الحرية الشخصية
إن أول ما يحرص عليه المرء حرية شخصه؛ فلقد كانت، لعهدٍ مضى، مطلقةً يسرح المرء ويمرح أيَّان شاء، ويخالط من شاء ويقول ويعمل ما شاء مما لا ينال سواه بأذًى. وهو في كل ذلك لا يخشى وَشْيَ رقيب أو مفاجئ. فإذا بنا والعيون قد بُثت والأرصاد قد سدت السبل ويا لشقاء من ألقاه سوء البخت بين براثن تلك الذئاب، يبيت المرء في منزله وعياله إلى جانبه وهو غير آمن من أن يفاجئه طارقٌ في دياجي الظلام فيختطفه من بين ذويه، إذا خطا نظر إلى ما وراءه خشية أن يكون له من ظِله رقيبٌ عليه، وإذا تكلم مع صديق أو رفيق على قارعة الطريق تراه يكاد يهمس همسًا خوف أن تبدر منه كلمة تحتمل التأويل، كأن القسطنطينية رجعت إلى زمن كاليفولا في رومة، والطير نزلت على رءُوس الناس كبيرهم وصغيرهم.
وإنه لا يكثر على كل من أقام زمنًا في الأستانة أو بعض مدن الولايات أن يؤلف مجلدًا في ما سمع أو رأى من غرائب الوُشاة. ودونك مثالًا واحدًا من أخف ما لقي الأبرياء من شرهم.
عرفت شابًّا من أبناء التُّجَّار قصد الأستانة لعمل ماليٍّ، وكان كثير التردد علي. فما مضت بضعة أيام إلا وأتاني يومًا ووراءه ذَنَبان، وإنني مع كل ما خبرت ووعيت من أخبار الجواسيس عجبت أن يكون صاحبي موضع ريبة؛ فيجر وراءه هذين الذيلين. فلما جلس وبقي الرجلان على مقربة من الباب سألته عما بدا منه حتى بات موضع التهمة، فأقسم أنه لا يعلم سببًا، وأنه لم يشعر إلا وهذان يتعقبانه ويرافقانه كظله، فإذا مشى مشيا، وإذا دخل بيتًا انتظراه لدى الباب، وإذا ركب عربة أو باخرة من بواخر البوسفور ركبا.
فظللنا نسعى أشهرًا لنقف على السبب إلى أن أخذت الشفقة يومًا ناظر الضابطة؛ فأطلعه على ورقة مرفوعة إلى «المابين» من واش يقول فيها: إن فلانًا — أي: صاحبنا — أتى الأستانة قَصْد استطلاع أحوالها قبل أن يذهب إلى باريس وينشئ جريدة ملؤها الطعن في الدولة، وهو ذو عزوة كبيرة ومقام كبير وله شهرة عظيمة بين كُتَّاب العصر. وإني لو نفع القسم وقتئذ لأقسمت أن فلانًا هذا لا يعرف ما الكتابة في الجرائد، ولم يَخُطَّ بحياته فيها حرفًا، ولا أثر لتلك العزوة، وذلك المقام، ولم تخطر له تلك الفعلة ببال ولو في المنام، وإنما هي مكيدة نصبها له رجل طمع في مشاركته في تجارته، فلما أبى أن يشركه معه عمد إلى هذا الانتقام الدنيء. وهكذا بقي صاحبنا سنوات يتظلم وما من سميع، فلا يفرَج عنه فيرجع إلى بلده، ولا يؤذَن له بعمل يرتزق منه، وأنت تعلم ما تئول إليه حاله بعد سنوات.
وإنها مع هذا مصيبةٌ لا تعد من كبار المصائب؛ إذ لم يؤذَ الرجل بجسده ولم يصادَر بماله. وهذه القيود والأغلال في أعماق السجون تكاد تشتبك غيظًا لكثرة ما أثقلتها المعاصم والأقدام. وهذه بنغازي وبعض المدائن النائية في أطراف السلطنة تضج منتحبة لِمَا ترى من شقاء المبعَدين. بل هذا البوسفور يوشك أن يفور تلهُّفًا على تلك الجثث فيقذف بها إلى ثغريه خشية أن تبيت دفينة في بُطُون الحيتان، فإذا كانت تلك حالتنا بالأمس فمن ذا الذي يعجب لخروج الناس أفواجًا من ديارٍ يحسبونها دار شقاء؟ ومن ذا الذي يجهل ما يكون بعد نشر راية الحرية من تهافتهم إليها تهافت الأبناء إلى الأُم الرءُوم؟ وما يكون من رواج التجارة ونمو الزراعة وارتقاء الصناعة ومن الإقبال على جميع الأعمال بعد ذلك الاعتقال.
بل من ذا الذي لا يرى، مذ الآن، أنه سيقوم منا في الغد جهابذة وفحول في العلم والسياسة والإدارة والقضاء، فيأتون ما يأتيه أندادُهم في أعظم الدول شأنًا. فالأُمَّة العثمانية لم تعدم في كل عصر من العصور أمثال هؤلاء النوابغ، وإن عدمت بروزهم للعيان في هذه الفترة؛ فلأنه كان من الجناية أن ينبغ في البلاد العثمانية رجلٌ ذو شأن، ويظهر له أثر مذكور على ألسنة الناس، فإذا مَسَّتِ الحاجة إلى إبراز آية من آيات عقله أو بأسه فسح له المجال حتى يستتم عمله، ثم ينبذ نبذ النواة لا يُباح لمواطنيه المعجبين به من أبناء أُمَّته أن يوافوه بشيء من مظاهر الإجلال والإكرام، حتى لقد تحرم البلاد من بقية ما فيه من الهمة والذكاء.
وإذا أردت مثالًا على ذلك فارجع بفكرك إلى عثمان بطل بلاونا وأدهم بطل لاريسا، بل راجع بنظرك خطاب اللُّرد سولسبري في مجلس العموم الإنكليزي سنة ١٨٩٤ يوم وفاة رستم باشا سفيرًا في لندن؛ إذ قام اللرد مؤبنًا، فقال: «إن الفقيد كان من عظام الرجال ومن أمثال عالي وفؤاد، وإن القوم ليخطئون خطأ مبينًا إذا زعموا أن تركيا خالية الآن من الرجال العظام؛ فإنها لم تخل منهم في زمن، فإذا خلتموها خالية منهم منذ سنوات، فإن لذلك أسبابًا قاهرة.» ذلك مفاد ما قاله رئيس وزراء الإنكليز، فإن هو لم يصرح سياسة بتلك الأسباب، فكلنا عالم بها متأوِّهٌ أسيف.
أما الآن وقد قُضي الأمر، ونال، بل استعاد العثمانيون حريتهم، فليس بالكثير عليهم أن يُبرزوا من ذوي الهمم منهم وينبتوا من ناشئتهم كل قَوَّال فَعَّال.