تقديم: الحداثة السياسية وبراديغم الحرب
يقول شارل تيلي، أحد أكبر المنظِّرين في علم الاجتماع التاريخي الذين
أرَّخوا لنشأة الدولة الحديثة وفرضوا على النقاش أطروحة مثيرة، في كتابه
الأساسي
الإكراه، رأس المال، والدولة الأوروبية ٩٩٠–١٩٩٠م: «إن الحرب
صنعت الدولة والدولة صنعت الحرب».
١ طبعًا، إن الحرب تُقال على معانٍ عدة: قبل سنة ١٦٠٠م، كانت
الحرب تدور بوصفها «تقوية للقانون» و«أداة لإقامة العدل»،
٢ ثم صارت «مهنة عسكرية» تحت إشراف الدولة في ظل «قانون
دولي» (١٦٠٠–١٨١٥م)،
٣ ثم أصبحت «سياسة دولة» تعمل بوصفها «مؤسسة قانونية»
(١٨١٥–١٩١٩م)،
٤ وأخيرًا «ولادة جديدة للحرب العادلة»
(١٩١٩م–…).
٥
وبشكل صوري علينا أن نفهم من معنى «الحرب» هنا: «أن الحرب تُحيل على
عنف مميت، هجومي و/أو دفاعي، بين الكيانات السياسية، مشرعَن ومنظم على
نحو عمومي».
٦
تقوم أطروحة تيلي المشار إليها على أن شرط إمكان نشأة «الدولة
القومية» لم يكن «التجانس الثقافي» بين السكان بقدر ما كان «الانقسام
السياسي» و«تقسيم» القارة الأوروبية إلى «أقاليم حصرية يقصي بعضها
البعض بشكل متبادل» في جو يسوده النزاع على «الأرض»،
٧ وظهور تحالفات جديدة في لعبة السلطة ونوع جديد من
«التعبئة الاجتماعية»
٨ للسكان؛ حيث نشأ معنى جديد لماهية «الدولة» (
stateness)
يقوم على أن «صناعة الدولة» (
state-making) تتماهى مع «صناعة الحرب»
(
war-making).
رب أطروحة قد صارت لدى الباحثين بمثابة براديغم تفسير، تُذكر في سياق
مساءلة الحداثة السياسية بوصفها قد تكوَّنت في سياق ضرب من «الثورة العسكرية»،
٩ وصارت تحمل لدى الباحثين اسم «أطروحة تيلي» وأثارت جدلًا
نقديًّا من ناحية قابليتها أو عدم قابليتها للتطبيق ولا سيما خارج أوروبا.
١٠ وهي أطروحة تنخرط في تقليد بحث طويل يعود إلى ماكس فيبر
ويجد تعبيرًا قويًّا له لدى باحثين ومؤرخين آخرين معاصرين مثل المؤرخ
الألماني أطو هنتزو (
Otto Hintze).
١١
إن الإشكالي في هذا الطرح ليس فقط أن بعض الحروب لا تصنع دولًا،
١٢ بل إنه يدافع عن تصور «حربي» (
bellicist) لماهية الدولة؛
ولذلك صار السؤال يدور في نهاية الأمر حول مدى صلاحية هذا الطرح: «هل
الحرب تصنع الدول حقًّا؟»
١٣ أم أن الباحث الراهن يجدر به أن يفكر في نشأة الدولة
الحديثة، ولا سيما القومية منها، «ما بعد أطروحة تيلي»
١٤ على نحو يمكِّنه من «نزع الأسطرة عن سلام وستفاليا»؟
١٥ وخاصة مدى فائدة البراديغم الذي عرضه تيلي من حيث مساعدته
على فهم تكوُّن الدول القومية في الشرق الأوسط
١٦ أو آسيا
١٧ أو أمريكا اللاتينية.
١٨
ولكن كيف يجدر بنا أن نفهم هذه الأطروحة: أن الحرب تصنع الدولة وأن
الدولة تصنع الحرب؟
يبدو أننا أمام طرح مركَّب إشكالي وليس أمام بداهة نظرية. فالجزء الأول
منها (أن الحرب تصنع الدولة) هو تشخيص مناسب لشكل الدولة الذي عرضه
هوبز في كتاب التنين: فالسلطة السيادية لا منبع لها سوى «وضع الحرب»
الدينية (وهو بالفعل وضع أوروبا في القرن السادس عشر إبان «حرب
الثلاثين» ١٦١٨–١٦٤٨م) التي هي حرب طائفية ضد كثرة حيَّة بلا أي وجود
سياسي، وهذه الدولة «المطلقة» هي مجرد حلٍّ سلمي «حديث» لمشكل غير حديث
طرحته القرون الوسطى، وهو ليس سياسيًّا إلا عرضًا فهو طائفي بالأساس.
