الحرية ورجال الدولة
خرجت باكرًا صباح يوم من أيام سنة ١٨٩٤ للنزهة في مرسيليا؛ فالتقيت بصديق فرنسي معه رفيقٌ عليه لوائحُ الكآبة، فاستوقفني صديقي ودعاني لتناول القهوة في إحدى قهوات الكانبير، فجلسنا هنيهة ورفيقُه صامت مطرق، حتى إذا شرب قهوته سار في سبيله، فقال صديقي: أراك محدقًا بصاحبنا كأنك تستطلع طلع أمره وسبب انقباض صدره. قلت: نعم. قال: هذا مأمور إحدى دوائر الحكومة وهو كاثوليكي ورع في تعبده، رب بيت يعول امرأة وأولادًا، ليس بذي ثروة ولا مورد رزق له غير راتبه، وقد ألِف الذهاب إلى الكنيسة صباح كل يوم، وإن الله قد ابتلاه برئيس أبغض ما عليه العبادة والمتعبدون؛ فأصبح مضطرًّا إلى تأدية فرضه فجر يومه، فيذهب ويرجع خلسة؛ لئلا يعلم به رئيسُه وأقل ما يناله من ضرره سد سبيل الترقِّي في وجهه. قلت: أيكون هذا عندكم وأنتم في بلاد تفاخر الدنيا بحريتها؟ قال: وجب أن لا يكون ولكنه كان ولو قليلًا.
إذا كان هذا مبلغ محاذرَة المأمور في بلاد الحرية، فما عسى أن يكون في بلاد الاستبداد؟
يقول أعداء البلاد: إنها خالية من الرجال الصالحين لتولي الأحكام. ويقول محبوها القانطون عن غير روية: لقد تدنست الأخلاق وساد الفساد وهيهات أن يستقيم المعوجُّ. فقل للأولين والآخرين: كل ذلك لم يكن ولا كان بعضه. ولكنَّ لكلا الزعمين أسبابًا زالت يوم إعلان الدستور وقد، حان لنا أن نقول اليوم قول اللورد سولسبري: إن في البلاد العثمانية رجالًا وهم لو أطلقوا رجال عظام.
لا ريب أن استبداد الحكومة الغابرة أزاح من وجهها صفوة خالصة من رجال الذكاء والغيرة والاستعداد، وإذا اضطرت إلى استخدام بعضهم ذرًّا للرماد في أعين الناس طرحتهم في إحدى زوايا الإهمال لا حول لهم ولا قوة، كما طرحت أكرم وسعيدًا في زوايا مجلس الشورى حتى تسنى لها إبعاد سعيد إلى اليمن. فهؤلاء وأمثالهم أسبل ذيلُ التعسف سترًا على ما كان يُرجى من نفعهم. أما الآن وقد فتحت لهم الأبواب، فسيكون لهم في المستقبل شأن مذكور ومآثرُ غراء، وهناك فئة أُخرى آثرت الاغتراب والفقر وواصلت الجهاد كرضا وصباح الدين وعبيد الله؛ فبُذلت لها الأموال فلم تطمعها، وغُررت بأعلى الرتب وأسمى الوظائف فلم تغتر، ولم تزل دائبة في سبيلها حتى قيض الله لها هذا الفوز المبين. ومن هذه الفئة الأخيرة زمرةٌ من خيرة النجباء أخذها العياء؛ فوقفت في منتصف الطريق، وبلغ منها الجزع مبلغ اليأس وخُدعت بالأماني والوعود، فسقطت في الأحبولة وعادت إلى الأستانة فحِيل بينها وبين أمانيها، وغُلَّتْ أيديها بحَبْل من مَسَد، كلطف الله ومراد. ولسوف تحكم بين جميع هذه الفئات رُبط التآخي والتعاضد؛ فيكونون عصبة مجتمعة بعد أن كانوا عصابات متفرقة أُقيمت بينها الحواجز والسدود.
هؤلاء جميعًا لم يكونوا من رجال الدولة على ما يفهمه أرباب السياسة، فلنغادرهم وشأنهم إلى حينٍ، ونقصر البحث على أولئك الذين تولَّوا الأحكام، وأُسندت إليهم المناصب للعهد المنصرم.
ترى الجمَّ الغفيرَ من الناس ينحون باللائمة على جميع رجال الحكومة بلا استثناء، وهو خطأ فاحش؛ فإذا استقريت الأحول وتتبعت مجاري السياسة الداخلية تبين لك أن التبعة كل التبعة في هذا البلاء لا تتجاوز النزر اليسير منهم.
انظر أولًا إلى الجيوش التي كانت مُلتفَّة حولهم من جُند الجواسيس، ولا تظنن أنها كانت أخف وطأة عليهم منها على سائر الناس. بل إذا أمعنت النظر رأيت الحقيقة بخلاف الظاهر، وكلما صعد الواحد منهم في سلم الارتقاء زادت الرقابة عليه، ولا يسثنى من ذلك صدر أعظم ووزير خطير، ولا تُرعى حرمة شيخ إسلام وعالم كبير، بل كان صغار المأمورين أخف ضيمًا وأنعم بالًا إذ كان يُتاح لهم أن يزوروا ويُزاروا ويختلفوا إلى المجالس.
