المقالة الثانية عشرة
قال لي أبو الحزم: انفرد أمير الجيوش أبو العزم، عن رجاله والجنود، عقب بروق ورعود؛ لانتهاز الفرص في الصيد والقنص، فلاحت له على بعد نعامة، كأنها لجسامتها وارتفاعها دعامة، فاقتفى أثرها بلاحق، لا يفوته في مجاله سابق، وجدَّ في طلبها؛ ليسوقها إلى عطبها، وعندما دنا منها وهمَّ بالقبض عليها، سبقه ليث هاصر إليها، وضربها بأظافر، كأنها الخناجر، فقدَّها نصفين، وشطرها شطرين، فلمَّا رأى ذلك أمير الجيوش، صاحب الوجه البشوش، عبس وبسر، وزاغ منه البصر، وجال على أبي الأشبال جولة الأبطال، وهو يترنم بقصيد، للطائي أبي زبيد:
ولما عاين أسد العرين، استعداد هذا القرين، حمل عليه وكشر، وصاح وزمجر، فأجابه بصوت يصدع الصخور، ويقلع الرصين من القصور، وضربه بالسيف في جبهته، فشقه إلى صرته، وأنشد بعد انجلاء الغبار، وهو على مصرعه في القفار:
وبعد انتقامه من هذا الغريم، وانتظامه في سمط الدارس الرميم، التفت ذات اليمين، وليس معه ناصر ولا معين، فرأى غابة ملتفة الأشجار، تجري بالقرب منها أنهار، فانتجعها على جواده الأدهم، وهو صامت لا يتكلم، وبمجرد دنوه منها خرج عليه من فجوة، أربعة أشبال ولبوة، وهجمت دفعة واحدة عليه، وتوجهت بأنيابها إليه، فترك صهوة جواده بلا مهل، واخترط حسامه من غمده على عجل، وانحط على اللبؤة القاتلة، فضربها ضربة هائلة، أطاح رأسها عن البدن، وأخلى منها الرُّبوع والدِّمن، وسطا على أحد الأشبال واقتلعه من الأرض، ورمى به آخر فاختلط طولهما في العرض، وأطاح بسيفه القاطع، رأسي الثالث والرابع، ثم جرى على قدميه حتى أدرك ابن النعامة، وتناول بيده اليسرى زمامه، وقصد الأجم وهو يترنم بأوزان، مأثورة عن أبي الطمحان:
فَلمَّا انتهى إليها، وأشرف عليها، دخلها والجواد من خلفه؛ لأنه كان بمنزلة أنيسه وإلفه، ثم خلع عنه سرجه واللجام، وبلغه من الماء والمرعى المرام، وأوى إلى شجرة وارفة الظلال، واضطجع تحتها من التعب على الرمال، وكان الليلُ قد أقبل بسواده الحالك، وعاق جيوشه عن استكشاف ما سلكه من المسالك، فرجعوا بالخيبة إلى الخيام، وأبوا أن يمتعوا أجفانهم بما يتمتع به النيام، وقال نائبه، كأنَّه يُخاطبه، مُتَمِثِّلا بقول مُسلم بن الوليد، في ممدوحه الأمير يزيد:
هذا ما كان من أمر الجيوش والنائب، وأمَّا أميرهم القسورة أبو العزم الغائب، فإنَّه لما غرق في بحار الكرى، بعد الظفر بأسد الشرى، انقضَّ عليه خمسة من اللصوص، وأحاطوا به على الخصوص، وأوثقوه بالكتاف، وكادوا يطرحونه في مهاوي التلاف، وكان قد استشعر بهذا الأمر المُنكر وهمَّ بالوثبة عليهم بالسلاح، فلم يجد له سبيلا إلى الكفاح؛ لأنهم مالوا عليه قبل أن يثور من رقدته، واستحوذوا على لَأْمَته وعدته، وقال له كبيرهم: أيها الرجل المغرور، ما ساقك إلى هذا المكان غير المعمور، إلا أمر يفضي بنفسك، إلى هلاكك وحلولك برمسك، فقلت له وقد أظهرت البشاشة بعد العبوس: كيف تقتلون من زالت عنه بسعودكم النحوس؟! على أني أعلم أنكم لو وقفتم على حقيقتي، وعرفتم ما أنا عليه لسلكتم طريقتي، ولاتخذتموني لكم من الأصحاب، ولآثرتموني بالود على جميع الأحباب، فقالوا له: وما هي حقيقتك يا نظيف الثياب؟ وما هي طريقتك التي اتباعها عين الصواب؟ فقال: أما حقيقتي فإني لص مُحتال، صاحب إقدام على الأهوال، وأما طريقتي فهي اختلاس الأرواح والأموال، ونهب أثاث القصور في غالب الأحوال، وعندي سرٌّ لو عرفتموه لانتفعتم به في كل ملمة، ولنجوتم به من الغوائل في كل ليلة مدلهمة؛ فقالوا له: وما هذا السر أيها الساحر؟ وهل تعلمته من الأوائل أو من الأواخر؟
فقال لهم: إنَّه لا يسوغ لإنسان، أن يتفوه به وهو في حالة الذل والامتهان، فإن أردتم الفوز بمعرفته، والوقوف على كنه صفته، فأطلقوا مني السراح، وردوا علي الجواد والسلاح، ثم اسمعوا مني، ما تتلونه في الشدة عني، وكانوا من غير الأشراف، الذين هم سكان الأطراف، وكانوا لا يميزون بين الحق والباطل، ولا يفرقون بين الصحيح والعاطل، ولا يتوهمون أنَّ أحدًا من الرِّجال، يخدع عند الضرورة بزخارف المحال، فصدقوني فيما أتيتهم به من الاختلاق، ومنُّوا عليَّ بالإطلاق من الوثاق، وتقدم أحدهم إليَّ وناولني سيفي الصقيل، وقرب مني الجواد الأدهم الأصيل، فركبته وخرجت من الغابة، بوقار وسكينة ومهابة، وتبعوني طمعًا في معرفة السر، الذي هو على حسب وهمهم ضرب من السحر، وهنالك امتشقتُ الحسام، وقلت لهم: ارجعوا من حيثُ أتيتم يا بني اللئام، فهذه حيلة ابتدعتها، وخديعة اخترعتها؛ لأتخلص بها من ورطة الارتباك، وأنجو من حبائل الهلاك، والآن ليس لكم عندي سوى قطع الرِّقاب، وترك جيفكم لغذاء الوحوش والكلاب، فإنْ أردتم لأنفسكم السلامة، فاذهبوا قبل أن تحل بكم النَّدامة، وإلا فابرزوا جملة واحدة، حتى أهدم من أجسامكم الأساس والقاعدة؛ فَلَمَّا تحققوا مقالي، وعرفوا سؤالي، حملوا عليَّ بالسيوف، وعوَّلوا علي تجريعي كأس الحتوف، فصدمتهم صدمة تهد راسيات الجبال، وقتلت منهم في أقل من لمح البصر ثلاثة رجال، وكان النائب قد نشر البنود، ونادى بالرحيل في الجنود؛ لعله يقص الأثر، أو يقع على خبر، فلمَّا انتصف النهار، نزل للراحة في القفار، وأرسل الجواسيس والعيون؛ ليكشفوا الطرق والمناهل والعيون، فغابوا ساعة من الزمان، ثم عادوا وأنا معهم على ظهر الحصان، متمثلا في الأول بقول السموأل:
ولما دنوت من العسكر، ورآني من الجنود كل قَسْوَر، هرعوا إلي وسلموا بالاشتياق عليَّ، وسألني النائب المهاب، عن هذا الغياب، فقصصت عليه ما وقع لي من اللصوص والأسود، وكيف استعملت الحيلة في الانفكاك من القيود، فسجد شكرًا لله على سلامتي، بعد أن أثنى على صرامتي، وتخلصي من الخطب، بالعقل والصارم العضب.