قلت آنفًا
-
(١)
إن البحث «فكرة ومنهج»، وقلت عن الفكرة إنها نصفان؛ قومي مصري خاص، وفني أدبي عام. فالمصري الخاص هو توجيه العناية الكاملة إلى دراسة مصر أدبيًّا فيما يخصنا ويخص كلية الآداب المختلفة، وفنيًّا في سائر المعاهد الفنية المصرية، والدراسة الفنية الأخرى تُكمل درسنا الأدبي، ويُكملها درسنا الأدبي، كما توجِّه العناية الأولى إلى دراسة مصر علميًّا، واجتماعيًّا وعمليًّا … إلخ. والأدبي العام بعد الفكرة هو درس الأدب وتاريخه، في أقاليمه وبيئاته، لا في أزمانه وعصوره. ثم في بيان الجزء الأول من الفكرة، وهو المصرية الخاصة قلت:
-
(٢)
إن حيًّا لن يكفر في نفسه وهو حي؛ لأن إيمان الحي بنفسه سر وجوده الفطري، ومصر لم تكفر بنفسها لحظةً ما، فكيف لا تؤمن بشخصيتها في الفنون بعامة، ثم في الأدب بخاصة، وفي هذا العصر الإسلامي الذي ظلَّت فيه كدأبها شاعرةً بنفسها، يَقِظةً لذاتها، فهي لهذا تصر على أن تدرس وجودها الأدبي في العصر الإسلامي.
كما أن هناك اعتبارات عملية، وعلمية، وفنية، توجب على مصر وأبنائها أن يدرسوا أنفسهم أول ما يدرسون وأكثر ما يدرسون. وأشرت في إجمال إلى تلك الاعتبارات العملية ونحوها، ثم فصَّلت الاعتبارات الفنية أوفى التفصيل؛ لأنها تقوم على الشق الثاني من الفكرة، وهو مكانية الأدب، وبيئته، لا زمانيته وسياسته فقط. وهنا وصل القول إلى القسم العام من الفكرة فقلت:
-
(٣)
إن تحديد عصور أدبية زمنية كصدر الإسلام، والأموي والعباسي الأول والثاني … إلخ، ما هو معروف في تاريخ الأدب دون تحديد المكان، بل دون النظر إلى المكان الذي يشغله هذا الأدب؛ كالشرق القاصي، أو العراق، أو مصر، أو المغرب … إلخ، إنما هو إخلال عجيب بالتحديد والضبط، وإهمال للمؤثِّرات الطبيعية المادية القاهرة، مع الاهتمام بما لا أثر له، أو له أيسر الأثر، وهو الحكم السياسي وزمنه.
-
(٤)
وإن أثر البيئة الطبيعية على ما يعيش فيها من كائن مادي أو معنوي أثر قوي، واضح يُقرُّه البحث العلمي ويحاول ضبطه، والأدب من بين هذه الكائنات المعنوية، بل هو من حيث وجدانية الفن، من أشد الأشياء تأثُّرًا بالبيئة والإقليم، فوجب أن يُقدَّر أثر البيئة في فهم الأدب والأدباء، ثم في تاريخ الأدب والأدباء، وعلى هدى هذا التأثُّر، تُقسَّم حياة الأدب وتُحدَّد عصوره، ومعنى هذا أن القول بالإقليمية «إنما هو قضية العلم في تاريخ الأدب».
-
(٥)
إن تقسيم الأوطان التي سكنتها العربية بعد حركة الفتح الإسلامي إلى بيئات ومناطق، يحتكم العلم في تحديدها وتمييزها، وتُعيَّن الفواصل المادية بينها. ولا أُلزم في هذا التقسيم برأي معين، لكني إنما أقول: إن مصر بوصفها الطبيعي الفطري، قد تميَّز كِيانها الاجتماعي، واستقر ماضيها التاريخي، فتوافرت لها مُقوِّمات البيئة المتفرِّدة الواضحة، فدرْس أدبها عمل علمي صحيح الأصول.
-
(٦)
إن إقليمية الأدب تجادل عن نفسها، وتُثبت صحَّتها، واتبعت في ذلك ما يُشبَّه برصاصة الخلف المنطقي الهندسي، فعرضت ما يُبطل به المدَّعون هذه الإقليمية وناقشتهم فيه، وألمحت من ذلك النواحي الأدبية الآتية:
-
(أ)
تحديد زمنٍ لنشأة الآداب الإقليمية في المملكة الإسلامية، وأُبطل هذا بمنافاته لأدلة أصول الإقليمية، من عدم تحديد زمن واحد لظاهرة بدت في أقاليم مختلفة، فوجب أن تختلف باختلاف الأقاليم.
-
(ب)
تشابك العالم الإسلامي في العصر الذي حدَّد نشأة الآداب الإقليمية، واتحاد الشريعة، والعرف والعادات في ذلك الوطن، وعدم تميُّز وطن عن وطن في العلم أو الشعر، وقد أبطلت ذلك بالشواهد الكافية.
-
(جـ)
تقرُّب الأوطان التي نزلتها العربية بعد الفتح الإسلامي ونسيان ماضيها تمامًا، حتى إن محاولة نعتها إلى الجمهورية وأثرها لعمل ضائع.
وقد بيَّنت ما في هذه الفكرة من وهم، ورددتها بالنواميس الكونية الاجتماعية، التي لا تزال تتجدَّد في الأمم الحديثة والتاريخ المشهود، وانجر الحديث إلى أشياء عن الوحدات عربية وشرقية، وما في فكرتها من هوًى أو تحامل.
واتصل الأمر إلى الحديث عن أثر الإسلام في حياة الأقاليم التي اتصل بها، ومدى ما أحدثه فيها من تحوُّل.
-
(د)
وحدة الثروة الأدبية العربية وحدةً تامة. وقد بيَّنت ما في شواهد هذه الدعوى من دَخَل، ثم أبطلتها بالشواهد الأدبية الوافية.
-
(أ)