وأما أولئك فكانوا سجينين في بيوتهم، توجس منهم الخيفة إذا تجاوزوا الأبواب، وعليهم العيون مبثوثةٌ في المنازل والطرق، لا يعلمون أَهُم واقفون لهم في الطريق، أم قاعدون بين جلسائهم وندمائهم في بيوتهم، أم جاثمون بين خَدَمهم في غرف نومهم ومطابخهم. لا يجسر الوزير أن يزور وزيرًا ولو كان حبيبًا له قبل الوزارة. يمعن الفكرة طويلًا قبل أن يفوه بكلمة؛ خوف أن تؤوَّل أو تُنقل. تأخذه الهواجس فلا يعلم مصيره مساء يومه، لا يعلم أيخرج عن منصة الأحكام إلى بيته فيلفي الجواسيس قد برزت من خفائها تحمل أوامر تفتيش غرف المكاتب والملابس والمطابخ والشرفات، أو الجنود قد حملت أمر سوقه إلى «المابين» ليُستنطق ويُهان أو صدرت الإرادة السنية بإيقافه إلى أجل غيرِ مُسمًّى. ولهذا كنت ترى معظم هؤلاء الأمراء الأرقاء على تحفُّز واستعداد حتى إذا خشوا الغدر بهم، تناولوا حقيبتهم المعدة لمثل هذا اليوم، وطلبوا مَلجأ يتقون به شر السعايات. ولا يزال خبر التجاء سعيد باشا الصدر السابق إلى السفارة الإنكليزية يرنُّ في الآذان.
ثم إذا أَلْفَتَّ إلى زعماء الخفية أنفسهم رأيتهم تحت رقابة خفية أُخرى يُقال في وصفها مثل ما تقدم، وعلى هذه رقابةٌ أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية له، حتى تصل من أكبر كبير إلى أصغر صغير متسلسلة من ولي عهد السلطنة إلى أبناء الأُسرة المالكة، إلى الوزراء والعلماء، إلى المشيرين والضباط، إلى الولاة المتصرفين، حتى مُرتِّبي الحروف في المطابع ومُوزِّعي رسائل البريد والتلغراف.
ذلك كان نظام الخفية، ذلك الوباء المنتشر في البلاد انتشار الجراد، حشراتٌ آخذٌ بعضها بأذناب بعض، ولكم التفَّت تلك الأذناب على الرقاب فخنقت نفسها! وكم من جاسوس كبير قضي عليه بوشاية من جاسوس صغير! ولو كان العدل بالمساواة في شكل واحد من أشكال الحكم؛ لكانت الحكومة الغابرةُ أعدل الحكومات إذا لم تكن الخفية تضرب كشحًا عن أحد ظالمًا كان أو مظلومًا.
فإذا علمت ذلك وعرفتَ أن كل الحول والطول أصبح في يد دُعاة الاستبداد، وأن البابَ العاليَ بات أثرًا تاريخيًّا يشير إلى أنه كان مصدر الأحكام في سالف الزمان، وأن الوزراء جميعًا أصبحوا آلةً صماء في أيدي رجال «المابين» لا يحلون ولا يربطون ما لم يَتَلقَّوُا الأوامر، وإذ أحرجهم العسف فهزتهم الأريحية فقاموا بوجه تلك الأوامر؛ نُبذوا في الحال كما جرى مرارًا لسعيد وكامل الصدرين. وإذا علمت أيضًا أن سلطتهم أُزيلت حتى عن نفس مستشاريهم وكُتَّابهم؛ فقل لي — بحقك — من ذا الذي يعجب لتثبط هممهم وتعذُّر الإصلاح عليهم.
فكل تَبِعَة هذا الجمود وتلك المظالم إنما يجب أن تُلقى على عواتق أولئك المقربين الذين قبضوا على أَزِمَّة الأحكام وتصرفوا بحقوق العباد تصرُّفَ المالك بملكه.
وما عسى أن نقول في انتخاب المأمورين وتعيين ذوي اللياقة منهم، وليس لصدر محنَّك أو وزير مدرب أو والٍ أمين أن يأمن على بقاء مستشاره في خدمته من الصباح إلى المساء. وبينا ترى المأمور الذي قضى حياته في منصبه يجهد نفسه في الخدمة إذا به قد أقيل من منصبه؛ لأنه راق صنيعة فلان أو فلان أن يحل محله فيه. بل ربما أُرغم رئيس مجلس أو دائرة كبيرة على أن يحل بين الأعضاء عضوًا جديدًا لا محل له ولا مزية تحليه إلا أنه من صنائع المقربين. يؤمر بقبوله أمرًا ولا يُستشار، ودونك رؤساء شورى وأمانة العاصمة ومجلس تفتيش المعارف، فاسألهم ينبئونك بغرائب الحال.
ثم إذا انثنينا إلى الإصلاح المفروض على رجال الدولة قيامًا بواجب تلك المهام، يجب أن نعلم — قبل كل شيء — أن كلمة «الإصلاح» نفسها كانت من الحروف المقضيِّ عليها بالإلغاء، إذا نطق بها ناطقٌ اتُّهم في أنه من دُعاة الثورة. ومن ذا الذي كان يجسر أن يقول جهرًا إن البلاد في حاجة إلى الإصلاح، أو من ذا الذي كان يجسر أن يقرن اسمه إلى عمل مفيد في البلاد حتى ولو كان من رجال «المابين» إلا في أحوال شاذة.