أما الجزء الثاني من الأطروحة (أن الدول تصنع الحرب) فهو تشخيص لما
سيُطلَق عليه بعد الثورة الفرنسية (١٧٨٩م) اسم «الدولة-الأمة». إن الحرب
(الدينية خاصة) هي التي تصنع الحاجة إلى ظهور الدولة الوطنية، لكنَّ
الدولة (الأمة أو ذات النزعة القومية خاصة) هي التي تصنع الحاجة إلى
الحرب دفاعًا عن هويتها. وهذا يعني، على وجه الدقة، أن «النزعات القومية»
(nationalisms) هي ظاهرة يتم اختراعها بشكل هووي، وقد تم ذلك في القرن
التاسع عشر، بوصفها ردة فعل «شعبية» ضد حروب «ثورية» بالمعنى الفرنسي،
وليست نابعة من مفهوم «القومية» السياسية كما تم تصوُّرها في معاهدة
وستفاليا سنة ١٦٤٨م.
ومن هنا علينا أن نسأل: كيف انخرطت «الدولة المطلقة» الأوروبية، التي
تم تصميمها بعد ١٦٤٨م كي يتم الانتقال السلمي من «جمهور» الطائفة إلى
«الشعب» القانوني، في سيرورة ما بعد الثورة الفرنسية (١٧٨٩م) الرامية
إلى تنصيب جهاز «الدولة-الأمة» التي تخوض حروبًا «ثورية» ضد الشعوب
المستقلة الأخرى؟ ومن ثمة: هل أن حروب الدولة القومية هي بالضرورة حروب
تحركها «نزعة قومية»؟ أم أن «النزعة القومية» (خوض حرب هووية باسم
خصوصية أو تفوق روح شعب ما دفاعًا عن «أمة عرقية أو إثنية، ثقافية أو
دينية) يمكن أن تكون «ضد الأمة» (جماعة المواطنين)؟
١٩ وإلى أي مدى يمكن لأمة أن توجد دون دولة؟
٢٠
(١) «سلام وستفاليا» أو من «الحروب الدينية» إلى «دول السيادة المطلقة»: نظام «العالم
الحديث»
في كتابه
الحرب ونشأة الدولة٢١ يشير بروس بورتر إلى ما يسمِّيه «مفارقة الحرب» قائلًا: «إن
الحرب، الأكثر عنفًا من كل الأعمال، هي أيضًا الأكثر تنظيمًا.»
٢٢ إن «النظام» إذن هو ما يربط بين «الحرب» و«الدولة» الحديثة
بعامة. إن الحرب في الأزمنة الحديثة «ظاهرة منظَّمة، و
منظِّمة».
٢٣ ولذلك تبدو عملية «التحديث» نفسها بمثابة إحدى «مفارقات
الحرب»، وعلينا أن نتخلى عن الربط الشائع بين الحداثة و«التقدم
الأخلاقي»؛ إذ لا يمكن أن يعني
التحديث هنا سوى «حركة الانتقال من
أشكال الحكم الوسيطة، التقليدية، غير المركزية والشخصية، إلى أشكال حكم
بيروقراطية، معقلَنة، مركزية، وغير شخصية».
٢٤ لكن يبدو أن براديغم الانتقال لم يكن شيئًا آخر غير
«الحرب» في معان عدة.
إنه قلما توجد دولة «حديثة» لا تدين بنشأتها إلى «حرب أهلية أو دولية».
٢٥ وهذا يعني أن ما تسمى «أزمنة حديثة» هي لا تعدو أن تكون
حقبة حروب أهلية مستمرة تمتد على خمسة قرون، تمخَّض عنها تشكُّل «الدولة»
الحديثة في أوروبا تحديدًا، أما في أغلب إفريقيا أو الشرق الأوسط أو
آسيا مثلًا فإن «الدولة تظل إلى حدٍّ كبير ظاهرة مستوردة، مجموعة من
المؤسسات وطريقة في السياسة التنظيمية لم يتم القبول بها أبدًا بشكل
كامل من قِبل المجتمعات التقليدية».
٢٦
هذا التنصيص على الطابع «الحديث» ومن ثم «الأوروبي» لظاهرة «الدولة»
من جهة أنَّ تكوُّن الدولة قد كان علامة مخصوصة على الانتقال من سياسة
القرون الوسطى إلى سياسة الحداثة،
٢٧ هو قرار منهجي ذو دلالة حاسمة بالنسبة إلى السؤال عن
طبيعة العلاقة بين «الحرب والدولة القومية». إن شارل تيلي مثلًا (وهو
باحث سوسيولوجي كبير في القوميات) يعتمد مقاربة عسكرية لظهور مختلف
الدول في التاريخ، لكنه لا يقف عند خصوصية «الدولة القومية» بل يؤرخ
لشكل «الدولة» بوصفه ظاهرة عابرة للعصور من الشرق الأوسط القديم إلى اليوم.
٢٨ ولذلك فإن ما يؤكد عليه بروس بورتر ليس أن الحرب سبب تكون
الدولة في أي عصر، بل أن الدور الذي تؤديه الحرب في تغيير بنية الدولة
سواء «بعد تكوُّنها الأول» (الخروج المفترض من «الحروب الأهلية») أو في
أطوارها اللاحقة (خوض الحروب النظامية أو القومية)، هو دور حاسم.
