الفصل الأول
أزمة التعالي أو حين اختفى المطلق تحت براقع التِّنِّين
يبدو أن ارتقاء حالة «الأزمة» (
crisis) إلى رتبة المفهوم الفلسفي،
أو إلى أداة تفكير «نقدي» في معنى «العالم»، هو حدث نظري خاص بالقرن
العشرين، بعد الحربين العالميتين خاصة، طال كل «آفاق الوعي المعاصر» من
الرأسمالية إلى الأسرة، ومن العلوم إلى المجتمع، ومن الثقافة إلى
الإنسانية، مما دفع إدغار موران مثلًا إلى ضرورة إرساء نوع من «علم
الأزمات» أو «الكريزولوجيا».
١ وهو ما يعني أن الأزمة ليست هنا مجرد استعارة في غياب
وجود «مفهوم» عما يعنيه هذا الاسم، بل أكثر من ذلك، لقد تحوَّل هذا
المفهوم إلى «براديغم»
٢ لجملة النقاشات حول العالم المعاصر، بحيث إنه صار من الممكن
تصنيف الفلاسفة بحسب موقفهم من «حالة الأزمة في العالم المعاصر»، هل هي
«أزمة العالم الحديث» التي تشخص «قدر الغرب» برمته في مقابل «الشرق
الروحي» (ريني غيرون)؟
٣ أم «قلق في الحضارة التي اكتشفت أن «الشعور الأقيانوسي»
(شعور «الاتحاد مع العالم») ليس هو منبع المشاعر الدينية بل العجز
الطُّفُولي الذي يدفع إلى التَّماهِي مع «الأب»؛ حيث تكون «الحضارة» هي
نموذج النِّزاع الأصلي بين «الإيروس» و«غريزة الموت» (فرويد)؟
٤ أم هي «أزمة الإنسان»؛ حيث إنه ظهر ما يسمى «جيلًا مثيرًا
للاهتمام» بحجم الكوارث التي عاصرها (ألبير كامو)؟
٥ هل هي أزمة أخلاقيَّة تتمثَّل في «تدمير التَّنوير لذاته»
(أدورنو)،
٦ أم «أزمة في الثقافة»، هي عبارة عن «نقص في العالم»
(
Worldlessness) يعاني منه «اختيار الحداثة» من الداخل (حنا أرندت)،
٧ أو هي «أزمة شرعنة» سياسيَّة تصاحب الرأسمالي وبالتَّالي
تتخلَّل كل «نقد» جذري لِبناه (هابرماس)؟
٨
وعلى الرغم من أن «الأزمة» و«النقد» مصطلحان ينتميان إلى
جذرين لغويين مختلفين فإن «النظرية النقدية» المعاصرة مثلًا يمكن
قراءتها بوصفها في كل أبعادها عبارة عن «كوكبة مثلثة من الأزمات
التاريخية»، تشمل أزمة الرأسماليَّة وفشل الحركة العمالية وأزمة
الماركسية نفسها.
٩ وبما أن التفكير النقدي المعاصر حسب تعبير أدورنو، لم يعد
يطمع في بناء أي نسق كلي، بل هو فقط يشبه تطوير «نماذج» مناسبة لا تدمر
ما هو «خصوصي»،
١٠ فيما يوجد خارج منطقة التفكير ويقاوم كل استيلاء «هووي»
عليه، فإنه قد صار لا بد عندئذٍ من التساؤل: «كيف تأتي الأزمة إلى الفلسفة؟»
١١ وذلك في المعنى الأركيولوجي الذي رصده فوكو عندما قرأ
مقال كانط «ما هو التنوير» بوصفه سؤالًا عن «الحاضر»، عن «الراهن» وبالتالي عن «عصر التنوير»
(أفق التفكير في ماهيَّة الحداثة) ليس
باعتباره «حقبة»، بل باعتباره «مسألة»
١٢ معياريَّة تبدو الإجابة عنها حاسمة لفهم معنى العالم
المعاصر، ومن ثمَّ استجلاء اتجاه الإنسان داخله. يقول ميكائيل هاردت
وأنطونيو نغري: «إن الحداثة نفسها هي معرَّفة بواسطة الأزمة، أزمة تولَّدت
من النزاع غير المنقطع بين القوى المحايثة، البنَّاءة، الخلَّاقة، وبين
السلطة المتعالية الهادفة إلى استعادة النظام.»
١٣
تبدو حالة الأزمة في العالم المعاصر ليس فقط بمثابة نقطة انطلاق نحو
شيء آخر، بل هي حسب تعبير كارل ياسبرز: «الوضعية الروحية للعصر»
١٤ التي تسودها «أزمة في تنظيم كياننا الحاضر»
١٥ تعني «عدم إمكانية توفر تنظيم مستقر (
beständig) لكياننا»
١٦ بسبب «التوتر الحاصل بين التنظيم التقني للجموع وبين عالم
الكيان الإنساني.»
١٧ وما كان يمثِّل معنى «العالم» بالنسبة إلى الإنسان لآلاف
السنين هو قد «تحطم» بشكلٍ مخيفٍ،
١٨ كل شيء قد صار موضع سؤال، وكلٌّ يرى نفسه مهددًا في جوهره.»
١٩ وهي أزمة شخَّصها ياسبرز بكونها ظاهرة طالت كل مساحات
الإنسان: «أزمة في الدولة» و«أزمة في الثقافة» و«أزمة في العلوم»، وفي
النهاية هي «أزمة في كينونة الإنسان نفسها.»
٢٠
إنَّ الحداثة قد سحبت العالم التقليدي الذي كان موجودًا قبل القرن
التاسع عشر، وعوَّضته بعالم آخر معدٍّ لسُكنى «الجموع»؛ حيث يسود «توثين»
أو «تأليه الجمهور» (
Vergötterung der Masse)
٢١ الذي دُرِّب على «لغة التعتيم»،
٢٢ و«العجز عن اتخاذ القرار» (
Entscheidungslosigkeit)
٢٣ وحيث يُعامل «العقل بوصفه أداة».
٢٤ ولأول مرة، وبالتحديد منذ القرن التاسع عشر، صار «الإيمان
بالمستقبل» لا ينفصل عن شعور بالذهاب نحو «الهاوية».
٢٥ وكان «نيتشه» و«كيركغارد» أساتذة في تقريظ «الوعي المظلم بالعصر»،
٢٦ الوعي ﺑ «حالة الخطر» (
Stimmung der Gefahr)؛ حيث أخذ
«الإنسان يشعر بأنه مهدد»
٢٧ وهو يعيش في عالم «انسحبت منه الآلهة»،
٢٨ ويمكن القول إن «كارل ياسبرز» قد كان سبَّاقًا إلى
التَّصدِّي الفلسفي لمعنى: «الأزمة في العالم المعاصر» ويُعد كتابه
الوضعية الروحية للعصر (١٩٣١م) بمثابة مدخل عام لكل النِّقاشات
اللَّاحقة من هوسرل في
أزمة العلوم الأوروبية (١٩٣٥-١٩٣٦م) إلى زيجمونت
باومان في
حالة الأزمة (٢٠١٤م)، مرورًا بأبحاث رينهارت كوسلك في
النقد والأزمة (١٩٥٤م) خاصة.
