المقالة الرابعة
نشأ بمصر في سالف العصر رجل خليع، من نسل الصريع، كان مغرمًا بالسياحة، مولعًا من عهد نشأته بالملاحة، ممتطيًا غارب الأمل إلى الغربة، منتضيًا في التطواف عضبه، قاطعًا الأغوار والأنجاد، ساعيًا في الفيافي بلا ماء ولا زاد.
وقد اتفق له في بعض الأسفار، المتوالية بجميع الأقطار؛ أنه حج إلى بيت اللهِ الحَرَام، في عام من الأعوام، وبينما هو يدعو ربه عند طوافه بالكعبة، إذ سمع في الأسحار، زنجيًّا مُتعلقًا بالأَسْتَار، يقول في تضرعاته، عقب انصرافه من صلاته: إلهي، أنت قلت في كتابك المنزل على خلاصة أحبابك: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ فأين دولتي يا شديد القوى والباس؟ فدنا منه وجذبه من الأطواق، وأخرق به غاية الإخراق، وقال له: كيف يا أخسَّ الرِّجال، تعلق أملك بالمحال؟! ولست يا أسود البشرة من القوم الكرام البررة، أم كيف — لا أمَّ لك — تترقب الصعود إلى الفلك، وتتعلق منك المطامع، يا أنحس مخلوق بأسعد الطوالع؟! مع أنَّك إلى الآن لم تفز بالعتق، ولم تخلع عنك ثياب الرِّق، يا ويلك إن كنتَ قد اغتررت بولاية كافور، الذي كان آمرًا في صورة مأمور، فتلك فلتة من فلتات الدهر، وهفوة من هفواته التي تقصم الظهر، وكأنك بمولاك أيها العبد الآبق، والوغد المهين المارق، وقد جدَّ في طلبك، وردَّك إلى سوء منقلبك، وطرحك على التراب، وصبَّ عليك سوط عذاب، فقف عند حدك، وارجع في عملك إلى كدِّك، واجعل يا هذا أمنيتك قاصرة، على ملء بطنك وستر عورتك الظَّاهرة. فقال له الزِّنجي، وقد استدل بفعله على رعونته وسخف عقله: يا هذا، خفف عليك، فليس الأمر منك ولا إليك، وكف عن هذا التقريع والتوبيخ والتشنيع، فإنك تعلم أنَّ الله على كل شيء قدير، وأنه سبحانه وتعالى بالإجابة جدير، وإني على ثقة من بلوغ المآرب، والفوز بنيل المطالب؛ لأنَّه ما دق بابَ الله أحدٌ من العباد إلا فاز من فيض إحسانه بما أراد، وهذا هو اعتقادي ونيتي، من عهد ولادي ونشأتي، والعبرة بالنية في الماضي والآت، وقد قال صلوات الله عليه بنص الثقات، من ضمن الأحاديث المرويات: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.» ورجائي في مكارمه التي لا تُعَدُّ، أنه لا يرُدَّني في هذا العام بغير القَصْدِ، لا سِيَّمَا وقد وقعت على أعتابه، وتوسلت إليه بصفوة أحبابه، وحفظت قوله تعالى وهو للقلوب طبٌّ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، وقد أمرنا بالدعاء فلا نيأس من الإجابة، وفقني الله وإياك للإصابة.
فقال الخليع وقد تمكن منه الغضب، وانحرف عن سنة العجم والعرب، وكاد يحترق من نار غيظه بلهب أو يقتل نفسه ويذهب فيمن ذهب: إن استجاب الله دعاك، وبلغت على زعمك مُناك، صفعت قفا الزَّمن، ورفعت ألوية الفتن، وإلا خضبت بدني بالسواد، وهِمت مع أبناء جنسك في كل واد.
