الخاتمة
هذه عجالة سطرناها في شئُون البلاد العامة عبرةً وذكرى، وهذا ما تراءى لنا وجوب الخوض فيه إبَّانَ هذا الانتقال الغريب والانقلاب العجيب، وإن هو إلا قطرةٌ من عباب المباحث التي يجب على كُتَّاب العثمانيين أن يخوضوا غمارها استلفاتًا لأنظار إخوانهم وحكومتهم إلى كل فرع من فروع الإصلاح مما يتناول البلاد برمتها، أو ينحصر خاصة في كل قطعة منها.
ونخالنا أَدَّيْنَا فرضًا واجبًا وتَوَخَّيْنَا الصدق والإخلاص في كل ما تقدم، ولم نتسرع إلى بسط شيء من شئُون العناصر المختلفة التي يتألف منها مجموعُ هذه الأُمَّة والخطط الخاصة التي يجب أن تُنتهج حتى تندمج اندماجًا لا يعقبه تفرُّق وتخاذل، ولا إلى النظر إلى علاقات العثمانيين بمن عداهم من الأُمم القريبة والبعيدة. وفي الجملة لم يكن من غرضنا الآن التعرُّضُ إلى شيء من أحوال السياسة الداخلية والخارجية، فإن لدينا من بواعث الإصلاح الداخلي بالنظر إلى موارد الثروة ودواعي التضامِّ والتضامن لأجل إدراك حقيقة الحرية والدستور ما هو أدعى للبحث العاجل وأوسع مجالًا لأقلام الكتاب.
لا يتوهمن أبناء الوطن العزيز أن الدستور نعمة أتتهم عفوًا، فلئن أُعلن واستقبل ولم تهرق يوم إعلانه الدماء، وقال الناس تلك أُعجوبة لم يأت الزمان بمثلها، فإنما هو قولٌ صادق بالنظر إلى منتهى أدواره وإلى الحكمة الباهرة التي ازدان بها رؤساء هذه الحركة، وما أبرزوه من التجرُّد عن الغايات والمطامع، فحقنوا الدماء التي كانت موشكة أن تتدفق سيولًا.
وإلا فإن مَنْ تتبع سَيْرَ الحوادث التي أدت إلى إعلان الدستور يعلم علم اليقين أن جهاد الأحرار لم يزل مستمرًّا منذ عشرات السنين، وإن دماء أبناء تركيا الفتاة ودماء أنصارهم وغير أنصارهم سالت أنهرًا طامية قبل بلوغ هذه الأمنية.
ومع هذا فإننا لم نزل في أول ميدان الجهاد والعقبات الصعاب تكنفنا من كل جانب، ونصراء الاستبداد غير مائتين، وإنما هي استماتةٌ وقتية يرتقبون الفرص في أثنائها، ولهم من أبناء التقليد البحت وحزب التقهقر الأعمى عونٌ قويٌّ يلتف حولهم أيان تسنى لهم الأمر، والأصفر الوضاح ما زال يُبذل سرًّا لعرقلة المساعي التي يقوم بها دعاة الإصلاح، وللدولة من المشاغل السياسية ما يجعل أَسِرَّةَ البغاة بارقة أملًا باستعادة شيء من ماضي رفعتهم وساقط نفوذهم.
فإذا علم العثمانيون ذلك وثبت لهم من كل أعمال حكومتهم الجديدة أنها غير ذاخرة وسعًا في كل ما يئول إلى منفعة هذه الأُمَّة، وأن رجالها — لكثرة أعمالهم — لا يكادون يملكون الوقت الكافي للاشتغال بالمهام المطروحة على بساط البحث والتدبير؛ وجب عليهم أن لا يقلقوهم بالمطالب الفارغة والتَّشَكِّيات التافهة والشغب الداخلي، فالوقت ثمين والفرص فَرَّارَة، وهذا الحين حين التفرغ للإصلاح، فإذا وضعتْ دعائمه واستقرت أركانه فليشتغل أبناء هذه الأُمَّة وليشغلوا حكومتهم بما شاءوا من معدات الزينة وزخرف الكماليات.
