الدستور والخفية
لم تكن الخُفْية في عهد الاستبداد من نوع الشرطة المعروفة بالبوليس السري الذي يتعقب — خفيةً — آثار المجرمين وذوي السوابق والشبهات، وهو للحكومة نعم العون على توطيد دعائم الأمن، ولم تكن أيضًا من صنف الجواسيس الذين تبثهم الحكومات أرصادًا عسكرية في البلاد الأجنبية؛ فيحملون رءُوسهم على أَكُفِّهِمْ وينسلُّون طامعين بأخذ رسوم المعاقل والحصون واستطلاع أحوال الجيوش وحركاتهم واكتشاف وسائل الهجوم والدفاع ومخترعات القوى المدمرة من سلاح ونسافة وغواصة تسير تحت الماء ومنطاد يحلق في الهواء.
فإن هذين الصنفين من الخفية كانا عندنا بحالةِ ضعفٍ وخمول، كما كانت الحال بما خَصَّ كل ذي نفع. وإنما القوة كل القوة لنوع ثالث باد واضمحل من دول الحضارة، ألا هو صنف المتلصصين لإزهاق الأرواح وإملاء السجون وسلب الأموال بالطرق الفاضحة، على ما تراه مفصلًا في تضاعيف هذه الصفحات.
تفنن الأقدمون بهذا النوع من التجسس يوم كان الملوك يخشون مزاحمة الأقران وعصيان العمال وانتفاض الرعية، كما جرى لعهد نيرون وأشباهه وكثيرين من ملوك الفرس وغيرهم، حتى لقد كان لبعض خلفاء الإسلام وملوكه شيءٌ من تلك الخطة. وهي التي جرى عليها هارون الرشيد فكانت من جملة الذرائع التي قادتْه إلى نكبة البرامكة، إذ كان له في بطانتهم جَوَارٍ وغلمان يتجسسون له أخبارهم. ولكن ذلك زمانٌ وتلك أحوال وهذا زمان آخرُ وأحوال أخرى، ولئن فعل هارون الرشيد ذلك صونًا لسلطانه فإنما جرى على خطة شائعة لم يكن له بد منها، ومع هذا فقد كان له من وجه آخر طريقة للتجسس لا تزال تتفاخر بها الملوك. إذ كان يتنكر أيامًا ويطوف على أزياء مختلفة مستطلعًا أحوال رعيته وعماله رغبة منه برفع الضيم ودرء الظلم. وكم كشف من ظلامة مظلوم وضَرَبَ على يد ظالم على أثر ذلك التجسس الحميد. بل كم لعظام سلاطين آل عثمان من منقبة في خلال تنكرهم متجسسين، والعهد غيرُ بعيد بالسلطان محمود وما يُروى عنه من هذا القبيل.
أما الخفية عندنا فلم تكن على شيء مما تقدم، بل قامت على نظام محكم لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم.
وكانت لتلك الدائرة فروعٌ متشعبة داخل البلاد وخارجها تشعُّب العروق في الجسم، إذ كان عمالها مبثوثين في كل دوائر الحكومة من الباب العالي، إلى النظارات المنفصلة عنه، إلى كل فرع من فروعها.
وهُنالك شعبةٌ منها لقراءة الكتب والجرائد وترجمة ما كان منها باللغات الأجنبية، وهنالك أيضًا عمال مقيمون خاصة لتناول زُبدة الأخبار وتقديمها إلى المراجع العليا. وكم كانت تلك المراجعُ تَحذف وتَزيد وتُعدِّل على هواها أو تستنبط من مخيلاتها ما لم يكن له أثر في تلك التقارير، فتعرضه حقيقةً ثابتةً على المرجع الأعظم، ولم يكن في البلاد كلها من الأقطار القاصية والنائية زاويةٌ خارجة عن رَقَابتها؛ حتى قال أحد الظرفاء لو تشعبتْ في بلاد الدولة العثمانية طرق الحديد، واخترقت سهولها وجبالها اختراقَ جند الخفية لكانت، بلا ريب، أغنى دول الأرض.