وإذا أردت أن تعلم مبلغ العذر الذي نلتمسه لبعض رجال الدولة على تقاعدهم في زمن العسف عن طلب النافع المفيد والسير في طريق الإصلاح فإننا نضرب لك مثلًا رجلًا تفاخر به رجال الأُمم وقد تدرج في مرقاة المناصب حتى تولى الصدارة العظمى، ألا وهو: مدحت باشا.
رأينا مدحت واليًا قبل طرد الحرية من البلاد، ورأيناه واليًا بعد ذلك؛ فانظر الآن إلى شأنه في الولايتين، تولى بغداد قبل عهد الاستبداد سنة ١٢٨٥ /١٨٧٠، وكانت الإدارة مختلة والقبائل ثائرة والمالية ناضبة، وليس في البلاد شيء من معاهد العلم والصناعة، فوجه نظره إلى توطيد دعائم الأمن؛ فسار بنفسه للضرب على أيدي رؤساء العشائر الهندية والدغارة، فأخذ من أخذ بالقوة، وسكن روع من بقي باللين والمجاملة، وسير البعوث إلى قبائل المنتفق والأحساء والقطيف، فدوخ العصاة وأمن الطائعين. ولما استقر له الأمر وساد الأمن انثنى إلى الشؤون الداخلية، فأصلح إدارة الحكومة ونظم المحاكم، وأوجب أن لا يكون أحد من عمال الحكومة من صنائع الوجهاء.
وشاع خبر نزاهته وتجرُّده، فهابه المرتشون وأُقفلت الأبواب في وجوههم، واتخذ ما أمكن من الوسائل لدفع الرواتب في أوقاتها ورَغِبَ في زيادة رواتب صغار المأمورين؛ فلم يَتَسَنَّ له ذلك. وله كلمةٌ مأثورةٌ قالها إذ ذاك: «سوف يأتي زمن يتيسر للدولة فيه أن تُعادل بين العمل والأُجرة، أما الآن — والإجحاف ظاهرٌ — فكأننا نحن أنفسنا نأذن بالرشوة لذوي الرواتب الزهيدة، بل نأمرهم بذلك أمرًا»، وضرب على أيدي الحكام الظالمين وفتح أبوابه للمتظلمين، فهابه الحاكم واطمأن المحكوم، ونظر في الطرق المتخَذة لجباية الأموال فعرف الداء وعاجله بالدواء، فأمن الفلاح ظلم ملتزم الأعشار، واطمأنت عشائر البدو من الزراع فعادت إلى زراعتها.
وإن له فوق ذلك من الآثار في تلك الولاية القاصية في أطراف البلاد ما جعل بغداد تُفاخر سائرَ الولايات حتى ما جاور منها عاصمة المُلك. فهو الذي أنشأ أول مطبعة في بغداد وأصدر فيها جريدةً دعاها الزوراء. وهو الذي أصلح إدارة عمان البحرية التي أخذت تُسيِّر البواخر بين بغداد والبصرة ومنها إلى اليمن والحجاز.
وهو الذي أنشأ معمل الحديد الكبير وأَلْحَقَه بتلك الإدارة، وهو الذي أنشأ مكتب الصنائع وبث في البلاد روح التضافر على تأليف الشركات فألف شركة من أهالي بغداد، فأنشأت طريق الترامواي بين بغداد والكاظم، وهي أول شركة ترامواي في الولايات العثمانية — على ما نعلم — وكانت له عناية خاصة بإصلاح الطرق وتسهيل سُبُل الاتصال. وهو الذي قرَّب المسافة بين بغداد والبصرة بضع ساعات؛ إذ خرق سبيلًا لدجلة فحَوَّلَه عن مجراه في محل يلتف فيه المجرى ويدور مسافة طويلة، ثم يرجع إلى قرب المجرى الأول. ولا يزال ذلك المحل يعرف ﺑ «القَصَّة» أو «قصة مدحت»، وله من هذا القبيل أعمال باهرة؛ إذ استقدم مهرة المهندسين وبَثَّهُم في الولاية؛ فدرسوا حالة البلاد الزراعية ووضعوا مشروعات الري الخطيرة. ولكن مدته لم تطل فغادر بغداد ولم ينفذ منها إلا القليل؛ فأضحت بعده أثرًا بعد عين.
وشرع في توسيع طرق بغداد، وعند قُدُوم شاه العجم إلى بغداد أعد له قصرًا فخيمًا أنشأ إزاءه حديقة غناء. فلما غادر الشاه بغداد جعل تلك الحديقة متنزَّهًا عامًّا دعاه «ملت باغجه سي» أو بستان الأُمَّة، وكان يَختلف إليه كأحد الناس؛ يجامل الأهالي ويحادثهم كأنه واحد منهم.
وأطلق من الحرية لمأموريه بقدر ما أَلْقَى عليهم من التبعة وأوجب عليهم عدم المحاذرة من شيء إذا كانوا على ثقة من عملهم، حتى لقد كان يوبِّخ المأمور الذي يأنس منه تزلُّفًا إليه بقول أو بفعل. وكان لا يدخر وسعًا في إلقاء بذور الحرية ليألف الناس العمل بها والنطق بها، مهما كانت الحال إذا كانوا في جانب الحق.
