حرية الجمعيات
في أُخريات سني السلطان عبد العزيز أيام ألقيت مقاليد الأحكام إلى أمثال مدحت، وشب في الأستانة من خلفاء شناسي أمثال كمال وأكرم وناجي وسعيد ومدحت، هبت في البلاد نسمة نشاط فدفعتها إلى نهضة فكرية تحفزت على إثرها فكادت تثب إلى أوج معارج الفلاح لو لم يقم في وجهها جبار الاستبداد، وامتدت نفحات تلك النسمة الفيحاء إلى المدن، وكادت تبلغ القرى والبوادي لو فسح الله في أجلها، فنهض شبان البلاد على اختلاف نزعاتهم إلى إنشاء المنتديات وتأليف الجمعيات العلمية والأدبية طلبًا للإفادة والاستفادة، وكان الجم الغفير من رجال الدولة ينشطون أولئك الشبان ويشدون أزرهم بالقول والفعل.
لا أزال أذكر ذلك اليوم الميمون إذ حدا بنا هذا الحادي، فألَّفنا جمعية زهرة الآداب في بيروت، وتألفنا عصابة لم يكن فيها أثر لفارق بين مسلم ومسيحي، وسَنَنَّا قانونًا، فجعلنا أول مواده منع التعرض للبحث في الدين والسياسة وفرضنا على جميع الإخوان إلقاء الخطب والمباحث المفيدة، وجمعنا مكتبة على قد ما تيسر لنا فودَّع الإخوان القهوات، وما لحق بها من محلات اللهو في الفراغ، ثم ما لبث أن عُيِّنَ أسعد مخلص باشا واليًا لسوريا بعد أن تولى الصدارة العظمى وكان ساعدنا قد اشتد وربائط الإخاء قد أُحكمت فذهب منا إليه وفدٌ يحمل قانون الجمعية؛ فتلقاه بالبشر فخاطبناه بحرية لم يكن يجسر أحد على مثلها بعد تلك الأيام إلا حين تولى سوريا مدحت باشا، وقلنا: إننا لسنا بحاجة إلى درع يقينا في أيام فخامتكم، ولكن من لنا بضمين لخلفائكم، وعليه فإننا نلتمس التصديق على قانوننا بفرمان شاهاني أو أمر عال. فما كان أشد سروره عند سماع هذا الكلام، ولم يمض على تلك المقابلة أسبوعٌ حتى صدرت الإرادة السنية وهي لا تزال محفوظة لدينا لمن شاء الاطلاع عليها، وإن كانت الجمعية قد تبددت وتلاشت.
أقص هذه القصة على أبناء زمن الاستبداد فيقولون: أفي يقظة أنت أم في منام، ومن ذا الذي يصدق بإباحة الاجتماع حينئذ لشرذمة من الفتيان يخطبون في السر والعلانية؟ أليس ذلك من الأسباب الداعية إلى تقويض أركان الملك؟ تلك إحدى الأماني التي بلغتها الأُمَّة العثمانية منذ خمسة وثلاثين عامًا فما ترى كان يرجى أن يكون مبلغها الآن لو ظلت مطلقة في ذلك السبيل؟
تسلط الوهم على عقول رجال الاستبداد بل أرادوا أن يسلطوه على العقول؛ فقضوا على الجمعيات كما بدَّدوا الجماعات وحرَّموا كل ما يشف عن تضافر وتعاون؛ أي كل ما ينتج خيرًا للبلاد. تأخذهم الرعدة لقلبين متآلفين، فما بالك إذا تعددت القلوب، يسيئون الظن حتى باجتماع أعضاء أُسرة كبيرة في بيت واحد، يخافون — والخائن خائف — أن تُوجه قوة تلك الجموع عليهم وإن قصرت بحثها على حروف الهجاء. أجهلوا أن المؤامرات السياسية إذا قصد بها دفع الظلم يُسبل عليها ذيل السر والتكتم؟ وما أغناهم كل ذلك التنكيل بالجمعيات العلنية عن غل أيدي الجمعيات السرية التي ما زالت دائبة على عملها ليل نهار حتى ظفرت بغل أيديهم، ولم يكونوا يقتصرون على فض المجتمعات الرامية إلى تثقيف العقل وترويض الفكر، بل تجاوزوها — خطأ أو عمدًا — إلى بعض ما يقصد به إسعاف الفقير وتعليم اليتيم.