•••
من المتفق عليه بين الباحثين الغربيين عامة هو فهم مصطلح «الأزمة» في
ضوء استئناف كثير أو قليل لمعانيها اليونانية القديمة التي تدل غالبًا
على «القرار الحاسم»، (وهو ما أخذ به «ريني غيرون»
٢٩ من قبل، وأخذ به جملة المعاصرين) ولكن أيضًا على معانٍ
كثيرة أخرى من قبيل «الانقطاع» و«الحكم»، و«اللحظة الحاسمة» كان المؤرخ
الألماني الكبير «راينهارت كوسلك»، قد قام بالتَّحقيق الاصطلاحي
المرجعي حولها، أولًا سنة ١٩٥٤م ضمن أطروحة عنوانها:
النقد والأزمة: بحث في الوظيفة السياسية لرؤية العالم الثنائيَّة،
٣٠ ونشرها لاحقًا سنة ١٩٥٩م تحت عنوان:
النقد والأزمة: مساهمة في النشأة المرضيَّة للعالم البورجوازي،
٣١ ثم خاصةً في مقالة عن مفهوم «الأزمة» بمجردها عكف
عليها في السبعينيات وعمَّقها في الثمانينيات،
٣٢ ها هنا هو قد نبَّه إلى أنَّ مفهوم «الأزمة» له تاريخ طويل
ومتعدِّد من الدلالات، لا ينحصر في المعنى الطبي، بل يتعدَّاه إلى
المعجم السياسي-القانوني، وإلى المعجم اللاهوتي. ففي المعنى
الطبي تعني «الأزمة»: اللحظة الحاسمة في مرض ما بحيث يمكن «أن
نقرر» أو «نحكم» ما إذا كان المريض سوف ينجو أو يموت من علَّته، وفي
المعنى السياسي تعني الأزمة: «حالة الطوارئ» أو «الحالة الاستثنائية» في
تدبير الشأن العام، ولا يخلو
الكتاب المقدَّس اليهودي-المسيحي من
كلمة
(
κρίσις
- krisis)، والتي وردت فيه ٤٧ مرة، تدور حول معاني
«الفصل» و«التمييز» و«الفرز» و«الحكم» و«قرار الحكم» و«الإدانة». لكن
مساهمة كوسلك تتمثَّل خاصة في التنبيه إلى أصل المقالة الحديثة في معنى
«الأزمة»: أنه منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر قد أصبح ممكنًا
ملاحظة تطبيق الاستعارة الطبية للأزمة على مجال فلسفة التاريخ،
لقد تم تطبيق استعارة المرض ليس فقط على السياسة، بل على مسار
التاريخ، حيث أخذ المفهوم مسحة دينية، وإنْ كان علينا أن نفهم هذه
المسحة في «معنى ما بعد-لاهوتي» يزاوج بين سرديَّة نهاية التاريخ،
ولاهوت نهاية العالم، وهو ما يؤكد «الأصل اللَّاهوتي للنشأة الأولى للمفهوم».
٣٣ وحسب تشخيص كوسلك فإن (روسو) هو أول من استعمل هذا
المفهوم في معناه الحديث بوصفه ينطوي على «نظرة استشرافية للمستقبل في
إطار فلسفة عن التاريخ»،
٣٤ حيث يقول روسو سنة ١٧٦٢م: «نحن نقترب من حالة الأزمة
ومن قرن الثورات.»
٣٥ هذا الربط بين الأزمة والثورة هو الذي أقام عليه كوسلك
أطروحته، إنه المشكل عينه الذي يربط بين «النقد» (معركة التنوير)
و«الأزمة» (الثورة الفرنسية).
٣٦
وتكمن طرافة هذا الطرح الواقعي أو «المحافظ» في كونه يرسم أفق
الحداثة بوصفه أفقًا مهزوزًا من الداخل بفعل التوتر العميق بين
مكوناته؛ حيث تقوم أطروحة كلوسلك على تعريف «الحداثة بوصفها عصر الأزمة»،
٣٧ وهو يشخِّص هذه الأزمة بوصفها عبارة عن «نشأة مَرضية للعالم
البورجوازي»، فهذا العالم، في نظر كوسلك المضاد للتقدُّم، ليس سردية
سعيدة كما صوَّرها التنوير الذي قدَّم نفسه على أنه التأويل الذاتي المناسب
لما حدث منذ القرن السابع عشر. إنه عالم انبثق عن حالة نزاع، ولم يكن
صادرًا عن إرادة «القانون» بل عن إرادة «الحرب»؛ حيث إن «الأزمة هي
الشرط المقوِّم له»، الأزمة التي عبَّرت عن نفسها في حدث «الثورة الفرنسية».
٣٨ لقد انبثقت الحداثة من «أزمة» صرنا لا نراها، ناجمة عن
تصادم بين دولة «الحكم المطلق» (
Absolutismus) و«فلسفة التاريخ»، نعني
حركة التنوير، أدى إلى اندلاع «الثورة الفرنسية». قال كوسلك: «كان
الحكم المطلق هو شرط نشأة التنوير، وكان التنوير هو شرط نشأة الثورة الفرنسية».
٣٩
يقول أحد شراح كوسلك: ««النقد» و«الأزمة» هما المفهومان اللذان
اعتمدهما كوسلك في وصف هذه العلاقة النشوئية في ثلاثة مقاطع: أولًا: نشأة
الدولة الحديثة وتطور القانون العام الأوروبي (
ius publicum europaeum)
باعتباره نهاية الحروب الأهلية الدينية، وثانيًا: نجاح الحكم المطلق
بوصفه الفضاء السياسي الذي سمح بتطور نقد التنوير في الفضاء المحمي
لدائرة الحياة الخاصة، وثالثًا: اندلاع الأزمة السياسية (نعني الثورة
الفرنسية) التي تعادل النزاع بين السياسة والأخلاق، والدولة والمجتمع،
بين فلسفة التاريخ القائمة على فكرة التقدم، وبين التاريخ.»
٤٠
في هذا التشخيص يؤدي
اللوياثان أو
تنِّين هوبز دورًا حاسمًا: أن دولة
الحكم المطلق قد كانت الإجابة المناسبة على «الحروب الأهليَّة الدينيَّة»
في أوروبا الحديثة؛ حيث إنَّها أسَّست نوعًا جديدًا من «الشرعية»
قادرًا على سحب «الفضاء العمومي» من سلطة الدين، وإلحاقه بالعاهل
الذي يحكم. كما نشأ، في المقابل فضاء أخلاقي منعتق من الوصاية؛ حيث إن
قضايا «الضمير» قد أُلحقت بدائرة «الحياة الخاصَّة»، ولذلك فإن التَّنوير
الذي بدأ مع كتابات جون لوك — «الأب الروحي للتنوير البورجوازي» — هو
بمثابة رفض لمكاسب الحكم المطلق الذي وضع حدًّا للحروب الأهلية
الدينية، ومن ثمَّ هو بحث عن شرعية من نوع آخر لا تقوم على الفصل
بين «الإنسان» الخاص و«المحكوم» العمومي، بل تريد دفع التَّوتُّر بين
الأخلاق والسياسة إلى حد تأسيس أخلاق جديدة يمكن فرضها بشكل عمومي.