ولما كان مجلس المبعوثان ممثلًا لمجموع الأُمَّة وشعارًا حيًّا للحكومة الدستورية كان من المنظور أيضًا أن تتألب عليه قوى أعداء الدولة من الخارج وأعداء الإصلاح من الداخل، وسيتخذون لهم عونًا منه عليه، ويجهدون النفس بإثارة الشقاق بين أعضائه وبينهم وبين الحكومة، ويستسهلون الأمر بالنظر إلى أنه لم يسبق لأحد من أعضائه الانخراط في مثل هذا السلك الدقيق، وأن أول ما يتذرعون به إلى نيل بغيتهم بث روح التهور ودعوة الأعضاء إلى مناهضة الحكومة.
على أننا لا نخال المبعوثين — وهم من صفوة أبناء الأُمَّة — ينقادون إلى تلك الدسائس، ولا نخالهم إلا شاعرين جميعًا أن أوقاتهم في الأربعة الأشهر من السنة الأولى لاجتماعهم لا تكاد تكفي للنظر في اللوائح الإصلاحية المعدة لهم، والتي ستُطرح أمامهم للبحث فيقضون جلسات السنة الأولى في النظر إلى موارد الإصلاح العاجل، فيفيدون الفائدة اللازمة ويخدمون الخدمة الصحيحة ويستفيدون من الاختبار ما يؤهلهم إلى اقتراح ما شاءوا من الإصلاح في السنين المقبلة إلا ما تراءى لهم به حاجةٌ ماسةٌ إلى عدم التأجيل مما أغفلتْه الحكومةُ، وهذا — بلا ريب — أقل من القليل.
وإذ كان يُرجى من مجلس المبعوثان ولا سيما في السنة الأولى أن لا يزعج الحكومة بما يصرفها عن التفرُّغ للإصلاح كان من الواجب أيضًا على أبناء الأُمَّة أن لا يزعجوا الأعضاء بما يصرفهم عن التفرغ لمهمتهم، فلقد أيد لنا الاختبار باجتماع المجلس الأول سنة ١٨٧٦ أن أبناء كل ولاية كانوا يظنون مبعوثهم منتدبًا عن منتخبيه لا غير، ومأمورًا بإنفاذ جميع رغائبهم وإبلاغ تشكيات أفرادهم مهما كانت، حتى لقد كانت الرسائل في بعض الولايات تنهمر كالمطر على رءُوس مبعوثيها حاملة من المطالب ما لو طرحه المبعوثُ للبحث لَمَا ناله إلا هزء رفاقه أجمعين، فمِنْ طالب عزل خصم له وإحالة مأموريته إليه، ومِنْ ملتمس رتبة ونشانًا، ومن راغب في إصدار أمر لوالٍ بإلقاء نظرة عليه أو إلى مشير بجعله ملتزمًا للأرزاق العسكرية، حتى كان من جملة تلك المطالب أن مكاريًّا سرقت دابته فكتب إلى منتدب ولايته أن يأمر بإعادتها إليه.
وإننا — بلا ريب — لم نكن نُلام على ذلك الجهل في ذلك الحين، وقد يحصل مثل هذا التطرف في أعظم بلاد الحضارة. ولكننا الآن في مركز حرج لا يسعنا إلا أن نرمي فيه إلى غاية واحدة، فنعلم أن كل مبعوث هو منتدب للنظر في جميع شئُون البلاد، وأن مصالح الولاية التي انتخبتْه — إذا كان لها مصالحُ خاصةٌ — لا تأتي إلا في الدرجة الثانية. وأنه كلما خفف عنه منتخبوه من مطالبهم الخاصة زادوه مقدرة على خدمتهم ونفعهم.
