المقالة الحادية عشرة
قال شبل بن ليث، المكنى بأبي غيث: تاقت نفسي إلى جوب الفدافد، واشتاقت إلى رؤية الهياكل والمعابد، فخرجت على حالة الانفراد، شاكي السلاح على متن الجواد، وتماديتُ على قطع الفيافي، والترنم ببديع القوافي، مُدَّة شهور، وأيام وكسور، ولا زلت أنتقل من بلد إلى بلد، ولا أعرج في الرواح والغدو على أحد، حتى انتهيت إلى مدينة، كبيرة آهلة حصينة، فأودعت الحصان، عند صاحب خان، ثم سعيت إلى المسجد الجامع، المعروف بضريح ابن شافع، وأديت فيه بالقصر صلاة العصر، وبينما أنا أطوف فيه، وأمعن النظر في نواحيه، إذ رأيت بلا لَبْس، حلقة درس، في وسطها شيخ كأنه من بني حام، وهو حسن القيافة معتدل القوام، وسمعته يلقي على الطلبة بأفصح لسان، تفسير قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ هنالك جلست في هذه الحلقة؛ لالتقاط بعض الفوائد، واجتناء ما يتأتى في العثور عليه من الفرائد، فمما حفظته عنه وفهمته منه، في تفسير هذه الآية الشريفة، بعبارة سهلة لطيفة، أنه قال موضحًا ما في الآية من الأقوال: أخرج ابن الأنباري في الوقف والابتداء، عن حبر الأمة ونجم الاهتداء، ابن عباس العالم بدقائق القرآن، أنه لما سأله نافع عن تفسير وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ قال: «النجم» معناه ما أنجمت الأرض.
وأنبتت مما لا يقوم على ساق، من قولهم: نجم ينجم بالضم في الاشتقاق. «والشجر» معناه ما أنبتته وقام على ساقه، وظهر للعيان، وأنشد مستدلًا على ذلك بقول صفوان:
وأتبع هذا البيت ببيت زهير بن أبي سلمى، الذي تُنسب إليه الفصاحة وتنمى:
وهكذا يؤخذ من الدر المنثور للسيوطي في التفسير بالمأثور، وورد في تفسير الإمام الفاضل، العلامة الدلجي ابن عادل، أنَّ النجم هو نجم السماء المعلوم، وسجوده هو الأفول المفهوم، والشجر هو شجر الأرض المعهود، وسجوده هو إمكان اجتناء ثماره التي هي غاية المقصود.
والنَّجم في تفسير المصري الهمام، هو ما لا ساق له ولا قوام، والشجر المذكور في المساق، هو ما له ساق، وسجود الاثنين، هو عنده سجود ظلالهما بلا مَين.
وقيل: النجم هو الذي لا ساق له من النبات. والشجر هو الذي له ساق، ولبعضه ثمر يقتات، وسجودهما هو الانقياد لله رب العالمين فيما يريدهما طبعًا، كانقياد الساجد من المكلفين طوعًا، أو أنهما يسجدان لمُبْدِئهما ومُبْدِعهما، سجود دلالة على إثبات صانعهما.
وحكى ابن كثير في تفسير هذه الآية، خلافًا تتحقق بمضمونه الدراية، فقال: قال ابن جرير، العالم النحرير الشهير: اختلف المفسرون في قوله تعالى: وَالنَّجْمُ، بعد اتفاقهم على أنَّ المراد من الشجر ما قام على ساقه بلا وهم، فرُوي عن ابن عباس وسعيد بن جبير، والسُّدِّي وسفيان الثوري لا غير؛ أنَّ النجم عند هؤلاء الثقات: ما انبسط على وجه الأرض من النبات، وقال مجاهد والحسن، وقتادة عالم الزمن: النجم هو الذي في السماء الأنور، وهذا القول هو الأظهر، فالنجم في عالم السماء، والشجر في مقام النماء؛ يسجدان لله الواحد القهار، وكل شَيءٍ عِنْدَه بمقدار، قال الله — تعالى — في كتابه المكنون، المنزه عن الشك والالتباس: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ.
