المقالة العاشرة
قال أبو المسرات، ابن أبي المبرات: إني لقيت شيخًا من التجار، عليه سكينة ووقار، وله بين أمثاله منزلة رفيعة، ودرجة سامية غير وضيعة، وكان قد بلغ الثمانين، وصدق عليه قول بعض السابقين.
ولقد نشأ هذا الشيخ من مدينة الأهواز، بين مشَّاء من ناسها وهماز، وكان في مبدأ أمره مجبولًا على مطاوعة نفسه، غير مكثرث بغده وأَمْسِهِ، حتى إنه اتفق له في زمن الشبيبة، أنه رُمي من حوادث دهره بمصيبة، كانت نجاته منها سببًا في هدايته، وإقلاعه دفعة واحدة عن غوايته، وما ذاك إلا أنه خالف أمه وأباه، في طاعة شيطانه وهواه، ورحل مع قافلة من التجار إلى مدينة الأنبار، وبينما هي سارية بالليل، شاخصة بأبصارها إلى سهيل؛ إذ خرجت عليها من مكان سحيق، فرقة من قُطَّاع الطريق، وحملت عليها حملة الجبابرة، بعدما أحاطت بها كالدائرة، فطرحت رجالها قتلى على الأرض، ولم تراعِ في حقهم السنة ولا الفرض، واستحوذت على البضاعة، وفقد كل واحد من أهل القافلة نفسه ومتاعه، وكان أبو المسرات ممن أُصيب بضربة في الراس، فسقط على وجهه عادم الحواس، وبقي بين الأموات مُدَّة ثلاثة أيام، كان آخرها أول العام، ثم دبت الحياة فيه بعد سبع، ولو زاد على ذلك لأكله السَّبُع، فلما فتح عينه ورأى جثث القتلى حوله متراكمة، استرجع وحوقل وطلب من الله حسن الخاتمة، وحاول النهوض على قدميه، فعجز وتعذر القيام عليه، وبكى وأنشد في الحال، وقد أيقن بالزوال:
ثم أقبل على نفسه باللوم، بعد ما تزحزح عن القتلى من القوم، وآلى أنه إن سَلِمَ من هذا المصاب، وتخلص مما هو فيه من أليم العذاب، لا يخالف نصيحة أمه وأبيه، بل يعيش بينهما عيشة الخامل دون النبيه، ويكف عن الأسفار، ولا يبرح عن فناء الدار، وكان في أثناء تضرعاته إلى مولاه، واستغاثته به سبحانه في سرِّه ونجواه، يقول في مناجاته لربه، وهو متألم من جرحه معترف بذنبه:
ولا زال يزحف حتى وصل إلى ساحل البحر، بعد صلاة الظهر قبيل العصر، ثم وهت قواعد قوته، وتداعت بناء بنيته، فاضطجع اضطجاع المَيْت، وترك التعلل بلو وليت، وكان قد مضى عليه خمسة أيام، ما تناول فيها شيئًا من الطعام، فغاب عن الوجود، وكاد يلحق بقوم عاد وثمود، وقال لسان حاله، يشكو من صروف الزمان وأهواله:
وفي أثناء الاضطجاع، عبرتْ بالقرب من الساحل سفينة شراع، فوقع بصر رئيسها عليه، فانجذب قلبه إليه، ودنا بسفينته من البر في الحين، وأشار بالنزول إلى اثنين من الملاحين، وقال لهما: إن وجدتما الروح، في هذا الشبح المطروح، فاحملاه على كاهليكما بلا مهل، وبادرا به إلينا على العجل؛ لعله ينجو من الهلاك، ويتخلص من غائلة الارتباك، فامتثلا أمره وسارعا إليه، وقرُبا منه وعطفا عليه، وقبض أحدهما على نبضه، بعد ما تأمل في طوله وعرضه، ثم وضع يده على صدره، وجعل أذنه على فيه ونحره، فتراءى له أنَّ النفس يتردد فيه، فرفعه على كتفه واستعان بأخيه، وسعى به إلى السفينة، التي كانت كقلعة حصينة، وكان فيها طبيب، ماهر لبيب، فعالجه حتى توجه إليه الشفاء، وزال عنه السقم والعناء، وصار يروح ويغدو بين الملاحة، ويُثني على من ساق إليه صلاحه، وبعد شهر كامل عادت إليه الصحة، التي هي بلا شك أجل منحة، بَيْدَ أنَّ البحر اضطرب بعد السكون، وأظلم الجو وزاغت العيون، وهبَّت من الجنوب رياح عاصفة، ولمعت بروق للأبصار خاطفة، وانحطت على السفينة أمواج كالجبال، من الأمام والخلف واليمين والشمال، فدارت ثلاث دورات بلا انقطاع، وهوت كلمح البصر إلى القاع، وبمصادفة القضاء والقدر، قبض أبو المسرات على لوح كان قد انكسر، وأنشد وهو يتقلب في أودية الخطر، ويتملل من البرد والمطر:
ولما طلع النهار، ووقعت عليه أعين النظار، حملوه إلى دار أمير المدينة المعظم، وناطوا بعلاجه الطبيب ابن أبي محجم، فتوجه إليه الشقاء بعد ثلاثة شهور، واعتدلت صحته وحلَّ بساحته السرور، وأقسم بالله العظيم، رب زمزم والحطيم، أنه ما دام على قيد الحياة، لا يتبع شيطان هواه، ولا يُطَاوِعُ النفس، ولو ترتب على عدم مطاوعتها الحلول بالرمس، وبعد أن تاب، وإلى الله أناب، خرج في قافلة إلى الحجاز، ومنها وصل إلى مسقط رأسه بمدينة الأهواز، واجتمع فيها بأبيه وأمه، وانصرفت عنه غوائل همه، وانهمك على تحصيل المعارف، حتى بلغ النهاية في التالد والطارف، وأضحى بين أبناء الزَّمان، يُشار إليه بأطراف البنان، وعاش بين أهله والعيال، حائزًا لصفات الكمال.