بسلوكهم غير الصائب أعداءً لتفكيرهم الصائب؛ لأنهم ينظرون إلى الشخوص والذوات، مثل ما ينظرون إلى الأفكار والآراء، بل ربما كانوا إلى ذواتهم أكثر انتباهًا وأشد عناية، فيحملهم ذلك الانتباه، وتدفعهم الرغبات النفسية الخفية فيهم، أو المقصودة لهم، على أعمال وأقوال ليست من خير أفكارهم وآرائهم في شيء، وإن كانت من حيث ما تُحدث من دوي، وما تُثير من صخب، ذات أثر فعَّال في سير أسمائهم، واشتهار أمرهم، حتى ليحملهم ذلك على التحرُّش بأشياء، والتهجُّم على أشياء، لا تتصل بما هم فيه، أو لا أقل من أنها لا تتصل به اتصالًا قويًّا قريبًا، ولا يتوقَّف عليها شيء من إثباته وتقريره؛ فيُهيِّجون بذلك النفوس، ويوغرون الصدور، ويثيرون أصحاب المنافع والمصالح، أو ذوي العصبية واللدد، وكثير منهم تعوزه الدقة المفرقة بين ما هو من صميم الرأي، وما هو من حواشيه وأطرافه، فيندفع أولئك المصلحون المتعقِّبون أو الشعبيون المجادلون، إلى ضرب من الخلط المشوِّش، ينتهي بهم إلى رفض الصحيح المقبول، في سبيل إبعاد الباطل المردود. ولا تبعة عليهم؛ لأن الخاصة أصحاب الفكرة، هم الذين أهاجوا مثل هؤلاء فأفقدوهم التوازن الفكري، وبلبلوا سلامهم النفسي، وقد كانوا أهلًا لأن يقارفوا مثل هذا الخطأ المخلط وهم هادئون، فكيف وقد أهيجت حفيظتهم، وهوجمت مُسلَّماتهم ومقدَّساتهم؟!

في سبيل مجانبة هذا الخطأ وملاقاة هذه المضار، أحرص دائمًا على أن ألقي القول في هدأة وحيطة، مثبتًا الأقل، حين يحق لي إثبات الأكثر، جاعلًا المؤكَّد المُسلَّم في صورة المحتمل المردود، مستمسكًا بما لا يجري فيه تشاح، ولا يهون له إنكار، وقد أوفت بي تلك الخطة الوادعة على ما رأينا من نتائج بشأن هذه الإقليمية، التي تقوم على تأثير البيئة المادية بفطرتها، والمعنوية بعواملها المختلفة، ورأينا مصر إقليمًا تميَّزت بيئته وتفرَّدت، فأصبحت دراسة مصر وحدها هي الوجهة الصحيحة في تقسيم درس الأدب وتاريخه، ووجب على هذا الأساس أن نعدل ويعدل الدارسون، عن تلك القسمة الزمانية التي لا ترتد إلى أصل معقول، ولا تقوم على أساس مفهوم؛ لأن هذه الدولات وتلك الحكومات، بل الحياة السياسية كلها، ليست إلا خيطا واحدًا في نسيج الحياة، وما هي إلا عامل فرد في العوامل التي تأتلف منها البيئة المعنوية، فكيف يحكم عامل واحد من عوامل متعدِّدة، تتألَّف من جملتها البيئة المعنوية، في حياة الكائنات المعرضة لتأثير هذه البيئة بمؤثِّراتها المتعدِّدة؟ وكيف يُهمل ما عدا هذا العامل السياسي من الاقتصاد والاعتقاد؟ بل كيف يُهمل ما قبل ذلك كله، من أساس وطيد، فطري، ثابت، هو البيئة المادية والطبيعية الفعَّالة؟!