وجاء في تفسير النسفي: أنَّ النَّجم هو النبت ليس له ساق كالذي عليه الجسم ارتفع، وهو كما قيل مأخوذ من نجم إذا طلع، والشجر هو ما له ساق يُشاهد بالأبصار، وهو مشتق من مادة الاشتجار، الذي هو تداخل بعض الأشجار في بعض، ومناسبة طولها للعرض، ويسجدان أي لله يخضعان، ويشهدان على أنفسهما أنهما له سبحانه مسخران، وأنهما يدلان على وحدانيته، ويعترفان بربوبيته، ولو أتينا على جميع ما ذكره المفسرون من الأقوال، وما دوَّنوه في كتبهم مما طرأ على هذه الآية من اختلاف الأحوال، لخرجنا عن الموضوع الذي عليه المعول وإليه الرجوع، فلما ختم الدرس، عند غروب الشمس، أقبل عليَّ بطلاقة، بعدما شد نطاقه، وقال لي: لعلك أيها الأديب، في هذه الأوطان غريب، فقلت له: إي وأبيك يا علامة، إني من جبال تهامة. فقال لي: أنت ضيفي ما دمت في هذه البلاد، ولك عليَّ المنة يا سليل قوم أمجاد، فأجبته إلى ما طلب، وكان ذلك في أول رجب، وتوجهت معه إلى دار وسيعة، ذات حديقة نضيرة بديعة، فعطف بي على قاعة مُزخرفة بأنواع النقش، مفروش بأحسن فرش، ثم أجلسني على الفور في الصدر، وقال لي: أنت في هذه الدار لك النهي والأمر.
وبعد ساعة من الجلوس، حضرت مائدة عليها أطعمة تميل إليها النفوس، وفي أثناء الطعام، كان يُحَيِّيني بما فوق المرام، ويقول: يا أثيل المجد، ويا أصيل الأب والجد، لقد سرني منك ما أوليتني به من الإجابة، وحققت فيك ما هجس بخاطري من الإصابة، وكيف لا تكون عليَّ لك المنة العظيمة، وقد سعيت معي بذاتك الكريمة، ولم تحتقرني لسوادي، مع عدم وقوفك على حقيقة طارفي وتلادي؟!
فقلت له: يا مولاي ومالك رقِّي، ومن أنا عبده ولا أبتغي منه عتقي، أنت صاحبُ المِنَّة والفَضْل، ولا ريب في أنك كريم الأصل، وإني على يقين أنَّك إن لم تكن من أبناء الأمراء، والصدور الفخام والوزراء، فأنت المقصود بين الناس، بقول عبد بني الحسحاس:
وايم الله إنك لجدير، بما نُقل عن الخليفة المأمون الخطير، مُخاطبًا لإبراهيم بن المهدي عقب ضبطه في حال الخروج عليه، وتأمينه حين شقَّ العصا ودَعَا بالخلافة إليه، وكان قد عفا عنه وقَبِل أعذاره منه، وشرع في مداعبته، بقوله له أنت الخليفة الأسود، وأمير المؤمنين الهمام الأمجد، لكنه لما تفطن أنه خامر قلبه من هذه المداعبة الفزع، واستولى عليه الرعب والجزع، قال في الحال تسكينًا، لما نزل به وتأمينًا:
هنالك قام الشيخ واقفًا، وقال بعد ثنائي عليه واصفا: أنت والله يا بديع الشمائل، على الحقيقة معدن الفضائل، وأنت علم الأعلام، وسيِّد عُلَمَاء الإسلام، وبحر المعارف المتلاطمة بالذكاء أمواجه، وبر العوارف التي بهرت بالسخاء أفراده وأزواجه، وطود العلوم الرَّاسخ، وفضاؤها الذي لا تُحصى له فراسخ، وجواد الفهوم الذي لا يتأتى لحاقه، وبدر سَمائِها الذي لا يُدركه محاقه، وأنت الرحلة التي تُضرب إليها أكباد الإبل، والقِبلة التي يصلي إليها كل مُؤمن وعندها إلى الله يبتهل، وأنت علامة البِشْر، ومُجَدِّد الدين على رأس القرن الثاني عشر، ولعلك أنت الذي انتهت إليك في الدنيا رياسة المذهب والملة، وبك قامت قواطع البراهين والأدلة، وجمعت بين الفنون فانعقد عليك الإجماع، وتفردْتَ بصنوف الفضل فسحرت النواظر والأسماع، فما من فنٍّ إِلَّا ولك فيه القدح المعلى، والمورد العذب المُحَلَّى، إن قلت لم تدع قولًا لقائل، أو طلت لم يأت غيرك بطائل، وما مثلك مع من تقدمك من الأفاضل والأعيان، إلا كالأمة المحمدية المتأخرة عن الملل والأديان؛ فإنها وإن جاءت آخرًا، إلا أنها فاقت مفاخرًا، فقلت له: يا من ليس لك في عصرك شريك، وصفتني بجميع ما هو فيك، لا سيما وأنك ما حققت لي معرفة، ولا وقفت لي على كنه صفة، ولا سَبَرتني في معارف، ولا اختبرتني في تليد من العلوم ولا طارف، فقال لي وهو باسم الثغر، ضاحك منشرح الصدر: إني بمجرد نطقك أخذتك بالفراسة، وثبت عندي أنك أهل للرياسة، وإني على ثقة من تقدمك على بني العصر، في النظم الفائق ورائق النثر.