ولسنا هنا بمنكرين أنهم أجازوا تأليف الجمعيات الخيرية المحضة؛ حيث لا بحث ولا خطاب، ولكنهم سواءٌ اختلط عليهم الأمرُ أو لم يختلط، لم يكونوا يأذنون بارتفاع صوت في تلك المجتمعات؛ فكان لذلك نتيجتان مشئومتان، أولاهما: أنهم بذلك الضغط جروا بالعقول في وجهة التقهقر. والثانية: أنه لم يبق في البلاد إلا الجمعيات الطائفية الخيرية، وأن هذه الجمعيات مع ما فيها من النفع ليس من شأنها أن تسعى في التأليف بين أبناء البلاد، وهو الطامة الكبرى في نظر الحكومة الغابرة.
وكم خلطوا بين النافع والضار حتى في عرفهم. وهذه جمعية المقاصد الخيرية ألفها وجهاء المسلمين في بيروت لإسعاف الفقراء وتربية الأيتام وإنشاء المدارس وما أشبه من المقاصد النبيلة. فقال الوُشاة: تلك الجمعية ينم اسمها عن مرمًى خفيٍّ، ولا حاجة بالجمعيات الخيرية أن يكون لها مقاصد؛ فلا بد من أن تكون تلك المقاصد لأمر آخرَ. فاقضوا عليها قبل أن تقضي عليكم. تلك كانت فلسفتُهم بتعبير الإعلام. وكم كان لهم من مثل هذه الأعمال التافهة في عاصمة السلطنة وسائر المدن.
ولست هنا بمتكلم عن الجمعيات التي كانت على وشك القيام للتأليف بين المسلمين والمسيحيين؛ فإنه قُضي عليها وهي في مهدها؛ لأنها تأخرت في النشوء؛ فتقدمت في الاضمحلال.
ولست بباحث أيضًا في الجمعيات العلمية المحضة من أمثال المجمع العلمي الذي أُنشئ في بيروت منذ خمسين عامًا، وكان مؤلفًا من نخبة علماء المسلمين والمسيحيين من وطنيين وأجانب؛ فإن جرثومة هذه النهضة لم تكن قد اختمرت الاختمار الكافي لتمكنها من الاستقرار على أس مكين.
ولست بناظرٍ أيضًا إلى الخطابة في بلادٍ يكاد يكون الهمس بالآذان فيها محظورًا منذ بددت طوالع الاستعداد لها إلا ما كان يقال في حفلات المدارس، وأكثره في المدارس الأجنبية والكثير منه مَشُوب بمزيج الحقيقة والرياء، ولكنه لا بد من التنبيه إلى أنه، وإن لم يكن للجمعيات ولا للخطابة شأنٌ مذكور في البلاد في زمن من الأزمان، فإن النفوس قد تشربت مبادئ الاجتماع وعرفت منافع الجمعيات الرامية إلى أغراض حميدة، وليس بالكثير على العثمانيين بعد الآن أن يتخذوها من وسائل الإصلاح — ولا حرج عليهم — فيُقيموا المنتديات العلمية والتهذيبية، ويُجاروا العالم في سيره الحثيث، ويشيدوا معاهد العلم، ويتعهدوا الكثير من مجاهل بلادهم التي يسعى الإفرنج من البلاد القاصية للبحث في آثارها وتدوين سابق تاريخها المجيد؛ فتكون منهم اللجان المقيمة والبعثات الضاربة في قلب البلاد وأطرافها للبحث والدرس؛ فإن مجال التنقيب والاكتشاف في البلاد العثمانية أوسع منه في كل بلاد. في السهول والجبال والحواضر والبوادي، وفوق وجه الأرض وفي قَلْبِها. ثم إن القيام إلى الإصلاح الأدبي والتأليف الثابت بين عناصر الأُمَّة لا يَتَأَتَّى إلا بواسطة هذه الجمعيات العلنية؛ فإن فعلها في العلم والعقل وللفكر فعل الشركات المالية في التجارة والصناعة والزراعة.
وعلى الجملة يقال: إن الحاجة في البلاد العثمانية إلى هذا التكاتُف أشد منها في سائر البلاد، وخصوصًا إذ تَخَطَّينا زمن القول إلى زمن العمل، وهيهات أن يسد الأفراد في الأعمال العامة مسد الجماعات.