•••

ولقد استبان من كل ما مضى، من ألوان الخلف التي عرضنا لإبطالها، أن هذه الوحدة الأدبية المدعاة، التي ينظرون إليها مجتمعةً مستمسكة، لتؤرَّخ في عصور مختلفة، هي وحدة لا وجود لها، ولا وجه لادعائها، واستبان مع القصد في الدعاوَى، والتريُّث في الإثباتات، أن الإقليمية وأثر البيئة أصل علمي يصلح لأن يعتمد في درس الأدب وتأريخه، فيرد ذلك الدرس إلى وضع مستقر، ويهيِّئ له تقسيمًا تتميَّز فيه الأقسام، تميُّزًا لن يُنكر ولن يُجحد، فلا محل بعد اليوم للقول بأننا ندرس أدبًا أمويًّا أو عباسيًّا، أو ما بعد سقوط بغداد أو قبل سقوطها، وما إلى ذلك من فواصل مزعومة لا تقوم على أساس مؤثر في حياة هذه الآداب، مغيِّر لها تغييرًا يفهمه البحث الصحيح، أو يحترمه.

(٣) معالم المنهج

وقد رأينا من النظرة العامة في درس تاريخ الأدب على ما فهم المحدثون منه، ما ينبغي أن يكون وجه الرأي في تقسيم هذه الدراسة وتنسيقها (انظر [كيف ندرس الأدب المصري؟ – أدب وتاريخ الأدب]) متبعين في بيان هذا الذي ينبغي، تلك الخطة التي سمَّيناها الخطة الوادعة غير المتهجِّمة، ولو أنها منكرة، مبطلة، مغيرة. ثم رأينا أثر الإقليمية الخاص على منهج الدراسة، إذ تقضي مراعاة الإقليمية بربط دراسة العروبة في كل بيئة خاصة، بالرجوع إلى ماضي هذه البيئة وملاحظة صلتها المادية والمعنوية بتلك العروبة في جزيرتها، ثم بها بعد هجرتها عن الجزيرة إلى مواطنها الجديدة، وكيف جرى الأمر بينها وبين ما في تلك البيئة من المعنويات في الاتصال والاختلاط، وكيف تبادل الوافد والمتوطن التأثُّر والتأثير.

وعلى هدى هذه الحقائق التي نعتقد أننا فرغنا من درسها، ونعتقد أن القارئ قد انتهى معنا إلى التسليم بها، غير مغالط ولا مورط؛ على هدى هذه الحقائق نستطيع أن نشير إلى المعالم الكبرى لمنهج الدراسة الأدبية، بل لعلنا بعد الذي أنفذنا من بيان نستطيع وضع منهج دراسة العروبة وآدابها في مقارِّها المختلفة، حين نصف دراستها في موطن من تلك المواطن هو مصر. نعم نستطيع ذلك في طمأنينة؛ لأن من هذه الدراسة للعروبة ما تشترك فيها الأقطار التي حلَّت فيها العروبة جمعاء، ثم منها ما تتشابه نُظمه، ما دامت تحتكم في تلك النظم فكرة الإقليمية، ويَصدق الإيمان بتأثير البيئة الذي يقضي به العلم، وتُثبته التجربة، وتراه في الفنون أجلى وأوضح وأفعل.

ومن هنا سيكون بياننا لمنهج درس الأدب المصري وتاريخه بيانًا صالحًا للانتفاع به في غير مصر من منازل العربية، وإليك المعالم الكبرى لهذا المنهج.

العربية في جزيرتها درس مشترك

هذه العربية في مهدها الأول أصل مشترك بين الأمم التي خالطها العرب فيما بعد، وشاطروا في دمائها وحياتها، فلا بد لكل أمة من تلك الأمم التي عرفت هاتيك العروبة، أن تعرف هذا العنصر من عناصر وجودها، وتمنحه من العناية الدارسة، ما لا بد منه لفهم عنصر جوهري ممَّا يأتلف منه كِيانها. ومن هنا تكون الجزيرة من حيث هي بيئة مادية لهذه العربية قد تأثَّرت بها، كما تأثَّر بها كل كائن عاش فيها؛ تكون هذه الجزيرة موضوع الدرس المادي المختلف، من طبيعة الأرض والمناخ، وما تقلَّبت به العهود المختلفة، وأدوار التاريخ المتتابعة، فتُدرس جغرافيًّا وجيولوجيًّا، وجويًّا، وما إلى ذلك من دراسة عالمية حديثة للأقاليم.

