المقالة الثالثة عشرة
ركب أبو الفخار، سفينة بخار، وتوسط اللجة، وعرض للأهوال المهجة؛ حيث شغف بالملاحة، في فصل لا يحمد المسافر رياحه، فلما جرت السفينة، وتوارت عن المدينة، خرجت عليها أهوية مختلفة، من جهات غير مُؤتلفة، واندفعت عليها الأمواج، فحرفتها عن الاستقامة إلى الاعوجاج، هنالك انزعج الراكب والملاح، وانعجم اللسان عن الإفْصاح، واشتغل الكهل، بنفسه عن الأهل، وهطلت الأمطار، وزمجر الرَّعد في جميع الأقطار، وتبدل الأمن بالخوف، ويَبِسَت الأمعاء في الجوف، واستولى على الرئيس الفرَق، لما أيقن بالغرق، وبينما هو يُكابد من الحيرة ما لا مزيد عليه، ويتعجَّب مما آل أمر سفينته إليه، إذ سمع قائلًا يقول، وهو من ذوي العقول: ليتهم يطوون الشراع المنشور، ويقطعون الصاري الأخير المكسور، عسى أن يكون وراء هذا الخطب، فرج يَزُول به الكرب.
وكان الرَّئيسُ منه غير بعيد، فانْشَرح صدره بهذا الرأي السديد، وأشار إليَّ بالإجراء على عجل، فقوبل بالامتثال على مهل. وكان في ذلك النَّجاة من العواصف، التي يعجز عن وصفها الواصف؛ لأنَّ السفينة كانت قريبة من ساحل جزيرة، فطرحتها الأمواج عليها في برهة يسيرة، وبمجرد وصولها إلى البر، سكن الريح وركد البحر، ولما غاب الليل بغيهبه، وآب النهار بكوكبه، انتقل أبو الفخار صاحب الحسب والنسب، في حلبة من أخدانه أبناء الأدب، إلى هذه الجزيرة، الواسعة الخصبة النضيرة، وجال فيها حتى انتهى مع الجماعة، إلى مدينة ملك جدير بالإطاعة، يُعرف بنور الدين العادل، الموصوف بقول القائل:
وكان هذا الملك عارفًا بالفقه على مذهب أبي حنيفة، عاكفًا بكليته على الجهادِ ونصرة الخليفة، مُتولعًا بسماع الحديث، مُعرضًا عن كل شين وخبيث، مُجتنبًا للإجحاف، مُقبلا على الإنصاف، منتهيًا عن المحرم من المشارب والمآكل، والملابس التي يتبهرج بها الجاهل، واقفًا عند أوامر الشرع ونواهيه، آمرًا بذلك رعيته وحاشيته وذويه، فلما تمثل القادمون بين يديه، وعرضوا بلا توانٍ عليه، سألهم عن الحال، ومن أين الإقبال؟ فسارع أبو الفخار إلى لثم راحته الشريفة، وترنم في مدحه بأشعار ابن القيسراني المنيفة:
ثم قال بعد الإنشاد: إننا يا رفيع العماد، قد خرجنا على الجزيرة من البحر، بعد ما يئسنا من النجاة وعدمنا الصبر؛ حيث هاجت علينا الرياح، من المساء إلى الصباح، وكادت السفينة تغوص إلى القاع، لولا قطع الصاري وطيِّ الشراع، وهذه هي حالنا ولا ندري ماذا يكون ارتحالنا، فأمَّا الإقبال من مدينة مجهولة الاسم، بعيدة عن العمران منهوكة الجسم، كانت في صدر الإسلام، منشورة الأعلام، وبتمادي الأيام، والشهور والأعوام، تغيرت مبانيها البديعة، وتهدمت معابدها وأبراجها المنيعة، وضاقت على العلماء ففارقوها، وفروا فرار الورق من أقفاصها متى أطلقوها، فقال له: ماذا كان المراد من السفر، في فصل الرياح العاصفة والمطر؟ وعلامَ عوَّلت الآن، مع هؤلاء الأخدان؟ فقال: أمَّا السفر فكان بصدد بيت الله الحرام، وزيارة رسول الله سيد الأنام، ولولا اختلاف الرياح، لفزنا في هذا العام بالنجاح، وأمَّا الذي عولت عليه، وركنت بعد التخلص من المهالك إليه، فهو التفويض للحضرة الملوكية، التي فاض سحاب نوالها على البرية، فيما يستصوب لدى دولته العلية، وتتعلق به إرادته السنية. فقال الملك: أمَّا أيام الحج، فقد تصرمت منها الحبال، ودخلت في حجاب الزوال، وكُتب لك الثواب، ونجوت من العذاب، فإن أردت الإقامة، فلك ولأصحابك الكرامة، وإن أبيت إلا الرحيل، إلى وطنك أيها النبيل، بعثنا بك إليه مع أول سفينة، تقوم من هذه المدينة.