دخل يومًا قاعة مجلس الإدارة — والأعضاء مجتمعون — فقال: أرى الحاجة ماسة بنا إلى استئذان الباب العالي في زيادة الضرائب، فما رأيكم؟ قالوا جميعًا: هذا هو الرأي وتلك هي الحكمة. قال: فلنكتب إذًا محضرًا ونرسله في الحال. فكتبه للكاتب، وبعد أن مهروه بأختامهم، قُدِّم إليه فمهره، وقال: بارك الله فيكم وغادر المجلس. ثم رجع إليهم ثاني يوم وقال: فكرت في أمر زيادة الضرائب فتراءى لي أنها ظلمٌ لا يجوز أن تُثقَّل ذِمَمُنا به، ولكن سبق السيف العزل، فقد بعثت بمضبطة أمس إلى الباب العالي، فرأيي إذا رأيتموه صوابًا أن نُلحقها بأخرى نوضح فيها أننا تسرعنا بإرسالها، ونأتي على الأسباب الموجبة لنقضها، فما قولكم؟ قالوا جميعًا: هذا هو الرأي، وتلك هي الحكمة. فأمر الكاتب فكتبها، وبعد أن وقَّعوا جميعًا دفعها إليه. فأخرج المحضر الأول من جيبه وأمسك هذا بيد وذاك بيد، وقال: هذا هو الرأي وتلك هي الحكمة وأنا صاحبهما أمس واليوم، وسأظل كذلك غدًا وبعد غد، فما شأنكم إذًا وهذا المجلس. ثم ألقى عليهم عظة مختصرة، أوضح لهم في خلالها معاني الحرية ومراميها، وأوجب عليهم أن لا يَخْشَوا مخالفته إذا رأوه على غير هدى.
وكان يلتهب غيرة على الشروع حالًا في كل عمل يتضح له نفعه، والمجال فسيح في تلك الولاية وسائر الولايات، ولكن المال ربُّ الأعمال غير متوفر لديه، ومالية الدولة في عجز ظاهر؛ فلا يسعها أن تمده بشيء. ومع هذا فبعد أن احتال على إرصاد المال اللازم لما تقدم من الأعمال بحيل شتى — لا محل لإيرادها — بدا له أن يظل سائرًا في سبيله، وكانت المواردُ قد نضبت، فكتب إلى الباب العالي تقريرًا مفصَّلًا وضع فيه مشروعًا لإصلاح إدارة الجمارك وجباية الأعشار. وقال في آخره إن البلاد ما زالت في حاجة إلى كثير من الإصلاح وعدَّد من أنواعه ما شاء، وأوضح الفائدة منها للدولة والرعية. وقال في الختام: لئن أذنتم لي بالشروع في هذه الإصلاحات، فإني متعهد أن لا أُثقل كاهل الخزينة بعد بغرش واحد، بل أجعل جميع النفقات المقبلة من الزيادة التي تحصل في الدخل. فأجابوه شاكرين على الزيادة، ولكنهم أمروه بإرسالها إلى الأستانة.
وليس هنا محل البحث في ما آل إليه أمر جميع تلك الأعمال الخطيرة التي قام بها ذلك المقدام، مما باد واضمحلَّ أو رجع القهقرى ولو جرى الولاةُ خلفاؤه على أثره منذ نحو أربعين عامًا لأصبحت بغداد الآن كما يقول أهلها سيدة البلاد.
تلك وأشباهها أعمال مدحت باشا بولاية بغداد وكُلُّ حُكْمِهِ فيها نحو ثلاث سنوات ونصف.
فانظر الآن معي إلى أيام ولايته في سوريا وبعدها في أزمير في عصر الظلم والاستبداد.
تولى مدحت سوريا سنة ١٨٧٨، وكان لا يزال هو إياهُ مصلحًا كبيرًا ووزيرًا خبيرًا، بل كان زاد حنكة وعلمًا بما ولي من المناصب في تلك الفترة، وحسبك منها الصدارة العظمى. أتى سوريا وكلُّه همةٌ وذكاء، فهمَّ بأمور كثيرة لم يكد يتسنى له إنفاذُ شيء يذكر في تاريخ هذه البلاد، كما يذكر في تاريخ بغداد، وأما في أزمير فلا يحفظ له التاريخ إلا تلك المكيدة الدهماء التي نُصبت له فأُخذ بها وقُبض عليه وسِيق إلى الأستانة ثم إلى الطائف حيث قضى شهيدًا.
فلا ريب إذًا أن ما أتاح لمدحت في الولاية الأولى ما لم يُتِحْه له في الولايتين التاليتين إنما كان إطلاق يده في الأولى وغلها بأصفاد الجواسيس والأوامر السرية بعد ذلك.
وإذا قلت: إن مدحت كان رجلًا فردًا، فلا يُقاس عليه فانظر إلى سائر الولاة ترَ بينهم مَنْ لا يكاد يقل عنه شأنًا. ودونك مثلًا: راشد باشا الذي تولى سوريا في نفس تلك الأثناء، ثم تقدم على مدحت في الشهادة؛ فكان من جُملة المقتولين بيد جركس، وهم مجتمعون في بيت مدحت في الأستانة بعد ذلك التاريخ بأعوام.