وكذلك يكون الشعب العربي الذي استقر بها، منذ الدهر الأول موضوعًا مشتركًا. فيجب أن يدرس تلك الدراسة العلمية الدقيقة للشعوب من حيث خصائصه ومزاياه، وصلاته وقراباته وماضيه السحيق، في عصور الحياة الغابرة … إلخ.

ثم كذلك الأمر البيئة المعنوية لهذه الجزيرة، من جوانبها المختلفة، في نظام الحياة بها، في الفرد والأسرة والجماعة، قبيلةً أو شعبًا أو أوسع من ذلك، في الناحية النظامية للحكم وما إليه، والاعتقادية في الدين وما يتصل به، والفنية في ألوانها المختلفة، من غير الفن القولي أو القولي، والعملية في أوضاعها المتعددة، من اقتصادية وما إليها. تُدرس نواحي هذه البيئة المعنوية كافةً كما يُدرس الشعب، والبيئة المادية التي حل فيها.

ثم تُدرس اللغة العربية في هذه الجزيرة على تباعد الأيام، وتطاول الأعصر، واختلاف الدولات، كما يُدرس فنها الكلامي تُدرس أصولها، وقوانينها، ولهجاتها، وعلاقاتها بغيرها، وعلومها اللغوية المختلفة، على أن يُتخذ لذلك كله من الأهمية كل ما تسلَّح به إنسان اليوم الناهض الطامح، فلا تقف تلك الدراسات المادية الطبيعية والجنسية البشرية، أو اللغوية الأدبية، عند المقرَّرات المتداولة والمسلَّمات المتناقلة، ولا تكتفي بالخبر المنقول والحديث المُردَّد. وإنما تُتخذ الأُهبة لذلك من الحفر والتنقيب، والبحث والتحليل، والجمع والتنضيد، وتُجرَّد لذلك كله البعوث والجماعات والهيئات، وتُزوَّد بكل ما يلزم لذلك من عدة وعتاد في غير ضنانة ولا تقتير، ولا استعظام واستكثار.

•••

وإذا كان ذلك الدرس المبتغى للجزيرة ومن فيها وما فيها٢ موضوعًا مشتركًا بين الأمم التي عرفت العروبة، بما دخل على وجودها منها، فسيكون تعاونها على هذا الدرس عاملًا مهيِّئًا لنجاحه، مقويًا للأمل المبتغى منه. فهذه مصر، وذاك هو الشام والعراق، والمغرب والمشرق، كل أولئك يعنيهم لكي يَفهموا أنفسهم أن يعرفوا هذه العروبة التي جاءتهم، معرفةً عالمةً طامحة، فلْيتعاونوا في ذلك كله، يجردون البعوث المشتركة، ويقدِّمون الدارسين المتساندين المتضافرين، ويؤلِّفون الجماعات العلمية الكبرى، ويبذلون النفقات المشتركة، ويعقدون لذلك المؤتمرات الدورية، في الجزيرة أو في غيرها من أقطارهم؛ ليعرفوا عملهم في هذا السبيل، ويسدِّدوا خطاهم إلى غايته. وتلك أنواع للارتباط والاتصال فيما بينهم، ليست بالمفتعلة ولا بالمصطنعة، بل هم فيها كالإخوة يجتمعون حول سرير أبيهم أو مائدته، حين تفرِّق بينهم اتجاهات الحياة وواجبات العمل، وتنوُّع المشرب، وتعدُّد الأهداف.

وأحسب أن درس الجزيرة على هذا النحو ليس بالهيِّن اليسير، ولا القصير القريب، تفرغ منه تلك الأمم في جيل واحد، أو بعض حياة الجيل، بل هو — بقدر ما نأمل له من كمال — عمل أجيال وطبقات، وفيه متسع ومنفسح لتآزر القوى وتساند الجهود.

وسيكون كل إقليم من هذه الأقاليم، بفضل ما تمتاز به بيئته الخاصة، عاملًا ذا أثر معيَّن في فهم جانب من جوانب هذه العروبة، هو بنفسه أقدر عليه وأبصر به.