إلا أنه علينا أن نسأل من جهة أخرى، ولكن في ضوء دور الحرب دائمًا:
«لماذا يكون من شأن بعض الدول أن تصبح ملكيات مطلقة، في حين أن غيرها
تكون ملكيات دستورية، والبعض الآخر جمهوريات؟ كيف يكون من شأن دول
سلالات حاكمة (
dynastic states) أن تصبح دولًا-قومية (
nation-states)؟»
٢٩
وفي تقدير بروس بورتر عرفت الدولة الحديثة بما هي «شكل تنظيمي» لم
تعرفه القرون الوسطى ما يسميه ثلاثة أنواع من «الحرب المحوِّلة»
(
transformative war) التي أعادت تشكيل بنيتها السياسية، هي عبارة عن
ثلاثة «أطوار من الحداثة» السياسية:
«إن أولى هذه الحقب من الحرب المحوِّلة (
transformative) هي فترة
الحروب الدينية المرتبطة بالإصلاح البروتستانتي، والتي بلغت نهايتها في
معاهدة وستفاليا للسلام وانبثاق الدول الأولى التي تتصف بسيادة علمانية
في أوروبا. … وإن حروب الثورة ونابليون (١٧٩٢–١٨١٥م) قد ولَّدت
الانتقال إلى مرحلة ثانية في الحداثة السياسية، تتميز بنشأة
الدولة-الأمة (
the nation-state) وانتشارها بوصفها وحدة سياسية مهيمنة في
أوروبا — شكل من الدولة الحديثة — حيث كان يوجد تماهٍ تام بين الأمة
الثقافية والدولة السياسية، وحيث أصبحت الشرعية السياسية مرتبطة
بالسيادة الشعبية. وقد امتلأ القرن التاسع عشر بنزاعات قومية لدى
السكان (
endemic)، حيث كانت الشعوب تسعى إلى تحرير نفسها من
الإمبراطوريات الكبرى وإلى خلق دول قومية جديدة. أما الحقبة الثالثة من
الحرب المحوِّلة في التاريخ الأوروبي فهي قد بدأت تقريبًا بعد قرن مرَّ على
[معركة] واترلو (
Waterloo) وكانت ملحقة بشكل رئيسي بالحربين العالميتين
الأولى والثانية. إن الحرب المصنَّعة، … قد دشنت مرحلة جديدة في
الحداثة، هي صعود الدولة
الجمعانية (
collectiviste) … كانت الحرب
العالمية الأولى عاملًا حاسمًا في نشأة الدول الكليانية (
totalitarian
states)، وبالأساس ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي، اللذين يمكن
النظر إليهما بوصفهما تحولات منحرفة للدولة الجمعانية وتكيفات سيئة مع
مطالب الحرب المصنعة.»
٣٠
علينا أن نقرأ هذه الخطاطة التاريخية بوصفها توزيعًا إشكاليًّا يتدرج
في تركيب العلاقة التي تهمنا هنا بين «الحرب والدولة القومية» بوصفها
خيطًا هاديًا لاستجلاء ملامح «تَكوُّن نظام العالم الحديث» بما هو حقبة
تاريخية متميزة عن حقبة القرون الوسطى:
-
(أ)
تَكوُّن «الدولة» الحديثة من رحم «الحروب الدينية» في القرنين
السادس عشر والسابع عشر (وهي حقبة «الدولة المطلقة» وسيادة «النظام
الملكي المستنير
monarchy Enlightenment») (١٦٤٨–١٧٨٩م).
٣١
-
(ب)
استقرار براديغم «الدولة-الأمة» بعد الحروب «العلمانية» باسم
الثورة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر
٣٢ (تَحوُّل الحداثة إلى سلطة كولونيالية على بقية العالم
واندلاع «نزاع القوميات» ما بين ١٧٨٩م و١٩١٨م).
-
(جـ)
نشأة الدول الكليانية
٣٣ وأزمة براديغم «الدولة-الأمة» في القرن العشرين
٣٤ (وقوع الدولة-الأمة تحت وطأة الحروب العالمية)
٣٥ ودخولها في
«كوكبة ما بعد-قومية»
٣٦ في ظل عودة عنيفة لنزاعات الاعتراف من جهة، ونبش
«ديكولونيالي» عن «الوجه المظلم من الحداثة»،
٣٧ من جهة أخرى (من ١٩١٨م إلى اليوم).