تولى راشد باشا سوريا وهي في حالة تُماثلُ حالة بغداد يوم تولاها مدحت، فمشى مرارًا في طليعة الجنود المسيرة لتدويخ عُصاة النُّصيرية في جبالهم، والحوارنة في معاقلهم، ولم يشغله ذلك عن النظر في شئُون الولاية الداخلية، فمهَّد سُبُل التعليم. وفي زمنه أُنشئت المدارس الكثيرة وظهرت في سوريا أول المجلات العربية، ونشط أصحاب الأقلام، فأنشئوا صحف الأخبار، ووسع لهم نطاق الحرية في التحرير، وكافأ المؤلفين بمال بعضه من عنده وبعضه مما كان يرد من الأستانة بناء على إشارة منه. وكانت في زمنه نهضةٌ للعلم والأدب لا يزال كهول السوريين يتغنَّوْن بها، فما بال خلفائه — ومدحت منهم — تَعَذَّرَ عليهم أن ينهجوا ذلك النهج القويم؟
فلا يَمُرَنَّ بخاطرك بعد ما تقدم أن رجال الدولة في الحكومة الغابرة لم يكن فيهم من ينزع هذا المنزع؛ فالنفوسُ باقيةٌ على رغائبها ولكن العقبات أُرصدت في وجوههم فردتهم على أعقابهم، وما كانوا بمرتدِّين إلا ليعاودوا الكَرَّة بأيدٍ مُطلَقات.
وإن شئت زيادة إيضاح فدونك أمثلة غير مأخوذة عن تواتر، بل هي منقولةٌ عن مذكرات مشاهدات ومدَّخَرة لمثل هذا اليوم: كلنا يعلم ما لمنيف باشا ناظر المعارف الأسبق من جلالة القدر، وما له من المكانة بين رجال العلم والأيادي البيضاء في خدمة الدولة، وكل ذلك لم يُغْنِهِ عن نكبة نُكِبَها لوشاية واشٍ استخرج من كتاباته كلماتٍ أولها على هوى بعض المقريبن؛ فعزل من نظارته وأُمر بالإقامة في منزله زمنًا إلى أن ظهرت براءته ظهور الشمس؛ فأُعيد ناظرًا للمعارف. وقد كان ساقني الحظ للاتصال به اتصالًا مكينًا، فأطلعته يومًا على كراريس من كتاب خطي فقال بعد أن نظر فيها طويلًا: هذا كتابٌ جزيلُ النفع، ولكن واأسفاه لو أتيتني به إلى المقام الرسمي في النظارة لَمَا وسعني إلا أن أردك خائبًا؛ إذ ليس في مجلس التفتيش والمعاينة مَنْ يجسر أن يرفع إلي تقريرًا بجواز طبعه. واستطرد باسمًا: والسبب في ذلك أنه مُفيد. ثم استرسل في الكلام إلا ما ألفنا سماعه منه من وصف اختلال الأحكام وهو يردد الحسرات متتابعة الواحدة تلو الأخرى.
قصدت الأستانة سنة ١٨٨٦، وسعيد باشا إذا ذاك صدرٌ أعظمُ وكامل باشا — الصدر الحالي — ناظرُ الأوقاف. وكان لأُسرتنا سابقُ اتصال به منذ كان متصرفًا لبيروت. فقصدته ثاني يوم وصولي فرحب بي وأشار إلي بمواصلة التردد عليه مدة إقامتي في الأستانة، واستبقاني لتناول الطعام على مائدته حتى إذا جلست للغداء سألني عن سبب قدومي الأستانة، وعما إذا كان لي حاجةٌ تستوجب إسعافه إياي بقضائها؟ قلت: نعم، منذ سنتين شرع ابن عمي سليم البستاني في نقل دائرة المعارف إلى اللغة التركية، وألَّف لذلك لجنة من خِيرَة كتاب التركية برئاسة خلقي أفندي رئيس المكتب السلطاني فأنجزتُ منها نحو مجلدين وتوفاه الله قبل أن يُباشر الطبع.
فرأيت أنا وإخوته أن نتم العمل، ونستأذن نظارة المعارف بالطبع. فقال: أَرِنِي مثالًا مما كتب، فأُبدي لك رأيي. فرجعت في الغد ومعي مثال في زهاء مائة صفحة كنت أعددته لنظارة المعارف فاستبقاه عنده ريثما تصفُّحه ثم قال لي — وهو ملمٌّ بالعربية: ليست دائرة المعارف بأفصحَ عبارةً وأحكم لحمة وأجزل فائدة من هذا النقل التركي. فلا تتباطأْ عن طلب الرخصة، ولك مني كل الموازرة، وهذا ابني صبحي بك صديقك من أعضاء مجلس التفتيش والمعاينة يعضدك بكل قواه. فقدمت الطلب إلى الناظر الذي أُقيم خلفًا لمنيف باشا أيام نكبته سنة ١٨٨٦، وما زلت أتردد ثلاثة أشهر على نظارة المعارف، ولم تُغنني معاونةُ المغفور له صبحي بك بكل قواه ولا انضمامُ بعض رفاقه إليه كالسلاوي، ولا موازرة كبار الكتاب كسعيد بك منفي اليمن وأبي الضيا توفيق بك منفي قونية الحيين، خلا من تُوفِّيَ منهم كجودت باشا وصبحي باشا، فإن الناظر لبث أذنًا صماء.
