الدستور والتعصب
التعصب — دينيًّا كان أو جنسيًّا — إذا لم يتجاوز حب الدين والجنس إلى بُغض من خرج عنهما، فليس بالخلة المذمومة ولا دخل له في بحثنا، وإنما المراد هنا: التعصبُ الذميم الذي يدفعك إلى كراهة أبناء غير دينك وجنسك، وهو الآفة الكبرى التي نخرت عظام البشر قرونًا طوالًا ولا تزال في بلاد الشرق علة العلل. وإنه يسوءنا أن نعترف أنها كانت في البلاد العثمانية حتى يوم إعلان الدستور على أشد مظاهرها في كثير من أجزاء السلطنة. وإن من أغرب الغرائب التي يدونها التاريخ أن هذين النوعين من التعصب زالا بيوم واحد فكثر الزاعمون أنها ثورة فكر بنت يومها لا تلبث أن تخبو جذوتها، فترجع الحال إلى ما كانت عليه، غير أن من تَتَبَّعَ سير السياسة الداخلية منذ أربعين أو خمسين سنة هان عليه أن يستجلي سبب هذا الانقلاب فيزول معظم غرابته.
إن ما توالى على هذه الدولة من كوارث الزمان، وما انتابها من الضعف واختلال الأحكام في القرن الأخير أَوْدَى — أو كاد يودي — بقوتها، فلم تكن ترى من مصلحتها لجهل معظم القابضين على زمام الأحكام أن تستنير الأُمَّة بنور الوفاق والتضامن خشية أن تنقلب عليها، وأن الأفراد القليلين الذين كانوا ينظرون بعين بصيرتهم إلى غوائل تلك الآفة القتالة لم يكن لهم من الحول ما يُمَكِّنهم من بث رغائبهم ونيلها. وزد على ذلك أن الجهل وحب التقليد كانا لا يزالان فاشيين بين عامة الأُمَّة، والجهل رفيقٌ ملازم للتعصب يعيشان ويموتان معًا.
ثم إذا نظرت إلى الدينين الغالبين في السلطنة، وهما: الإسلام والنصرانية، وإلى العناصر المختلفة التي يَتَأَلَّفُ منها هذا الجسمُ رأيت هناك أسبابًا أُخرى تدعو إلى هذا الشقاق، فالمسلم باتحاده بالدين مع الأُمَّة الفاتحة وقيامه دون المسيحي بعبء الحروب ورَدِّ الغزوات لامتناع التجند على المسيحيين؛ يرى له حق السلطة والسيادة. والمسيحي يعد نفسه محكومًا مظلومًا، والجهلة وذوو الغايات من رجال الدين لا يدركون كنه الغرض الواجب عليهم أداؤه بالتهوين على الفريقين، والحكومة لاهية بمشاغلها، بل ربما عمد كثيرون من عمالها إلى إثارة الأحقاد الكامنة جرًّا لمغنم يرجونه أو غاية يرمون إليها.
وإن هذا التنافر كان يمتد إلى ما وراء هذين الفريقين بمجموعهما، فيتناول كلًّا منهما بفِرَقِهِ ومذاهبه حتى لقد كنت ترى التباغُض بين أهل السنة والشيعة من المسلمين والكاثوليك والأورثوذكس والبروتستان من النصارى مساويًا بشدة وطأته لتباغُض مجموع أبناء الإسلام والمسيحية.
هذا بما خص التعصب الديني، وأما التعصب الجنسي فلم يكن أقل غائلة وشرًّا.
وهو معلوم أن سياسة التسامح التي جرى عليها سلاطين آل عثمان في عدم التعرض للغات الأُمَم التي دخلت في حيازتهم كانت مع كل حسناتها سببًا في بقاء كل هذه الأُمَم على غير تلاؤم واندماج. واللغة التركية على كونها لغة الحكام كانت بحكم المجهول في بعض أجزاء السلطنة. والظاهر أنهم حاولوا بعض المحاولة تلافي ذلك التباعد إذ يُروى عن السلطان سليم الأول أنه على أثر فتح مصر ومبايعة المتوكل على الله العباسي له بالخلافة أراد أن يتخذ العربية لغة رسمية، فلم يتسنَّ له ذلك؛ فلا ذاعت العربية ولا عمت التركية فبقيت كل أُمَّة منفردة بلغتها، وليس لها ما يكفي من الإلمام بلغة الدولة الحاكمة، وحيث لا يحصل التفاهم لا يحكم الاندماج والتمازج.