وبعد أن قبضت على رقاب النظارات في الأستانة، وجعلت نظارة الضابطة فرعًا ضعيفًا لا شأن له إلا تَلَقِّي أوامرها وملكت نواصيَ الولاة وصغار الحكام، ورأت أن كل ذلك غير كاف لاستنزاف دم البلاد خُيل لها أن في أُوروبا متسعًا فسيحًا لتجارتها؛ فأرصدت الأموال ألوفًا ومئات الألوف، وتألفت منها عصابة لصوص للإتجار بذمم الحاكم والمحكوم. فتوهم أنها تشتري بذلك المال صداقة الدول وتستميل إليها الرأي العام باستمالة جرائدها، وتدرأ عنها شرور أعداء الدولة من أبنائها ولا تعني بهم إلا مُريدي الإصلاح ودعاة الحرية. ولئن عهدت أحيانًا قليلة بتلك المهمة إلى سفرائها ووكلائها، فلم يكن ذلك إلا تمويهًا على عقول السذج من رجال الدولة حتى ضَجَّ السفراء تألُّمًا واشمئزازًا. وكانت خطتها في ذلك أن تتفق مع أحد كبار اللصوص من الجواسيس على خمسة أو عشرة آلاف أو عشرين ألفًا من الأصفر الرنان، تأخذ سهمها منه وتنقده سهمه؛ فيذهب إلى أُوروبا ولا يكاد يَبلغها حتى تتوالى تقاريره مبشرةً بالفوز المبين، أي: بمشترَى جريدة أو استمالة رجل سياسي، وجل ما يكون في كلامه من الصدق أنه أعطى بعض ما أخذ. وليس منا من يعلم ما هي تلك الجرائد، ومن هم أولئك الساسة الذين ناضلوا عنا، وأفادونا لقاء مال دفعناه إليهم؟
وأما تجارتهم بأعداء الدولة من أبنائها، على زعمهم، فمن أغرب ما روى التاريخ من المضحكات المبكيات. تعلم هذه العصابة أن في إحدى عواصم أُوروبا رجلًا ذا شأن بين قومه سئم الظلم، ففر إلى بلاد الحرية؛ فتقدر له جزاء عوده إلى الأستانة مبلغًا معلومًا، ونصفه أو ثلثيه جزاء صمته إذا أبى العودة، وترسل إليه من يحمل إليه المال مع الوعد والوعيد، فإذا فاز الرسول، وقَلَّمَا كان يفوز، نَقَدَه بعض ما معه، واستولى على ما بقي وإذا رجع خائبًا لم يعدم وسيلة لاستبقاء المال في جيبه تسديدًا لنفقات يستنبطها. ولطالما كانوا يُغرون رجلًا من عصابتهم خامل الذكر وضيع القدر فيُرسلونه إلى أوروبا فيصدر عددًا من جريدة يزعم أو يزعمون أنها ستنتشر من مطلع الشمس حتى مغربها، وستلتف لندائها أُمم العالم فتهاجم عاصمة الملك، فتنفتح خزائن الدولة لاسترضاء صاحبها فينفتح بدريهمات هي في نظره ثروة، ولهم باقي الألوف مغنم بارد.
وإن المجال لَيضيق عن إيراد ما يُعرف من أمثال هذه السرقات، فنجتزئ لك بثلاثة منها مثالًا على ذلك التفنُّن في تبديد أموال الدولة: أُرسل أحد صنائع «المابين» إلى باريس فأصدر عددًا واحدًا من جريدة، ثم أُرسل في طلبه رسول يحمل أربعة آلافة ليرة عثمانية، فنقده منها خمسمئة واستكتبه إيصالًا بالأربعة آلاف واستصحبه معه إلى الأستانة، فأُنعم عليه برتبة من أرفع الرتب، وعين له راتب لم يكن يحلم به. ذهب ذلك الرسول مرة أخرى إلى باريس يحمل المال استرضاء للعصاة العتاة، فلم يفلح فأُرشد إلى رجل ليس من العير ولا النفير ولا اتصال له بأحد من أولئك الدعاة، وعلم أنه ليس على يسر وسعة فاستدعاه إليه وحَسَّنَ له أن يذهب إلى الأستانة براتب خمسة عشر ليرة؛ فكان سرور الرجل عظيمًا وأعظم منه سرورُ الرسول؛ إذ اصطاد قنيصة سهلة المراس أكسبته الألوف ببذل العشرات وأرسل التقارير الضافية منبئة أنه فاز باستذلال أشهر كتاب العصر. قام رجل آخر في لندن فنشر أعدادًا من جريدة فاسترضوه بامتيازٍ باعه بزهاء ثلاثين ألف ليرة عثمانية، يعلم الله ما كان نصيبهم منها.
ولا تسل بعد شيوع تلك الأنباء بين الناس عن تهافُت الأنذال على التطوع في ذلك السلك الخبيث. ولقد أفلح بعض هؤلاء المتطوعين فما زالوا يحتالون على الانخراط في تلك الزمرة حتى أدركوا بغيهم بالسعايات المختلفة، ثم ما لبثوا أن أثروا بعد الفاقة، وارتقوا من درك الخمول إلى أوج المجد والعظمة.
أما الأموال التي كانت تبذر في هذا السبيل، فلا يُعلم مبلغها الآن ولكنها لم تكن تَقِلُّ عن المليون؛ أي: أنها كانت تربو على مخصصات نِظَارَتي الضابطة والمعارف مجتمعتَين. وأي فَلَاحٍ يُرجى لحكومة تنفق على الجهل والظلم فوق ما تنفق على الأمن والعلم؟
وعلى الجملة، فإن الخفية كانت على هذه الدولة أشدَّ بلاء من جميع ما توالى عليها من المحن منذ قيامها، وليس في تاريخها صفحة توازي بشؤمها هذه الصفحة السوداء.
وإن كان الأجر على قدر المشقة؛ فإنه ليس في تاريخها حتى ولا في زمن فتح الممالك الكبار يوم نعيم عَمَّ صفاؤه وابتهجت فيه النفوس ابتهاجًا يوم علم العثمانيون بإعلان الدستور أنهم إذا أووا إلى بيوتهم ناموا آمنين لسع تلك الحشرات.