٤١ كان القصد حسب تشخيص كوسلك: «أن الإنسان بما هو إنسان يجب أن
يتحقَّق على مستوى الدَّولة (
staatlich)، وهو ما أدَّى إلى انهيار دولة
الحكم المطلق.»
٤٢ ما قصد إليه التَّنوير البورجوازي منذ لوك هو أن تتحوَّل
«الأخلاق العموميَّة» (المفروضة من خلال أعمال «الرَّأي العام») إلى نوع من
«العنف العمومِي» غير المباشر: «لقد تكون الرَّأي العام في القرن الثامن
عشر بوصفه نتيجة للنَّقد البورجوازي وبوصفه غرفة انتظار للأزمة.»
٤٣
بذلك فإن تقليد «النَّقد» الذي هيمن على خطاب القرن الثَّامن عشر قد
كان هو أيضًا بمثابة «شرط للأزمة». كان المفكِّر التَّنويري أو
«المستنير» حسب كوسلك، «يُدين السياسة» بوصفها مجرد «تقييد للحرية» في عالم
مبني على الثنائيَّات الصمَّاء؛ حيث يقدم التنويري نفسه بوصفه
يمثِّل الخير والحق والقانون في مقابل السلطة والدولة والعاهل: «كان
النقد الذي يأتي بوصفه نقدًا أخلاقيًّا، يهدف إلى أزمة النظام
السياسي (بعبارة أخرى كان الأمر يتعلق
بنقد سياسي) على الرغم من أنه
يقدم نفسه بوصفه نقدًا غير سياسي.»
٤٤
ما يشير إليه كوسلك هو أنَّ دولة الحكم المطلق قد انتصرت على الحروب
الأهليَّة باسم الأديان وحصرت مسائل الضَّمير في الحياة الخاصَّة، لكن
التَّنوير هو الذي قام في القرن الثامن عشر بتكسير هذه الحدود بين
الفضاء العمومي (القوانين السياسية) والحياة الخاصة (الأخلاق
والدين) بواسطة خطاب «النَّقد» الذي قاد الشُّعوب إلى «الثَّورة» بوصفها
تجسيدًا للأزمة، كان النَّقد يحمل بذور الأزمة لكن الثَّورة كشفت عنها.
«فمن خلال نقد التَّنوير اكتسب الرأي العام بُعدًا عموميًّا: إن
«العمومي» (
das ‘Öffentliche’) أو «العلني» لم يعد محدودًا عند
«الدولة»؛ لأنَّ الضمير، الذي كان في دولة الحكم المطلق لا يسوغ
إلَّا على مستوى الحياة الخاصة (
privat)، هو الآن شيء عمومي أيضًا.
إنَّ نقد التَّنوير هو الذي أنتج الفضاء العمومي البورجوازي للقرن
الثَّامن عشر، الذي قاد نظام دولة الحكم المطلق إلى نهايتها.»
٤٥
يبدو تاريخ الأزمة الحديثة حسب تشخيص كوسلك بمثابة تاريخ مجرور من
داخل جدل «النَّقد» التَّنويري نفسه نحو نقطة «الأزمة». كان النقد يحرص
أن يكون غير مسيَّس لكنه في الحقيقة كان يهدف إلى «تفكيك هيكل الدولة
باسم المصلحة الخاصة للطبقة البورجوازية الجديدة، التي أحاطت نفسها
على نحو انتهازي بنزعة كونيَّة أخلاقية وغير مسيَّسة مزعومة.»
٤٦ إن ما فعله التَّنوير هو تغيير اسم «الحرب الأهلية
الأوروبية» وتعويضه باسم «الثورة»، لكن كوسلك ينبِّه إلى أن
التنوير هو في الغالب الأعم لم يملك مفهومًا دقيقًا عن «الأزمة»؛
لأنَّها ظاهرة لا يمكن التَّخطيط لها على أساس فكرة «التَّقدم». وبذلك
ينخرط كوسلك في تأويل مضاد لسرديَّة التنوير يمتد من بورك إلى كارل
شميت، وأدورنو.
إن الفكرة النَّاظمة إذن هي أن «الأزمة مفهوم حديث»، لكنه لم يكن
ممكنًا من دون وجود «أزمة الحداثة» الأوروبيَّة نفسها، بحيث صار ينبغي
التعامل النظري مع مفهوم الأزمة بوصفه في نفس الكرة «بنية سردية،
وقوة تفسيرية»
(
Narrative Structure and Explanatory Power)
٤٧
خاصَّة تمامًا بثقافة بعينها بحكم تطوُّر تاريخي خاص بها
قادها من لحظة التَّأسيس «العلمي» إلى عصر «الفشل الرُّوحي في تبرير
عالم الحياة الذي شيدته».
بذلك صار علينا أن نسأل: ولكن ما هي طبيعة الأزمة في معنى العالم
الذي تأسست عليه الإنسانية الحديثة؟ ومن ثم: إلى أين تتجه الإنسانية أو
ما هو «مستقبل الطبيعة البشرية»؟
•••
في مايو من سنة ١٩٣٥م ألقى (إدموند هوسرل) محاضرة تحت عنوان: «الفلسفة في أزمة الإنسانية
الأوروبية»،
٤٨ لم تُنشر في حياته وظهرت لأول مرة سنة ١٩٥٤م تحت عنوان
منقَّح قليلًا هو «أزمة الإنسانية الأوروبية والفلسفة».
٤٩ ومنذ أول فقرة من النَّص يستعمل هوسرل مفهوم «الأزمة»
بوصفه أمرًا ربما قُتل درسًا يتعلق بمشكلة محدَّدة هي: «الأزمة
الأوروبية»، وهو لا يقصد إلَّا أن يمنح «اهتمامًا جديدًا» لهذه
المشكلة، وذلك بأن «يطوِّر الفكرة التي أعطتها فلسفة التاريخ (أو
المعنى الغائي) عن الإنسانية الأوروبية.»
٥٠ وهو هنا يعوِّل على «الوظيفة الجوهرية» للفلسفة والعلوم
التي تأسَّست عليها لإنجاز مهمَّته. ومنذ أول وهلة أيضًا يذهب هوسرل
إلى أن «الحياة الروحية» في «تاريخيتها» هي موضوع الأزمة، وينطلق من
تشخيص شائع هو أنَّ «الأمم الأوروبيَّة مريضة، وأنَّ أوروبا كما يُقال
في أزمة.»
٥١ وهنا يصوغ الإشكال الأساسي الذي سيشتغل عليه: أنَّ
«علوم الرُّوح» (أو العلوم الإنسانية) قد فشلت في أداء الدور الذي
نجحت فيه «علوم الجسم»؛ حيث إنه لئن كان يوجد طب للأجسام فإنه لا يوجد
«طب علمي، طب حول الأمم والجماعات ما بعد القومية.»
٥٢ «علمي» مصطلح لا يعني لدى هوسرل سوى «فلسفي»، وحسب تعبيره
فإن عدم اعتراف العلم الأوروبي بإمكانيَّة تأسيس علم كُلِّي عن الروح
هو بالتَّحديد «مشكل أوروبا».