يبدو أنَّ ما يتحوَّل في كل مرة ليس مفهوم «الدولة» فقط بل دلالة «الحرب»
أيضًا. إنَّ طريقة تنزيل «البشر» داخل القالب «السياسي» الذي يفرض عليهم
نمطًا محددًا من الإقامة في «الإقليم» قد عرفت أطوارًا مختلفة من القرن
السادس عشر إلى اليوم. لكن ذلك قد ارتبط بطريقة مركَّبة وبنيوية بتغيُّرات
عميقة في دلالة مفهوم «الحرب» التي تخوضها الدول باسم «السيادة
المطلقة» التي تتمتع بها داخل حدودها. ونحن سوف نكتفي في هذا البحث
بمسألة تكوُّن «نظام العالم الحديث» من زاوية العلاقة بين «الحرب
والدولة القومية» تحديدًا.
إن مصطلح «الدولة القومية» أو «الدولة-الأمة» (
nation-state)
مركَّب من مفهومين لهما تاريخ نظري مختلف: ذلك أن السؤال «ما هي الدولة؟»
الذي يبدو مبحثًا «قانونيًّا» مناسبًا كي يُطرَح في القرن السابع عشر،
مع توماس هوبز مثلًا، ليس له نفس عمر السؤال «ما هي الأمة؟» الذي يبدو
هاجسًا «هوويًّا» متأخرًا تاريخيًّا، فهو ينتمي إلى أدبيات القرن
التاسع عشر، من فيتشه
(«ما هو الشعب؟»)
٣٨ إلى إرنست رينان
(«ما هي الأمة؟»)
٣٩
لم يعد يجدر بالباحث أن يخوض سجال القرن التاسع عشر «ما هي الأمة؟»،
فهذا سؤال أصبح جانبيًّا بالنسبة إلى جيلنا. إن السؤال الجديد هو
بالأحرى: «متى يكون أمة؟» (
when is a nation?).
٤٠ ولكن ما الفرق بينهما؟ إنه فرق يكمن في طبيعة الإجابة
عن كل منهما. إذْ سوف نجد أنفسنا أمام وجهتين إشكاليتين مختلفتين: وجهة
يتبنَّاها «القوميون» أنفسهم، تحرِّكها «نزعة أصلانية» (
Primordialism)
تعتبر «الأمة» ظاهرة طبيعية وعضوية تجد أساسها في «اللغة» و«الدين»
و«الأرض»، وتفترض أن الأمم يمكن أن تظهر في أي عصر، وهذا البراديغم
«الأصلاني» فكرة طوَّرها الرومانسيون الألمان (مثل هردر)، إلا أنَّ جذورها
تمتد إلى العصور ما قبل الحديثة.
٤١ أما الوجهة الإشكالية الأخرى فهي «نزعة بنائية»
(
constructivism) تقوم على الافتراض بأن «الأمة القومية» مثلها مثل
«النزعة القومية» هي «إنتاج حديث» أساسًا لم تعرفها الثقافات السابقة.
٤٢
وعلينا أن نسأل عندئذ عن طبيعة هذا اللقاء المركَّب بين «الدولة»
و«الأمة»، بين مبحثٍ قانوني يهم شكل الحكم وإشكالٍ هووي يهم علاقة
انتماء الناس إلى سردية تأسيسية خاصة عن أنفسهم. ولكن خاصة: هل من
الضروري التسليم بأن تَكوُّن «الدولة» لدى شعب ما هو رهين نشأة الشعور
بالانتماء إلى نفسه بوصفه «أمة قومية»؟ أم أن الدولة هي ظاهرة «حديثة»
تشكَّلت ملامحها في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا، نتجت
بالتحديد عن سلسلة من الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت
(المعروفة باسم حرب الثلاثين ١٦١٨–١٦٤٨م، …) ليس لها علاقة ضرورية
بفكرة «الأمة القومية» التي لن تتبلور مقوماتها في التاريخ الحديث إلا
في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، نعني بعد
الثورة الفرنسية (١٧٨٩م) ونتيجة عميقة لها (بدءًا من ١٨٣٠م)؟
لا يمكن إذن أن نفهم طبيعة العلاقة بين الحرب والدولة القومية إلا
متى أرَّخنا قبل ذلك بشكلٍ مناسبٍ للسياق الذي تكوَّنت فيه ظاهرة الدولة
الحديثة نفسها قبل أن تصبح قومية. وهو بالتحديد سياق الخروج من الحروب
الأهلية في القرن السابع عشر (بعد معاهدة وستفاليا سنة ١٦٤٨م) ونجاح
الأوروبيين في تشكيل «نظام عالمي» مؤسَّس على «سيادة» الدولة وحدها
مستقلة بشكل «مطلق» عن أي سلطة من نوع آخر، وخاصة من طبيعة لاهوتية.
كل ما نسميه «دولة حديثة» أو «دولة سيادية» هو لا يعدو أن يكون دولة
«سلام وستفاليا»،
٤٣ السلام في معنى محدد جدًّا، هو الخروج من الحرب
الدينية.
