المقالة الثانية
دخل رجل من سكان الأطراف، ذات يوم مدينة بديعة الأوصاف، وطاف بشوارعها المنيفة، وأزقتها المرونقة اللطيفة، وأسواقها النفيسة الأمتعة، وخاناتها ذات الأقمشة الثمينة والحلل المُرَصَّعة، فرأى في أثناء طوافه بهذه الأماكن المُزخرفة، الحوانيت والمساكن جمًّا غفيرًا من ذوي الثروة واليسار، والأُبَّهة والرَّفاهية والاعتبار، والنعم الوافرة، والخيرات المتكاثرة، وكان عليه أطمار بالية، ولم تكن عيشته حالية، فترك المدينة وانتجع الجبل، وقلبه بنيران الاعتراض على رازقه اشتعل، فَلَمَّا خلا بنفسه تمنى موته وحلوله برمسه، ولكراهته في البقاء، واعتقاده أنه خُصَّ من بين الناس بالشقاء؛ خلع جلابيبه وقذف بها إلى السماء، وضل عن طريق الهُدَى واستحبَّ العمى، وتمادى على القذف بها إلى الجوِّ وهي تسقط عليه، وتنجذب في أقل من لمح البصر إليه، وما برح عاكفًا على هذا العمل، حتى وهت قواه وضعف جسمه وكَلَّ، واحتاج إلى الرَّاحة فجلس على الأرض.
وهو على غاية من الغَضَب والنَّكد، وكان بالقُربِ مِنْهُ أجمة فيها أسد، قد خرج من عرينه للاصطياد، والفتك بكل حيوان صعب الانقياد، فلما وقعت عينه على هذا المعترض المخالف، لم يصرفه عن الحملة عليه صارف، فزمجر زمجرة الرعد، وأيقن بنيل المُنى وبلوغ القصد، فأقبل عليه بأظافر كالخناجر، وكَشَّر عن أنياب كالسيوف البواتر، وكاد يُبَدِّدُ منه أمعاه، ويُريحه من الاعتراض على مولاه، هنالك ضاقت به الحيل، وانقطع منه الأمل، وتحقق أن القضاء به نزل، وانطوى من حياته سجل الأجل، فاسترجع وحوقل، وتاب من ذنبه وعلى الله توكل، وأخلص النية، وأقبل على التضرع بحُسن طوية.
وبينما هو متقلب في أودية الدهشة والحيرة، مترقب هلاكه وضيره، إذ ظَهَرَ له وهو في أثناء الخطر فارس على فرس محجل أغر، لا يلحق منه الغبار، ولا يجول سواه معه في مضمار، وكان هذا الفارس شديد الباس، وافر العزم قوي المراس، فعطف بلا مهل على أسامة، بشهامة تامة وصَرَامة، وخفف ما عليه من اللباس، وألقى ما بيده من السلاح، وهجم عليه وهو من نفسه واثق بالنَّجاح، ولكمه بيده على أنفه، لكمة هائلة ساقه بها إلى حتفه، وبإقدام هذا الهمام المنيع، تخلص الرَّجل من الموت المقتضب السريع، ثم وقف على مصرع أبي الحارث وأنشد، وهو منه في الكفاح أقوى وأشد:
ولما نجا هذا اليائس على يديه، دنا منه وانكبَّ على قدميه، فانحنى عليه، ومن الأرض أقامه وقبَّله بين عينيه، وهنأه بالسلامة.
