حرية الصحافة
وإذا كان هذا شأن الحرية الشخصية، فما عسى أن يكون شأن حرية الصحافة؟ تلك الآلة الحَيَّة الناطقة بلسان الأُمَّة، المنبِّهة الأفكار، المرشدة إلى الإصلاح المشيرة إلى مواطن الخلل المنادية بحي على الفلاح، فإنه وإن كان القانون الأساسي قد أَطلق سراحها على ما اتسع له وقتئذ، وأنشئ لها نظامٌ مخصوص حوالي سنة ١٢٨١ﻫ يوسع لها في حرية البحث والنقد؛ فقد أصبحت بعد ذلك تحت مراقبةٍ حَوَّلَتْها إلى أبواق تمجيد وأغوال تهديد، يضطرب أصحابها خوفًا لكلمة تبدر منهم أو من محرريهم يتأولها أولو الأمر على غير ما أرادته الجريدة.
وما كانت رقابة المراقبين — وإن اطلعوا على جميع ما يكتب قبل الطبع — لتخفف من أخطار العقاب، فكم من جريدة أُلغيت أو أُوقفت لزمن محدود أو غير محدود لخبر روتْه عن جرائد أوروبا ينبئ بمقتل وزير في الصين أو أمير في أفريقيا، أو اختراع ذكرته لآلة تطير في الهواء، أو غواصة تسير تحت الماء، بل كم من مرة فاجأ الجريدة الأمر «بتعطيلها» وظل صاحبها يبحث أشهرًا، فلا يعلم لذلك سببًا غير «الإيجاب»، بل كم من مرة انقضَّت الصواعق على رأس الصحافي لجهله أن هذه الكلمة أو تلك قد انتزعت بحكم الاستبداد من معجم الألفاظ الكتابية: كالقانون الأساسي، والخلع وما اشتق منه، والجمهورية، والديناميت، والثورة، والإنصاف، والحرية. أو إن عبارة أو جملة وجب حذفها من أبواب الإنشاء كقولك: العدل أساس الملك، والظلم مرتعه وخيم، والحرية منتهى غايات الأُمَم. بل الويل كل الويل لمن ذكر حرفًا عرف به علم مشهور: كعبد العزيز، ومراد، ورشاد، بل كم لنا بإزاء هذه المبكيات من طوارق المضحكات.
خذ أعلام الأسماء وألقاب الأُسَر في البلاد ترَ مثلًا: أسرة السلطاني معروفة في سوريا، ومنها رجال من ذوي المكانة بين مأموري الدولة، أفيتصور ذو عقل أن كتابة اللقب على هذا الهجاء تهدم قِوَام المملكة فيحوَّل — رضي أصحابه أم غضبوا — إلى «سلتاني» مرة، وإلى «سلطا» مرة أخرى. ومن ذا الذي يقول بخراب الملك إذا دعا أحدهم رجلًا باسمه، وقد سمي «خليفة» وهو اسم بات على شيوعه من الأسماء المحظور استعمالها، ومن ذا الذي يصدق لو لم تثبت الحقيقة صدق المقال أن بيت «الشوكتلي» المعروف بحلب لا تجسر جريدة ولا مقام رسمي أن يذكره بهذا اللفظ، حتى اضطر أصحابه إلى اتخاذ لقب النحاس بدلًا منه؟!
