المقالة الثامنة
قال الحسن بن أبي الحسن، المصري الموصوف بالخلق الحسن، لما سئل عما رأى في غيبته باليمن، وما شاهد في تلك الدمن: إني لشغفي بحب السياحة، وتولعي من عهد نشأتي بالملاحة، قصدت في بعض أسفاري، مع الشيخ أبي إسحاق جاري، التوجه إلى مسقط رأس الفقيه عمارة، الذي لقي بعد العاضد دماره، وما أغنى عنه فضله، ولا أدبه ونبله، فلما نزلنا بساحة هذه البلاد، وجاورنا من فيها من العباد، ألفينا بها فتية من أنصار العلوم، وأكابر الأحبار المتميزين بالفهوم، جنح إلينا من بينهم يعروف أريب، معروف فيما بين أخدانه باللبيب، فمارسناه في جميع الأمور النافعة، فإذا هو في كل شيء منها باقعة، وأعلامه فيها منشورة، ومساعيه في الخير مشكورة، وسماحته حاتمية، ونفسه شريفة عصامية.
وبلاغته سحبانية، وشهامته شيبانية، وحكمته يمانية، وعقيدته إيمانية، وعدالته عمرية، وهمته علوية، وهو جدير بما تمثل فيه بعض واصفيه:
والواقع أنه مستحق لما به اتصف؛ لأنه في وطنه أعلم الخلف، وقد أقمنا معه من الأعوام أربعة، فأنستنا مكارمه الزائدة مِنن ابن زائدة، وتذكرنا بحلمه وذكائه، وفهمه ودهائه، أحنف وإياس، وعبد الحميد وأبا فراس، وأخذنا عنه ما يملأ الوطاب، من كل معنى رقيق مُسْتطاب، ولما حنت جوارحنا إلى الأوطان، وتاقت أنفسنا إلى الأهل والخلان، طلبنا منه الإجازة، بعد الاستعداد لقطع المفازة، وعندما سمح لنا بالتحول عن هذه البقاع، وسار معنا يومًا كاملًا للوداع، وقفنا وأقسمنا عليه، والدموع تنحدر من أعيننا وعينيه، أن يرجع مصحوبًا بالصحة والنعم الشاملة، وأن لا يحرمنا في أثناء غيابنا عنه من المُراسلة، ووعدناه أننا نعود بعد عامين إلى دياره، وأن لا نبرح بإرادتنا عن جواره، إلا إذا أذن بالرحلة، إن كان في الأجل مهلة، وبعد أن سلك كل منهما طريقه، وتأسف كل الأسف حين فارق رفيقه، تمادى الحسن وصاحبه على السير، مع القافلة إلى مكة المشرفة بلا ضير، وكان وصولهما إليها في موسم الحج، فنالا بالوقوف على عرفة والعَج، ما تقر به أعين المؤمنين، وتفرح به قصاد بيت رب العالمين، ثم توجها إلى زيارة الرَّسول، وبعد الفوز منه عليه الصلاة والسلام بالقبول، تحوَّلا عن هذه البقاع، ورَكِبَا سفينة من سفن الشراع، ووصلا بريح طَيبة إلى مصر، في يوم خميس بعد صلاة العصر، هنالك أولمت الولائم، واجتمع فيها القاعد من الأقارب والقائم، وتوالى وفود الأحباب للسلام، مدة ثلاث ليال وثلاثة أيام.
وكان للشيخ أبي الحسن الأريب، صديق ماهر لبيب، وهو صاحب وجاهة شريف، ذو همة عالية ومقام منيف، كان لا يفتر عن ملازمته طرفة عين، قبل أن ينعق بينهما غراب البين، فلما حضر من غيبته، وازداد به سرور عترته، وسعى إلى زيارته جميع الجيران، وجاء سائر خلانه من أبعد مكان، تخلف عنه ذلك الصديق النبيل، والرفيق الذي هو نعم الخليل، فسأل عن هذا الوجيه، من أقاربه وذويه، فقيل له: إنه متوعك المزاج، إلا أن بضاعة صحته أخذت في الرواج، فقال: الآن وجب السعي إليه، والإقبال في هذا الوقت عليه.
