الدستور القديم
تُوفي السلطان سليمان الثاني القانوني سنة ١٥٦٦ عن مُلْك ضخم لم يكد يجتمع لأحد من قبله ولا من بعده، وغادر الدولة العثمانية في إِبَّان مجدها وأوج عظمتها، فلم يُحسن خلفاؤه تعقب خطواته، وتألبت عليها القوى الخارجية، وتناوبت فيها الفتن الداخلية؛ فأصابها ما يصيب كل دولة بلغت هذا الشأو العظيم، فتناثر ما تناثر من لآلئ ذلك العقد النظيم. وتولى السلطان سليم الثالث سنة ١٧٨٩ والبلاد في اختلال، والأحكام في تراخٍ، والانكشارية مستبدون بالسلاطين يولُّون ويخلعون ويقتلون، والبلاد في فوضى كادت تمزق شملها؛ فهاجه حب الإصلاح وصرح بميله إلى ترتيب الجند على النمط الحديث، فبطشوا به، فمات والإصلاح في مهده.
على أن تلك الفكرة لم تمت، فتلقاها السلطان محمود، وعمد إلى الإصلاح من وجهتيه الملكية والعسكرية؛ فبدد جند الانكشارية وأحل محلهم جيشًا منظمًا، وأخذ يبعث بمنشورات الإصلاح إلى الولاة والحكام، ولكنه تُوفي ولم يستتم من فروع الإصلاح إلا تنظيم الجند تنظيمًا غير تام.
وكانت روح الإصلاح قد انتشرت بين فئة من رجال الدولة؛ فأقاموا يبثونها على عهد خلفيه السلطان عبد المجيد والسلطان عبد العزيز، وأعظمهم شأنًا وأطولهم يدًا رشيد وعالي وفؤاد.
وما كاد يجلس السلطان عبد المجيد على سرير السلطنة حتى أذاع خط الكلخانه المشهور سنة ١٨٣٩/في ٢٦ شعبان سنة ١٢٥٥ﻫ، فكانت له ضجة اهتزت لها أوروبا.
وأخذ رجال الدولة في ذلك الحين ينظمون القوانين الخاصة لكل فرع من فروع الإدارة والقضاء.
وكان أعظم تلك الأعمال شأنًا مجلة الأحكام العدلية؛ لأنه غير خاف أن جميع الأحكام كانت تجري على مقتضى القواعد الشرعية.
وإذا كانت كتب الفقه تعد بالألوف، وبين الأئمة خلاف في بعض الأحوال، كان لا بد من توحيد تفسير النصوص ووضع مأخذ سهل يُستند إليه في الأحكام؛ فعهد أولًا بالنظر في ذلك إلى رهط من صفوة العلماء، ثم أُلفت لجنة كان منها جودت باشا ناظر ديوان الأحكام العدلية، وبعض أعضاء ذلك الديوان، وأعضاء شورى الدولة والأوقاف وغيرهم من العلماء، كعلاء الدين ابن عابدين، فنظَّموا ذلك الكتاب الجليل، وأصدر السلطان عبد العزيز الإرادة السنية بشأنه سنة ١٢٨٩ﻫ.
ولكنهم كانوا أثناء ذلك العمل وقبله وبعده، يعهدون إلى لجان أُخرى بتنظيم القوانين الخاصة، فنشر قانون الأراضي سنة ١٢٧٤، وقانون الطابو سنة ١٢٧٥، وقانون الجزا سنة ١٢٧٤، وقانون التجارة سنة ١٢٨٨، وكانوا في كل ذلك ينقلون عن القوانين الأوروبية، وخصوصًا الفرنسوية ناظرين إلى عدم مخالفة النصوص الشرعية.
ونظروا في سائر ما يقتضيه سير الحضارة، وإلى ما جرت دول أوروبا فيه على قوانينَ خاصةٍ؛ فوضعوا قانون التابعية العثمانية، وقانون ترتيب المحاكم الشرعية والمحاكم النظامية والمحاكم التجارية، ونظامات الإدارة الملكية ونظام إدارة الولايات ونظام شورى الدولة، ووضعوا نظامًا للمعارف ونظامًا للمطبوعات ونظامات أخرى للمطابع والطبع وحقوق التأليف والترجمة، ونظامًا للرسومات وآخر للمعادن وآخر للطرق والمعابر. والحاصل أنهم لم يكادوا يغادروا شيئًا من لوازم إدارة الملك حتى دونوا له قانونًا.
ولكن الحكم كان لا يزال مطلقًا، وإرادة السلطان فيه فوق كل إرادة؛ ينقض ويثبت ما شاء من الأحكام وليس ثمة قيد.
ففي المدة الوجيزة التي لبث فيها السلطان مراد على سرير الملك، كان مدحت وأنصاره قد انتهوا من إعداد القانون الأساسي وترتيب نظام مجلس «المبعوثان»، فما تولى جلالة السلطان عبد الحميد حتى كانت قوانين الدولة محكمة الوضع والترتيب تضارع، بحسن تنسيقها وإحكام موادها، قوانينَ أرقى الدول الأوروبية، لا حاجة باقية بها إلا إلى إنفاذ ذلك القانون؛ فبادر جلالته إلى التصديق عليه، فتم للدولة دستور لا يفوقه دستور واستبشر الناس بالإصلاح والفلاح.
على أنه لم يكد ينتظم مجلس «المبعوثان» وينظر في شئُون الدولة حتى صدرت الإرادة السنية بفضه؛ فتقوضت كل أركان ذلك البناء، وابتليت الأُمَّة بطور استبداد جديد لم تعهد نظيره حتى في عصور الظلمات.