ولكن لماذا نحتاج هنا إلى العودة إلى الحروب الدينية في القرن السابع
عشر وهي قد وقعت قبل ظهور الدولة القومية بما هي كذلك في القرن التاسع
عشر؟
يبدو أن السبب الرئيسي هو طبيعة علاقة الحداثة بالحرب من جهة كونها
تفضي رأسًا إلى تشكل الظاهرة الحديثة للحكم أو للسلطة التي نسمِّيها
«الدولة» في معنى محدد هو «السلطة السيادية» بإطلاق. وهذا يفترض لدينا
أن مفهوم «الدولة» قد نشأ على وجه الدقة في سياق محدد جدًّا ألا وهو
البحث عن طريقة لإحلال «السلام» بين أعداء يخوضون «حروبًا دينية»، وليس
أي حروب أخرى. وقد كان ظهور حركة الإصلاح ثم ظهور الحركات المضادة
للإصلاح بمثابة القادح التاريخي لهذا التسارع الذي أفضى إلى تكون نظام
عالمي جديد قائم على «منظومة دولية» (a state system) وليس على «شأن
عام مسيحي» (res publica Christiana):
يقول أحد المؤرخين: «وعلى الجملة كان الإصلاح فعلًا رئيسيًّا على
مسرح تاريخ العالم، وليس مجرد نزاع ديني محلي وقع في أوروبا في القرنين
السادس عشر والسابع عشر. فإن حروب الإصلاح ومناهضة الإصلاح قد أعادت
تشكيل (
reframed) أوروبا بوصفها منظومة دولية عوضًا عن «شأن عام مسيحي»
ومنحت دولها فصلًا حاسمًا بشكلٍ فريدٍ بين الكنيسة والدولة. هذه الفكرة
قد تم تكريسها بوصفها المبدأ المركزي في الشئون الجارية بين الدول
(
interstate) وفي القانون الدولي في معاهدة
وستفاليا للسلام (١٦٤٨م).»
٤٤
ما يهمنا هنا هو أن ظاهرة «الدولة» هي ثمرة جهد للسلام ظل مستحيلًا
في ظل ثقافة دينية. ومن جهة فلسفية علينا المجازفة بالقول إن «الحرب
الدينية» هي براديغم الحرب بإطلاقٍ؛ وذلك لأن العداوة الدينية هي
النموذج الأقصى من العداوة، تلك التي تمتلك شرعنة داخلية لنفسها ترقى
إلى التقديس لا يمكن لأي معجم خارجي عنها أن يبطلها. ومن ثم فإن
التصالح السلمي بين المتحاربين الدينيين لا يمكن أن يتحقق أبدًا ما دام
كل طرف منهم يستمر في الاعتقاد بأنه على حق، أو أن قضيته مقدسة، أو
يمتلك تبريرات دينية لا يمكن مراجعتها. من أجل ذلك كان ظهور «الدولة»
الحديثة بمثابة حل إجرائي ينقل مفهوم «الحرب» من نطاق الدين (حيث لا
يمكن مراجعة المعتقدات) إلى معجم غير ديني (حيث يمكن التفاوض حول قواعد
الاشتباك). كان ظهور الدولة الحديثة بمثابة حل سلمي لحرب دينية، وليس
انتصارًا سياسيًّا لطرفٍ على آخر. وبهذا المعنى فقط كانت الحروب الدينية
قد فرضت «إعادة صياغة» للفضاء السياسي على نحو أدَّى إلى تَكوُّن ظاهرة
«الدولة». فالدولة بهذا المعنى هي شكل الحكم السلمي الذي ينقل السياسة
من نطاق «الشأن العام المسيحي» (الذي كان يزوِّد الأعداء الدينيين بنمط
شرعنة الحرب وقيم تبريرها من الداخل) إلى أفق «القانون الطبيعي» (حيث
يمكن تأسيس نمط من «السيادة» الخاصة بكل دولة على حدة، لا تدين بسلطتها
إلا إلى نفسها بإطلاق).
«إن التسوية الكبرى [في معاهدة وستفاليا] قد حملت معها سلمًا طائفيًّا
إلى ألمانيا وأوروبا، ولكن ليس عبر انتصار فرقة دينية على الفرق الأخرى
بل برفع السلطات العلمانية إلى رتبة السلطة شبه المطلقة على السكان
(ومن ثم، وربما على نحو مشئوم، دفن المثل الأعلى الإقطاعي عن ملكيَّة
توافقية)، في اللحظة التي ترفض فيها الدعوات إلى سلطة دينية دولية. هذا
الانتقال من «الكومنوالث المسيحي» نحو نظام عالمي جديد من التنانين
المتنافسة قد كان له صلة كبيرة بأفكار الإصلاح البروتستانتي وأحداثه.»
