المقالة السادسة
قرأت في صحف الأوائل، من أخبار بعض القبائل، حكاية عجيبة، ورواية في بابها غريبة، غردت بها العناديل والبلابل، على أفنان بساتين مدينة بابل، وهي أنه كان بهذه المدينة، ذات الأسوار العالية الحصينة، لصٌّ حليف إنصاف، حميد أخلاق وأوصاف، كان إذا ألجأته الضرورة إلى القوت، وتسلق على جدران بعض القصور والبيوت، لا يأخذ منه لغذاء العيال، سوى مُؤْنة ثلاث ليال؛ ليكون فيها منعم البال، لا يذوق مرارة السؤال، فكان لسان حاله ينشد، إذا لامه لائم أو فنده مفند:
وقد اتفق ذات يوم أنه نفذ ما بيده، واحتاج إلى ما يسد الرمق في غده، فخرج من داره في الصباح، راجيًا الحصول على الرزق المتاح، فصادف في طريقه شابًّا ثيابه نظيفة، معتدل القامة ذا روح خفيفة، فاقتفى منه الأثر، وتوهم أنه بلغ الوطر، ولا زال يسعى خلفه ويرعاه، ولا يعلم أنه خاب مسعاه، حتى انتهى إلى باب جسيم، على سور مرتفع عظيم، فعزم على أنه يختلس منه ما يكفيه مدة من الدهر، لا تنقص أيامها في الحساب عن شهر، فلما جنَّ عليه الليل وسجى، واشتد ظلام الدجى، أخذ سلم التسليق، وركب متن الطريق، وقصد هذا الباب، فوصل إليه بسرعة دونها سرعة السحاب، وطرح سلمه من الخارج على حائط الدار، وصعد على أعلاه بدون انتظار، ثم أدار سلمه المذكور إلى الداخل، وثبته وانحدر عليه إلى أسفل كالقضاء النازل، ولما استقرت على الأرض قدمه، ندم حيث لا ينفعه ندمه؛ لأنه مدَّ بصره يمينه وشماله وأمامه، فرأى فضاء كفضاء تهامة، ولم يجد به سوى قاعة صغيرة، بل عشة من الأخشاب حَقيرة، فتوسطها على سبيل الاستيعاب، فألقى بها على حبل أقمشة الشاب، وشاهده مضاجعًا على التراب لعجوز، لا يسوغ النظر إليها ولا يجوز.
فأطرق برأسه هنيهة وذهب، وفؤاده قد شب به حريق اللهب، وفي الحال صعد على المعارج، وانقلب من الداخل إلى الخارج، وتعثر في أذياله، واكتفى من الغنيمة بخيبة آماله، وعلم أنَّ صاحب المال، لا يتسربل في الغالب بسربال شعر.
وسارع بالخيبة إلى داره، فتوارى بها قبل تنفس صبح نهاره، ثم خرج منها قبل الزوال، وآلى على أن لا يقتفي متقمشًا من الرِّجال، وبينما هو يمشي في أضيق زقاق، إذ رأى شيخًا التفت منه الساق بالساق، وهو خفَّاشي العينين، محدودب الظهر عريض الكتفين، له لحية طويلة قذرة، وجلابيب رثة محتقرة، وعلى رأسه عمامة بالية كبيرة، وبيده اليمنى عكازة قصيرة، فتبعه على الأثر، ولم يزغ عن رؤية البصر، حتى دخل من فرجة باب منخفض العتبة، في دهليز كأنه لطوله واتساعه رجمة، هنالك خلَّى سبيله وانصرف، وإلى خارج الأزقة عن المدينة انحرف، وصبر إلى النصف الأخير من الليل، وانحط على منزل هذا الأحدب انحطاط السيل، وعلا على الجدران؛ حيث أعانه المقدور والإمكان، وعطف على قاعة مزخرفة الصناعة، فصادف فيها سريرًا من عمل الهنود، على قبة من الحرير نادرة الوجود، فدنا منه وتأمل فيه، فعاين فيه فتاة جميلة مضاجعة السفيه، وأبصر عند رأس هذا السرير الفريد، عشر مفاتيح صغيرة من الحديد، فأخذها وانساب في الأروقة، كأنه النار المحرقة، فعثر في جهة اليسار، على رُواق فيه عشر صناديق كبار، ففتحها واحدًا بعد واحد بالمفاتيح، فأضاءت له النقود من داخلها كالمصابيح، وبذلك انجلت عنه غياهب الغمة، وسجد شكرًا لله على هذه النعمة، وأنشد:
ولكنه عدل عن طريق الإسراف، وقسَّم هذه الصناديق قسمة إنصاف، فنقل خمسة منها إلى منزل الشاب الفقير، وحمل الفتاة وطرحها بجانب الحصير، وساق العجوز إلى الشيخ الكبير، ووضعها بجواره في القبة على السرير.