فقلت: إن أردت أن تسمع مني ما حفظته من نظم السيد عبد الله الوزير، الذي لم يكن له في زمانه من أخدانه نظير، فهاك ما نقلته من خطه بنفسي، في مراجعة للقاضي علي بن محمد العنسي:
فقال لي: لله درك من حافظ للسحر الحلال، وملاحظ لبديع الدرر واللآلي الغوال، فهل تحفظ أبياتًا غير هذه في الغزل، يُضرب بها في بابها المثل؟ فقلت له: يا مولاي، إني وإن كنت لست من فرسان هذا الميدان، ولا من رجال المعاني والبيان، إلا أني أتطفل على موائد هؤلاء الفضلاء الفحول، وإن كان تشبُّهي بهم ضربًا من الفضول، وأنشدك من درر ابن نباتة المصري، ما بعقود الجمان يزري:
فقال لي: أنت في زمانك أروى من حماد، ودونك في البلاغة عبد الرحيم الفاضل وابن العماد، وأنت المُشار إليه بالبنان، بين أبناء هذا الزمان.
وأنت أحق وأولى بما يقوله فيك، أوحد النبلاء من واصفيك:
فقال لي: أيها الأديب النبيه، والأريب الكامل الوجيه، أنت أولى بالمدح والثنا، والكرامة والغنى.
فقلت له: يا سيدي، إني مقصر عن القيام بما يجب من الشكر الجزيل، بين البرية لمقامك السامي الجليل، وإني لأرجو أن تأذن لي بالرحيل، إلى حج بيت الله وزيارة الخليل، والسعي إلى ضريح أفضل الأنام، والفوز من لثم أعتابه الرَّفيعة بالمرام.
فقال لي: لولا أنَّها فريضة لما كنت أجيبك إلى ما تروم، ولا تركت الفراق يرمي من شهبه برجوم، لكن انتظر هلال شعبان، حتى تخرج مع قافلة العربان، المُتأهبة للسفر إلى أم القرى، والوقوف بعرفة والتبرك بأبي قبيس وحرى.
