المقالة الثالثة
حدثني مبارك الطلعة، الصديق الثقة، في ليلة أُنسٍ كانت بالبدر المنير مُشرقة؛ أنه نشأ بمدينة سان، فيما سلف من الزَّمان؛ أخوان يتيمان، تُوفي أبوهما وهما صبيان، وماتت أمهما بعده بعام، وتركتهما بلا زاد ولا حطام، فألجأتْهما ضرورة القوت، تارة إلى خدمة ذوي البيوت، وطورًا إلى الكد في العمل من غير كسل، مع سدِّ الرمق بكل ما حصل، وتماديا على مزاولة هذه المشاق، التي ضاق بها منهما الخناق، حتى جمع كل واحد منهما بعد أن بلغا أَشُدَّهُما؛ مقدارًا من الدراهم المعدودة، والنقود المُدَّخرة المرصودة، فاتقفا على التأهل بشقيقتين شريفتين عفيفتين، واشتغل منهما الفكر بذلك في الجهر والسر.
وسمع بخبرهما بعض اللصوص، فصرف عزيمته إليهما بالخصوص، وانقض على مأواهما في ليلة حالكة السواد، وقد غرقا في بحر الكرى بعد طول السهاد، فسرق المال وطار قبل أن يفضحه ضوء النهار، واستيقظا من الرقاد، وشغفهما إلى الزواج في ازدياد، ولم يعلما بذهاب الأثر والعين، ولا بانتهاب النضار واللُّجَين، فقال أحدهما للآخر: بالمال يتخذ الإنسان سلمًا، ويصعد به متى أراد إلى السما، ونحن بما عندنا من النقد، نفوز على رغم الحسود بالقصد، فابعثني إلى أيِّ خاطب إن رمت نيل المطالب، فقال له.
وقد لاحت منه التفاتة إلى باب الخزانة، التي كانت بالأمس محتوية على الأمانة: ما لي أرى عقب هذا الباب قد انصدع، وقفله انفصل عنه ووقع، وفي الحال أخذ بيده وقصده، وبحثَ عن المال فما وجده.
هنالك أرسلا من أعينهما أدمعا، وتأسفا على ضياع دراهمهما وتوجعا، وتمثلا في هذه الحال، بقول من قال:
ثم أجمعا أمرهما على مفارقة الأوطان لبلوغ الأوطار، وقد هان عليهما في طلب الرزق ركوب الأخطار، وقال أكبرهما اللبيب مُخَاطبًا لأخيه الأريب، ومُسَليًا له على نوائب الأزمان، والنزوح بغير اختيار عن الأوطان:
هذا وقد جدَّا في التقلب من وادٍ إلى وادٍ، والتنقل في النجائد والوهاد، وصبرا على هذا المصاب صبرَ مَن استسهل الصعاب، وتأسَّيا في هذا الخطب النازل بما قال القائل:
ويقول من يرجو بصبره بلوغ المآرب، ويترقب حسن العواقب:
ويقول من ضاقت عليه المذَاهب، ورماه الزَّمان من كنانة غدره بنبال النوائب:
فكانا تارة يمدان أيديهما للسؤال في الظلمات، وآونة يحتطبان في ضياء النهار من الأجمات، ومرة ينخرطان في سلك العملة، ويقتديان في نقل الجير والطين بالفعلة، وأخرى يخفران الحوانيت بالليل، ويحرُسان في الغياض المواشي والخيل، وكلما ضجر أحدهما من الاغتراب، قال له أخوه بأعذب خطاب: يا ابن أمي، إن لسان الفرح يناجي، صبرًا صبرًا؛ فإنَّ الفرج يفاجي. ويخفف عنه بلواه بقول القائل رحمه الله:
وقد عكفا على مثل هذه الأعمال، مُتَرَقِّبين من دهرهما صلاح الأحوال، مدة سبعة أعوام، وستة أشهر وخمسة أيام، حتى تحصلا في خلال هذه المدة على مقدار لا يزيد على المسروق في العدة، فتداولا في العودة إلى الأوطان، التي حبها من الإيمان.
