حرية التعليم
لئن أطلنا الشكوى من تأخُّر الصحافة في العهد الماضي، فإذا ذكر العلم والتعليم فلا يسعنا إلا أن نقول الحق فنعترف أنهما رقيا فوق ما كانا عليه درجات، وأن معظم العثمانيين أصبحوا ولهم نصيب من العلم. ولقد أربى عدد القارئين الكاتبين على عدد الأُميين في كثير من الولايات، ولكن المراقب الخبير يعلم أن هذا الترقيَ هو دون ما كان يجب أن يكون؛ لأن تيار العلم سيل جارف يُبدِّد كل ما اعترض سبيله من عقبات الجهل والخمول، ولقد أحاط بنا هذا السيل من كل جوانبنا فما كان في الوسع حده مهما بذل من الجهد، فكيف ومعظمنا مستبشر لوفوده ولو تسهَّلت له السبل على ما يرام لكَفَتْه ثلاثون سنة لإزاحة كل نبت خبيث وجلمود معترض في طريقه، وجعل البلاد قاصيها ودانيها رياضًا للمعارف، نضرة يانعة الفروع دانية القطوف، ولكن الخطة التي جرت عليها الحكومة الغابرة حوَّلَت بعض حسناته إلى سيئات وبعض منافعه إلى مضارَّ.
أرادت أن تتخذ للتعليم في البلاد خطة واحدة، ويا حبذا الفكرة لو حسن القصد واستقام الأسلوب، وهي فكرة قديمة يرجع أصلها إلى أيام السلطان سليم، فلم يتسن له إنفاذها، بل كانت من أسباب قيام جهلة الإنكشارية عليه، فتلقاها السلطان محمود، ولم تزل تتراوح في رءُوس ذوي الشأن حتى أنشئت المكاتب الإعدادية والرشدية في الولايات وبعض المدارس العالية في الأستانة في زمن السلطان عبد العزيز، وزاد عليها جلالة السلطان الحالي مدارس أُخرى. ولكن طرق التعليم اختلَّت بشدة المراقبة، فأُبعد منها كثير من المطالب المفيدة إبعاد المنفيين إلى فزان، حتى لقد حُرِّم على الطلبة درس المهم في التاريخ ولو كان تاريخ بلادهم، وشوهت جغرافية البلاد العثمانية وخرائطها فحذف وبُدِّل منها من الأسماء ما طالما افتخر سلاطين آل عثمان بدخوله في حيازتهم. وحظر تعليم — بل قراءة — العلوم الفلسفية والاجتماعية، ومُنع الأساتذة من إلقاء أيِّ شرح مفيد على الطلبة حتى حار المعلمون في أمرهم، وكانوا وهم يلقون حتى ولو مسألة نحوية أو حسابية صِرْفًا يخشون أن توجس منهم إشارة إلى عدد يوافق أعداد سني الظلم أو فتحة أو كسرة تشيران إلى فتح الأعين وكسر القيود.
كل ذلك خشيةً من أن ينبثق نور العلم في أدمغة التلامذة، فيعلمون أنهم من بني الإنسان، وأن لأُمَّتهم حقوقًا تجب المطالبة بها، فإذا نال أولو الأمر هذه البغية بالنظر إلى صغار الطلبة، فما كان يا تُرى ظنهم بطلاب مدارس الأستانة العالية كالمكتب الملكي والمكتب السلطاني والمدرسة الحربية والمكتب الطبي — وجميعهم من الشبان الأذكياء؟ أو ما عسى أن يقول طلاب مدرسة الحقوق — وعلم الحقوق من العلوم الفلسفية — إذا اضطر أساتذتهم كل يوم إلى تغيير خطة وتبديل نهج وإلغاء درس الشرائع الرومانية أو غير ذلك مما يزيد المنعُ عنه رغبةً فيه؟ أو ماذا يقول طلبة المدارس الحربية إذا حظر عليهم أن يبحثوا في أنواع الحكومة، وتنصب لهم المكيدة فيجمع بعض نظارهم نجباء أولئك الشبان المتقدين نيرة وذكاء؛ فيسألهم عما يُؤْثرون من أنواع الحكومات فلا يقول بالحكومة الاستبدادية إلا أشدهم دهاءً. وأما الباقون الذين يبوحون بما في ضمائرهم، فيقولون بالحكومة الدستورية، فيُطردون ويُساقون سوق الأنعام إلى حيث لا يعلم إلا الله. وأما ذلك الظالم الناشر تلك الأُحبولة فيتخذها ذريعة للوشاية فتغدق عليه النعم ويصعد في سلم الترقي درجات متواليات بأسرع ما صعد إسرائيل على سلم جبرائيل.