فلما انسلخ رجب، وخرجت قافلة العرب، جهزني معها بكل ما أحتاج إليه، وضمني للوداع إلى صدره والدموع تتحدر من عينيه، وقال لي: ناشدتك الله يا ابن الكرام، إلا ما جعلت الزيارة متواصلة في كل عام. فقلت له: يا عالي الذرى، ويا أعلم الورى، أنا ما أدع فرصة، لدفع هذه الغصة، ثم أخذ في السير، في الحال مع العير، وهو يقول مسليًّا لنفسه على ما أصابه من ألم النوى في يومه، بعد ذهاب أمسه:
ولما قطعنا المراحل العديدة بالتسيار، واشتد بي من معاناة الفراق الإضرار، وانحدر علينا عند ما دهمنا الليل، مطر من السماء كأنَّه السيل، ومكث خمس ساعات، يبعث إلينا منه بآفات، ثم انجلت الغياهب، وظهرت الكواكب، قُلتُ متمثلًا بهذه الأوزان، التي رويتها في زمن الشبيبة عن بعض الإخوان:
وعند مطلع الفجر، خرج على القافلة في عاشر الشهر، حزب من قطاع الطريق؛ كأنه نار الحريق، وكنت قد تعلقت من عهد نشأتي بملاقاة الأبطال، وركوب الأخطار ومكابدة الأهوال، فامتشقت في يدي الحسام، وتأهبت في الحال للصدام، وقلت جريًا على عادة فرسان الحجاز، لما انفصلت عن الصف للبِراز:
ولما فرغت من شعري دنوتُ من القوم، وأقبلت عليهم بالتقريع واللوم، وقلت لهم: يا أبناء اللئام، أتقطعون الطريق على حجاج بيت الله الحرام! فلما سمعوا مني هذا الملام، الذي هو أمضى من السهام، اندفع عليَّ منهم فارس لا يقاومه رئبال، وقال لي: ويلك يا أخس الأنذال، كيف تجاريت على تقريعنا بهذا المقال، مع علمك بأن قطاع الطريق لا يميزون بين الحرام والحلال. فلا وأبيك ما أجبته إلا بنبلة في نحره، ساقته عاجلًا إلى قبره، وعطفت بعده على أصحابه الأشرار، في جماعة من فرسان القافلة الأخيار، فقتلنا منهم اثني عشر، في أقل من لمح البصر، وهَزَم الله باقي الأشقياء، بسيوف هؤلاء الأتقياء، وقرأنا سورتي الفتح والأحزاب، وجمعنا بعد الاستراحة الأسلاب، وركبنا متن الطريق، فوافينا مكة المُشَرَّفة بلا تعويق، وأدينا الفريضة في وقتها وبلغنا الآمال، ثم انصرف كلٌّ منا إلى منزله واجتمع بالأهل والعيال، واستمرت بيني وبين الشيخ المُراسلة، التي تقوم — كما يُقال — مقام المواصلة، مدة من السنين والشهور والأيام، لا تنقص عن سبعة أشهر وعشرة أعوام، وكانت آخر مُراسلة وصلت منه إليَّ في رمضان، أنه خارج للحج والزيارة في شوال مع خمسة عشر من الطلبة وثلاث من النِّسوان، فلمَّا وقفت على هذه المُكاتبة، واطلعت على هذه المخاطبة، اتحدت مع عشرين من رجال الحرب، وكانوا من الأبطال المعروفين بالطعن والضرب، وخرجنا في العشرة الأخيرة من شهر الصيام؛ لعلنا نحظى بمقابلته في البيداء ونحييه بالسلام، فلما توسطنا المفازة، بعد ما أخذنا من الشريف الإجازة، وقطعنا من المراحل بالتوان، خمسًا كوامل في أمان، انقضَّ علينا من جانبي الجبل، مائة فارس من ورائهم مائة ناقة وجمل، وحملوا علينا كالأسود، وصاحوا علينا بأصوات كالرعود، فلَمْ نَجِد بُدًّا من القتال، وصدمناهم صدمة الوبال، وكان معنا فارس جسيم كامل العدة تحته جواد من العيوب سليم، فكرَّ عليهم معنا كرة الهاصر، وسطا عليهم بحسامه الباتر، وأظهر لهم ما عنده من الشِّدة، وقتل منهم أربعة عشر وحدَه.