وهو معلوم أيضًا أن لدى الدولة من المشاكل السياسية ما لا يقتضي من الهمة والحكمة دون ما اقتضاه نيل هذا الدستور، ولقد علمنا من تاريخ مجلس المبعوثان الأول أن بعض أعضائه كانوا بتَهَوُّرهم عونًا لأعداء الدولة على بلوغ غاياتهم منها، وعضدًا لحزب التقليد على التعجيل في فض ذلك المجلس إلى أجل غير مسمًّى. فكفى بما مضى عبرة لنا وعظة، ورجاؤنا أن يتخذ الأعضاء التأني والتروِّيَ شعارًا متجردين عن المصالح الخاصة غير طامعين بكسب الشهرة من وراء المناقشات الطويلة التي لم يَحِنْ بَعْدُ زَمَنُها، فإننا الآن أَحْوَجُ إلى تَلَقِّي الدروس منا إلى إلقائها بالخطب واللوائح، وحَسْبُ الأعضاء مراقبة أعمال الحكومة بعين محتاطة وفكر نقاد لا يهيج إلا خطأ يبدو لديه، فيشير إليه إشارة المصلح الحكيم.
وإن جميع أبناء هذه الأُمَّة المخلصين عالمون الآن أن المجال متسعٌ للأعداء والحُسَّاد لتَحَيُّن الفرص لتمزيق شمل هذه الشعوب التي تضامت بعد التخاذل الطويل. وإن الأيدي ممتدةٌ من كل جانب إلى استحياء التعصُّب الديني والتعصب الجنسي وإيقاظ أبالسة الفتن، فإذا لم تُقطع هذه الأيدي قبل أن تجد لها متمسكًا تتشبث به كانت الحالة الأُخرى أَشَرَّ من الأولى، وإلا فإن قَيَّضَ لنا اللهُ قطعها مذ الآن كان لنا الفوز المقيم والظفر الثابت.
لم يمر على العالم منذ خلقه الله زمنٌ خَطَا فيه العلم مثل خطواته في السنين الثلاثين التي انقضت، فإن عقول البشر سرحت كل مسرح، فوسعت المعارفَ المعقولة والمنقولة فمحصت التاريخ وضربت في مجاهل الأرض وسَهَّلَت العلوم القديمة وأَوْجَدَت علومًا جديدة في كل باب من أبواب المادة والاجتماع، وفتحت للعمران سُبُلًا لم تكن في الحسبان، وحامتْ حول المجهولات حومة اسْتَجْلَتْ بها الكثيرَ من غوامض الطبيعة، واكتنفت الاختراع والاكتشاف من كل جوانبهما فطافت بهما وجه البسيطة، وخرقت قلب الأرض، وغاصت في أعماق البحار، وطارت في الهواء، وامتطت لب الأثير فتجاوزت إلى الأفلاك. وضمت كل ذلك إلى ما ادخره لها الأقدمون، وهي لا تزال دائبة ساعية إلى حيث لا يعلم إلا الله، كل هذا ونحن في هذه الحركة المستمرة جامدون خاملون يتلقاها العالم أجمع بوجه بشوش ونحن نصدها عن اجتياز بلادنا، وما هي إلا شراراتٌ متناثرةٌ قَذَفَتْها علينا في سيرها وتجاوزتنا إلى أقاصي الأرض، فلبثنا حيث نحن والعالم في سير حثيث.
وَلَرُبَّ قائل يزعم أن في القول مبالغةً لأن حالة العلم عندنا الآن أرقى منها منذ ثلاثين سنة، ولكن أين هذا الترقِّي مما كان يجب أن يكون؛ إذ ليست الدرجة التي صعدناها بالشيء المذكور في هذا السلم المترامي إلى السماء أو لا تزال بيننا طوائفُ بل شعوب بِرُمَّتِها تائهة في بحران الجهل والغباوة، أو لا تزال طبقتها الراقية نفسها متأثرة من نتائج الضغط والعسف في هذا الزمن الطويل.