ثم ترقبا للسفر، يومًا ليس فيه مطر، وهمَّ الجيران والأمثال، بمنعهما عن التِّرحال، فقال أَحَدُهما مُشيرًا بيده إليهم، وشاكرًا لهم ومثنيًا عليهم:
وتفرغا للمناقشة في هذا الصدد، وسرعة الانقلاب إلى البلد، والعزيمة على التأهيل باثنتين من الأبكار، أو من الثيبات المصونات الأحرار، وبعد أن طال في ذلك بينهما الجدال، انحطَّ رَأيُهما على الترحال، فوجها وجهيهما إلى البحر، وكان بينهما وبينه مسيرة ميل في البر، فقطعاه على أقدامهما بلا مهل، ولحقا بالموردة على عجل، وكان لسان الحال ينشدهما عند ذلك من أبكار أفكار حبيب، هذا المعنى الفائق الرَّائق الغريب:
وبمُجَرَّد وصولهما إلى الساحل، المشحون بالمراكب والزوارق والصنادل، نزلا سريعًا مع الركاب، في زورق متأهب للذهاب، وقالا وقد رُفع الشراع، بعد الإشارة بالوداع.
فلمَّا انساب هذا الزورق انسياب الأرقم، بريح طيبة في لجة البحر الأعظم، صار يقتحم الموج ويمرُّ من فوقه مرَّ السحاب، ويتجنب في طريق سيره ما ارتفع من الشِّعَاب، حتى إذا قطع مسافة يومين تكدَّر صفاء الجو، واختلفت الرِّياح وأظلمت السماء وتحدر النوُّ، وانكسرت الدفة وتقطعت الحبال، وأقبلت الأمواج من كل جهة كالجبال، واختفى عن أعين الملاحين أثر المسالك، وتحقق الوقوع في مهاوي المهالك، وعظم الخطب، واشتد الكرب، وعلا النحيب والصياح، وكثر العويل والنواح، وتوالت المصائب، وزحفت جنود الأخطار من كل جانب، واستغاث الرُّكاب برب الأرباب، وبسط الربان راحة الضراعة، والابتهال والدعاء وأمَّنت الجماعة:
وإذ كان لا دافع لسهام القضاء والقدر، ولا مانع لما تحتم وقوعه من الضرر، اضطرب الزورق ودار، وانحدر على الفور إلى القرار، وجميع من فيه مِنَ النَّاس هلك، وصار طعامًا للسمك.
ولم ينج من هذا السفر المنحوس، بعد فقد المنقوش والملبوس سوى الأخوين؛ حيث ظفر كل منهما بلوح فركبه، وانطرح عليه من شدة التعب كالخشبة، وترك نفسه عليه لمشيئة الأقدار، وكان البحر قد سكن وارتفعت الأمطار، فاستقام به في السير واعتدل، وقرب به من البر وإليه وصل.
فتعانقا عناق الألف للام، وأفرطا على الدهر في الملام.
وقال كل واحد منهما وقد أصبح عاريًا صفر اليدين: ليت شعري، إلى أين نذهب إلى أين؟ وقد جار علينا الزمان، واقتفى منا الأثر في كل مكان، وأغرى بنا من بنيه الأوغاد، وجنَّد علينا منهم الأجناد، فنصبوا لنا من قبل حبائل النكد، واستلبت لصوصهم منَّا ما جمعناه وهو أقل العدد، وسلط علينا البحر فكان أدهى وأمر؛ لأنه ذهب بالدرهم والدينار، وأتى على ما كان من الجلابيب والأطمار.
ولولا لطفه بنا عز وجل، ووجود فسحة في الأجل، لم يكن لنا من الهلاك، في هذه الدفعة فكاك، فماذا نصنع الآن في هذا العسر وقد مسنا الضر؟ أنرجع إلى الوطن بالخيبة وتجريد البدن؟ أم نطوف بجميع الربوع، ونهجر في طلب الرزق الهجوع؟ وبعد أن طال بينهما الكلام في مثل هذا المقام، بدا لهما أنهما لا يرجعان إلى مسقط الرأس، وهما على هذه الحالة من الفاقة والبأس، وترجَّح عندهما عدم الإياب، إلى وطنهما بلا مال ولا ثياب.