ولولا أنَّه خَلَّى سبيله وراح، وغاب عن نظره في البطاح، لضربه في الحرم، وتعدَّى عليه وظلم، لكن لخوف ابن الصريع من أن هذا العبد ربما نال ما رام، ندم على ما شجر بينهما من الخصام، وتَذَكَّر في الحال قول من قال:
ولما مضت أوقات الحج، وانقضت سُويعَات العج والثج، وحنَّ كل إنسان إلى موطنه، واشتاق إلى أهله وسكنه؛ امتطى كل فريق متن طريق، فأمَّا الزِّنْجِيُّ فلم يعلم أين درج، ولا على أي سلم عرج، وأمَّا الخليع فكان من جملة من ركب البحر بعد فوات عشر من عيد النحر؛ لأنَّه لتمام الخيبة، لم ينتجع طيبة، ولم يتمتع قبل القفول بزيارة الرَّسول، وعند حلوله بالسفينة، مع فتية من أهل الوقار والسكينة، انتقلت بهم بعد نشر الشراع من أشرف البقاع، إلى الجهة التي أملوا الوصول إليها، وعطفوا بالحمول عليها، وقد كان في هذه البرهة معرضًا بجانبه عن الناس، كأنه من ملوك بني أمية أو من خُلفاء بني العباس، وما ذاك إلا لاستغنائه بالقناعة عن مخالطة أحد الجماعة؛ ولذا كان يترنم في الرواح والغدوِّ بقول من كان في عُزلة عن الحبيب والعدو:
لكن بعد خمسة أيام وخمس ليال، أظلمت السماء قبل الزَّوال، وانحطت على السفينة من جهة الجنوب، ريح عاصفة متواترة الهبوب، فحرفتها عن اتجاه المسير، ومزقت شراعها الكبير، واجتهد كل ملَّاح، في خلاص الأرواح، من هذا الارتباك المفضي إلى الهلاك، فما نجحت الأعمال، ولا تحققت الآمال، بل ضاق الفضاء، ونزل القضاء، وخاب الرجاء، وعز الوصول إلى النجاء، وحان الحَيْن، ونعب غراب البَين، وتبدَّل بالخوف الأمان، وطاش عقل الشجاع والجبان، وطار من الحمام، على رءوس الجميع الحمام، ونادى منادي الفراق، لا سبيل إلى البقاء بعد هذا المحاق؛ حيث صالت جنود الأمواج، على تلك السفينة المصنوعة من الساج، فانخرقت قبل طلوع النهار، وانجذبت بما اغترفت من الماء إلى القرار، وما أظنُّ أنَّه نجا من الغرق، سوى ابن الصريع الذي كان يهلك من الفرَق، وسبب نجاته من هذا الموت العاجل، أنَّه أَدْرَك بمصادفة الأقدار بعض الصنادل، فانزوى فيه بلا رفيق ولا مصاحب، وهو لا يشك أنَّ طَرَفَ الرَّدى له مراقب، وقد انقطع أمله إلا من الخالق، وأخذ في الاعتذار عما كان منه في السابق.
وعما قليل وصل به هذا الصندل الخفيف، عند صفاء الجو وسكون البحر إلى رصيف، تحت سفح جبل سهل الانحدار، فصعد عليه فورًا بدون انتظار، وكانت الشمس قد طلعت، وعن الأرض بمقدار رمحين ارتفعت، فصبر حتى جفَّت أثوابه، واستراح وعاد إليه صوابه، ثم استوى قائمًا على قدميه، وبسط نحو السماء يديه، وقال وقد زال عنه التعب، وتخلصت رجله من ربقة العطب:
وبعد ذلك التفت إلى جهة اليمين على عجل، وأخذ في السير بلا توان ولا مهل، فوصل قبل العصر، إلى مرج نضير فيه نهر، فجلس على حافته واضطجع، وقد ذهب عنه الروع والفزع، وصبر حتى إذا ما خفَّ عنه النصَب، وتوضأ وصلى ما عليه وجَب، اقتطف من بعض الأشجار، ما سد خلته من الأثمار، وقال وهو يجول في أكنافه، ويسرح طرفه في أطرافه:
ثم ترك المرج وراء ظهره، وتوكل على مولاه في سره وجهره، وسار ولكن غير بعيد، فصادفه على خيل البريد، رجالٌ بيض الألوان، سُود الشعور والأجفان، عليهم ملابس حسان، وفي يد كل واحد منهم سنان، ولما وقعتْ أعينهم عليه، مالوا بكليتهم إليه، وَبَشُّوا في وجهه وحيوه بتحية الإسلام، وقابلوه بما يستحق الغريب من الإكرام، وحملوه على دابَّة عظيمة، من الجياد التي في سيرها مُستقيمة، وتمادوا به على الحركة، بين الرياض باليُمْنِ والبركة، حتى أدخلوه من باب يعرف عندهم بالمأنوس، ومثلوه بين يدي ملكهم المضاهي في لونه للآبنوس، فبعد أن تأمله مليًّا، وعرفه جليًّا، تكلم معه بِرِقَّة ولطافة، وبعث به إلى دار الضِّيَافَة، وكان ابن الصريع قد تحقق أنَّه صاحب الوقفة بالحرم، فأيقن أنه زلَّت منه القدم، وأوجس في نفسه خيفة، وخشي منه جوره وحيفه، وتوهم أنَّه رُبَّما أمر بقتله، قبل وصوله إلى أهله، وأنَّ نَجَاته من البحر ما أغنت عنه شيئًا في البر، هنالك نثر من عينيه العَبَرات، وتمنى أنه لو هلك في السفينة أو في الفلوات، ولا كان قد وقع في قبضة هذا الأسود، الذي يحتمل أن نار الإساءة في قلبه لم تزل تتوقد، بَيْد أنه لما دُعي إلى المقابلة، بعد عشرة أيام كاملة، قبَّل في الحال بين يديه الأرض، وأتى بالسنة فأجيب بالفرض، ثم قال له الملك بابتسام: مرحبًا يا ابن الكرام، فقال الخليع وقد كساه الحياء ثوب الخجل، وزال ما كان اعتراه من الخوف والوجل:
فلما سمع منه ما أبداه، قربه من سدته وأدناه، وتزحزح له عن مكانه، وأجلسه على السرير في أمانِه، وقال له وقد ضمه إلى صدره، وقبله في عارضيه ونحره: أي ذنب وقع منك؟ وأية جناية صدرت عنك حتى تأتي بهذا الاعتذار يا صاحب الجاه والاعتبار؟ أما أنت يا رب المقام الجليل، لغلامك المخلص نعم الخليل، معاذ الله أن يكون هناك ما يوجب العقوبة، ويدعو إلى لوم فيه أدنى صعوبة، فقال الخليع وقد اتسع صدره وانشرح، وكاد يطير من شدة السرور والفرح: تالله يا كريم الخلال، ويا شريف الخصال، إنك أولى بالملك من غيرك؛ حيث فاضت على الأنام بحار خيرك، وهل يكون في ذلك نزاع أو جدال، وإنك قد احتويت على جميع مناقب الكمال؟!
ولأنت عند كل إنسان، أعز من أهله والإخوان، أمَّا أنا على الخصوص، فعندي من الأدلة والنصوص، ما به يثبت أنَّك أوحد الملوك والأقيال، وأسعد من تُضرب بعدله الأمثال؛ لأني جنيتُ فعفوتَ، وأسأتُ فأحسنتَ وما جفوتَ، فجوزيت بما أنت أهله من علو المكانة، وجوزي سواك على سوء فعله بالإهانة.