أما المقالات السياسية فباتت من أمثال العنقاء، تذكر ولا ترى، وبات العثمانيون وهم يقرءون في جرائدهم القليلة نتفًا من أخبار الدول، ويقرءون شيئًا عن سياسة بلادهم وإدارتها إلا ما أُشير به إلى نعمة سلطانية أو تعيين والٍ أو مأمور أو أدعية متوالية تشفُّ عن غلٍّ شُدَّ في أعناق الصحافيين وقادهم — وهم صاغرون — في سبيلٍ لا يُتاح لهم أن يفلتوا وهم سائرون فيه يمينًا وشمالًا. ولهذا لم يكن في البلاد من ينكر عليهم هذا الصغار، بل كان الناس ينظرون إليهم نظر الأسير المشفق على أسير آخر بإزائه. ولقد طالما شاقنا استطلاع الأخبار فتسقطناها من بريد أجنبي أو جريدة في سفارة أو دار قنصلية. وسئم الناس قراءة جرائد بلادهم كما سئم محرروها كتابتها على هذا النهج، وفي ذلك يقول أحد أدباء الأتراك متهكمًا بتوريد لطيف على كل جرائد الأستانة وقتئذ:
وليس هذا كل البلاء إذ لو حرمت علينا الكتابة في جرائدنا، وأُبيحت لنا قراءة الصحف المنتشرة في سائر الأقطار لقلنا: شرٌّ أهونُ من شرين، ولكن هيهات … حظرت المراقبةُ قراءة كثير من الجرائد المنتشرة في كل بلاد الله، ولا سيما ما صدر في مصر أصدق البلاد ولاء للخلافة الإسلامية والأُمَّة العثمانية. كأن معظم البلاء وقع على رءُوس الأصدقاء، دونك أصحاب الجرائد في مصر؛ فاسألهم ينبئوك بما عانوا من المشقة في السعي بالإفراج عن جرائدهم وإباحة قراءتها للعثمانيين في بلادهم. دع المقطم وما جرى على خطته ولنلتمس لرجال «المابين» عذرًا في الحقد عليه لقيامه على نقد أعمالهم والتنديد بهم. بل فلنسبل سترًا على ما أنزلوا على القلوب من الرهبة منه، وما تفننوا به من ضروب العذاب الأليم عقابًا لمن وُجد في بيته أو عُثر بين ثيابه ولو على قطعة منه اتخذها لفافة لمنديله، وهو على سفر من مصر كما جرى لذلك الشامي الأُمِّيِّ، فسل أهل الشام كافة يخبروك كم لبث في السجن، وكم قاسى من أنواع العذاب لتلك الجريمة وهو لم يقرأ بحياته جريدةً ولا كتابًا، بل التقط تلك الورقة وهو لا يعلم أهي صحيفة من كتاب أو كشف حساب.
دع، إذًا، أشباه المقطم وانظر المؤيد واللواء؛ فهل عرفت قبلهما أو بعدهما صحيفة أشد تمسكًا بالعرش العثماني وأعظم تفانيًا في خدمته، فهل أُتيح لهما إرسال جريدتهما إلى البلاد العثمانية مع ما فيها من كثرة طلابهما؟ وإني لا أزال أذكر حديثًا لي مع مؤسس اللواء إذ سألني أحد أصدقائي من باشوات العراق أن أُمكِّنه من الحصول على جريدة اللواء، فقال لي — رحمه الله: يسوءني أن يكون ذلك أمرًا محظورًا، ولست أعلم له سببًا، كل هذا لأن اللواء والمؤيَّد يردِّدان على صفحاتهما ذكر الحرية والدستور والاستقلال والمجلس النيابي، وما أشبه من الألفاظ التي تنبه الشعور في عرف الناس، «وتخدش الأذهان» في عرف رجال «المابين.»
ذلك كان جزاء المُحبين للحكومة الغابرة، القائمين على ولائها من أرباب الجرائد سواء كانوا في قبضة يدها أو خارج سلطتها.
وأما أعداؤها ومبغضوها ممن لا تستطيع أن تتناولهم يد جبروتها، فهُمْ هُمُ الذين كانوا بفضل كرمها الحاتمي في نعيم مقيم تنفحهم بالألوف الصفر المجبوة بالدرهم والفلس من الأرملة والعامل الكَدَّاح إلجامًا لألسنتهم النمامة. وما كانوا بكافِّين عنها إلا حتى حين. ولقد أغدقت عليهم من النعم ما لو أحسنت ببعضه على بعض جرائدها في بلادها؛ لكان لها أشباه التيمس والتان.
ولقد طالما ذاعت عنها تلك المكرمة بين الناس حتى كادت تبيد مزايا جرائد الأحرار المطالبين بالدستور والباذلين في سبيله كل ما عزَّ وهان لاختلاط الحابل بالنابل، وبات كل أفَّاق شريد يطمع في اتخاذ السباب والنميمة مهنة يستهطل بها غيثًا من النضار، ولو لم يقم مختار باشا في مصر وغيره في غيرها يصيحون ويصخبون سنين طوالًا في وجه هذا السيل الجارف، لما خف اندفاعه حتى الآن، ولكانت ضاقت موارد الدولة عن إرضاء كل أفاك زنيم.