٤٥
تبدو الحداثة السياسية وكأنها حل لمشكل غير حديث (الحروب الدينية)
لكن في مقابل ثمن مرعب (مبدأ السيادة المطلقة الذي تأسَّست عليه دولة
«الحكم المطلق»). بذلك كان جوهر الحداثة هو اقتراح دولة «علمانية» نقلت
نواة السلطة من الروحي إلى الزمني بلا رجعة. إن «السلام» في معاهدة
وستفاليا لم يكن يعني في واقع الأمر سوى علمنة السلطة من خلال بناء
«سيادة» مطلقة لا تدين بنفسها إلى أي مرجعية خارجها. لكن وثائق
المعاهدة كما أعدَّها المتخاصمون الدينيون في القرن السابع عشر لم تذكر
مصطلح «السيادة» (
sovereignty)، ربما غير الموجود في اللاتينية، بل كان
يتحدث عن «السلطان الأعظم» (
supreme dominion) أو «التفوق»
(
superiority)، وذلك في نطاق المعجم الديني السائد تحت هذا الشعار الذي
استهلُّوا به المعاهدة: «لتكن سلمًا مسيحيًّا»؛ ولذلك أُطلق عليها اسم
«السلام المسيحي الأخير.»
٤٦
يقول ميكائيل مان، أحد كبار الباحثين في السوسيولوجيا التاريخية
المعاصرين: «بعد حروب دينية-سياسية مرعبة، نجحت كل تلك القوى
البروتستانتية، بالإضافة إلى فرنسا الكاثوليكية المناهضة للهيمنة
الإسبانية، في إجبار القوى الكاثوليكية الجنوبية والمركزية على
الاعتراف بالتقسيم السياسي والديني والاقتصادي ضمن سلام وستفاليا، سنة
١٦٤٨م. «كما يكون الحاكم، يكون الدين» (
Cuius regio, eius religio) مبدأ
قد تم توكيده، وعلى هذا النحو بقي الأمر. وإن خارطة أوروبا التي رُسمت
سنة ١٦٤٨م قد ظلت على حالها لم تتغير إلى اليوم؛ لم تظهر أي قوة
ديناميكية من داخل المسيحية لتغيير الأمر؛ العلامة الأكثر وضوحًا على
انهيار المسيحية وبزوغ مجتمع علماني.»
٤٧
في هذا السياق صار ممكنًا تَكوُّن «الدولة القومية»، ذلك النوع من
الدولة التي تخلَّت عن أي مرجعية «متعالية» لشرعنة سيادتها، نعني احتكار
الاستعمال الشرعي للعنف، واقتصرت على «ولادة» أو «نسل»
(
natio في
لاتينية ١١٦٠م) الأجسام البشرية الحية في نطاق «أمة»
(
nation) طبيعية،
كما يمكن تصوُّرها في ظل براديغم «الطبيعة البشرية»، نعني وفق مقومات
«الجسم البشري» المحكوم معزولًا إلا عن مجرد الحياة: «الولادة»
و«الإقليم» و«السلطة القانونية» التي تتمثَّل حسب جيورجيو أغمبن في تسجيل
الحياة العارية بوصفها الموضوع الجديد للسياسة. وهو حدث في تاريخ
السلطة السيادية يجد لحظة أوْجِه المرعبة في الدولة-الأمة التي انبثقت
عن «الثورة الفرنسية»:
«هذه الحياة العارية الطبيعية التي كانت في ظل النظام القديم بلا
دلالة سياسية وتنتمي إلى الرب بوصفها حياة المخلوق، والتي كانت في
العالم الكلاسيكي تتميز بشكلٍ واضحٍ، بما هي
zôê، عن الحياة السياسية
(
bios)، هي تنبثق من هنا فصاعدًا إلى الصدارة في بنية الدولة، وتصبح
الأساس الأرضي لمشروعيتها وسيادتها.»
٤٨
(٢) «الحرب صنعت الدولة»: فرضية هوبز أو من «الجمهور» إلى «الشعب»
في كتابه
مولد التنين: بناء الدول والأنظمة في أوروبا القرون الوسطى والحداثة المبكرة٤٩ يؤكد توماس إرتمان، من جامعة هارفارد، أن «بناء الدولة» في
أوروبا في القرن السابع عشر قد ظل نموذجًا لفهم كيفية بناء الدول إلى
نهاية القرن العشرين الذي شهد ظهور عدة «أمم جديدة» (
new nations) بعد
تفكك «الإمبراطوريات الاستعمارية».
٥٠ إن الطريف هنا هو وصف «بناء دولة» (
statebuilding) بوصفه
يشير رأسًا إلى «ولادة تنين» (
birth on a Leviathan). وهو ما يجمعه
إرتمان في شخصية «الحاكم المطلق»: «في ظل نظام الحكم المطلق، يقوم
الحاكم بتوحيد السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية كلتيهما في شخصه.»
٥١
في هذا السياق بالتحديد يجدر بنا أن ننزِّل قولة هوبز عن «الدولة»
بأنها «تنين»
٥٢ ومن ثَمَّ بأنها تشبه «الإله الفاني».