وهكذا بقي أبناء كل أُمَّة ينتسبون إلى أُمَّتهم في أحوال كثيرة، ولطالما هاجتهم عاطفة التعصب الجنسي وانضمت إليها أسبابٌ أُخرى يطول شرحها، فأثارت الفتن وأورثت البلاد الخراب، والمتحاربون جميعًا من أبناء دين واحد.
ولطالما نبغ من رجال الدولة حينًا بعد آخر أفراد كانوا يتضورون أَسًى لتفاقُم شر هذين التعصبين، ويضطرمون غيرة لتلافي ضرهما، فلمعت أول بارقة أمل بنشر الخط الهمايوني السالف الذكر سنة ١٨٣٩، ولكن القوة كانت لم تزل في جانب الجهل؛ فلم يسفر ذلك الخط عن النتيجة المقصودة، بل عقبتْه قلاقلُ واضطرابات كان فيها للسياسة والغايات الشخصية يدٌ فوق يد التعصب.
ولم يزل يتعاقب من ذلك الحين رجال يتلقون تلك الفكرة النيِّرة، ويلقونها بعض إلى بعض إلى أن نضجت على يد مدحت باشا وأنصاره، فنادوا بإعلان الدستور سنة ١٨٧٦، وخيل للناس حينئذ أنه قد انقضى زمن الظلمة والشقاق، وعقبه عصر النور والوفاق.
ولكنه لم يكن إلا كوميض البرق حتى تبددت تلك الآمال ووثبت بقية الجهل الكامنة في الصدور واستجمعت قواها، فهَبَّتْ هَبَّتَها الأخيرة، كأنها أبت أن ترضى الموت قبل أن تدوِّن لها في التاريخ غاية ما يُروى عن فظائع الجهل والاستبداد.
وهكذا، فبينا خُيِّل إلينا أننا متسنمون ذروة مراقي الفلاح إذا بنا قد هبطنا إلى أسفل درك الانحطاط. وما أشد الخيبة بعد الفرج.
ولكن تلك الخيبة التي أحرجت الصدور أزالت الغشاء عن البصائر، فاستنارت الأذهان وأدركت الحقائق، وعلم المسلمُ والمسيحي والتركي والرومي أنهم جميعًا في الشقاء سواءٌ، وإنه لا مناص لهم إلا بالتعاون ونبذ الأحقاد والانضمام — يدًا واحدة — لسحق تلك الأيادي الظالمة والانثناء بعد ذلك إلى النظر في إعلاء شأن هذه الأُمَّة الواحدة، والدين لله.
علم المسيحيُّ — على اختلاف نِحَلِهِ — أنه مقيمٌ في بلاد نشأ فيها أجدادُه من قبله، ولا فلاح له إلا بكف بصره عن التطلُّع إلى دول أُوروبا، وبإلقاء يده في يد أخيه المسلم لإعلاء شأنهما معًا وشأن البلاد التي نشآ فيها.
وعلم المسلم أنه لا سبيل إلى كَمِّ أفواه الأجانب والأقارب ودرء الشبهات وتذليل العقبات والتفرُّغ إلى الصلاح العام إلا بمصافحة أخيه المسيحيِّ والسير معًا في طريقٍ ينعمان ويشقيان بها معًا.
علم كلاهما أن تلك الأيادي الأثيمة التي كانت تدفعهما إلى الفتك فريق منهما بفريق، إنما كانت تتخذ ذلك ذريعة تُثنيها وتُثني الناس بها عن مظالمها، ثم تنثني إليهما فتبطش بكل فريق منهما على حدة بعد إجهاد قواهما.