ولما نفدت الوسائل قال لي كامل باشا: لئن ذهبت إلى الصدر الأعظم، فإنك — بلا ريب — تظفر بأربك. فكتبت عريضة وذهبت إليه، فما كان أشد عجبي إذ قال لي: حالًا قرأت في الجرائد شيئًا وسرني جدًّا إقدامُكم على هذا العمل الخطير ولو خطر لي أنك لقِيتَ هذه المماطلةَ لأغنيتك من تلقاء نفسي عن هذا العناء؛ فكلنا يطلب المفيد وكلنا في هذه الأُمَّة واحد؛ فاذهب الآن مطمئنًّا، وعد إلي بعد ثلاثة أيام. وفي اليوم التالي كانت الرخصة بيدي، فعدت إليه في الأجل المضروب الذي ضربه لي، ولكن للتشكُّر وليس للتشكِّي.
غير أن المراقبة التي أخذت تشتد من ذلك الحين، وأسبابًا أُخرى حالتْ دول القيام بالعمل، ولا شك أن جهابذة كُتَّاب الترك — وقد انطلقت أيديهم الآن — سيبرزون أمثاله على أتقن منوال.
تلك كانت غيرةُ بعض رِجَال الدولة على المعارف، ولم يكن دُون ذلك تَفَانِيهِمْ في نشر لواء الحرية وإصلاح كل مختل في الإدارة والقضاء والمالية، وكل مواردها.
مضت عَلَيَّ ثلاثةُ أشهر في الأستانة كنت أجتمع أكثر أيامها بسعيد بك منفي اليمن، وأنا شغف ببلاغة كتابته في اللغة التركية، فألتقط من فوائدها ما تسعه الذاكرةُ، ومن مزاياه أنه ضليعٌ بالفرنسية والألمانية وواسعُ الاطلاع بالتاريخ، مُتَّقِدُ الذهن، ذو تَجَرُّدٍ غريب، وهو — مع تَحَلِّيه بتلك الصفات — رئيسُ دائرة في مجلس شورى الدولة.
فقلت له يومًا — وهو يُكثر الشكوى من اختلال الأحكام: لئن كنت أنت وأمثالك من ذوي العُلى والشهرة والنفوذ تجزعون لهذه الحال، فما تقول عامة الناس؟! قال: نحن أولى منهم بالرأفة؛ لأننا نرى ولا جراءة لنا على السعي، ومن سعى منا جُوزي جزاء الخائنين، فالنار تلتهم أفئدتنا ولا طاقة لنا على إخمادها. قال ذلك كأنه يتنبأ بما سيناله يومًا من البلاء في خدمة الحرية والإصلاح.
وهذا حقي بك ناظر المعارف الحالي — وأنعم بهذا الناظر الجديد لهذه النظارة الجليلة — عُيِّنَ سنة ١٨٩٣ قوميسيرًا لمعرض شيكاغو، وكنت ذاهبًا إليها لتولي إدارة القسم العثماني فيها. قال لي يومًا قبل أن نبرح الأستانة: بلغني من ثريا باشا — وهو يومئذ باشكاتب «المابين» — أنك طلبت رخصة بإصدار مجلة تركية تصدر في شيكاغو أثناء المعرض، وتستجمع وصف معروضاته وجميع نتاج العلم والصناعة والاختراع فيه. قلت: نعم، ولكنني صرفتُ النظر لما يلوح لي من شدة العناء في هذا العمل الشاق في تلك البلاد النائية، وكثرة ما يقتضي النفقات، وأشد من ذلك علي ما أعلمه من تعنُّت المراقبة، فهي وإن كانت لا سلطة لها علي في أمركما فلربما أوردت كلمة على غير قصد مما حُذف من معجم الكتابة، فالمناقشة بعد رجوعي إلى الأستانة. قال: أنا الضمين لك من هذا القبيل، وإن شئت فأطلعْني هناك على الملازم قبل الطبع. وهذا عمل مفيد للبلاد، فلا يجب أن يثبطك شيء عنه، وخصوصًا أن فيه سمعةً طيبةً للعثمانيين في بلاد الأجانب، وأمل وطيد أن «المابين» والحكومة يأخذان من أعداد الجريدة ما يسدُّ النفقات. ولم يزل بي حتى أقنعني، قلت: إذًا لا بد لي من الإرادة السنية. قال: لم تسبق عادة بإصدار الإرادات السنية لما يطبع خارج البلاد. قلت: لا بُدَّ لي من ذلك ليطمئنَّ قلبي، وإلا فلستُ بفاعل. فبعد أيام بَلَّغَني الإرادة السنية، وهي لا تزال بيدي.
وفي تلك الأثناء قصدتُ أحد النظار العاملين زائرًا، فقال لي أثناء الحديث: أصحيحٌ أنك عازمٌ على إصدار مجلة تركية في أميركا؟ قلت: نعم. قال: أتحررها أنت مع كثرة مشاغلك. قلت: بل لا بد لي من الاعتماد على محرر ماهر. قال: ألا تعرف عبيد الله أفندي؟ قلت: أعرفه بشهرته. قال: هو مِنْ أَبلغِ كُتابنا وله رغبة في مثل ما أنت راغبٌ فيه، فاتفقْ معه، ولكن الرجل من دعاة الحرية والإصلاح، والجواسيس أمامه ومن خلفه؛ فلا يتمكن من الذهاب معك، ولكنه يتيسر له اللحاق بك خلسة. وبعد ذلك جهز لي صديقي أبو الضبا توفيق الحروف التركية وسائر المعدات وأعطاني مرتِّبًا بارعًا من عنده يُدعى محمد أفندي.