وقد كانت الدنيا تعذرنا كل العذر فيما مضى، أما الآن وقد تقوضت الحواجز فما عسى أن يكون العذر، وهذه الفرص قد حانت، فلئن لم نتشبث بأذيالها غادرتنا هذه المرة وهيهات أن تعود.
تلك أُمور أدركها جميع أبناء الطبقة الراقية من العثمانيين، ولهذا نراهم متحرقين غيرة على حفظ ربط الوئام الذي لا تقوم دُعامةٌ لهذا الملك الضخم بدونه، وإنهم — بلا ريب — يقاومون بمجامع قواهم ما ربما يبدو من مساعي سفلة الغوغاء الذين يقصرون عن إدراك نبالة تلك الغاية السامية ولا نخالهم إلا غانمين ظافرين.
يقول الحساد والمبغضون من أعدائنا والقانطون الخاملون من إخواننا: هيهات أن يتسنى استحياء هذا الشبح الضئيل، وقد عرفه العالم بالجسم العليل، نخر الفسادُ عَظْمَه وأعمى العجزُ بصره وغشي الجهل على بصيرته وضرب الاستبداد على مجموع قواه فانحلت، واستحكم التخاذل بين أعضائه فأوشكت أن تتمزق، فَأَنَّى له أن يستجمع قواه وتنبعث فيه روحٌ جديدة.
فهل فات هؤلاء الشامتين والمشفقين أن داءنا لم يكن بالداء العضال على ما تصوروه، وأن علتنا لم تتجاوز الأطراف إلى القلب والدماغ، بل هي قُروحٌ غشيت أجزاء الجسم الظاهرة فشوهت منظره وأقعدتْه برهة عن الحركة، فخُيِّلَ للناظر أنه قد قُضي عليه مع سلامته من كل علة قَتَّالة، فإذا علم أن كل تلك القروح كانت ناشئة عن وخز إبر الاستبداد، وأن تلك الإبر قد اقتُلعت وكسرت وذُرَّ بلسم الدستور فَأَلْأَمَ تلك الجراحَ الداميةَ هان علينا أن نثق بالشفاء التام والانبعاث في ميدان الحياة بقوة الجسم الصحيح.
ولا يهولن العثمانيين وأصدقاءهم ما يرون من البَوْن الشاسع بينهم وبين الأُمم العريقة في المدنية، فإن السُّبُل التي تفتحت لأولئك بالجهد والعناء هي باديةٌ متسعةٌ لنا، نلج منها ما شئنا، وباب الاختيار متسعٌ لنا أكثر منه لهم.
والعالم منذ نشأته أخذٌ وعطاء ودَيْنٌ ووفاء، فليس بالكثير علينا أن نتلقى ببضع سنين ما أدركوه بجهاد القرون الطوال، فقد سبق لهم أن اختزنوا بزمن يسير كل ما جمعه أسلافنا ذرة ذرة من علم وتمدن واختراع بسالف العصور فحفظوا منه ما شاءوا ونبذوا ما شاءوا، وهذا لم يكن بالفرض الواجب علينا أن نطبق كل تمدننا على كل تمدنهم بما له من الحسنات والسيئات، ولا يصعب علينا ونحن أول مراقيه أن نختار حسناته ونضم إليها ما وافق حالة جَوِّنا وتربتنا، فنبتدع لنا تَمَدُّنًا شرقيًّا صافيًا من شوائب الفساد والترف، الذي يعود بنا القهقرى فيؤدي إلى الانحطاط والانحلال.
