الدستور ورجال الدين
إن كلمة قالها شيخُ الإسلام لجلالة السلطان يوم إعلان الدستور لَجَدِيرَةٌ بأن تُنقش على صدر كل شيخ وقسيس، بل على صدر كل مسلم ومسيحي، بل على صدر كل عثماني وكل إنسان.
كلمة ارتفعت كقبس نور تصاعد، ثم تَكَوَّر فوقع تيجانًا على هام دعاة الإصلاح وطلاب الحرية.
كلمة نطق بها جمال الدين فكانت جمالًا للدين والدنيا.
تلك الكلمة هي قوله — إذ استفتي بضرب الأحرار — فقال: «بل أَجِبْهُمْ إلى رغائبهم، امنح الدستور، فإنه مطابق للشرع الشريف.»
كانت الأزمة في أشدها، والحزازات في غلوائها، والنفوس ثائرة، والدماء فائرة، والجيش جيشين معدين للتلاحم والتفاني، وشيطان الفتنة بالمرصاد لتدمير البلاد. فمن يعلم لولا تلك الكلمة، أو لو تخللها حرف نفي، ما كان مبلغ الشر والعيث ومسيل الدماء؟ بل ما كان مصير هذه البلاد والأعناق مشرأبة إليها من كل صوب يتحين كل جائع فرصة لالتهام لقمة سائغة منها.
تلك كلمةٌ ما كان أشبهها بذرة رمل بسكال التي انقلب لها — كما قال — مجرى سياسة العالم، فما أحرانا أن نتخذها شعارًا نتفاخر به، وميسمًا ندمغ به جِبَاهَ جَهَلَة المتعصبين من رجال الدنيا والدين.
وما كان أشد سرور دعاة الإصلاح إذ علم العالم أجمع أنهم لا يعيثون في الأرض فسادًا، بل يأتون رشادًا وسدادًا، وينقذون أمة عظيمة من ظلمات الأسر وينتشلونها من لجج الضنك والقهر.
إن خَدمة الدين كسائر أصناف البشر يتباينون أخلاقًا ونزعات، ويتفاوتون هدًى وضلالًا. ولكنهم بطبيعة موقفهم إذا أخلصوا الخدمة لله أجدرُ الناس بإصلاح الناس، وأقدرُ الخلق على إحقاق الحق.
وإن هذا الدستور الذي شهد شيخ الإسلام بموافقته للشرع الشريف شهادةً مُزَكَّاة بنصوص القرآن — والشورى حكم الإسلام — ليس من ينكر موافقته أيضًا لنصوص التوراة والإنجيل.
فلئن رأيناهم يوم إعلانه ملتفين حواليه يتعانق منهم الإمامُ والقسيس والحاخام يُشهدون العالم أجمع على تآخيهم، وتترقرق دموع الفرح من مآقيهم، فرجاؤنا أن يظل هذا التصافي محكم البنود، وثيق العرى، فإنهم لا يزالون في جميع البلاد العثمانية ذوي المكانة العالية والنفوذ البعيد. فإذا تقدموا على هذا النهج القويم تبعتهم أُمَم، وزادوا مكانة واحترامًا، وأطالوا حياة نُفُوذهم، ومَكَّنُوا سعادة مواطنيهم.
إن زمن الجهل والتعصُّب قد انقضى ودالت دولةُ الفتن الدينية، ولئن ذكر لهم التاريخ سيئات؛ فمَنْ مِنْ أصناف البشر تَعْدُوه السيئات، وإن لهم بإزاء ذلك الحسناتُ الجَمَّةُ، فليضيفوا إليها الثبوت على تلك العواطف النبيلة التي تبرز ساطعة منذ إعلان الدستور، ولهم علينا المِنَّة الكبرى، وعلى الله الأجر العظيم.
ومن منا ينكر أن الأُمَّة الإسلامية أعظم أُمَم الدولة العثمانية، بل هي قوامها المَكين، ومَنْ يُنكر أيضًا أن التُّرك هم أرباب السلطة العظمى فيها، فإذا كان الشيخ الأعظم المسلم التركي هو المتقدم لبسط يد المصافحة، فما أحرى سائر خَدَمة الدين من مسيحيين وإسرائليين، وغيرهم أن يتسابقوا متهافتين إلى إحراز مثل ذلك المجد الباذخ.
لم يكن من مصلحة ظَلَمَة الاستبداد في الحكومة الغابرة أن يؤلفوا بين القلوب إذ كانوا يعتقدون — لجهلهم — أن وفاق الأُمَّة يدك معاقل صولتهم، أما الآن فقد انقشعت الغيوم وتمزق ذلك الغشاء القاتم.
وليست هذه بأول مرة حاول فيها البعض من رجال الدين — ولا سيما من المسلمين — رَتْقَ هذا الفتق فإنْ لم يُفلحوا في الماضي إلا قليلًا، فكلُّ بَوَارق الفلاح باديةٌ لهم في الحال والاستقبال.
ولا أضرب لك مثلًا إلا بيروت؛ إذ لم يَهِجْ تَعَصُّبُ صدور قوم كما هاج صدور أهلها من مسلمين ومسيحيين في عصر الاستبداد الأخير.