وبعد وصوله شيكاغو وافاني عبيد الله أفندي؛ فحرر المجلة كل مدة المعرض وأودعناها وصف المعرض ومخترعات العصر بالرسوم المتقنة؛ فكانت أول وآخر ما صدر بأميركا من المطبوعات التركية. ولكن رجال «المابين» نبذوها بالقسر عن موازرة حقي بك، والسبب في ذلك أنني لم أُصغِ إلى نصيحة ناصح قال لي: إذا رغبت في الربح فاجعل ثلاثة أرباع صحيفتك إطراءً ﺑ «المابين» فلم أفعل، فعدت بخسارة جسيمة. وبعد عودتنا إلى الأستانة طلب مني جواد باشا الصدر الأعظم نُسَخًا منها، فأرسلتُها له وعنونتُ واحدة منها عنوانًا خاصًّا وكتبت على صدرها:
أما عبيد الله أفندي فبقي مدة في أميركا، وكان يعلم قبل سفري أنني ربما أُسأل عنه وأوخذ بتهمته. فقال لي: لئن ذهبت معك إلى الأستانة، فإما أن أُقتل وإما أن أُسجن سجنًا يشبه القتل، فأنا باقٍ الآن هنا إلى أن يفتح الله، ولكني أُوثر الموت على إصابتك بأذًى، فإذا وقعت في مثل هذا المأزق، فبتلغراف واحد منك أطير إليهم ليفعلوا بي ما شاءوا. قلت: معاذ الله أن ألقي بك بين مخالب الموت مهما كانت الحال. فلما بلغت لندن وأنا راجع من أميركا ذهبت إلى السفارة العثمانية، وكان السفير رستم باشا على آخر رمق من الحياة، فما منع ذلك موريل بك المستشار أن يفتح الحديث معي بالسؤال عن عبيد الله وسبب إغفالي أمر إرجاعه معي، وذلك أيضًا كان افتتاح الحديث في سفارة باريس.
أما في الأستانة فكأنهم خلطوا بين عبيد الله والمرتب محمد أفندي، وكان هذا فتًى ذكيًّا مجتهدًا، أراد أن يُتم الحفر في الزنك فاستأذنني بالبقاء ثلاثة أشهر كانت في أثنائها التلغرافات متتابعة بالسؤال عنه. وما كان أشد هزئي وهزء الناس بسخافة عقولهم؛ إذ وصل الأستانة بعد زهاء شهرين، وكان اهتمامهم بتَتَبُّع خطواته من أميركا إلى الأستانة أعظمَ من الاهتمام بقدوم أمير عظيم. فما شعر يوم أرست الباخرة في السركه جي إلا وحاجبان من حُجَّاب «المابين» يسألان عنه. فأخرجاه بما معه إلى عربة معدة لاستقباله وساقاه إلى «المابين»، فلبث ثلاثة أيام تحت الاستنطاق ولم يجدوا بين ثيابه إلا رسوم المعرض وهدايا قليلة أتى بها لوالدته العاجزة. وكأن الله ألقى الرحمة في قلب بعضهم؛ فأذنوا له بالخروج لمشاهدة والدته وأصحبوه برقيب يلازمه، فأتاني شاكيًا باكيًا، فبادرت مسرعًا إلى أبي الضيا وواصلنا السعي إلى أن منَّ الله عليه بالفرج.
وإليك غريبة أخرى من أذيال هذه المسألة، وهي وإن لم تكن من لباب الحديث لا تخلو من فائدة وتفكهة.
في تلك الآونة استدعاني ناظر الخارجية، فذهبت إلى النظارة، ولم يكن أتاها في ذلك اليوم فاستقبلني أحدُ معاونيه، وكانت لي به معرفة سابقة. فقال: إن لدينا رسائل شتى من السفير العثماني في واشنطون تفيض في الثناء عليك، وما كان لك من اليد في خدمة الاسم العثماني، ولذلك يود دولة الناظر أن يبلغك شكره، ويطلب لك ما تشاء من المكافأة المعنوية. قلت: حسبي منه فضلًا أن يكون فكر في ذلك، فلست من سلك أصحاب الرتب. وبعد حديث طويل ومجاملة، قال: إن لنا حاجة لديك. قلت: مقضية، إن شاء الله. قال: أن تُعْلمنا ماذا فعلت بحروف المطبعة التي أخذتها من أبي الضياء. قلت: استبقيتها في نيويورك عند وكيل لي على أن يسلمها إلى صاحب جريدة المهاجرين السوريين كان رغب في مشتراها.