وليزدْ أبناء الوطن ثقة وطمأنينة بعلمهم أن الدول تَدُول وتنقرض، وأما الأُمَم فلا تنقرض ولا تتلاشى، بل تبقى حية ما حيي الناس، وقد تتحول من حال إلى حال فتنحط وترتقي وتندمج بغيرها، وقد تفرق وتتوزع أفرادها في المجتمع البشري فتفقد وطنيتها الأولى. ونحن — والحمد لله — لم نزل في مواضعنا فلم نَزَلْ أُمَّةً حية، وإن جميع ما ظهر فينا من الانحطاط وفقد الوطنية إنما هو عارض زال بانقراض دولة الاستبداد، فليس في سبيلنا ما يعوقُنا عن بلوغ أسمى مبالغ الأُمَم، وإن أعظم عقبة يتذرع بها الأعداء إلى صدنا عن بلوغ تلك الأُمنية إنما هي استحياء روح التضاغن بيننا، وهي العقبة التي يسعى جميع العثمانيين الآن إلى تحطيمها ومحو آثارها، وهم بالغون مآربهم منها عما قريب — إن شاء الله.
وليست شُقَّة الإصلاح بالشقة البعيدة على ما يتوهم الجالسون على سُرُر الرفاه، فالساعي اليقظ يقطع مئات الأميال والخامل الوسنان يتكئُ على منصة خموله، فالزمنُ زمن جد وسعي. وحسب هذه الأُمَّة أن يسعى أبناؤها فيجرُّوا وراءَهم قسرًا كُلَّ متقاعس هَيَّاب. فلقد مرت على هذه الدولة قرونٌ وهي صاعدةٌ في سلم الارتقاء ثم عقبها قرنان تعاقب فيهما الجمود والانحطاط إلا فترات نهضة يسيرة لم تستحكم معداتها، ولقد مرت كل تلك القرون مر السحاب، فإذا حَسَبْنَا لإيناع ثمار هذه النهضة الأخيرة ربع قرن فخمسٌ وعشرون سنة ليست بالأمد المديد في عمر أُمَّة طوت القرون، وما هي إلا بمثابة شهور في عمر إنسان، وخمسٌ وعشرون سنة من وجه آخرَ ليست بالزمن القليل لِأُمَّة ناهضة راغبةٍ في استكمال جميع معدات الإصلاح بعد نيل حريتها، والحريةُ أُمُّ العجائب.
لم تكد تمر أيامٌ على إعلان الدستور حتى انقلب وجهُ هذه المملكة انقلابًا معنويًّا تامًّا فزال الشقاق وساد الوفاق، وانطلقت الأفكار والألسنة والأقلام وتكسرت قيودُ المظالم والمغارم، ولا ريب أن الانقلابَ المعنويَّ طليعةُ الانقلاب الحسي. فأغمض جفنيك وانظر بعين الخيال إلى ما يكون من شأن هذه الدولة بعد ربع قرن إذا ظَلَلْنا مثابرين على السير في هذا السبيل.