٥٣
صحيح أن (هوسرل) يعترف بأن «الإنسانية» تتحرَّك في فضاء تاريخي كوني؛
حيث يصفها بأنَّها «حياة واحدة مؤلفة من الشعوب والبشر، لا يربط بينها
غير العلاقات الروحية، حياة تتميز بوفرة من الأنماط البشرية، والثقافية
التي تتجاوب فيما بينها»، بل هو يشبِّه تلك الحياة بنوع من «البحر حيث
يكون البشر والشعوب بمثابة أمواج تتشاكل وتتحوَّل وتتلاشى.» لكنه سرعان
ما يكشف عن فرضيته «الفلسفيَّة» تجاه «هذه الإنسانيَّة»: أن أوروبا فقط —
وليست الهند مثلًا — هي المؤهَّلة وحدها لأداء ذلك الدور الكونِي المبحوث
عنه في ميدان علوم الروح: هو يعتبر أن التمييز بين «المألوف»
و«الغريب» في انتماء الشُّعوب لبعضها البعض ليس كافيًا؛ لأنَّ أوروبا
تمتلك شيئًا إضافيًّا على بقية الشعوب، هو يقدِّمه على النحو التالي، إذ
يقول متحدثًا عن الإنسانية الأوروبية:
«إنه يوجد فيها شيء فريد من نوعه، يجعل المجموعات البشرية الأخرى
حساسة تجاهنا، وذلك من جهة أنه شيء ما، بقطع النظر عن أي اعتبار نفعي،
من شأنه أن يصبح دافعًا بالنسبة إليهم، في صلب الإرادة المستمرة للحفاظ
على أنفسهم؛ لأنْ يصبحوا أوروبيين (
europäisieren)، في حين أننا نحن،
متى ما فهمنا أنفسنا بشكل صحيح، نحن لن نصبح أبدًا على سبيل المثال
هنودًا (
indianisieren)».
٥٤
وهنا علينا أن نسأل: ما هو هذا الشيء الفريد من نوعه الذي توشك
الإنسانية الأوروبية المأزومة على فقدانه ومن ثم يجب عليها استرجاعه؟
لا يتكلم هوسرل عن أوروبا الجغرافية بل عن «أوروبا روحية»
٥٥ يمكن أن نؤرخ لها بحيث نحدد تاريخ ميلادها ومكانه ومن ثم
لحظة أزمتها وطبيعتها. ورأس الأمر لديه هو أن الإنسانية الأوروبية ليست
جسمًا حيًّا بالمعنى البيولوجي الخاص بالحيوانات؛ ذلك أنه «ليس ثمة، من
حيث الماهية، علم حيواني بالشعوب»،
٥٦ بل هي كيان روحي يحركه مبدأ نحو الاستكمال المستمر لذاته
من شأنه أن يمنح تحولات شكل الحياة الأوروبية «معنى تطورًا ما نحو شكل
مثالي من الحياة والكينونة كما نحو قطب أبدي».
٥٧ وهكذا فإن الثروة الروحية للإنسانية الأوروبية هي ليست
شيئًا آخر سوى نوع من «المعنى» يقوم على فكرة الاستكمال المستمر للذات؛
ولذلك لم تصبح أوروبا شكلًا روحيًّا إلا عندما «نشأ فيها
موقف من نوع جديد للأفراد من العالم المحيط بهم»،
٥٨ أدى بسرعة إلى تولد نوع جديد من الأشكال الروحية، تجمَّعت
ملامحه في «شكل ثقافي» أطلق عليها الإغريق اسم «الفلسفة». وهكذا فإن
انبثاق الفلسفة وكل «العلوم» المتضمنة فيها هو بالتحديد حسب هوسرل
«الظاهرة الأصلية لأوروبا الروحية».
٥٩ لا تعني الفلسفة هنا غير موقف روحي يقوم على الرغبة في
معرفة العالم المحيط بنا بمقتضى طبيعة عقولنا فحسب وليس بمقتضى أي
سردية أخرى. ولا توجد حقيقة كلية غير حقيقة العالم كما نعرفه. وليست
الفلسفة شأنًا شخصيًّا إلا عرضًا، كما أنها تحمل توقيعًا روحيًّا لا
يمكن التنصل منه أو الاستغناء عنه. فهي جنس ثقافي يحمل توقيعًا قوميًّا
مهما كان خفيًّا. وعلى هذا الأساس فإن ظهور «إنسانية من نوع خاص»
و«رسالة في الحياة من نوع خاص» قد أدى إلى ظهور ثقافة روحية من نوع خاص.
٦٠
ولذلك لا تعني «أزمة الإنسانية الأوروبية» غير خسارتها المعاصرة
للدور الروحي الذي كانت تؤمِّنه «الفلسفة»، أي حراسة موقف الأفراد من
العالم المحيط بهم بوصفه مؤسسًا على «غاية» عقلية هي «معنى» تطور أشكال
حياتهم باتجاه «لا نهائي». وهذه وصية هوسرل: «ينبغي دومًا على الفلسفة
في إنسانية أوروبية أن تمارس وظيفتها بوصفها هي الوظيفة الأركونية
(
archontische) على الإنسانية بكليتها.»
٦١ «الأركون» هو، كما عرفته العرب: اسم يوناني قديم للزعيم أو
رئيس القضاة الذي يقود أمور المدينة.
إن الأمر يتعلق إذن بأزمة روحية خاصة بإنسانية معينة هي الإنسانية
الأوروبية، وتتمثل في فقدان الفلسفة لوظيفتها «الأركونية» تجاه
الإنسانية بعامة. وعلينا أن نسأل: فيم تتمثَّل هذه الوظيفة؟
لقد أجاب هوسرل عن هذا السؤال في كتابه الأخير والكبير
أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية،
٦٢ ولا سيما في القسم الأول منه، تحت عنوان «أزمة العلوم
بوصفها تعبيرًا عن الأزمة الجذرية في حياة الإنسانية الأوروبية».
٦٣ يصطدم المؤلف أولًا بالاعتراض الساخر على «جدية» أي
حديث ساذج عن «أزمة العلوم» بعد كل «النجاح المستمر» في إنتاج المعرفة
العلمية حول الطبيعة الذي حققته أوروبا من غاليلي إلى أينشتاين، لكن
إجابة هوسرل أخطر من مجرد خلط معرفي بين «الأزمة» وبين «الخطأ» في العلوم.
٦٤ إن الأزمة أخطر من خطأ. فما يهدد العلوم الأوروبية ليس
الوقوع في خطأ معرفي في «علميَّتها» أو «دقتها» المنهجية بل فيما يسميه
هوسرل «الاختزال الوضعاني لفكرة العلم في مجرد علم بالوقائع»
٦٥ وذلك بوصفه موقفًا سوف يؤدي بالضرورة إلى ««أزمة» العلم
باعتبارها فقدانًا لدلالته بالنسبة إلى الحياة».