هذه المذابح الأرمنية، فماذا جنى منها الأرمن؟ وماذا جنى المسلمون؟ غُرر فيها بالفريقين؛ فسالت وَالَهَفاه! دماء الأبرياء ودمرت البلاد وتحصن المجرمون في معاقل اللؤم والرياء.
كل ذلك عرفه المسلم والمسيحي والإسرائيلي وابن كل ملة من الملل.
إذا شكا الأرمني لدم يُهدر ومال يُسلب فشكوى المسلم أعظم، إذ تقوم حول دم الأرمني ضجة تبلغ السماء، وأما دم المسلم فإلى جانب تلك النكبة الدهماء بإهراق دمه نكبة الوجوم عن رفع الصوت بالعويل عليه.
وإذا شكا الكردي أو العربي بسوق، جيش يقف لعصابته فيتقاتلان وتربو قتلى عصابته على قتلى ذلك الجيش، فماذا يقول التركي وصفوة رجاله وفتيانه تُشد محكمة الوثاق وتُقاد إلى حيث تُقتل أو تفرق أو تنفى إلى أقاصي البلاد.
خَبِرَ جميعُ مَن في البلاد خَبَرَ تلك الأهوال، فهبوا من رقدتهم هبة واحدة، فهل بعد هذه اليقظة من غفلة؟ معاذ الله أن يكون ذلك، وقد غُلَّ ذئب التعصب بأصفاد الحديد وزُج به إلى أعماق البحار.
وليس هذا بأول عهد لتَنَبُّه أفكار الخلق إلى فتكات ذئب التعصب الغشوم، وإنما هو أول عهد تَنَبَّهَ جميعُ الناس إليه على حد سواء. وإلا فما قولك بتصدِّي الأمير عبد القادر في حادثة سنة ١٨٦٠ وكثيرين من وجهاء المسلمين في دمشق الشام لحماية النصارى مخاطرين لقاء ذلك بأموالهم وأرواحهم؟ بل ما قولك بما أتاه فؤاد باشا أثناء حادثة الأرمن سنة ١٨٩٦ تحت أذقان مثيري تلك الزوابع؟
شهدتُ تلك الفاجعة الأليمة مشاهدةَ الرقيب الجازع من أولها إلى آخرها، ولم أكن هنا لأُعيد تلك الذكرى المؤلمة أو لأُخَطِّئَ فيها فريقًا دون فريق؛ فكلاهما اغتر وسِيق — غيرَ مختار — بإغراء أولئك الفُجَّار، ولكن الباعث على ذِكْرِها رغبةُ إثبات الأَنَفَة التي كانت تهيج صدور الناقمين على هذا التعصب ومثيريه، ولم يكونوا بالنزر اليسير، ولكن أعلاهم قدحًا وأعظمهم جرأة كان هذا المنفي الذي قضى سبع سنين سجينًا يُقاسي عذاب الموت وهو حي.
شهدتُه وكنت جاره في فنار باغجه، يطوف مدججًا بسلاحه، ينهى عن سفك الدماء، يحيي الليل بين هاتيك الأحياء واعظًا منذرًا متلطفًا متهددًا على ما تقتضيه الحال. يسأل من أنس منه خوفًا أن يحل ضيفًا كريمًا عليه، يؤمِّن الخائف ويُرعب الخائن؛ فحجب الدماء في كل ذلك الجوار، فلم تهرق فيه نقطة واحدة — وهي سائلة أنهارًا في ما سواه — وإذا علمت أن ذلك الجوار بما وليه من فنار باغجه إلى موده وقاضي كوي وأطراف إسكودار؛ يحوي مائتي ألف ساكن تَجَلَّى لك مبلغُ تلك الهمة الشَّمَّاء.
فعل كل ذلك وهو يعلم أنه يجري على غير خطة «المابين»، فما راعه ذلك، بل راعه صوتُ وجدانه.