أفلا ترى العائش منا بعد هذه السنين يرى جميع أبناء هذا الوطن قد أدركوا معنى الحرية الصحيحة، وعرفوا ما لهم وما عليهم وأوثقوا عُرى الإخاء والسواء فأصبحوا أنفسًا متعددة في جسم واحد يعمل عملًا واحدًا؟
أولا يُرى أيضًا أنه بانطلاق الحرية الشخصية المقيدة بقيود الحقوق وفروض العدل والذمة تنمو سائرُ فروع الحرية، فتتسع معاهدُ العلم لكل أنواع العلوم مما كان مُباحًا وما كان محظورًا، وأن ربع قرن يكفي لتخريج ناشئةٍ جديدة على نفسٍ جديد وروح جديدة لم تتأثر بشيءٍ من مؤثرات الاستبداد، بل تحفظ ذكراها حفظًا يسهل لها الموت في سبيل الذود عن حياض أنفسها؟
أَوَلَا يكفي هذا الزمنُ لجعل صحافتنا وأربابها مثارَ الرأي العام وقادة الأفكار ترتقي الرقي الصحيح إلى ما يجعلها نبراسًا يفيض نورًا على أكناف هذا المُلْك المتسع، فيبث روح حب الاطلاع، روح المثابرة على التقدم والتضافر على العمل، وإلى جانب الصحافيين الكتاب والشعراء وقد أطلقت الحريةُ أقلامَهم ينشئون المجلات الباحثة في جميع الشئُون العلمية والاقتصادية ويؤلِّفون وينظمون ويزيلون جميع ما بقي من أغشية الجهل القديم. وإلى جانبهم العلماء يشتغلون اشتغالًا صحيحًا بالعلم فلا يروعهم إذا نظروا في تركيب كيميوي أن يُتهموا بإعداد الآلات القتالة، ولا إذا نَقَّبوا في بطن الأرض أن يقال إنهم يفتحون مدفنًا لأعداء العلم، ولا إذا اجتمعوا للبحث في مُعضلة أن يذاع أنهم يتآمرون للفتك بأعداء الحق، وأن اشتغالهم وحريتهم لهم كل هذا الزمن ليس بالعمل العقيم؟
وما عسى أن يُقال عن أعمال الجمعيات وقد خلا لها الجوُّ ربع قرن فتتألف أنواعًا وأصنافًا مما يضم العثمانيين من طَلَبة مدارسهم إلى شيوخ ساستهم وعلمائهم، فتتناول التربية والآداب والمباحث العلمية، وتتخطى إلى النظر في موارد ثروة البلاد ووسائل استخراجها وتتطرق إلى مباحث الاكتشاف والاختراع؟
بل ما عسى أن يقال عما تبلغه المرأة العثمانية في خمس وعشرين سنة، وهي القوام الأعظمُ لكل تمدُّن حقيقيٍّ ثابت، وهي نصفُ هذا الجسم فلا تصحُّ حياته إلى بصحة حياتها، وهي العون الأكبر للرجل في رجوليته ومربيته في طفوليته ورفيقه في عزلته ومؤاسيته في شدته، وإليها مرجع الفضل في تثقيف العقول النامية وإنبات غرس الفضائل فيها، ولَكَمْ حفظ لها التاريخُ في الجاهلية والإسلام ودول الحضارة من مأثرة يُفاخر عظام الرجال بإحراز أمثالها. وإنه يسرنا أن نفاخر أيضًا أنه كان للمرأة التركية يدٌ قوية في نهضتنا الحديثة، فلقد ناضلت وجاهدت وخاطرت بنفسها، فكان لها بذلك فخرٌ يُسطر بمداد النسب فإذا كان هذا شأنها في زمن الاستبداد، فما عسى أن يكون بعد خمسة وعشرين عامًا، إذ تكون هذه النفحة الطيبة قد سرت منها إلى سائر أخواتها من بنات هذه الأُمَّة في كل صقع ونادٍ وأُعدت المدارس للبنات إعدادها للبنين، وانقشعت غياهبُ الجهل المغشية بظلم الرجال على عقول النساء، فلا ريب أن المرأة العثمانية تدخر في تربية النابتة الجديدة فضلًا يعم الذكور والإناث، وتحرز في توطيد دعائم هذه النهضة فضلًا لا يقل عن فضل مكافحة الرجل في معترك السياسة وميادين الذود عن الأوطان.
وليست الخمس والعشرون سنة بالزمن اليسير بالنظر إلى إعداد نُجَبَاء الفتيان في مدارس الحكومة والمدارس الوطنية لتولي مناصب الحكومة عن علم صحيح ولياقة تامة في جميع فروع الإدارة والقضاء والسياسة والجندية، فانظر ماذا تكون حالة البلاد يوم تتولى المناصبَ أربابُها الذين أُعِدُّوا لها، وما ينجم من استتباب الأمن وسيادة العدل، وما يكون من غيرة المأمورين وجهدهم يوم يعلمون أَنَّ الواحد منهم يرتقي بجده وإخلاص خدمته، وإن غيث الرتب والأوسمة المختلسة قد انحبس عن كل متزلِّف مداهن، وانظر بعد هذا ماذا يكون من طمأنينة الفلاح والصانع والعامل والتاجر بعد إصلاح الطريقة الشائعة في جباية الأموال ووضع حد لكل من حقوق الحكام والمأمورين.