٦٦ إن خطة مقاربة هوسرل للأزمة في العلوم الأوروبية هي كونه
لا يشكك في «مشروعيتها» لكنه يعترض على «أزمة الثقافة»
٦٧ التي يثيرها «الدور» الذي تقوم به العلوم التي يتم
اختزالها في مستوى «الوقائع» المادية، ويتم قطع علاقتها ﺑ «عالم
الحياة» الذي جعلها ممكنة والذي منه هي تستمد «دلالتها». لكن ما يميز
هوسرل هو كونه، على خلاف كوسلك، هو لا يزال وفيًّا لتقليد التنوير الذي
يقدم «النقد» باعتباره خيارًا مناسبًا للخروج من «الأزمة» التي يضع لها
تاريخ ميلاد جديد ألا وهو النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ حيث وقع
اختزال «علمية» العلم في «الوقائع» والتخلي عن أي أسئلة معيارية حول
«ما كان يعنيه وما يمكن أن يعنيه» هذا العلم الوضعي بالنسبة إلى
«الكيان الإنساني».
٦٨ قال:«مجرد علوم وقائع تصنع مجرد بشر وقائع.»
٦٩
وحسب تشخيص هوسرل فإن ما يسميه «أزمة حقيقية» هو أمر متعلق «بضروب من
عدم الفهم الملغَّزة» في صلب العلوم الحديثة وحتى الرياضية منها، «غريبة
عن الأزمان السابقة» هو يجمِّعها رأسًا في لغز واحد يسمِّيه «لغز الذاتية».
٧٠ وأول علامات اللغز هذا أن «العلم» في لحظة ازدهاره الوضعي
قد أخذ يلفُّه نوع من «اللامبالاة» إزاء «الأسئلة عن معنى أو لا معنى هذا
الكيان الإنساني في جملته».
٧١ ما فرضته النزعة الوضعية هو الاعتقاد الحديث بأن علم
الوقائع لا يرى الإنسان؛ إذ بمجرد اعتبار نفسه «ذاتًا حرة» هو يخرج من
نطاق العلوم. ربما من الغريب أن هوسرل يقبل بالتحدي الوضعي بأن العلم
ليس لديه ما يقول عن ذواتنا، قائلًا: «علم الأجسام المحض بالطبع لا شيء
لديه، فهو يتجرَّد من كل ما هو ذاتي.»
٧٢ لكن لم يفعل ذلك إلا من أجل تركيز الإشكال في موضعه
المناسب: إن الأزمة الحقيقية ليست في علوم الطبيعة بل في التنطع
الوضعاني الذي يبلغ حد التغطرس المعرفي والزعم بأن «علوم الروح»، أي
العلوم الإنسانية، هي نفسها لن تصبح «معرفة موضوعية» إلا إذا تم
تجريدها من أي «ذاتية». ويتساءل: «هل يمكن في الحقيقة أن يكون للعالم
وللكيان الإنساني داخله أي معنى إذا كانت العلوم لا يمكن أن تعتبر
حقيقيًّا إلا ما يكون بهذه الطريقة قابلًا للمعاينة على مستوى موضوعي؟»
٧٣ ولكن كيف وصلت الإنسانية الأوروبية إلى هذا القرار؟
يفترض هوسرل أن العلم الوضعي قد قام على «بقية مفهوم» (
ein
Restbegriff) وليس على مفهوم بكامل مقوماته: ففي عصر النهضة قررت
أوروبا استئناف التقليد «العلمي» للفلسفة اليونانية ولكن مع التخلي عن
جزء أساسي من ذلك العلم: لقد تم التخلي عن تلك «الأسئلة الرئيسية
والنهائية» التي توضع عادة تحت عنوان «الميتافيزيقا»، وفي الحقيقة
ها هنا تم التخلي أيضًا عن كل «
مشاكل العقل؛ العقل في كل هيئاته الخاصة»،
٧٤ وهو يعني بذلك المشاكل المتعلقة بمعنى «الإنسان» و«الإله»
و«العالم».
تعني الأزمة عندئذ التخلي عن أفق السؤال الذي كان الفلاسفة القدماء
قد أسسوا عليه السلوك النظري في العلوم. هم كانوا على بيِّنة من خطر
الاستعمال النظري للعقل بمجرَّده دون أي تأصيل معياري أو سياسي، أي
ميتافيزيقي، لصلاحيته. ما تم التخلي عنه مع الأزمنة الحديثة هو أفق
السؤال عن الإنسان؛ حيث بدأ التعامل معه بوصفه كائنًا لم يعد يملك أي
استثناء أخلاقي، وبالتالي بوصفه مجرد واحدة من «الوقائع» الموضوعية
للعلم الوضعي. قال هوسرل: «حين يصير الإنسان «مشكلًا ميتافيزيقيًّا»،
مشكلًا فلسفيًّا مخصوصًا، فإنه يكون موضع سؤال من حيث هو كائن عاقل،
وحين يكون تاريخه موضع سؤال، فإن الأمر سوف يتعلق «بالمعنى»، بالعقل في التاريخ.»
٧٥
تبدو الحداثة بالنسبة إلى هوسرل ضربًا من «الفشل» (
das Versagen)
الروحي هو «فشل العلم الجديد الذي نجح في البداية» لكنه فشلٌ حرَّكه
«دافع لم يتم توضيحه»
٧٦ بعد. وبمعناه الحرفي هو فشل في النطق أو الإفصاح عن
ماهيته، ولذلك لم تكن الفلسفة «منذ هيوم وكانط إلى أيامنا» تهدف إلا
إلى خوض الصراع المرير من أجل «فهم ذاتي (
Selbstverständnis) للعلل
الحقيقية لهذا الفشل»، وهو أمر لم يلتزم به القليلون، أما البقية
الباقية فهي «سرعان ما وجدت وتجد الصيغة التي تطمئنها وتطمئن قرَّاءها».
٧٧ وفي هذا السياق أتى دريدا إلى القول يومًا ما: «الفلسفة
هي طمأنة الأطفال.»
أما نكتة الإشكال في هذا الفشل فهو عدم القدرة على إيضاح طبيعة
العلاقة بين «العلم الجديد» و«الذاتية» الإنسانية التي تأسس عليها. فما
وقع في أفق أوروبا هو أن العلوم الحديثة قد تنكرت للإنسان الذي أنتجها،
وصار من الصعب الإجابة عن هذا السؤال: «هل ينبغي الفصل بين العقل
والكائن؛ حيث إن العقل العارف هو الذي يعين ما هو الكائن؟».
٧٨ إذْ يتوهم «العلم الحديث» (الذي ينتج معرفة «الكائن») أنه
يمكنه «الانفصال» عن العقل (الذي يعيِّن ماهية ذلك الكائن)، كأنه يريد
الاستغناء عن «الأساس» الروحي الذي قام عليه ويفترضه سلفًا. ومن هذه
الزاوية تحديدًا لم تعُد علوم الطبيعة معفاة من الفشل، بل هذا يعني أن
كل العلوم الحديثة نفسها «قد دخلت في أزمة فريدة من نوعها نحس بها دومًا
أكثر فأكثر بوصفها لغزًا».
٧٩ إن هوسرل يميز بدقة بين «نجاحات» العلم الحديث وبين
«فشله» المعياري على مستوى «المعنى» الذي يكون له «بالنسبة إلى
الإنسانية»؛ لذلك فالأزمة لا تمسُّ نجاحه «لكنها مع ذلك تزعزع كل معنى
الحقيقة الخاص به من أقصاه إلى أقصاه».