قال: نسألك، إذًا، أن تكتب تلغرافًا مفصلًا على نفقتنا تأمر وكيلك به بتسليمها إلى قنصل الدولة العلية في نيويورك إذا كانت لا تزال باقية في حيازته، والثمن يدفع إليك هنا حالما يرد الجواب من القنصل باستلامها. فكتبنا التلغراف وأُرسل في الحضرة فورد الجواب أن صاحب الجريدة لم يستلم الحروف؛ ولذلك استلمها القنصل فنقدوني الثمن. ولكنهم بادروا في الحال إلى إصدار الأوامر بمنع إخراج الحروف المطبعية من البلاد العثمانية، ويا لكثافة تلك الغشاوة على أبصارهم! أَجَهِلُوا أن مكاتب البريد الأجنبية تحمل ما شاء العثمانيون منها حيث شاءوا، وأن مسابك الحروف في أُوروبا في غنًى عن حروفنا إذا أحرجها الأمر؟
ولنختم هذه الرحلة — وإن طالت — بكلمة عن حقي بك ناظر المعارف الحالي؛ فإنه رفع التقارير الضافية الأذيال عَمَّا شاهد من ترقيات الصناعة والتجارة والزراعة مما يجب تحديه في الممالك العثمانية. فاسألوه عما كانت عليه نتيجة كل ذلك العناء، وذلك الجهد، أفلم تكن أوراقه لدى عمال «المابين» أقل قيمة من مهملات الجرائد؟
وهذا رجب باشا ناظر الحربية الحالي، وهو الذي ذَكَرَه كامل باشا منذ أعوام طويلة لجلالة السلطان، فقال: أَعلن الدستور وألق مقاليد الحكومة إلى ذويها، واجعل زمام السر عسكرية بيد رجب باشا، فيستقيم لك الأمر. أَنِسُوا منه ميلًا إلى الحرية والإصلاح، فما وسعهم نبذه نبذًا مطلقًا لحاجتهم إليه، وما وسعهم أيضًا أن يكون قريبًا منهم فكانوا يُلقون به إلى أطراف البلاد ليدفع عنهم المحن وهو بعيد عنهم؟
كان سنة ١٨٧٨ قومندانًا عسكريًّا في بغداد، وصديقه الفريق ثابت باشا الناشئ على مشربه واليًا للبصرة. وكانا متضافرين على ما تناله أيديهما من ضروب الإصلاح، فهالهما ما رأيا من اضمحلال آثار مدحت باشا وساءهما — خصوصًا — ما رأياه من مآل إدارة عمان النهرية وعجزها عن القيام بنفقاتها وكثرة بواخرها وبإزائها شركة لنج الإنكليزية، وليس لها إلا باخرتان يفيض من دخلها الألوف؛ فعرضا الأمر بتقرير مفصل إلى الأستانة. وأخذ ثابت باشا والي البصرة على نفسه أن يزيل العجز، ويفي الديون ويبقي للخزينة مبلغًا وافرًا من الدخل؛ ذلك لما كان يرى من اختلال تلك الإدارة ومن إثراء الذين تولوا أمرها على كثرتهم، فبلغت تقاريره الأستانة في ساعة حظ، فعهدوا إليه بالأمر.
وبعد البحث الطويل مع مجلس إدارة البصرة أقروا على تسليم زمام البواخر ومعمل الحديد اللاحق بها إلى رجل لا يطمعه كسب المال الحرام، وكانت له مشاغل تشغله، فاعتذر أولًا ثم قبل استلام تلك المهمة على شرطين، أولهما أن لا تطول مدة تغيبه عن البصرة إلا أربعة أشهر، ريثما يعين ناظرٌ آخرُ، والثاني أن يكون مطلقَ اليد في التصرف الداخلي والعزل والتنصيب. فأُجيب إلى كلا الطلبين، وكأن الله فتح الكنوز على يده، فوُفِّيَت الديون وأرجع جميع عمال معمل الحديد الذين كانوا غادروا عملهم لتأخر دفع الأجور، وفاض في خزينة الإدارة بضعة ألوف من الذهب. فتهلل رجب باشا وثابت باشا بِشْرًا، ولكنه ما مضى ثلاثة شهور حتى انتُزع الأمر من يد رجب وثابت واستقال الناظر من نظارته. فقال رجب باشا حينئذ على مسمع من الناس: ما عسى أن يتاح للبنائين أن يشيدوا والهدامون من حولهم.
أما إدارة تلك البواخر فلم تزل تنحطُّ إلى أن عُهِدَ بها في هذه المدة إلى الخزينة الخاصة فأُصلحت الحال.
وإن من أراد أن يتتبع أمثال هذه الحقائق الثابتة لا يصعب عليه أن يجمع منها المجلدات.
فإذا كانت أروقة الاستبداد منصوبة فوق رءُوس جميع رجال الدولة على السواء، وجراثيم الفساد منبعثة في ذلك الجو المكفهر، ووسائل التقرُّب إلى ولاة الأمر تُسهِّل كل ممتنع من الشر، والدولة على ذلك الانحطاط لم تعدم رجالًا هذا شأنهم عاش من عاش منهم في جهاد دائم، ومات من مات حزينًا أسيفًا وقضى الكثير منهم على بساط الفقر، وهو يقول المنايا ولا الدنايا. إذا كان كل ذلك فما قولك يوم فُتحت الأبواب فدخل الجميع بسلام آمنين، وعلموا أن العدل حل محل الظلم وساد الأمن بعد الرعب والرجاء بعد اليأس، فلا عزل إلا لجريمة ولا تَرَقٍّ إلا عن استحقاق ولا مصادرة إلا لجناية، وهذه المدارس العالية كالمكتب السلطاني والمكتب الملكي ومكتب الحقوق والمكتب الطبي تُنتج من أولئك الفتيان كل مُتَفانٍ في خدمة أُمَّته، متثقف علمًا وأدبًا. وبإزائهما المكتب الحربي لا يغادره الطلاب إلا وقد امتلأت صدورهم علمًا وحماسًا. وإذا تعاون الملكيُّ والعسكري، وهذه حالُهما على إنهاض البلاد من تلك الوهدة، فماذا نتمنى بعد ذلك من نعم الله؟