٥٣ التنين أو بالعبرية «لفيتان» هو اسم وحش بحري متعدد
الرءوس ورد ذكره في كتب العهد القديم مثل المزامير (٧٤: ١٤) وسفر إشعيا
(٢٧: ١) وسفر أيوب (٣: ٨). وهو من جنس الأساطير الشائعة في الحضارات
السابقة حول الصراع بين الإله وقوى الشر، مثل صراع الإله «مردوك» في
القصص البابلي الذي يقتل «تيامات»، إلهة المحيط التي تتجسَّد في شكل تنين
بحري عملاق وتحاول ثأر زوجها المقتول. لكن ما يهمنا هنا من زاوية علاقة
الحرب والدولة هو أن هوبز لم يجد من اسمٍ يعبِّر عن ماهية «الدولة» التي
يمكنها أن تؤمِّن الخروج السلمي من عصر الحروب الدينية غير اسم «التنين»،
وهو أمر ذو دلالة خاصة.
ما الذي يجمع بين «الدولة» (وهي ظاهرة حديثة بامتياز) وبين «التنين»
الذي هو استعارة دينية ترمز غالبًا إلى «الحرب» في معناها الأقصى أي
الصراع بين الآلهة والوحوش؟ حين نتصفَّح كتب هوبز الثلاثة التي خصَّصها
من أجل توفير تقنية سياسية ملائمة لتحقيق «الإفلات من حرب الكل ضد الكل»،
٥٤ وهو ما ترجمه في الدفاع عن موقفه القاضي بأن «السلطة
السياسية ينبغي أن تكون واحدة وغير قابلة للانقسام وغير محدودة»،
٥٥ ونعني بذلك
عناصر القانون (١٦٤٠م) وكتاب
المواطن (١٦٤٢م)
وأخيرًا كتابه الرئيسي
التنين (١٦٥١م)؛ سوف نلاحظ للتوِّ بأنها كتابات
قد تم تصميمها في ظل ما أسماه هوبز «زمن الحرب» (
time of war)،
٥٦ أو «وضع الحرب» (
condition of war)،
٥٧ وهو وضع يميِّزه صراحة عما يسمِّيه في موضع آخر «الحالة
الأمنية» (
the estate of security).
٥٨ إن شاغل هوبز هو تأسيس «سيادة» الدولة وليس ما تفهمه
الدولة الشمولية من الحاجة إلى بناء «جهاز أمني»
٥٩ لمراقبة السكان، ومشكل «الأمن»
٦٠ يختلف عن «الحرب»، وسوف يتحوَّل مع فوكو إلى ورشة «بيو-سياسية» مستقلة.
٦١
لقد اعتاد القارئ المعاصر على فهم الوصف الذي قدَّمه هوبز في الفصل ١٣
من كتاب
التنين («في الوضع الطبيعي للبشر من حيث ما يخص سعادتهم وبؤسهم»)
٦٢ بوصفه يتعلق بفرضية مختلقة حول «حالة الحرب الكل ضد الكل».
لكنَّ وضع تفكير هوبز في سياقه التاريخي يفرض علينا أن نقرأ ما يقوله عن
«زمن الحرب» أو «وضع الحرب» بوصفه تشخيصًا دقيقًا لحالة حربية عاصرها
وليس مجرد فرضية فلسفية من جنس «الدسطوبيا». لنقل: إن «حالة الحرب»
التي يقصدها هوبز هي ليست شيئًا آخر غير «حرب الثلاثين»، أي الحرب
الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، حرب بين الأجسام الحية، وليست
حربًا على فرضية. إنَّ «حرب الكل ضد الكل»، المشار إليها بوصفها هي
«الوضع الطبيعي للبشر» (
Natural Condition of Mankind) ليست سوى «الحرب
الدينية»؛ حيث يفقد البشر كل ملكاتهم البشرية ويتحولون إلى حيوانات لا
رادع لهم سوى «تنين» أو وحش عملاق.
يقول هوبز: «قد يمكن أن نصادف من يفكر بأنه لم يوجد أبدًا مثل هذا
النوع من زمن الحرب أو وضع الحرب، وأعتقد أنه عمومًا لم يوجد قطُّ على
هذا النحو، في كل أنحاء العالم، ولكن يوجد أماكن عديدة؛ حيث يعيش الناس
على هذا النحو الآن.»
٦٣
صحيح أن المثال الذي استخدمه هوبز من أجل تدعيم تشخيصه هو ما يسميه
هو والأوروبيون عندئذ «الشعب المتوحش (
savage people) في أماكن عديدة
من أمريكا»،
٦٤ وبالتالي يوحي بأنه لا يقصد بخطابه «زمن الحرب ووضع
الحرب» الذي كان يحدث على قدم وساق في أوروبا أثناء كتابة تلك الأسطر.
هو يوحي بأن «المتوحش» يوجد خارج أوروبا، ها هنا حيث تكون «طريقة حياة»
(
manner of life) شعب ما «بلا حكم تمامًا»، أي «بلا حكم سلمي»، ولكن
حيثما يفتقد الناس «سلطة مشتركة مخيفة» فإنهم سريعًا ما ينزلقون في
«حرب أهلية».