وتلك هي الخطوة الأولى من الدراسة الأدبية والتاريخية للأدب الإقليمي، مصريًّا أو غير مصري، وكل ما يزاول منه، أو قل ما يُكتفى به الآن، في مدارس مصر أو غيرها، من درس العصر الجاهلي ليس إلا شيئًا مؤقَّتًا، وقليلًا وضئيلًا، لن يغني عن كثير جليل، صحَّت النية على تحقيقه، وألزم به المنهج الصحيح.

وبهذا يُعَد درس العربية في جزيرتها أول ما ندرس من هذا الأدب المصري، وعمادًا من أعمدة رواقه.

•••

ثم إذا ما اشتركت مصر في هذه الدراسة العامة مع بنات تلك الأم الأولى، فإنها تعود بعد ذلك لتدرس من هذه الجزيرة نواحي صلتها الخاصة بها، وأن لها بالجزيرة العربية من هذه الصلات لكثيرًا وكثيرًا، فقد سامتتها على شاطئ البحر الأحمر وضاق ما بينهما في الجنوب حتى كادتا تتواصلان، حين اتصل ما بينهما فعلًا في الشمال، فكان الشعب المصري الأقدم ذا صلة بهذه الجزيرة وثيقة — مهما يختلف الرأي في أن الذين جاءوا مصر من هذه الأنحاء قد جاءوا من الشمال أو عن طريق الجنوب — وقد اتصل ما بينهما في نواحٍ عدة من نواحي الاتصال التي تعقدها بينهما أواصر قوية، في أساطير مشتركة، وعقائد مشتركة، ومنافع مشتركة، ومعارف مشتركة، وغير ذلك من الشركة. ممَّا يجعل مصر تشعر يوم تصحِّح أسلوب دراستها أن لها بالبحر الأحمر وحضارته صلةً كتلك التي تعرفها لنفسها بالبحر الأبيض، وسنشير إلى ذلك فيما يلي.

وكذلك يتم درس الجزيرة العربية بالنظر فيما يصل مصر بها، من صلات مختلفة في عصور وعهود متعدِّدة، وتكون دراسة هذه العروبة في جزيرتها مادةً من مواد فهم المصرية في حقيقتها، وواجبًا تفرضه إقليمية الأدب لغير واحد من الأسباب على ما رأينا.

١  أذكر هنا اقتراحًا قديمًا تحدَّثت فيه ودعوت إليه، هو أن تتألَّف في كلية الآداب بمصر جماعة متعاونة من أقسام الكلية المختلفة؛ للعناية بالدراسات المصرية، كل قسم في ناحيته التي يتفرَّغ لها، لتكتمل العناية الدقيقة بالدراسة المصرية، وتصير الكلمة أخيرًا لهذا الاتجاه القومي الأول والألزم.
٢  بيَّنت في شرح منهج التفسير الأدبي الذي أعمل في الجامعة على تأصيله، أننا في دراسة ما حول القرآن لا بد لنا من دراسة البيئة المادية التي ظهر فيها القرآن وعاش، وفيها جُمع وكُتب وقُرئ وحُفظ، وخاطب أهلها أول من خاطب، وإليهم ألقى رسالته لينهضوا بأدائها وإبلاغها شعوبَ الدنيا. وذكرت أوجه لزوم المعرفة الكاملة بهذه البيئة المادية، وأن كل ما يتصل بالحياة المادية وسائل ضرورية لفهم هذا القرآن العربي، ومع هذا ما يتصل بالبيئة المعنوية بكل ما تتسع له هذه الكلمة، فكل ما تقوم به الحياة الإنسانية لهذه العروبة وسائل ضرورية كذلك لفهم هذا القرآن العربي المبين (ا.ﻫ. بتصرُّف من دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة العربية، مجلد ٥، ص٣٦٩ وما بعدها، مادة تفسير. لكاتب هذا). وكذلك يتبيَّن لنا أننا ملزمون بدراسة العروبة في هذه الجزيرة لأسباب أدبية ودينية معًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