٨٠
إن معنى الحقيقة هنا هو معنى «العالم» الذي تريد تلك الإنسانية أن
تحوِّله إلى عالم «العقل» الخاص بها، لكنَّ العلم الجديد يصرفها خارج السؤال
عنه باسم الرغبة في الموضوعية؛ ولذلك انتصب تقابل فجٌّ وغامض بين عالمين:
عالم الكائن (الذي تحرسه العلوم) وعالم العقل (الذي يشعر بأنه مقصَّى من
العلم الجديد). ومن ثمة صارت العلاقة بين العالمين «ملغزة أكثر فأكثر»،
٨١ ومن ثَمَّ أصبح العالم نفسه «مشكلًا»، ومن حيث هو مشكل يمس
العلاقة الجوهرية بين العقل والكائن، فهو «لغز كل الألغاز».
٨٢
يقع «مشكل العالم» إذن خارج نطاق علوم الطبيعة؛ لأنه يظل بالنسبة
إليها لغزًا. إنه علامة على «محنة» تعيشها «إنسانية» فلسفية هي تلك
التي قررت أن تحول تاريخها إلى «صراع من أجل معنى الإنسان».
٨٣ وهكذا فإن مشكل العالم لا يشير إلى الطبيعة بل إلى «معنى
الإنسان»: إن العالم هو توقيع الإنسان. وهكذا فالصراع على العالم لن
يكون سوى بين «إنسانيات» متنافسة من أجل الاستيلاء على «مشكل العالم»
وتوجيهه نحو «معنى الإنسان» الخاص بها. يقول هوسرل: «إن الصراعات
الحقيقية الوحيدة التي لها دلالة في عصرنا هي الصراعات ما بين إنسانية
قد انهارت بعدُ وأخرى ما تزال أصيلة، ولكن تكافح من أجل هذه الأصالة أو
من أجل أصالة جديدة.»
٨٤
ولكن لا نعجل في الحكم على طبيعة هذا «الصراع»: إنه ليس حربًا ضد
الشعوب الأخرى، بل هو كفاح روحي ضد الطابع «العرضي» لوجود الإنسانيات
على الأرض. كل إنسانية هي مهدَّدة من الداخل بأن تبقى مجرد «نمط
أنثروبولوجي» (وحسب هوسرل هذا هو وضع الصين مثلًا أو الهند، على خلاف أوروبا)
٨٥ من بين أنماط أخرى، يأتي ويذهب. ولن تكون فلسفتها (تلك
التي لا تعدو أن تكون بضاعة «العقل الكسول») غير «مكسب عرضي لإنسانية عرضية»؛
٨٦ ولذلك عليها أن تكافح من أجل إرساء «أصالة»
(
Bodenständigkeit) خاصة بها؛ أي طريقة في «البقاء على الأرض» بوصفه
«رسوخًا في التربة» الخاصة بها أي كينونة «لدى أهلها». ومع ذلك فإن
العلامة الحاسمة على أصالة إنسانية دون أخرى هو أن تفرض نفسها على
الإنسانيات الأخرى بوصفها «نموذجًا» روحيًّا: أن تدفع الإنسانيات
الأخرى للتشبُّه بها. وذلك هو الشكل الروحي الحقيقي من «السيادة». يقول
هوسرل: «أليس مشهد الأوْرَبة (
Europäisierung) لدى كل الإنسانيات
الأجنبية هو ينبئ في ذاته عن سيادة معنى مطلق، ينتمي إلى معنى العالم،
وليس إلى لا-معنى تاريخي لهذا العالم»؟
٨٧ ومن يقرأ كلام هوسرل في أصالته الألمانية سوف يلمح
الإيحاء في لفظ «السيادة» (
das Walten) إلى مزيج روحي صعب في «معنى
العالم» بين ممارسة «عنف» (
Gewalt) النموذج القومي وإظهار «رحمة»
(
Gnade walten) الإنسانية. وبهذا المعنى تحديدًا يصبح «التفلسف» الذي
يدافع عن هذه النزعة نحو «الأوربة» أو «التأورب» لدى بقية الإنسانية،
حسب هوسرل، مقامًا يجعل المتفلسفة على هذا النحو «موظفين لدى الإنسانية».
٨٨
•••
ضمن مقابلة أُجريت معه سنة ٢٠١٣م، وفي سياق سؤال عن إمكانية أن تكون
«الأزمة الحاضرة في كل جوانبها، شكل تعبير لمنظومة كاملة من التحكم
الموجه نحو حياتنا اليومية»، أجاب الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغمبن
قائلًا: «اليوم، أصبحت الأزمة أداة هيمنة؛ فهي تُستخدَم من أجل شرعنة
القرارات السياسية والاقتصادية التي تقوم في واقع الأمر بتجريد
المواطنين وحرمانهم من كل إمكانية للقرار.»
٨٩ لكنَّ أغمبن ينبِّه إلى أن الاستعمال المعاصر لمفهوم «الأزمة»
قد عطَّل فيه معناه الأصلي، والذي كان يربط الأزمة بالزمان. كانت الأزمة،
سواء بالمعنى الطبي (لحظة «قرار» أو «حكم» الطبيب بمسار العلاج حول
مريض ما) أو بالمعنى اللاهوتي (لحظة «نهاية الزمان» ومجيء «يوم
الدينونة» أو «يوم الدين»
le Jugement Dernier)، متعلقة بتوقيت محدد
ينبغي أن يتم فيه اتخاذ «القرار». لكنَّ الفهم المعاصر قد جرَّد الأزمة
من زمانيتها وحوَّلها إلى «حالة دائمة»؛ حيث توجد حالة من «عدم اليقين
الذي يمتد إلى ما لا نهاية». ومن ثم تم الفصل بين لحظة «الحكم» وبين
«فكرة الاعتزام» على اتخاذ القرار. صار الحديث عن الأزمة بمثابة سياسة
اللاقرار أو «عدم اليقين» الدائمة.
هذا التأكيد على أن الميزة الجديدة (ما بعد الحديثة) لمعنى «الأزمة»
هو في «ديمومتها» (
durability)، هو قد وجد تأييدًا سوسيولوجيًّا أضاف
سمة أخرى للأزمة ألا وهو تجذرها في الحياة اليومية للأفراد، وذلك في
كتاب زيغموند باومان (مع الباحث الإيطالي كارلو بوردوني) المنشور سنة
٢٠١٤م تحت عنوان
حالة الأزمة.
٩٠ تعني الأزمة هنا عكس معناها الأصلي في اليونانية: نعني
حالة «اللاقرار» (
Entscheidungslosigkeit) التي شخَّصها ياسبرز منذ ١٩٣١م،
بحيث يسود الشعور بنوع من «العيش في حالة أزمة دائمة».
٩١ وفي تدبير العالم المعاصر يعني «اللاقرار» حسب باومان مكر
«المراوغة» (
prevarication) و«التسويف» (
procrastination)
٩٢ بسبب حصول طلاق حادٍّ بين طرفي مفهوم «الدولة» الحديثة:
بين «السلطة» (
power) أو «القدرة على فعل الأشياء»
٩٣ وبين «السياسة» (
politics) أو «القدرة على اتخاذ القرارات»
٩٤ حول التوجه المناسب. ومن ثم فإن «أزمتنا الحاضرة — حسب
تعبير باومان — هي أزمة فاعلية، وإن كانت في النهاية أزمة سيادة إقليمية».