ولا أُنبئك هنا بما كان من إجلال الأهالي من وطنيين وأجانب لهذا الإقدام الخطير، ولا أُفصِّل لك ما توالى عليه من رسائل الشكر الخاصة عن الرقيم العام الذي أمضته النزالة الأُوروبية برمتها، وما نشر من مقالات الثناء الضافية في صحف الإفرنج، فتلك أُمور يستنتجها كلُّ واقف على تلك الحوادث.
ولكن السر الغريب الذي لا يعلمه الناس أن ذلك كان مبدأ النقمة عليه من رجال «المابين»، وأنه حتى ذلك الحين كان في أعلى مراقي الحظوة، وما انحطَّت منزلتُهُ إلا من ذلك اليوم، فما وسعهم أن يقولوا له: إنك أتيت جريمة القتل بحماية الأنفُس من القتل. فما زالوا يحتالون بتوجيه التهم إليه حتى أَلْقَوْا به إلى تلك التهلكة التي أدت إلى نفيه وسجنه وتجريده من رُتَبِهِ وألقابه وأوسمته.
وإنا إذا أسهبنا في وصف تلك الهمة الشماء، فقد أتينا على فرض واجب الأداء بتدوين هذه المأثرة لذلك الشهم الغيور، وأثبتنا أن في السويداء رجالًا لا يروعهم الوعيد وإن راع جماهير الناس، وأن روح التعصب الخبيثة لم يخترق إلا صدور الجهلاء العامة. ولو شهدت يومئذ رجال الدولة أنفسهم وهم تحت نِيرِ الاستبداد لرأيت الكثيرين منهم على وُجدان فؤاد، وإن لم يكونوا على جرأته. ولكنهم فعلوا في سرهم فعل فؤاد على رءُوس الأشهاد؛ فكان لهم الفضل في استحياء المئات — إن لم نقل الألوف.
أما الآن وقد انفقأ دُمَّل التعصب ونفث ثمالة سمه، فلا خوف — بإذن الله — من امتلاء ذلك الجراب القَتَّال بعد أن ارتفع الحجاب عن العيون؛ فانكشفت الحقيقة باهرةً كالشمس.
وإن السلطة الظالمة وإن ملكت الأموال والرقاب، فإنها ترتد خاسرة عن امتلاك الضمائر، وقد باحت أنفس الخلق قاطبة ما تُكنه ضمائرُها من الرغبة في التصافي ونبذ التعصب، وجرى معها تيار العلم والحق والقوة، فلا مَرَدَّ له بعد الآن. وحسبك دليلًا على ارتياح النفوس إليه نشوةُ السرور، بل سكرة الطرب التي هزت البلاد العثمانية وارتجَّت لها دول الأرض.
ومع هذا فلا يجب أن يحدو بنا هذا الفوز إلى الاستكانة والوقوف؛ حيث نحن مجتزئين بنعرة الفرح، فإن شياطين الفتنة لا تزال بالمرصاد تتحين الفرص لإيغار الصدور؛ حيث لاح لها منزع للعبث والفساد.
ولكن دعاة الإصلاح ناظرون — إن شاء الله — إلى كل ذلك، فسوف يذلل ما بقي من الصعاب، ويمهد ما لا يزال قائمًا من العقبات.
ولا شك أن مظاهر التوادِّ والإخاء التي عمت البلاد ستكون أَعْظَمَ ذكرى وأَمْتَنَ أساس لهذا البناء الجديد. وأن إعلان الدستور وتعميم المساواة يضمنان رسوخه.
ولكنه لو أُتيح لنا أن نُضيف رأيًا إلى تلك الآراء النيِّرة لقلنا: إن أعظم الوسائل لضمان اضمحلال التعصُّب الديني؛ تجنيدُ المسيحيين مع المسلمين، وأعظمُ وسيلة لاضمحلال التعصب الجنسي تعميمُ اللغة الرسمية وجَعْل تعليم اللغة التركية إجباريًّا، فإن هاتين الوسيلتين مع تعميم أسباب العلم والتهذيب يضمنان توثيق عُرَى التوادِّ والإخاء.