وإذا هَالَكَ ما ترى من تبايُن الأخلاق والعادات بين هذه الشعوب المختلفة فاعلم أن معظم ذلك ناشئ عن اختلاف لغات القوم وسوء التفاهم مبدأ الشر والعدوان. وإن خمسًا وعشرين سنة لَزَمَنٌ كافٍ لنشر مبادئ اللغة الرسمية في جميع أنحاء المملكة، وإن تعميم طريقة التعليم على نمط واحد يؤلف بين القلوب، وإذا تفاهم الناس حسن ظنهم بعض ببعض، وزالت أسباب الفتن وتسهلت طرق الوئام فأصبحت هذه الأُمَّة أُمَّةً واحدة تسعى إلى غرض واحد.
وإذا راعك ما رأيت فيما سلف من بوادر التعصب الذَّمِيم فحسبك أن تلفت إلى نشوة التآخي التي هَزَّتْ جميع العثمانيين على اختلاف مِلَلِهم ونِحَلِهم على إثر إعلان الدستور وقيام سماحة شيخ الإسلام ناشرًا لواء الوفق والسواء، معلنًا مطابقة ذلك للشرع الشريف، ومن ورائهِ سائرُ رجال الدين يُؤَمِّنون ويصفقون طربًا. كل هذا والجهل لا يزال فاشيًا في أطراف البلاد، فما الظن بمآلنا الميمون بعد خمسة وعشرين عامًا والعقول مستنيرة حينئذ بنور العلم والعرفان والأفكار متسعة لما هو فوق هذه المشاغل الدنيئة وجميعنا مترابطون بعرى المصلحة المشتركة.
وإذا انثنيت إلى التبصُّر بموارد الثروة بدا لك كأنك في حُلم لكثرة ما يتراءى لك من الكنوز الدفينة — على ما أسلفنا — على أن ربع قرن زمنٌ للمشتغل طويلٌ، يتيسر له في أثنائه استحياءُ موات الأرض بجميع الوسائل العلمية والعملية فتحيا الزراعة، وتقتبس فنون الصناعة فتنشأ المعامل لجميع المصنوعات، وتروج التجارة، وتُعقد الشركات للملاحة واستخراج المعادن، وتسهيل سبل الاتصال وسائر الأعمال الرابحة. فانظر بعين الخيال إلى ما يتدفق حينئذ إلى خزينة الحكومة وصناديق الأهالي من الأموال الذاهبة الآن ضياعًا، فما هي إلا فترة يسيرة حتى ترى هذه المجاهل القاحلة جنانًا أريضة من خليج فارس إلى ضفتي البوسفور، تفيض مياه دجلة والفرات على أرجاء العراق فترجع بها إلى زمن العباسيين وتنبت فيها المدن والقرى البائدة نبتًا جديدًا، فيبتسم الحضري بشرًا وسرورًا، ويتحضر البدوي آنسًا آمنًا، وقل مثل ذلك في بادية الشام وبقاع سوريا وسهول الأناضول ومنابت الروملي ورياض الغرب وسائر أجزاء السلطنة. وينقلب حينئذ سيل المهاجرة فيقف المزمعون ويعود الراحلون وتُصبح هذه البلاد الفسيحة مرمى الآمال ومَحَطَّ الرجال بعد أن كان الراحل عنها محسودًا على الخروج سليمًا منها، وإن قضى حياته شريدًا طريدًا.