فتوغلا في المدن والقرى والضياع، واشتغلا بما فيه صلاح حالهما وخافا على وقتهما الضياع، وكانا تارة يقطعان الحجر، وتارة يقلعان الشجر، وطورًا يحرثان الأرض بالأثوار، ويبذران الحبوب فيها بمقدار، وطالما مرَّت عليهما سنوات وشهور، في رعي الإبل والبقر بالأُجور، واهتما بمباشرة ما يقرِّبهما من الغنى، ولو كان فيه ما فيه من العنا، حتى تبسم لهما الدهر العبوس، وامتلأت أيديهما من الفلوس، وتذاكرا في العودة إلى الديار، فاستصوبا الرجوع إليها بما لهما من اليسار، وأول مسألة خطرت لهما بالبال، وهيجت منهما البلبال، هي مسألة الزواج التي لا تهجس بالخاطر إلا عند الرواج، وقال أحدُهما لأخيه من أمه وأبيه: الآن نبلغ الأمل، ونصفع قفا من لام أو عذل، فاستعدَّ بنا للرحيل، واصفح الصفح الجميل، وكان الليل بظلامه قد أقبل، والنَّهار بضيائه تحوَّل، واحتاجا للرَّاحة فأخذ كل منهما مضجعه، بعد أن ملأ بحديث الأمان مسمعه.
فلا وأبيك ما مضى من الليل إلا هجعة قليلة، وبرهة من الزمن غير طويلة، حتى وقعت ضجة، عقب هذا ورجَّة، وصاحت صائحة في أثر غادية ورائحة، واشتعلت النار في جميع جهات الدار، واحترق من السكان، من كان غير يقظان، وفي هذه الكَرَّة، عدم الإخوان الصرَّة، وما سلما من اللهب، ولا تخلصا من العطب، إلا بعد تجشم أخطار لم تكن في الحساب، وخوض أهوال دونها ضرب الرقاب، ووثوب فيما بين أماكن محترقة، بغاية العسر من كل طبقة إلى طبقة، وتجرَّدا عن لباس ونعال، وحمير وأفراس وبغال.
وبعد مضي سبعة أعوام كوامل، في كدٍّ وتعب بلا طائل، لم يكن رأس مالهما سوى السلامة، فأكثرا على الدهر من الملامة، وأعرضا عن التنويه بذكر دار الولاد، ورأيا أنه لا فائدة في تعلق الآمال بزينب وسعاد، واعتزلهما الصاحب والجار؛ لفاقتهما عند احتراق الدار.
ثم التفت إلى أخيه وتبسم، وهو بنار الغيظ يتضرم، وقال: يا أخي، لا باعث للغضب، على اللص والبحر والنار ذات اللهب، ولا داعي للاعتراض والإعراض، فإنَّه جل وعلا منزه عن الأغراض، وإنَّ المقدَّر في الأول لا يغير، ولا تبديل لقوله تعالى في القرآن الحكيم: ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، فقال له أخوه وقد عبس وبسر، وغاب عنه صوابه وزاغ منه البصر: يا أخي، لا تسح بنا في الأقطار ولا تمرح بنا في الأقاليم والأمصار ولْنكفَّ عن السعي في طلب الأرزاق؛ حيث آل أمر ما اكتسبناه إلى السرق والغرق والاحتراق.
ولا نباشر في المساء والصباح، شيئًا من الأعمال التي ما فزنا منها بالنجاح، وتحوَّل بنا عن السهل إلى هذا الجبل المرفوع؛ ليفترسنا الوحش أو نموت من الجوع، ونستريح في هذه المرة، من المعيشة الكريهة المرة، ولا بَرِحَ يسخط على الزمان الخئون، ويُحسِّن لأخيه شرب كأس المنون، حتى أطاعه وصعد معه على هذا المرتفع الشاهق، الذي رأسه للسحاب ملاصق، فلما استويا على ظهره، وركض بأرجلهما في وعره، انتهيا فيه إلى مغارة، في ساعة اشتدت بها الحرارة، وكانا قد أضَرَّ بهما الظما، وكادا يكتحلان بمراود العمى، فمالا إلى المغارة المذكورة، التي تبدو لعين الرَّائي كأنها مقصورة، وحيثُ كان وصولهما إليها من طريق اضطرمت فيها من القيظ نيران، سقطا على الأرض كالموتى تحت بعض الجدران، وأقاما على هذه الحال إلى وقت العصر، وكانت درجة الحرارة قد انحطت وزال