كان التنافرُ فيها بين الفريقين قبل سنة ١٨٦٠ على ما كان عليه في سائر ثُغُور البلاد، فَلَمَّا وقعت حوادثُ تلك السنة المشئومة، ووُجد القتيل المسلم مطروحًا في أحد الأزقة، وثارت تلك الثائرة في صدور الأهالي، توقع جميع الأشرار حدوث مذبحة ترتعد لها الفرائص، ومع هذا فإن الشيوخ منا يروون ما شاهدوه من تعاضُد الشيخ محمد الحوت والمطران بطرس البستاني ذلك التعاضد المكين وتآخيهما، وكلاهما من جلة خدمة الدين. ويذكر القوم — مُكْبِرِين — قيامَ الشيخ الحوت واعظًا دينيًّا وخطيبًا سياسيًّا ومرشدًا داعيًا إلى الوفاق فأتى المسلمين والمسيحيين بذلك فضلًا يضاهي فضل عبد القادر في الشام وفؤاد في الأستانة. ولا يزال يُذكر أيضًا وقوف طاهر أفندي الخالدي وذويه مثل ذلك الموقف في تلك السنة في القدس الشريف وحَجْبهم دماء العباد، مخاطرين بدمائهم.
وما انقضت تلك السنة والتي بعدها حتى أخذ وجهاءُ المدينة بموازرة البعض من رجال الدين ينظرون في الوسائل المؤدية إلى تبديد الأحقاد، فما أتت سنة ١٨٧٢ حتى كانت تألفتْ منهم جمعيةٌ هذا غرضها، عمادها من المسلمين والنصارى: المرحومان حسين بيهم وسليم البستاني؛ فخبا ذلك الثَّوَران وخفَّت الجرائم. ولكن جيوش الاستبداد والتفريق دهمتْها بعد بضع سنين فرجعت الحال إلى أسوأ ما كانت عليه، ولم تزل على تفاقُمٍ واشتداد حتى يوم إعلان الدستور.
وإن أَئِمَّة المسلمين إذا ربحوا الأجر العظيم والفضل العميم بإرشاد الخلق إلى هذا التوافق، ووَطَّدُوا بذلك أركان سلامة هذه الدولة ونهضتها نهضة لا تحسد عليها أُمَّة من أُمَم الشرق والغرب؛ فإن رؤساء الدين المسيحي والإسرائيلي، على فرض أنهم لا ينظرون إلا إلى مصلحة أنفسهم دون مصلحة أبناء دينهم — ونعيذهم بالله من ذلك — فإنهم بلا ريب يعلمون أن لهم في بلاد الدولة العثمانية من الميزة والنعم والحرية ما ليس لزملائهم شيء من مثله في جميع بلاد الدول المسيحية. ولقد سمعنا بآذاننا منذ خمس سنوات كاثوليكيًّا ورعًا من أعضاء مجمع العلوم – الأكاديمي – الفرنسي يخطب في نادي مدرسة الآباء اليسوعيين بمصر فيقول: هنيئًا لكم يا كاثوليك هذه البلاد؛ فإنكم وإكليرسكم تتمتعون بعبادتكم بنعمة وحرية نتمنى أن يكون لنا بعضها في بلادنا بلاد الحرية، فلا تحسدونا أنتم وإنما نحن لكم من الحاسدين.
فليست بلادُ الدولة العثمانية بأقلَّ تمتُّعًا بنعمة الحرية من مصر هذا الجزء اللاصق بها وليست امتيازاتُ خدمة دينها بأقلَّ من امتيازات رُصَفائهم في القطر المصري، فإنها جميعًا مبنية على فرمانات السلاطين العظام.
غير أننا نخال الحكومة الدستورية عامدة عما قريب إلى النظر في تلك الامتيازات وتعديلها على ما يوافق روح الزمان، فلا يَرُوعَنَّ ذلك عقلاء خدمة الدين، ولا يثبطن عزائمهم. بل فليتلقَّوه بالبشر وطِيبَة الخاطر؛ إذ كُلَّما قربت مسافة المساواة بينهم وبين عامة الناس أُحكمت علائقُ الوُدِّ الصحيح بين الفريقين، وتسهلت لهم سُبُل القيام بمهامهم الشاقة.
ولقد طالما شكا الناسُ من بعض خَدَمة الدين استبدادًا يُضاهي استبداد الحكام، ولا غرو بذلك فإنهم ذوو سلطة وكل ذي سلطة أَنِسَ جهلًا وضعفًا بمن حوله مَالَ إلى الاستئثار بالحول والطَّوْل. ولقد طالما قيل فيها أيضًا ما يُقال في ضِعاف الحكام من سياسة التفريق حرصًا على سيادتهم، على أنهم يعلمون الآن أيضًا أن تلك السياسة إذا أفلحتْ يومًا مع عجز الناس وغفلتهم؛ فإنها تحبط بلا ريب في بيئة اليقظة والقوة، فحفظ كرامتهم وكرامة المنتمين إلى مذاهبهم إنما يكون بوقوفهم موقف المرشد الأمين والناصح الموفق، ولم يُخِفْهُم ذلك فتنبهوا إليه في العهد الأخير، ولهذا هَبُّوا يوم إعلان الدستور هبةً واحدةً، وكانوا مع الأُمَّة يدًا واحدة عاملة على إحكام الوئام. وهذا غاية رجاء الأُمَّة بهم، فعسى أن يظلوا مثابرين على نهج هذا السبيل ولهم من الله والناس جميل الثواب وجزيل الثناء.