واختص من الصناديق باثنين، وترك ثلاثة منها بلا مَين، وكان من عادة هذا الهرِم مع الصبية، أنَّها تتعهده بالدلك حتى يستيقظ من نومته الهنية، فلما كان في صباح ليلة ذهاب الكنوز، واستبدال هذه الصبية بالعجوز، انتبه الشيخ من كراه، والتفت إلى وراه، فرأى جيفة في موضع الوليفة، فوكزها برجله في صدرها، وكزة هيأتها إلى قبرها، وسحبها على وجهها وهو مذموم مدحور، وألقاها في حفرة مرحاض مهجور، ثم تفقد ماله فوجد سبعة من الصناديق قد عدمت، فهوت أركان قواه وهدمت، وطار لُبه، وانخلع قلبه، وبكى لذهاب الزوجة والعين، وسخط على الزمان ولعن غراب البين.
ثم حلق لحيته، وغير حليته، ودار في الأزقة؛ ليعثر على من فعل معه هذه الدقة، وأمَّا الشاب المتعفف، الذي كانت ثروته على يد اللص المنصف، فإنه كان يترك العجوز كأنها من نومها في رمس، فلا تنتبه إلا إذا أحرقتها حرارة الشمس، فلمَّا كان في فجر تلك الليلة السعيدة، استشعر بيد رخصة تباشر جسده بالدلك، فتوهم أنه في منام، ثم فتح عينيه فزال عنه الشك، وقال لها: من أين أقبلت يا قرة العين؟ وهل أنت إنسية أم من الأرواح الجنية؟ فقالت له وهي باسمة، وقد وثبت على قدميها قائمة: طب نفسًا، فإني ازددت بك أنسًا، وإني هدية من الله إليك، قد أنعم بي عليك، وأنا من خيار الإنس بلا محال، ولا أدري من ساقني إليك في هذه المحال، حتى أقوم له بالشكر وأدعو له بطول العمر؛ لأني وإن كنت على فراش من حرير، وحولي من الجواري جم غفير، إلا أني كنت في حبائل شيخ يدعي أنه ابن سبعين، وعهدي به أنه تجاوز التسعين، ثم التفتتْ ذات اليسار، وقالت له: أبشر بالغنى واليسار، فهذه الصناديق الخمسة من مال ذلك المهين، وإنها هي شطر ماله باليقين، ولقد نظر الله إليك بعين الرضا، وأنقذك من غائلة الفاقة بالقدر والقضا، فإنْ كان لك هذا السور، فشيِّد لنا من داخله أبهج القصور، واغرس حوله ما تشاء من الزهور، ولا تخف صولة الفقر، فقد تيسر لك الأمر.
فلما سمع منها مقالها، وفهم سؤالها، بادر إلى البنَّاء والنجار فشيدا له القصر، في مدة لا تزيد عن شهر، واشترى ما احتاج إليه من الأثاث، ما يكفي للخدمة من الذكور والإناث، وعقد عقد النكاح، على شمس الصباح، وبنى بها في ليلة جمعة، بقاعة أوقد بها ألف شمعة، ثم شمر عن ساعد الاجتهاد، في التجارة ففاز منها بما أراد، وكان رئيسُ التجار في ذاك الوقت، قد رُمي من المرض بسهام السقام والمقت، وارتحل من دار الفناء، إلى دار البقاء والهناء، فقلدوا الشاب المذكور بهذه الرياسة، لما عُهد فيه من حسن السياسة، وكان الشيخ قد عرف بالتجسس الشديد، والتفحص الأكيد، أنَّ زوجته وماله عند هذا الغريم لا محالة، فاستعدى عليه الحاكم، وقال له: أجرني من هذا الظالم. فلمَّا بعث إليه الأعوان، وجاءوا به إلى الديوان، وهمَّ بسؤاله، وطرحه في مهاوي أهواله، وثب اللص وثبة الأسد الكاسر، وقال أنا غريم هذا الخاسر، فخلوا سبيل الشاب، وخذوا مني الجواب، وقص على الحاكم القصة، وأزال عن التاجر الغصة، وسأل الشيخ عن الشيخة، فأنكر وجحد، وقال: ما لي بها علم وحق الواحد الأحد، فكذبوه وهجموا عليه في داره، بلا إذن منه ولا تراض، فألفَوا رمة العجوز في المرحاض، فأحاطوا به وقبضوا على أطواقه، ولم يتأخروا عن شد وثاقه، وقادوه حقيرًا ذليلًا إلى ولي الأمر، بعدما ضبطوا أمتعته بالغلبة والقهر، واعترف في حضرة القاضي بالقتل، فاستحق القصاص، وحكم عليه بالموت الذي ليس عنه مناص، واستتاب الحاكم اللص المنصف، بعد أن ربط له على الخزينة ما يقوم بكفاية المتعفف، وأنعم عليه بمنزل المقتول، وكانت هذه الحادثة الغريبة سببًا في بلوغ المأمول.