الدستور ومالية الحكومة
لم يكن من مصلحة الحُكومة الغابرة أن تضع ميزانيةً واضحة للدخل والخرج؛ لئلا يفتضح أَمْرُها في كثير من أبواب الخرج، وتنكشف طرق التبذير وتبديد الأموال، ومع هذا فإنه يؤخَذ من تصريحات نظارة المالية أنَّ الدخل يتراوح بين السبعة عشر والعشرين مليونًا من الليرات العثمانية.
وليس من الغريب أن يكون ذلك كُلَّ دخل هذا المُلْك الفسيح، وهو لا يكاد يربو على دخل الحكومة المصرية، ومصر ليست إلَّا جزءًا منه، وإن استقلت استقلالًا إداريًّا. فإن مصر بلاد عمرت بعد الخراب والبلاد العثمانية بلاد كادت تخرب بعد العمار، ولكن الغريب أن يبدد ربع هذا الدخل أو ثلثه — على قلته — في طرق التخريب وتوسيع الخرق.
- أولًا: إلغاء رواتب الجواسيس ونفقاتهم السرية.
- ثانيًا: إلغاء رواتب جَمٍّ وافرٍ من عُمَّال «المابين» ونفقاتهِ التي كانت تذهب هباء منثورًا.
- ثالثًا: إلغاء رواتب الكثيرين من مأموري الحكومة الذين لم يكن لهم شأن في خدمتهم إلا قبض الراتب كثلثي أعضاء مجلس الشورى وكثيرين من أعضاء الجمعية الرسومية وبلدية الأستانة (شهرامانت) ومجلس المعارف وهلم جرًّا. ويدخل في زمرة هؤلاء كثيرون من الذين كانت الرواتب تُدفع لهم وهم في بيوتهم، لا يأتون عملًا، وإنما يُنسبون نسبة إلى بعض دوائر الحكومة ليقبضوا رواتبهم منها.
- رابعًا: تخفيض الرواتب الباهظة لكبار المأمورين.
هكذا كانت تبدد أموال الخزينة وصغار المأمورين يتضورون جوعًا، وحماة البلاد من أنفار الجند يصبرون على مضض العيش حفاة عراة.
وليس من مزاعمنا هنا أن نرسم خطة لتنظيم مالية الدولة، ولكننا ونحن من أفراد هذه الأُمَّة نَوَدُّ أن يطمئن أبناؤها لماليتها اطمئنانهم لعدل الدستور، وليعلموا أن مالية الحكومة ليست على ما كان يبدو عليها من الضعف، فالمجال متسع لإنمائها إلى ما يُعادل ثروة أغنى الدول الأُوروبية، فإن كل ظواهر الحال تبشر بتحقيق هذه الآمال.
دع الآن المستقبل وآماله وانظر إلى أبواب الدخل في الحالة الحاضرة؛ تَرَ أن التبديد فيه لم يكن دونه في الخرج، فإن الخلل الذي كان سائدًا في الإدارة وعدم اطمئنان عُمَّال الحكومة على مراكزهم واضطرارهم إلى استرضاء رؤسائهم بالمال الذي لا تتسع له ثروتهم ورواتبهم، كل ذلك فتح بابَ الرشوة على متَّسَعِ مصراعيه، فإذا أخذت مثلًا موردًا من أعظم موارد الدخل كالرسوم الجمركية، وعلمت أن كثيرين من مأموري هذه الإدارة يجمعون الثروات ببضع سنوات وفرًا خالصًا بعد دفع ما عليهم من الضرائب، كما رأيت في باب المأمورين؛ اتضح لك — لأول وهلة — أن خسارة الخزينة كانت عظيمةً مهما كان حرص بعض نُظَّارها ونزاهتهم في بعض الأحيان.
ثم إذا علمت أيضًا أن كل غرش يدخل جيب المأمور رشوةً واختلاسًا على هذا المنوال يخرج من مال الخزينة ثلاثةُ غروش بأقل تعديل؛ لأنه لا بد من ذهاب ضعفَي الرشوة للراشي والرائش والبطانة والأذناب؛ زدت روعًا لغوائل الغبن الفاحش وأيقنت بحصول الزيادة العظيمة في الدخل مع إصلاح الإدارة وتأمين المأمورين وزيادة رواتب صغارهم ولتقسُ الحكومة ما شاءت بعد ذلك على المُرتكبين منهم.
فإذا فرضنا أن الداخل في جيوب المأمورين بطرق الاختلاس، لا يربو في كل جمارك السلطنة على المليون ليرة، فالزيادة المأمول حصولها مع بقاء التجارة على حالها تُناهز ثلاثةَ ملايين.
خذ الآن سائرَ أبواب الدخل التي تُجبى فيها الأموال بيد عُمَّال الحكومة لحسابها، حتى بصرف النظر عن المخصَّص منها لإدارة الديون العمومية، تَرَ الخلل نفسه فاشيًا فيها جميعًا وإن تباين فيها الحيفُ، فالأعشارُ ورسوم الأراضي وسائرُ الأموال الأميرية يشمل الظلم بجبايتها الحكومة والأهالي. أما الحكومة فلِمَا تقدم من الأسباب، وأما الأهالي فلأنَّ الغني منهم يُطمع به ولكنه قد تشفع له الواسطة والمال، وأما الفقيرُ فينهب ويُعَرَّا ولا شفيع له.
وعلى ما تقدم قِسْ أيضًا جميع الإدارات الخاصة التي تُؤخذ فيها الرسومُ بيد عمال الحكومة لحسابها.
وأضف إلى ذلك ما استردَّتْه الحكومةُ وتستردُّه من الأراضي الأميرية غير الأوقاف التي كانت ذاهبةً هباتٍ متفرقة فأُرجعت إلى إدارتها، وزِدْ عليها أراضيَ الحكومة المهمَلة الصالحة مذ الآن للزراعة، والمعادن الجاري استخراجُها بيد غير أصحابها والامتيازات التي أصبحت الحكومة في غنًى عن بعثرتها يمينًا وشمالًا.
إذا نظرتَ إلى كل ذلك هان عليك أن تتصور مع هِمَّةِ الحكومة الحالية أن الدخل سيتضاعف بِأَقَلَّ من عشر سنين.
وهو معلومٌ أيضًا أن ثروة الحكومة مرتبطةٌ بثروة الأُمَّة، وأن موارد الثروة الدفينة في البلاد العثمانية مما يُبهر العقول، وأن جميع طرق استخراج تلك الثروة قد تسهلت وأزفت ساعة الشروع في العمل.
فلا يستغربنَّ إذًا أحدٌ شِدَّةَ تفاؤلنا بالخير، وقولنا إنه بعد استثمار تلك الثروة ببضع عقودٍ من السنين لا يقل نصيب الحكومة منها مع ما هو متوفر لديها الآن عن الثمانين مليونًا دخلًا سنويًّا.
وإننا آتون فيما يلي على بيان إجمالي لموارد تلك الثروة ورجاؤنا أن نكون على مقرُبة من الصواب «وغدٌ أمره قرين السرائر.»