فقال: أيها الملك المطاع المبجل، والخاقان الشجاع المفضل، أمَّا أنا فلا براح لي عن خدمة الرُّكاب، وأمَّا أصحابي فإنهم يؤثرون على الإقامة الذهاب، فلمَّا وعى منه ما به أجاب، قرَّبه من سدته وقيده في سجل الحساب، وأرسل من كانوا معه من الإخوان، إلى وطنهم بعدما غمرهم بالإحسان، وكان للملك عدة أولاد، كلهم من الشجعان الأمجاد، فتمثلوا فيهم عند الوداع، بقول الشاعر الحسن الابتداع:
وبعد رحيل القوم، بعشرة أيام ونصف يوم، تجهز الملك لقمع الخوارج، وجرد عليهم الجنود والبوارج، وصحبه في غزوته أبو الفخار، وكان في الحرب ثقيل العيار؛ لأنه رُبي من عهد نشأته على ظهور الجياد، وعرف بين كماة الفرسان بطويل النِّجاد، وهذا فضلا عن سبقه في مضمار الأدب، وإحراز ما لا يتأتى لغيره إدراك شأوه فيه من الرتب.
فلما التقى الجمعان، ولمعت الأسنَّةُ في الطعان، انحط على الغريم كالسيل، وطرح الأبطال من فوق متون الخيل، وفتك هذا الباسل الغريب، بكل فارس نجيب، وشوَّش الصفوف، وقطع الكفوف، وجدَّع الأُنوف، وأطاح القحوف، وفي أثناء ما كان يصول، وعلى الأعداء يجول، وقع بزعيم الخوارج الغادر، فصاح به صيحة الأسد الخادر، وصدمه صدمة هائلة، وطعنه في صدره طعنة واصلة، فلم تمنعها دروعه التي بها اعتصم، بل أودت به إلى العدم، ثم جال على مصرعه وقال: هلموا إلى الحرب يا عصبة الضلال، فانقض عليه من العصاة ألوف، وعطفوا عليه من كل مكان بالسيوف، وقبل أن تصل إليه نجدة، وتُكشف عنه غمة الشدة، عقروا جواده، وملكوا قياده، وكان الملك فوق ربوة مشرفة على المعمعة، فلما شاهد بعينه في نزيله ما روَّعه، عِيلَ منه الصبر، وسارع في الحال إلى النصر، وأمر الجيش بالحملة، وكان أول حامل في الجملة، وأدرك هذا الفارس الأوحد، وهو بالقيود والأغلال مصفد، فخلصه من الأخطار، وبلغه الأوطار، ولم يُعهد عنه أنه فارق مخدومه في سفر، ولا فَتَر عن ملازمته في حضر، وقد أثرى وازداد يساره، وصفا عيشه وارتفع مناره، واستنهض إليه عائلته من بلده، وفرت عينه بأهله وولده، وفي هذا أدل دليل على شجاعته، وبسالته وبراعته، وأمَّا سبقه في الآداب، وامتيازه على كثير من ذوي الألباب، فهو أمر شهد به كل يعروف بالفضائل في عصره موصوف، ومن ضمن ما نقل عنه من كتاب لبعض قرابته الأنجاب:
سيدي ما لي أراك عني في إعراض؟! وما لك عني غير راض؟! وما الباعث لك على الضن بالمراسلة، التي قامت الأدلة على أنها نصف المواصلة؟! أظننت أنَّ الثروة غيرت أخلاقي، وأخمدت مني لأحبابي نيران أشواقي؟! هيهات هيهات! أن أتزحزح في المودة عن الثبات، أو أغفل عن التمثل بقول حاتم، الذي ضربت به الأمثال في السخاء والمكارم:
معاذ الله أنسى الرفاق، وأتحول إلى الخلاف عن الوفاق، فكن جاريًا على العادة في كتب الوداد، وانشر بطريفها مطويَّ التلاد، متعني المولى بلقاك، ومن كل سوء وقاك، ولا زال أبو الفخار الشهير، مقربًا من سدة مخدومه الخطير، حتى لقي ربه الكريم، وفاز برحمة الرحمن الرحيم، ونظم في سلك ذوي السيادة، وخُتم له بالسعادة.