وما كل هذا العنف وذلك الضغط إلا ليغشوا على أبصار الشبان، فينشئوهم آلة صماء بين أيديهم، ويحجبوا عن أبصارهم ساطع النور، فلا ينظروا إلى مساوئهم، أفجهلوا أن النور إذا انبثق خرق الظلمات ونفذ إلى ما وراء حجب الغياهب! وأن شدة العنف تجرح حتى الجبان! فما عسى أن يكون فعلها بتلك الفتية الباسلة، وهل فاتهم أن دُعاة الثورات والإصلاح في أُوروبا كان معظمهم ممن عني في تربيته على خلاف ما نشأ عليه.
بقي لنا كلمة في المدارس الوطنية والمدارس الأجنبية، أما الأولى، ونعني بها: تلك التي شادها أهل البلاد، فهي قليلةٌ لم يكن يُرجى منها النفع المقصود مع شدة اعتناء أصحابها بها؛ لأن أكثرها تحت أحكام هذه المراقبة الجائرة. وأما المدارس الأجنبية فهي التي كانت متمتعة بحرية حُرمت على ما سواها، ولقد تهافت عليها الطلاب من كل الملل والنحل تهافت الظمآن على الماء الزلال، وبَثَّتْ نور العرفان بين جمهور عظيم من فتياننا، ولكنا مع اعترافنا بجزيل ما ثقفت وأفادت لا يسعنا إلا القول جهارًا: إن فيها ثلمة متسعة لا يمكن سدها إلا بتغيير الأحكام، فمن من أرباب تلك المدارس — على فضله — يهتم ببث روح الوطنية بين تلامذته، بل من منهم وهم منتمون لأُمم متناظرة لا يسعى جهد طاقته في استمالة تلامذته إلى أُمته ودولته. وهكذا نشأ الطلاب على اختلافٍ في الأفكار والمذاهب. وهكذا عمل الأجانب بطريق العلم على اقتسام عقولنا كما عملوا بطريق السياسة على اقتسام بلادنا.
ومما زاد في البلوى أنه لم يكن يؤذن لخريجي المدارس المختلفة بإنشاء الأندية وعقد الاجتماعات لتبادل الآراء؛ خوفًا من امتزاج المشارب والأخلاق.
على أننا مع شدة هلعنا لعبوس الزمن الماضي لا يسعنا إلا استقبال ابتسام الزمن المقبل بملء البشر والسرور؛ إذ تُوحَّد طرق التعليم في مدارس الحكومة، ويوسع المجال للمدارس الوطنية، ويباح تدريس علوم الفلسفة والاجتماع والآداب ويوجب تدريس التاريخ، ولا سيما تاريخ البلاد العثمانية وجغرافيتها، وتسهل الطرق لطلبة جميع المدارس من أميرية ووطنية وأجنبية لفتح الأندية وعقد الاجتماعات؛ ليشبوا جميعًا على حب التكاتف متعاضدين على العمل يدًا واحدة قيامًا بخدمةٍ حقةٍ لهذه الأُمم التي أصبحت منذ ٢٤ تموز أُمَّة واحدة.