وبالجملة والتفصيل: فليس لك في زمانك مثيل، ولسان حال كل من رآك، يقول وهو واقف تحت لواك:
فأثنى عليه الملك وشَكَره، ولجزيل إحسانه غمره، فقال الخليع مُخاطبًا له، وقد أثرى بعد الإفلاس، بقول إبراهيم بن العباس:
وكان النَّهار قد انقضى، والليل قد أقبل بالمسرات والرضا، فقام الملك والخليع، والوزير الكامل ابن المطيع، وركبوا عند خروجهم من الديوان عربة، فسارت بهم حتى انتهوا إلى قصر العقبة، ونزلوا في هذا القصر، بمنظرة مشرفة على نهر، وبعد أن لَبِثُوا بها هُنيهة يسيرة، ولُحيظة من الزَّمن قصيرة، دعاهم الشريف ابن مطرب، أمام الحضرة الملوكية إلى صلاة المغرب، فاصطفوا وراءه، وكان حسن القراءة، فصلى بهم المكتوبة، في الساعة المطلوبة، ثم انتقلوا بعد الفراغ من الصلاة المذكورة، إلى قاعدة المائدة المشكورة، فأكلوا حتى اكتفوا مِنَ الطَّعام، وكان آخرهم قيامًا الإمام، وبعد أنْ شَرِبُوا القهوة، صعدوا في بستان القصر على ربوة، فصلوا صلاة العشاء الأخيرة، وركب كل من الوزير والإمام عربة صغيرة، وتوجه إلى داره، بعد ما فاز من الملك بيساره، ولما خلا المكان لابن الصريع، من ابن مطرب وابن المطيع، سأل الملك عما وقع له بعد الانصراف من أم القرى، وكيف كان وصوله إلى هذه المدينة عالية الذرى؟ فقال له: اعلم أني ركبت البحر، فانكسرت السفينة على صخر، وتعلقتُ بلوح فأوصلني إلى البر، بلا سوء ولا شر، وحملني رجال البريد كما حملوك على جواد، وساروا بي إلى المدينة باجتهاد، فلَمَّا دنوا بي من الأسوار، وكانت الشمس في رابعة النهار، ألبسوني بعد السلام من الهلك، في يوم الخميس تاج الملك، وعقدوا لي في أحسن طوالع السعود، موكبًا عظيما أكثروا فيه من العساكر والبنود، ومشوا بي والمظلة على راسي، والدهر لي في جميع أحوالي مواسي، حتى أجلسوني على التخت، ولا جرم أنَّ هذا من سعادة البخت، وسألت فيما بعد عن الحامل لهم على ذلك، ولماذا لم يقتدوا بغيرهم من الممالك؟ وما هو هذا السبب الذي بلغت به الأرب، فأخبرني جم غفير، من ضمنهم الوزير، أن العادة الجارية من قديم، في هذا البلد العظيم، أنَّ الرَّعية متى مات ملكها القائم، ولَّت عليها من الأجانب أول قادم، وخلعت عليه الخلعة الملوكية، وأذعنت له بالعبودية، وأقول لك يا خليع هذا مصداق قول الملك العلام، في القرآن الحكيم وَتِلْكَ الْأَيَّامُ.
وكانت نفسي تُحَدِّثني عقب الفطام، أنْ أَحْظَى ذات يوم بهذا المرام، وتُذعن لي بالطاعة بعض العباد، وأكون نافذ الأحكام في البلاد، وكان لي حاسد من أبناء حام، لا يغفل عن مواجهتي بالملام، فكان يقول لي متهكمًا بي: إني رأيتُ لك في المنام، أنك يا حام تملك رقاب الأنام، فكنت أصول عليه وأجول، وأسخر به كما يسخر بي وأقول:
ولم يزل هذا دأبه ودأبي، حتى نلت ما رمت بفضل ربي، فقال الخليع: أنت يا رب السعادة، في عصرك أهل للحسنى وزيادة؛ لأنك ملكت فعدلت، وعن مكارم الأخلاق ما عدلت.
وكان ابن الصريع قد ناهز الستين من الأعوام، وعرف بلغات كثير من الأقوام، فآثر الإقامة مع الملك في بلده، على الرجوع إلى أهله وولده.
وعاش في خدمته عشرين سنة، مرت كأنها لقصرها سنة، ولما مات هذا النديم، الذي كان أصدق خديم، شيعه الملك مع أرباب دولته إلى لحده، واحتفل بمأتمه وبكى على فراقه وفقده، ولم يعش بعده سوى ثلاث سنوات، كان عليه في أثنائه بادي الحسرات.