وبينما هو يسأله عن سبب تجرُّده عن الثياب، ووجوده في هذا القفر الخراب، وهو يجيبه عما دار في خلده من الوسواس، من اعتراضه على ربِّ الناس، ويُخبره أنه إلى الله تاب، وأقلع عن ذنبه وإليه أناب؛ إذ خرجت عليهما قطاع الطريق، من كمين في درب داخله مضيق، فقال له: لا تخف ولا تحزن، وقف مكانك وإلى الفرار لا تركن، ثم وثب على صهوة جواده الأدهم، وامتشق سيفه وعليهم أقدم، وهو يقول وقد اعتراهم من حملته الذهول:
ولما انكشف عنه الغبار بعد ساعة، وقد قتل عشرة من الجماعة، ولم ينج من سيفه الماحق، سوى من كان تحته جواد سابق، كرَّ راجعًا إلى صاحبه كالقشعم، وهو بهذين البيتين يترنم:
وعندما قرب منه سارع إلى ملاقاة جنابه؛ ليحظى بلثم قدمه في ركابه، وأطلق لسانه بشكره، وأثنى عليه في سره وجهره، وكان الفارس قد جمع الأسلاب، بعد أن فرَّق الأحزاب، وهَمَّ بدفعها إلى صاحبه؛ لتذهب عنه بالفقر وغياهبه، وقال له: اقْبَل هذا النزر اليسير، واعذرني في التقصير، وإن شئت فسر معي إلى الأوطان، حتى تكون آمنا في ذمامي من حوادث الأزمان، فقال له وقد اتسع صدره وانشرح، ولاحت عليه بشائر السرور والفرح: إنَّ مفارقة الأرواح للأشباح أهون عليَّ من فراقك يا فارس البطاح، وكيف أقدر على ذلك وقد دفعت عني المهالك، وغمرتني بالإحسان بعد أن بَدَّلت خوفي بالأمان؟! فاسمح لي بخدمتك؛ لأعيش في نعمتك، فأجاب إلى ما طلب، وبلغه بمرافقته الأرب، والفارس المذكور هو من نسل معن بن زائدة المشهور، وهو في السماحة آية، وفي الجود غاية، وفي الحلم لا يُجارى، وفي العلم والرِّواية لا يُبارى، وفي الشعر حسَّان، وفي البلاغة سَحْبان، وله دراية تامة بالأخبار، ومعرفة كاملة بالآثار، وهو أُوَّلُ مبادر إلى سماع النوادر؛ قيل إنه خرج غير مرة من جميع ماله بدون احتياج أحد من الناس إلى سؤاله، ولطالما كان يترنم في المحافل بقول القائل:
ونقل عنه صاحبه الذي فاز منه بالذمام، واستغرق في خدمته عدة من الشهور والأعوام، أنَّهم دخلوا عليه في ناديه بمغلول، وقتيل على الأعناق محمول، وقيل له: إن ابن أخيك قتل ابنك عمدًا بلا شريك، فأمر بإطلاقه من حبال وثاقه، وقال له وقد عافاه من القصاص، ومنَّ عليه بالخلاص:
ثم أقبل بوجهه عليه، وأبدى له من الابتسام ما دفع عنه كل ما هجس بخاطره من توقع الانتقام، ولخوفه عليه من غائلة أتباعه بعث به في أمان إلى بعض أقطاعه. ولعمرك هذا هو الجود الذي أنسى جود حاتم، والحلم الذي محا من الصحف حلم قيس بن عاصم.
وزاره في داره ذات يوم جماعة من الأفاضل، ممن تتحلى بمعارفهم أجياد المحافل، فتجاذب معهم أطراف الرواية، وأظهر كلٌّ منهم فيها ما عنده من الدراية، وقام وتكلم فأحسن، وتنوع فيما أبداه وتفنن، وأطلق لجواد فكره في هذا المضمار العنان، ففاز بالسبق وحاز قصب الرِّهان، ولا زال في هذا المبحث الطويل ينتقل من الجُمل إلى التفاصيل، حتى قال في حقه، من يعوِّل على صدقه:
ومن محاسن شعره الذي سارت به الرُّكبان، وأضاءت ببدور معانيه في خدور مبانيه الأكوان، ما رواه عنه أبناء الأدب، واستملاه نُبَلاء العجم والعرب، حين قال في خطابه لابن وده، وقد أصمى فؤاده بسهام صده:
وقوله لنديمه في مجلس انشراح، طاب فيه تناول الرَّاح:
وقوله لمليحة اسمها حياة الأنفس، وقد خطرت بين يديه في حلة من سندس:
ونُقل عن صاحبه الذي اتسعت دائرة أرزاقه، عند اختصاصه به وتخلقه بأخلاقه؛ أنَّه حَضَره في يومٍ افتخر فيه بالبلاغة كلُّ حكيم، وامتاز فيه بالفصاحة كل عليم، فقام على قدميه، وابتكر خطبة لم ينسج على منوالها، ولم يأت قبله أحد بمثالها، فلم يبق أحد من فُصَحاء تهامة إلا أذعن له بالزِّعامة، وهو جديرٌ بما قال فيه بعض واصفيه:
وقد ضُربت الأمثال بصدقه في الأخبار، واعترف له به العلماء والأحبار، وقام الدليل والبُرهان، على أنه أوحد الزمان:
ولقد سأله أحد جلسائه عن تاريخ بعض الممالك المشهورة، وعن مباني البرابي والأهرام التي هي من الآثار المأثورة، فأجاب عما أراد بأوضح إشارة، وأرشده إلى الصواب بأفصح عبارة، وأماط القناع عن وجه أشرف البقاع، وبسط الكلام على ما كانت مصر عليه من الأحوال الظاهرة والباطنة في عهد ملوكها الأولين من الفراعنة، ونوَّه بما وقع فيها من كمشيد وباقي الأكاسرة، ونبه على حوادث البطالسة والقياصرة، وقص أثر فتوحها بالإسلام، وانتزاعها من قبضة الأروام، وكان ذلك في محفل حافل، حضره جمٌّ غفير من الأفاضل، وقد قام من بينهم شيخ كبير بدقائق علم التاريخ خبير، فقال مُخَاطِبًا له بأشرف المعاني، وألطف الألفاظ والمباني:
ووفد عليه وهو بمدينة بغداد درويش من الأمجاد، فغمره ببحار المواهب، ورفع قَدْرَه بين ذوي المراتب، وكان هذا الدرويش خزانة نوادر، وكنانة نكات تهيم بسماعها الأكابر، فقال له رجل من ندماء الفارس اسمه كميت: حدثنا بأحسن ما رأيت؛ فقال الدرويش صاحب المخترعات المشكورة، والمبتدعات الحسنة المشهورة:
إني مررت في سياحتي بخراسان على قرية كانت لبني ساسان، فرأيت بظاهرها شيخًا محلوق اللحية عاري الجسد، وشيخة في عينها اليسرى رمد، وهي كالتي قال في حقها الواحد الأحد: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ فقلت له: ما اسمك؟ وما اسم هذه القرية بين القرى؟ وما هي هذه الشيخة التي مثلها في النساء لا يُرى؟ فقال له: أما أنا فاسمي أبو الغواية ضلال، وأمَّا القرية فاسمها في الكتب القديمة ملال، وأمَّا الشيخة فهي زوجة الشيخ جابر، إمام زاوية أيوب بن صابر، وإنه عازم على فراقها؛ لشراسة أخلاقها، وعدم وفاقها، وإنها بالأمس قرعت بابي، ورفعت قضيتها إلى جنابي، وسأنظر إليها، وأقضي بالحق لها أو عليها. فقلت له: ما هي وظيفتك يا أبا غواية؟ وكيف تقضي ولست بقاضي الولاية؟ فقال: اعلم أني أنا نائبه في هذا البلد، وأني أحفظ من القرآن الفاتحة، وقل هو الله أحد. فقلتُ له: إذا كنت كذلك يا جاحظيَّ السحنة، فما لي أراك مُخالفًا للكتاب والسنة؟! فقال: إنهم قلدوني نيابة القضاء بهذا الشرط، وأغضوا عما يفرط مني من الخلط، وأخذوا عليَّ بذلك العهود، فما أخرج عن هذه الحدود. فقلتُ له: بقي عليك شيء لا بُدَّ منه، وأمر مهم لا محيص عنه، وهو أنك تَجُبُّ نفسك بيدك، وتخلع زوجتك على ولدك، حتى إذا انفصلت روحك الخبيثة عن بدنك، ودرجت إلى حفرتك بعد اندراجك في كفنك، سحبوك على وجهك إلى الجحيم، وطرحوك في نار العذاب الأليم، فوقعت هذه النصيحة عند الشيخ الخرفان، موقع القبول والاستحسان، وأجاب إلى ما دعوته إليه وامتثل، وقصد حانوت الحلاق؛ لبتِّ ما أُمِر به بلا مهل، وقال وهو مُتأهب للقيام يمدحني بهذا الكلام.
قال الكميت: فلما سمعنا أعجوبة هذا الدرويش، قلنا: كم يشاهد من عجائب الدنيا من يعيش!