ثم قام من منزله ومعه من جيرانه جماعة، في يوم الاثنين بعد ثالث ساعة، واستوى مع ثلاثة منهم في عربة، وأمر بسرعة السير؛ ليبلغ أربه، فطارت العربة بهم في سكة معتدلة، بغاية ما يمكن من العجلة، حتى وصلت في هنيهة يسيرة، إلى قصر في وسط حديقة نضيرة، فنزل على الباب، بمن معه من الأصحاب، وسأل الحاشية عن سيدهم المُحترم، بيت الشرف والعلم والكرم، فقال له أحد الغلمان: إنَّه بعافية وهو جالس في الإيوان. قال الحسن: فلمَّا أخذنا الإذن منه ودخلنا عليه، وتمثلنا على الفور بين يديه، قام واثبًا على القدم، وكان كأنه الخلال من السقم، إلا أنه كان قد أخذ في النقاهة، فقابلنا سريعًا بالوجاهة، وسلَّم سلام المشتاق، وبَثَّ ما عنده من ألم الفراق، ونبأ أنه كان يستنشق نسيم الأخبار، في مُدَّة هذه الغيبة من السُّفَّار، ولو زال عنه ما كان اعتراه قبل التلاق، لسارع إلى المقابلة في جملة الرفاق، فعند ذلك ضمَّه إلى صدره، وقبله في عارضيه ونحره، وبالغ في الثناء عليه، وفرح بتوجه الشفاء إليه، وقال متمثِّلا فيه، بما أبداه المتنبي في سيف الدولة من معانيه:
فلما فرغ من العناق، وانتعشت الأرواح بطيِّ شقة الفراق، قال الشريف لأبي الحسن: أقسمتُ عليك يا معدن الفطن، إلا ما أقمت معي هنا بهذا البستان البديع، أنت وعائلتك مدة فصل الربيع، حتى نتناول كئوس السمر، ونجتلي لذة المفاكهة في السهر، فأنعمَ بلا امتناع وأجاب، واجتمعت الأحباب بالأحباب، ثم سأله عما سمع وما رأى في بلاد الأجانب، وما شاهد فيها من العجائب، فقال: اعلم يا مليح الشمائل، ويا صحيح الرِّواية في الفضائل، أني سَمِعْتُ بأنَّه كان يوجد في مدينة عدن، من جملة عجائب الزَّمن، شيخ من المعمرين، سِنَّه لا تنقص عن مائة وخمسين من السنين، وكان له عشرة من البنين والبنات، من خمس أمهات، كانوا يتكلمون بكلِّ لسان، ويحفظون القرآن، وينظمون الشعر، وينثرون الدر، ولهم في الآداب المؤلفات الفائقة، والمصنفات البديعة الرائقة، وكان كبير هؤلاء العلماء الأعلام، من ذوي الجسارة والإقدام، ويُقال إنَّه خرج مع قافلة من بني سعد، في سفر إلى ناحية نجد، فتعرَّض لهم في الصحراء ليث هاصر، وأسد عظيم الجثة خادر، فدنا منه بشدة باس، وقوة مراس، ولطمه على أنفه في موقف الخصام، لطمة هائلة جرعه بها كأس الحمام، وكان لهذا الليث لَبُؤة وخمسة أشبال، فأحاطت به من جهتي اليمين والشمال، ومن الخلف والأمام، فصدمها صدمة بطل همام، فقتل منها ثلاثة وهرب منه الرَّابع، واقتفى أثر أمه في الفيافي والبلاقع، فعدا خلف الاثنين على قدميه كالجواد، ورماهما بسهمين أودى بهما إلى النفاد، ثم كرَّ راجعًا إلى القافلة، فقابلوه بمزيد الشكر والثنا، ونشروا بين يديه أعلام الهنا، وجمعوا له من الأموال عدة وافرة، فردَّها إليهم قائلًا لهم: إنما أبغي ثواب الآخرة.
وكان عمره إذا رأيته باليقين، ينوف على مائة وعشرين، وهو مع ذلك حاضر الذهن، سالم العقل والبنية من الوهن، إذا نطق أتى بإحسان حسَّان، وإذا كتب سابق يراعه اللسان، لا يُسأل إلا ويحسن الجواب، ويقُول فيُصيب شاكلة الصواب، ولقد رأيتُه يسأله سائل عن كثير من المسائل، وهو في جمع غزير، وجم غفير، فكان مما قاله في السؤال، وأجاب الشيخ عنه في الحال: أيها المولى المشهور، كيف تجمع أسماء الشهور؟ فقال: خذها على الترتيب، ولا لوم ولا تثريب، تجمع على محرمات، وأصفار، وأربِعة وأربِعاء أو شهور ربيع، وجماديات، وأرجاب وشعبانات، ورمضانات وشواويل أو شوالات، وذوات القعدة وذوات الحجة، وقد ظهرت المحجة.
قال: فكيف تجمع أسماء الأيام؟ فأجاب من غير تلعثم في الكلام: تجمع على سُبوت أو أسبِتة، وآحاد وأثانين، وثلاثاوات، وأربعاوات، وأخمسة أو أخمس، وجُمع أو جمعات. فلما سردها سرد الأعداد، وأجاد كل الإجادة فيما أفاد، قبَّل السائل يديه، وقمنا نتعجب لكثرة ما لديه، ولبث أبو الحسن في حديقة الشريف الرفيع، إلى أن انقضت أيام فصل الربيع، ثم انتقل بعياله في شهر ذي القعدة، إلى منزله بخطة غيط العدة، واستمر بينهما الوداد والمحبة، إلى أن قابل كلاهما ربَّه.