الحرُّ، فارتكن أحدهما بظهره إلى جدار، فوقعت عليه منه قطعة جص لا يحملها حمار، لكنه مرق من تحتها كالسهم، ولم يحصل له منها أدنى وهن ولا وهم، والتفت بوجهه إلى هذا الجدار، وأمعن النظر فيه، وتأمل بالدِّقة في تركيبه ومبانيه، فإذا هو من آثار بناء رصين، هو في الحقيقة عبارة عن دائر قبر كأنه حصن حصين، وقد اقتضت الحكمة الإلهية أنه قد انفتحت فيه طاقة مُتسعة، فنظر فيها وكان أخوه راقدًا فنهض معه، فلم يُدركا آخرها ببصرهما الحديد، ولم يدركا به ما وراءها من الامتداد البعيد، وكان بيد أحدهما آلة، فعالج بها هذه الطَّاقة، واستعان بأخيه على هذا العمل، حتى أحدثا في الجدار المذكور فرجة يلج منها الجمل، وانكشف لهما سرداب عظيم الاتساع، مهندم الشكل جسيم الارتفاع، فانطلقا فيه كفرسي رهان، وعثرا في آخره على إيوان، فألفياه مُزخرفًا بنقوش وكتابات، وصور ورموز وإشارات، ووجدا به جملة من الجواهر والأحجار، الثمينة الغالية الأسعار، واللآلئ البديعة، والدرر الرَّفيعة، والصور الغريبة، والأواني العجيبة، والأموال الوافرة، والأسلحة الفاخرة، فسجدا شكرًا لله سبحانه على هذه النعم الجزيلة، والهبات الربانية الجليلة، ثم توجها إلى أقرب مدينة من الجبل المذكور، واكتريا بها دارًا واسعة ذات سور، ونقلا إليها كنزهما في عدة أيام، من غير أن يشعر بهما أحد من الأقوام، وأكثرا من الحشم، والجواري والخدم، وفتحا الأبواب للغادي والرائح، والسائح من الناس والبارح، وانتجعتهم الشعراء من جميع الفدافد، بكل ما رَقَّ وراق من منتخبات القصائد، فغمرا منهم الماشي والراكب، ببحار العطاء والمواهب، وأنفقا على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وشيدا المساجد للعبادة والمارستان لمعالجة المريض والعليل، وشاع ذكرهما في السخاء والبذل في الشدة والرخاء، واشتُهرا في جميع الآفاق بالسماحة ومكارم الأخلاق، فانجذبت إليهما قلوب العباد، وأثنوا عليهما في كل ناد، وأقبل عليهما أكابر الدولة وأمراؤها بوجه بشوش، ولهجت بحُسْنِ سيرتهما الرعية والجيوش، وتناشدوا مدائحهما في مجلس سيد الأقيال، سلطان عصرهما أبي الأشبال، فأرسل رسوله في طلبهما؛ ليقف بنفسه على حقيقة نسبهما، فلما قدم بهما عليه، قبَّلا الأرض بين يديه، وقال أكبرهما يمدحه بهذه الأبيات، بعد ما دعا له بطول البقاء وصفاء الأوقات:
ومذ تبين له بعد أن تليا عليه ما لهما من القصص، وما تجرعاه في مدة حياتهما من القصص؛ أنهما ممن حنَّكتهم التجاريب، وهذبتهم التداريب، وعرفوا أصول السياسة، واستحقوا الانتظام في سمط أرباب الرِّياسة؛ بسط لهما بساط فضله وكرمه، ونظر إليهما بعين عنايته وحُسن شيمه، وقرَّبهما من سدَّته، وجعلهما من ندمائه وعترته، واعتمد عليهما في تدبير مملكته المنيفة، ولا يزالُ يقلدهما وظيفة بعد وظيفة، حتى خلع على أكبرهما خلعة الوزارة، وألبس أصغرهما حلة الإمارة، وكان له كريمتان من المخدَّرات، كأنهما الشمس والقمر بين أترابهن من البنات، فأنعم على الوزير بالكبرى، ومنَّ على الأمير بالصغرى، وتبَدَّل عسرهما باليسر، وتضاعف منهما لله الشكر، وعاشا معه في سعة وأرغد عيش، رافلين في حلل الحرير بعد الخيش، هكذا كانت عاقبة هذين الأخوين، اللذين نشآ يتيمين فقيرين، وقد سعيا بقدميها إلى المنية، فكان لهما في هذا السعي بلوغ الأمنية.