وإذا تأملت أخيرًا في دعامة الهيبة والسلطة والأمن — ونعني بها: الجندية — رأيت أننا مذ الآن في موقف لا يُستهان؛ فإن لدينا من الضباط المحنكين وفتية الجند الباسلة ما ترتفع الرُّءُوس به عزًّا وافتخارًا، فما قولك بهذا الجيش المتفاني في حفظ بيضة السؤدد والمجد بعد خمسة وعشرين عامًا وقد تثقفت جميع طبقات الأُمَّة فمشي المسيحيُّ إلى جانب المسلم، والإسرائيليُّ إلى جانب اليزيدي، والبدوي إلى جانب الحضري، فألفوا جسمًا واحدًا يرمي جميعًا إلى غاية واحدة ألا وهي حفظ الذمار ودرء العار.
وإذا ساءك أن قوتنا البحرية في ضعف وعجز ظاهر، فبمدة خسم وعشرين سنة لنا متسع من الزمن لإعداد أُسطول من أعظم الأساطيل وتدريب جيش بحري من أعظم الجيوش. وليست قلَّةُ المال في الآونة الحاضرة مانعًا من إدراك هذه الأُمنية؛ فلقد أَبَنَّا فيما تقدم ما حصل لدينا من الوفر العظيم بإلغاء رواتب الجواسيس وما يلحقها من الخرج الباهظ في أبوابٍ أقفلتْها حكومتنا الدستورية مما يحصى بالملايين، هذا خلا الزيادة التي ستستمر في الدخل بلا زيادة في الضرائب حتى تبين لنا بالإحصاء، فقلنا ولا حرج إن دخلنا بعد بضعة عقود من السنين سوف يُعادل دخل أعظم الدول الأوروبية.
وحسبنا — في الختام — أن نضرب لك مثالًا هذه الأجسام الصغيرة التي انفصلتْ عنا فألفت الممالك والإمارات وآخرها البلغار، لم يكد يمر على انفصالها ثلاثون عامًا حتى جعلت لنفسها شأنًا خاصًّا وقامت تزج نفسها في عداد الدول وسارت في طريق الترقِّي شوطًا لا يمكن إنكاره، وألَّفَتْ لها جيشًا وابتنت الحصون والقلاع، ولم تكن إلا جزءًا صغيرًا من هذه السلطنة العظمى. وهي ليست مع هذا ملة واحدة — على ما يتوهم البعض — بل عندها ما عندنا من تشعُّب الملل، من السلافي إلى اليوناني إلى التركي المسلم والإسرائيلي وهلم جرًّا. ولهذا لا نرى غلوًّا في شيء مما تصورنا لحالة البلاد العثمانية بعد ربع قرن يمر من هذا التاريخ.
فيا حبذا ذلك اليوم الذي نراه مذ الآن في مسارح الخيال، يوم لا يبقى من الاستبداد إلا ألمُ ذِكراه وطربُ الفوز بِدَكِّ معالمه. يوم ينتشر العلم فيسطر الفلاح حساب مزروعاته بخط يده ويتفاهم جميع أبناء البلاد بلا واسطة ترجمان، يوم تنتظم الفتيان جنبًا لجنب في فرق الجندية من أبناء كل ملة ودين، يوم تخضل الأرض ولا ينال البحار من مياه الأنهار إلا فضلاتها، ويَهِبُّ أربابُ الأموال إلى تثمير أموالهم في بلادهم فيؤلفون الشركات ويتبارون بإنشاء المعامل وينيلون البر حظًّا مما رزقهم الله زكاة طيبة تُنفق في كل باب ينتفع به أخوهم العاجز والفقير، يوم يخفق العلم العثماني في عرض البحر على أساطيل الدفاع وبواخر التجارة وتتشعب طُرُق النقل برًّا وبحرًا تشعب العروق في الجسد، يوم يفاخر أبناء الأُمَّة العثمانية سائر أُمَم الأرض.
وليس هذا اليوم ببعيد — بإذن الله.