٩٥ ذلك أن المجتمعات المعولمة قد صارت محكومة بأن تواجه
«وحدها» حدود سيادتها. قال باومان: «نحن نشعر بأننا محكوم علينا
بالوحدة في مواجهة أخطار مشتركة.»
٩٦
وبعامة تشبه «حالة الأزمة» حسب باومان نوعًا من «الفترة بين حكمين» (
interregnum)
٩٧ وجد تعريفًا جيدًا لها في إحدى شذرات غرامشي تقول: «تتمثل
الأزمة على وجه الدقة في واقع أن القديم ما فتئ يموت والجديد لم يستطع
أن يولد، وفي هذه الفترة بين حكمين تظهر مجموعة كبيرة من الأعراض القاتلة.»
٩٨ و«الفترة بين حكمين» مفهوم من القانون الروماني يرتبط
بنوع من تعليق الأحكام (
justitium) بشكل مؤقت يشير باومان إلى أن أغمبن
قد أعاده إلى الخدمة في بحثه عن «الحالة الاستثنائية» سنة ٢٠٠٣م. ويقترح
باومان أن «نتعرف على الوضع اليوم على الكوكب بوصفه حالة من حالات
الفترة بين حكمين.»
٩٩ لقد فقد مفهوم «السيادة»، الذي قامت عليه الدولة الحديثة
كثيرًا من صلاحيته.
١٠٠ ودخلت المجتمعات في ضرب جديد من «أفق المخاطر» (
risk
horizon)؛ حيث لم تعد الأشياء تُعرف بثباتها بل بطابع «الاضمحلال
والتغيُّر الصادم».
١٠١ إن مفهوم «المخاطر» (
risk) نفسه قد تحول إلى معنى جديد
أكثر حدَّة هو «عدم اليقين»، ومن ثم تم الانتقال المخيف من مجرد «مجتمع
المخاطر» (
Risikogesellschaft) إلى «عالم اللايقين» أو «الأرض غير
الآمنة» (
Unsicherheitglobalschaft)،
١٠٢ حيث يسود الكرة الأرضية مشاكل معولمة مثل «التفاوت المؤسساتي»
١٠٣ ومعضلة تتعلق ﺑ «مستقبل المهاجرين»
١٠٤ ومدى «تحمُّل الكوكب»
١٠٥ … إلخ
إن التشخيص الأخير الذي لخَّصه زيجمونت باومان، هو الحديث عن أزمة
«سائلة» هي عبارة عن وصف سوسيولوجي للوضع «ما بعد الحديث» أو «الفائق»
ولكن بوصفه انتقالًا من «حداثة صلبة» (حيث تسود سردية كبرى مطمئنة
اسمها «التنوير») إلى «حداثة سائلة» حيث دخلنا حقبة «الأزمنة السائلة»
أو «العيش في عصر اللايقين».
١٠٦ ويتمثَّل الشعور «بعدم اليقين» في الانتقال الذي لا مرد له
من قطب «التقدم»؛ حيث ازدهرت «اليطوبيا» الحديثة (
Utopia)، كنوع من
التفاؤل الذي يمكن تقاسمه بشكل كوني، إلى «قطب الاستباق القائم على
الديستوبيا (
Dystopia)» السوداء لحالة «أزمة متواصلة»
١٠٧ إلى حد التحول إلى «زمن» مستقل بنفسه هو «زمن الأزمة»
(
time of crisis)؛
١٠٨ حيث إن الرأسمالية قد بلغت إلى «النتيجة الأكثر فتكًا
للانتصار العالمي للحداثة، ألا وهو الأزمة الحادة لصناعة التخلص من
«النفايات البشرية»».
١٠٩ وهو ما دفع باومان في كتابه الأخير «ريتروطوبيا» (
Retrotopia)
١١٠ إلى استشراف نوع من «الطوباوية» السائلة، طوباوية مناسبة
لأزمنة اللايقين، طوباوية حيث يسود «وباء الحنين» إلى «المثل العليا
للماضي» أكثر من التفكير في بناء «مستقبل أفضل»؛ حيث شخَّص باومان أربعة
أنواع من العودة الحنينية:
-
(١)
العودة إلى «الخوف العام» الذي وصفه
هوبز، حيث تخلَّت الدولة عن «الأمن» وصارت تعتاش على «انعدام الأمن».
-
(٢)
العودة إلى معجم «القبائل» والتقسيم القومي للناس إلى «نحن» و«هم».
-
(٣)
عودة «اللامساواة» بين الناس بوصفها وجهة نظر.
-
(٤)
العودة إلى «الرحم»
الهووي وظهور نرسيس خائف من «الآخرين» الذين صاروا مع اندلال «أزمة
المهاجرين» ينتصبون «أمام باب المنزل».
١١١
ولذلك يقول أغمبن: «يجب علينا أن نبدأ باستعادة المعنى الأصلي للفظة
«أزمة»، بوصفها لحظة الحكم والاختيار. ولا نستطيع أن نؤجِّل ذلك إلى
مستقبل غير محدد …» وهو موقف يمكن أن يؤهل الفكر المعاصر كي «يحقق
بديلًا لثقافة تظل في نفس الوقت إنسانية وحيوية؛ لأنها سوف تكمن في
حوار مع تاريخها الخاص في نفس الوقت الذي ستكتسب فيه حياة جديدة».
١١٢ لكن موضوع «القرار» عندئذ لا يجب أن يكون «الاقتصاد» بل
«الفعل الإنساني». قال كارل ياسبرز: «حين أبحث في الوضعية الروحية
للعصر، فأنا أريد أن أكون إنسانًا.»
١١٣ وماذا يعني أن يكون المرء إنسانًا في الأزمنة السائلة؟
يجيب باومان: «أن يكون له أمل ما»، مذكِّرًا بقولٍ ساقه إرنست بلوخ ذات
مرة عن الإنسان بأنه قبل أن يصبح «حيوانًا عاقلًا» قد كان «مخلوق
الأمل» (
hope creature).
١١٤
لكن بناء مفهوم مناسب عن الأمل إنما يعني أننا بدأنا بعدُ في استشراف
أفق معنى يجب أن يقع «بعد الأزمة»،
١١٥ في ما يسميه آلان توران «الوضعية ما بعد الاجتماعية»؛
١١٦ حيث «لم يعد أحد يستطيع أن يتأكد من مراقبة العالم
الاقتصادي المعولَم».
١١٧ ومن ثم يجب الانخراط في «مشروع بناء علاقات اجتماعية جديدة
ومؤسسات جديدة».
١١٨ ومن ثم فإن الأزمة ليست حادثًا يمكن إصلاحه والعودة إلى ما
قبله، بل هي تغيُّر عميق ناجم عن رأسمالية مالية متوحشة، أدى حسب تعبير
توران إلى «نهاية المجتمعات»
١١٩ بالمعنى الحديث، ومعها كل مؤسسات الأسرة والمدرسة والمدينة
والسياسة نفسها.
