توطئة
كيف تصبح حاكمًا هوويًّا؟
من أراد أن يؤسِّسَ «دولة» — وهذه ظاهرة حكم «حديثة» تمامًا لم
تعرفها الشُّعوب قبل معاهدة وستفاليا سنة ١٦٤٨م — هو لا يحتاج إلى أيِّ
نوع من «الشَّرعيَّة» السَّابقة. لم يعد الإله التَّقليدي يمارس هذه
الوظيفة القذرة. بل هو يحتاج فقط إلى مجرَّد «أزمة»، ولكن ليست أيَّ
أزمة، ليست إلى فتنة التَّوريث أو إلى صراع على الله، بل فقط إلى كمِّية
غير مسبوقة من المخاطر التي تؤدِّي إلى اختلال أفق «التَّعالي» الذي
يشد سقفًا رمزيًّا اسمه «العالم»، وهو اختراع سردِي لنوع من الشعوب. لا
يمكن تصوُّر الحاجة إلى الدَّولة من دون تشخيص يصف عناصر الأزمة
الرُّوحية التي تضع عالمًا ما موضع سؤال. وبذلك فإنَّ الدَّولة بالمعنى
الذي يهمنا هنا هي لا تستطيع أن توجد إِلَّا في شكل «تنِّين»: لا معنى
لدولة لا تقتل أو لا تشتق من الحرب ماهيَّتها. ما عدا ذلك هي: (مزاعم
إداريَّة).
ومولد التِّنين في أفق شعب خرج للتَّوِّ من أفق الملَّة هو تحديدًا
ظهور الدَّولة بوصفها جسمًا
غريبًا تمامًا على تدبير النَّاس إلى أنفسهم، وذلك مهما بالغنا في
تخفيف وطأة هذا الحدث المروِّع بالمراهم القانونيَّة والوعود
الأخلاقيَّة. وإن أوَّل ما يطلبه تنِّين بصحة جيدة هو الموت من أجله باسم «جماعة متخيَّلة» نجح
في بنائها من أجسام الذين وقع عليهم. كل تنِّين هو آلة ضخمة لتصنيع
الأجسام النَّائمة بالطَّاعة. وليس له من ثروة ميتافيزيقيَّة سوى
الهُويَّة التي نحتها من النُّفوس الخائفة من موتها. الموت هو التمرين
الأساسي الذي يُحوِّل «رعايا» الإله الخالق — وهذه تركة مباركة
ومجَّانيَّة — إلى «مواطنين» جيدين لما سمَّاه «هوبز»، الفظيع في
واقعيته، «الإله الفاني» بوصفه النَّعت السِّرِّي لظاهرة «الدولة»،
الغريبة والمرعبة في آنٍ. لكن الإله الفاني هذا لا يمكنه أن يعيش من
دون أن يُعبَد هو بدوره: «العبادة حاجة سردية حيوية لا يمكن لأي إله،
أكان خالدًا أم فانيًا، الاستغناء عنها.» ومن ثمَّ على الدَّولة أن
تنصبَ نفسها في وعي الحاملين لاسمها بوصفها «صنمًا جديدًا». لا يهم أن
يؤمن الشعب بما تعتقده الدولة — مع العلم أنَّ الدُّول لا دين لها إلا
مجازًا — بل المهم هو أن ينتصبَ الصنم الجديد في مكانه المناسب؛ أي
في موضع «الحقيقة». لا يمكن إخضاع النَّاس من دون كمِّية مناسبة من
جرعة الحقيقة، وهم حيوانات نهمة في شيء يُدعى الحقيقة، تحرص على
الاستمرار في التَّزوُّد بكميات هائلة من الحقيقة دون الجرأة على
استهلاكها حقًّا. وهم يعتاشون على ادِّعاء الحقيقة بوصفه هو: «التبرير
العميق لأي شعور بالهوية.» وإذا ما نجحت دولة ما في إقناع الأجسام
بابتلاع طعم الهوية بوصفه دواءً ميتافيزيقيًّا نهائيًّا يبرر وجودهم،
عندئذ فقط، ترتاح الدولة من عبء «الشرعية» وتتحوَّل إلى «وطن»، وهكذا
بدلًا من إنتاج أفراد «مدينيين» politès باليوناني، civis «باللاتيني»،
يملكون الحق في المدينة، نحن لا نعثر إلا على «مواطنين»، مجرد مشاركين
في «الوطن» — وهي ترجمة سيِّئة رائعة ودقيقة في حالتنا — يعامَلون مثل
حيوانات هووية تم إنتاجها بشكلٍ متعمَّد. فإذا نجحت الدولة في خلق حيوانات
هووية على مقاسها فلن تحتاج عندئذ إلَّا إلى اختراع «آخر» مناسب؛ أي
يمتلك قرابة ميتافيزيقيَّة جيدة يمكن تحويلها إلى كوجيطو كراهية، وفي
حالة أوروبا فقد تمَّ دومًا تجنيد الآخر اللَّاهوتي (اليهودي ثمَّ
الإسلامي) باعتباره وجهًا سرديًّا جيِّدًا لتأدية دور الآخر. ومتى تم
تنصيب لعبة «نحن» و«هُمْ» بشكل فعَّال صار في مستطاع الدَّولة عندئذٍ
أن تتخلَّص من أيِّ معترض عليها، أكان سلميًّا أو حربيًّا، بناءً على
أنَّه إمَّا «آخر» وإمِّا مواطن «شبح» لا وجودَ له.
ولهذا علينا أن نتساءَل قليلًا: ولكن لماذا تتظاهر الشُّعوب؟ ألم
يعِدوها بالعصر الهووي، وانخرطت فيه بكل سذاجتها السَّرديَّة ليس فقط
بوصفه العنوان العميق للاستقلال، بل بوصفه أساس أيِّ مسار ديمقراطي
نحو الحريَّة الموجبة، يبدو أنها فقط قد تفطنت — ولا يمكن أن تكون على
ضلالة — إلى أن الديمقراطيَّة ليست حدثًا، وأن عليها أن تنتقل من
المطالبة بحريَّة الرَّأي، كما تُوهمها الدَّولة بذلك، إلى المطالبة
بشيء أخطر من الرَّأي، نعني المطالبة بحريَّة الحقيقة، وتحرير ذلك
الموضع الذي تحتكره الدَّولة بوصفه المقر السِّرِّي للإله الفانِي
وموطنه الخاص. فإذا ظفرت بهذا الانتقال الخطير أمكنها عندئذٍ أن تضعَ
«المواطنة» قبل «الهوية»، وأن تتدرَّب على ملاقاة «الآخر»، مهما كان
بشكل «تداولي»، عندئذٍ فقط يمكن أن نتمرن على قتل الآخر بشكلٍ لغوي،
وألا نضطر إلى طاعته أو الخروج من أفق التعالي الذي نصبه.