ولو بقي نصراء الاستبداد على منصات رفعتهم حتى الآن لقالوا بلا ريب مدافعين: إن البلاد لم تألف الحرية، فإطلاق أقلام الصحافيين فيها إثمه أكبر من نفعه. فقل لهم دفعًا لهذه الفرية تلك نعمة عَمَّ انتشارها فتمتع بها أبناء قلب أفريقيا وأقاصي آسيا، فما بالكم حرمتموها علينا؟ ومع هذا فلسنا على بساطها بالمحدثين، ألفناها منذ ستة وثلاثين عامًا ورتعنا في أكناف رياضها، وما من رزية أشد على المرء من سلبه نعمة نال منها لو طرفًا يسيرًا، أليس منكم من قرأ جرائد الأستانة وسوريا ﮐ «الوقت» و«عبرت» و«الجوائب» و«الجنة» و«الجنان»، فرأى فيها ما أنفذته من سهام للنقد على أولياء الأمر أيام صدارة محمود نديم.
ومَن مِن السوريين أبناء ذلك الزمان لا يذكر ما صوبته «الجنة» من نبال التقريع، وما ألمَّت به أفئدة الوزراء من كشف النقاب عن بعض أعمالهم، مما لو كتب منها سطرًا واحدًا في أيامكم لكان أقل جزاء لكاتبه السجن المؤبد. فعلامَ كان سلفاؤكم يرحبون بتلك الكتابة؟ بل علامَ كان بعضهم يحرض الجرائد على الانتباه إلى نقد أعمال العمال؟ وكل كهولنا يذكرون أيام تولى مدحت ولاية سوريا، وما كان من عزله متصرفًا لتهمة وجهتها إليه «الجنة»، فكتب إليه: «إما العزل وإما قيامك للوقوف أمام المحكمة مع صاحب الجريدة.» ولما لم يقو على تبرئة نفسه اضطر إلى الاستقالة، بل ما بالكم ترتعدون جَزَعًا لذكر «الثورة» و«القتل» و«الخلع» و«الدستور»، وتأمرون أن نشوه وجه الحقائق فتنقل إلينا الأخبار كاذبة، فإذا قُتل ملك إيطاليا أمرتم الصحف أن تقول «تُوفِّيَ فجأة»، وإذا طُعن كارنو رئيس جمهورية فرنسا على قارعة الطريق، قالت بأمر منكم: «مات بالنزلة الصدرية»! فماذا يقول التاريخ بهذه الألاعيب الصبيانية؟ وأَيُّ جريدة من جرائد السلطنة أيام خلع المغفور لهما السلطان عبد العزيز والسلطان مراد لم تَصدر أيامًا، بل شهورًا متوالية حافلة بتفصيل أخبار ذلك الانقلاب وما وليه من هجوم حسن الجركسي على الوزراء وقتله الصدر وناظري البحرية والخارجية؟ وإن أكبرتم نقل مثل هذه الأخبار، فما بالكم تحظرون علينا ذكر جهاد الروسيين والإيرانيين في سبيل الحرية ونيل الدستور؟!
أفلا ترون بدليل ما تقدم أن الأُمَّة لا تطالب بنعمة تسبغونها عليها من فضلكم، وإنما هو حق سلبتموه بعد أن كانت متمتعة به بفضل أسلافكم؟ أوَلا ترون أيضًا أن بقاء صحافتنا حية مع شدة هذا الضغط يبشرها بعمر جديد وشأن في المستقبل مجيد؟
وإننا بلا ريب لا نطمع ولا نودُّ أن نتخطى الآن إلى ما وراء المعقول، فنثب وثبة واحدة من وهدة المسكنة الاضطرارية إلى قمة التهور الاختياري، بل جُلُّ ما نتمناه أن تُباح لنا رواية الأخبار وترديد صدى الأفكار والنظر في شئُون أنفسنا من إلقاء درس مفيد وعرض مقترح جديد ونقد عامل وعمل والبحث في كل ما من شأنه أن يلذ ويهذب ويفيد. وعلى الجملة إطلاق الحرية إلى ما لا يفضي بها إلى مثل الفوضى التي استحكمت بين بعض جرائد مصر لسنين مضت، وهو لا شك ما ينظر إليه دُعاة الدستور من الآن بعين الرَّوِيَّة والتدبير.