وهذا يعني أن البحث عن حل للأزمة لم يعد يمكن أن يتم بشكل «اجتماعي»
بل بشكل «إتيقي»، أي «خارج التنظيم الاجتماعي، حيث يكون محتواه كونيًّا
ويفرض نفسه على المؤسسات».
١٢٠ إن إعادة بناء «الإنسان»/الفرد/الشخص هو الطريق المناسب
لتغيير «الوضعية ما بعد الاجتماعية» التي سقط فيها بسبب أزمة المنظومة.
لكنَّ ذلك لا يعني الإنسان/السلعة أو الإنسان/الحيوان الهووي، بل
الإنسان/الذات. يجب رفع «الذات ضد الهوية».
١٢١ لا يمكن مقاومة الإنسان/السلعة الذي اخترعه مجتمع الربح
المتوحش بالنكوص إلى الإنسان/الهوية الذي اخترعته الجماعة المضادة
للحداثة. إن الأهم في «الذات» ليس «الهوية» بل «الحقوق» التي يمكن لأي
فرد أن يدَّعيها بشكل كوني.
١٢٢
يبدو أنه لم يعد يمكن الفصل بين أزمة العالم الحديث (العولمة أو
الرأسمالية ما بعد الصناعية) وبين أزمة الهوية الحديثة (الذات المفككة
بوصفها وعيًا نظريًّا أو سرديًّا بتلك الأزمة، وليس مجرد «مراهقة» طبيعية)،
١٢٣ ومن ثَمَّ لم يعد يمكن التفكير «الأحادي» في معنى واحد
للأزمة (محصورة في معجم دون غيره: هووي، ديني، اقتصادي، «جندري» …) بل
نحن صرنا أمام أزمة «مركَّبة» (عابرة للمعاجم الفكرية ولكن أيضًا للشعوب
والثقافات والهويات و«الجنادر») تتطلَّب ما سمَّاه إدغار موران «تفكيرًا مركَّبًا»
١٢٤ حيث تكون «لحظات الأزمة» هي نفسها «لحظات القرار».
١٢٥ أما الخطاطة العامة الأكثر إفادة فهي أن الأزمة
الاقتصادية أو المالية (أزمة ١٩٢٩م، ١٩٧٣م، ٢٠٠٠م، ٢٠٠٨م …) هي في كل مرة
تفرغ العالم من المعنى الإنساني (انهيار نوع من المجتمعات) فتؤدي إلى
أزمة هووية (نهاية نوع من الإنسان أو من الانتماء). وهكذا نبصر أن نواة
الأزمة «المعاصرة» لم تعد ناجمة عن «القيم» التي تُبنى عليها مشاعر
الناس بأنفسهم (مثل الهوية أو الدين أو الجماعة أو التقدم أو الفردانية
…) فهذه كلها، حسب توصيف هابرماس، مفاعيل مشتقة من الأثر القاهر الذي
تمارسه «المنظومة» (جهاز المال والسلطة التي تشرعنه) على «عالم الحياة»
(حيث يمارس الناس فعلهم التواصلي من أجل التفاهم)، بل هي ناتجة عن تصدع
يقع خارج أقدارهم الهووية (الدينية أو الطائفية أو اللغوية …). إن أزمة
العالم المعاصر هي تصدُّع في نموذج المجتمع الحديث، وبالتالي في نموذج
الهوية الحديثة، ومن ثم أن استشراف طريقة «الخروج» من «عصر الأزمة» لا
يمكن أن تتم بالنكوص إلى أي معجم «هووي» خاص بهذا الشعب أو المجتمع أو
ذاك، بل فقط بإعادة بناء علاقات «حيوية» مع نموذج اجتماعي «ما بعد
هووي» وبالتالي «بعد-ليبرالي». أما من وجهة نظر ثقافتنا فلا يمكن أن
يكون هذا النوع من إعادة البناء للذات مجرد تطويع «ما بعد كولونيالي»
لمفردات تنويرية عن «إنسان» كوني لا وجود له، يدَّعي أنه «يوجد لأنه
يفكر» دون أي محتوى آخر لوجوده، بل ينبغي أن تكون ممارسة
«ديكولونيالية» (
decolonial) تحرر شكل السكن في العالم من أي راسب من
رواسب الحقبة «الكولونيالية» بما فيها مفردات التفكير «الحداثوي» نفسه
(نعني السردية الكبرى للتنوير بوصفه وصفةَ تقدمٍ جاهزة للشعوب غير
الغربية)، وتعيد للبشر، لكل «آخر» غير غربي، حقه في أن يعلن: «أنا أفكر
حيثما أكون».
١٢٦ وعندئذٍ علينا أن نقرأ «حالة الأزمة» بوصفها هي «الفرق الكولونيالي»
١٢٧ أو «الفرق الإمبراطوري» الذي كشف «الوجه الأظلم من
الحداثة»، وبالتالي أعاد «حرية الاختيار» للشعوب «الأخرى».
١٢٨
إن «العولمة» تنطوي على إعادة تفكير مثيرة في معنى نهاية «الغرب» بما
هو «غاية» معيارية للإنسانية بسبب ما صار يعانيه من «عمى أخلاقي»
١٢٩ وتحوله المتسارع إلى سردية ما بعد حديثة من بين سرديات
أخرى. لقد تم «ترييف أوروبا»
١٣٠ حسب تعبير غادمر أو «نزع المركزية» عنها بطريقة رائعة لكن
صدى ذلك قد أخذ وقته للوصول إلى غير الغربيين. وما «أزمة فيروس
كورونا المستجد» إلا خير شاهد على «نهاية المجتمعات» الحديثة من حيث
صلاحيتها التي شخَّصها آلان توران، ولكن أيضًا على نهاية نوع من
«الإنسان»: الإنسان الديكارتي/الكوجيطو/بمثابة السيد على الطبيعة/
المالك لها/الفرد الليبرالي/الكولونيالي … وذلك في انتظار تشكُّل ملامح
وضعية «ما بعد إنسانية» (حيث لن يتعلق الأمر بالتفتيش الأخلاقي عن
الآخر «الإنساني» المتردم تحت تراكم الهوهو «اللاإنساني» كما وعدنا
ليفناس مثلًا،
١٣١ بل بإقامة أسئلة مناسبة، «غير هووية»، عن طبيعة اللقاء
القادم على نحو مخيف بين الكائن «الإنساني» والكيانات «اللاإنسانية»،
التي هي خليط مرعب من «الفيروسات» «والروبوتات»، الذي أخذ يُطل برأسه
من عصور المستقبل «البيوتكنولوجي»، ويهدد «مستقبل الطبيعة البشرية»
١٣٢ كما نعرفها)؛ رب وضعية يبدو أنها قادرة على تحجيم دور
الأزمة الهيكلية للرأسمالية وفتح العين المعاصرة على أزمات «ما بعد
رأسمالية»، من نوع أكثر خطورة وأشد رعبًا من قضايا المال والسلطة
والهوية والضمير؛ إنها أزمة سوف تنقلنا من «معارك الجماعة إلى حروب
المناعة» التي تصيب «شكل الحياة» على الأرض نفسها وتهددنا بمجرد «الانقراض».
١٣٣ ثم يكون علينا أن نسأل عندئذ: «هل ما زال المستقبل يحتاج
إلينا؟»
١٣٤