ودارت عليهم في آخر النهار، دوائر الفناء والبوار، ولما انجلت الغمة، بما بذله فارسنا من الهمة، وانهزم الأعداء في منتصف شوال، وتخلوا عن الجمال والأثقال، أبصرت بين الأسارى شيخنا الإمام، وهو مشرف من الوثاق على الحمام، فوقعت على قدميه، وقبلت رأسه ويديه، وقلتُ له: نفسي لك الفدا، من حوادث الردى، ما الذي أوقعك في قبضة هؤلاء الأوغاد، وصفدك من غير رأفة بهذه الأصفاد، فَلمَّا سمع صَوتي خفَّ عنه ما كان يجد من الألم، واستوى قاعدًا وزال عنه السقم، وقال أخبرني أنت يا أخي بالتفصيل، كيف كان خلاصنا من هذا التنكيل؟ فقلت له: يا أيها الصديق، ومن هو لي نعم الرَّفيق، إنَّ خلاصكم كان على يد هؤلاء الأبطال، الذين أغرقوا أعاديكم في بحار الأهوال، وكان السبب في لقائكم بهذا المكان، أَنَّني دعوت هؤلاء الشجعان، إلى السعي معي خدمة لجنابك، وتبركًّا بلثم ركابك، فقال لي: جزيت عني خيرًا، ولا لقيت ما بقيت ضيرًا، لقد فرجت عني الكربة، وأطلقتني من قيود النكبة، فإني لمَّا كتبت إليك، أني قادم عليك، تأهبت لأداء الفريضة على عجل، وحملت عيالي على أربع نياق وجمل، وقلتُ في نفسي: لعلي أظفر بمقابلتك في الكعبة، وأتناول معك من ماء زمزم شربة، ولما خرجنا من البلد، لم يكن معنا من أهله أحد، بيد أنه تبعنا على الأثر، من الطلبة الخمسة عشر، وفي خلال سيرنا على مهل، انحط علينا هؤلاء الفجار من الجبل، فقتلوا من فرغ منه الأجل، واستحسنوا قبيح العمل، وكانوا مُصِرِّين على قتلي مع الجماعة؛ لخوفهم في البيداء من الظمأ والمَجَاعة، فأوقعهم اللهُ فيما أضمروه، وحملتم إليهم من الموت كأسًا فتجرعوه، ثم نزلنا للراحة بذلك المكان القفر، من ضحوة النهار إلى وقت العصر، ثم رحلنا بعد ما أدينا الصلاة، ونال كلٌّ من الزاد مناه، وبعد عشر ليال كاملة، وصلنا بالأمان في هيئة قافلة، إلى الحرم المكي المعظم، وكان ذلك في آخر ذي القعدة المكرم، فتوجهت مع الشيخ والأقارب، إلى داري المُجاورة لدار الشريف غالب، وأقمنا بها بين الأهل والولد، في عيش رغد، وقد نسي كل منا ما كان يترنم به في السفر، وهو من بديع درر عفيف الدين التلمساني الأغر:
فلمَّا انقضت تلك الأيام القصار، ودخلت أوقات الحج والاعتمار، انتظمنا في سلك قصاد عرفة، في أحسن هيئة وأكمل صفة، ثم تحولنا من مكة إلى المدينة؛ لزيارة صاحب الوقار والسكينة، ووقف الشَّيخ على المقصورة النبوية، وقال متمثلًا بقول أبي شباك أجل السادة الرفاعية المرضية:
وبعد الفوز بلثم الأعتاب، وأداء الواجبات في الروضة والمحراب، عدنا إلى أم القرى في سرور، ولذة سرمدية وحبور، والناس يقولون لنا في التحية، بألفاظ عذبة بهية: سعي مشكور، وحج مبرور، وزيارة بالقبول محفوفة، ومواقف في طاعة الله معروفة.
وعزم الشيخ على انتجاع بلاده؛ لاشتياقه إلى تلامذته وأولاده، فالتمست منه الإقامة معي إلى آخر المحرم، فأجاب وتفضل عليَّ بذلك وتكرم، وكنت وقفت على نسبته، وعرفت حقيقة حليته، وثبت عندي أنه من نسل إبراهيم بن المهدي بن المنصور، وأنه اكتسب سواده من أمه التي كانت في لونها كالديجور، فقلت متمثلًا بين يديه، بما يحسن إنشاده لديه:
ومذ استعدَّ للذهاب، حثَّ إلى وطنه الركاب، فقطعتُ معه أربع مراحل، للوداع والدمع من مقلتي هاطل، وأرسلت في صحبته من رجالي للحرس، أحد عشر بطلًا كل واحد منهم على فرس، وقلت له: يا صاحب الدَّرجة الرَّفيعة، إني عاجز عن القيام بشكر ما بدأتني به من الصنيعة، فقال لي بعد بسط يديه بالدعاء إلى رب السماء والأرض، أن يمد في عمرك إلى يوم العرض: تالله ما أنت في كل شيء إلا فريد الزمان، ووحيد العصر والأوان، ولا غرابة فيما أقول؛ حيث اتضح لي أنك من نسل بضعة الرسول، ولا شك أنكم أهل بيتٍ استعار الورى منكم جميع الخلال الحميدة، والخصال الجمة الفريدة، التي لا يبلغ شأوكم فيها عظيم، ولا يجاريكم فيها على طول المدى كريم.