٦٥
لكن الحقيقة هي أن هوبز يكتب بطريقة سمَّاها ليو شتراوس «فن الكتابة في
زمن الاضطهاد»: فهو ينبِّهنا إلى أن حالة الحرب الكل ضد الكل، التي هي في
الواقع «الحرب الدينية» الجارية عندئذ، لئن كانت غير موجودة أبدًا على
مستوى الأفراد (لا يوجد عالم حيث يكون كل فرد في وضع حربي ضد كل فرد
آخر) فهي مشتعلة دومًا «في كل الأزمان بين الملوك»، أي بين «الأشخاص»
الذين يملكون «سلطة سيادية» (
sovereign authority)؛ حيث إن «عدم
تبعيتهم لأيٍّ كان» تجعلهم في «نوبات حسد وغيرة متواصلة» (
continual
jealousies) وفي «موقف حرب» (
posture of war) تشبه موقف «المجالدين»
(
gladiators) فيما بينهم في حلبات الموت الرومانية.
٦٦ إن «الحرب الأهلية» إذن ليست بين سكان متوحشين، كما
يوحي بذلك النص، بل هي في واقع الأمر بين «ملوك» و«أشخاص سياديين»
دفعهم «استقلالهم بالأمر» (
independency) أو بعبارة ابن خلدون
«انفرادهم بالمجد»، إلى معاملة كل الملوك الآخرين بوصفهم «أعداء»
يوشكون إعلان «حرب أهلية» ضدهم، وهي «أهلية» (
civil) في معنى أنها تتم
بين «البشر» الذين ينتمون إلى جماعة أخلاقية واحدة أو إلى «مجتمع» واحد
تم تعطيله من الداخل. ويرادف هوبز بين «زمن الحرب» و«انعدام المجتمع»
(
no society)، ومن ثم «الخوف المتواصل، وخطر الموت العنيف».
٦٧
وإذا ما اندلعت الحرب بين «الملوك» فهذا يعني أن البشر قد عادوا إلى
«حالة الطبيعة» في معنى طريف جدًّا، ألا وهو تعطيل كل القيم والقوانين:
«ففي هذه الحرب كل إنسان ضد كل إنسان، من المنطقي أيضًا أن نقول: لا
شيء يمكن أن يكون غير عادل … فحيثما لا توجد سلطة مشتركة، ليس ثمة
قانون، وحيثما لا يوجد قانون، ليس هناك ظل».
٦٨ إن الحرب الدينية بين الملوك التي يصفها هوبز هي حرب تقع
ما وراء الصحيح والخاطئ، وما وراء العدل والظلم. وهذا يعني أن الحرب
تُجرِّد المتحاربين الدينيين من مرجعياتهم الأخلاقية. وعندئذ لم يعد
بإمكان أحد من الأطراف الدينية المتحاربة أن يستعمل الله لصالحه أو
يحتكر الكلام باسمه.
إن «وضع الحرب» قد أملى على هوبز أن ينقطع عن مشاغله منذ أوائل ١٦٣٠م
حيث كان مفتونًا بالبحث في العلم الطبيعي، وأن يساعد على تصوُّر مخرج
سلمي من الحرب الأهلية وقتئذ. كان كتاب
التنين ورشة اضطرارية يصفها
هوبز نفسه في آخر فقرة من الكتاب بأنها: «ظرفية أملتها اضطرابات العصر
الحاضر» (
occasioned by the disorders of the present time)، ورغم ذلك
الحاضر» (
occasioned by the disorders of the present time)، ورغم ذلك
فإن تدخل الفلسفة الذي قام به قد كان «دون أي انحياز أو تملق ودون أي
غرض آخر سوى أن يضع أمام أعين الناس وجه العلاقة المتبادلة بين الحماية والطاعة»
٦٩ التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية بين البشر، حسب ما تمليه
«الطبيعة البشرية» نفسها وليس أي جهة أخرى؛ وذلك من أجل اختراع توصيف
صحيح للجسم السياسي الذي تشكِّله «الدولة» بوصفها «جسمًا اصطناعيًّا
artificial body» من شأن «إنسان اصطناعي» كبير هو آلة السيادة أو
«الدولة».
كانت «اضطرابات العصر الحاضر» تعني لدى هوبز حرب الثلاثين الدينية
التي عاصرها، وهي حرب فرضت عليه أن «ينقطع» عن بحوثه في «الأجسام
الطبيعية» من أجل أن يخصِّص حيزًا من حياته لدراسة الدولة/«الجسم
الاصطناعي» الذي يمكن أن يجلب «السلم» للناس ويخرجهم من «وضع الحرب».
وكانت الجملة الأخيرة من كتاب
التنين هي التعبير عن «الأمل» المضاعف في
أن يساهم كتابه في تحقيق «السلم العمومي» ولكن أيضًا في أن تكون «جدَّة»
أبحاثه في «الأجسام الطبيعية» مثيرة للإعجاب بقدر ما اعتادت أن تحصد
الهجومات عندما تتعلق «بالجسم الاصطناعي».
٧٠ ولكن لنحترس من مفهوم «الجسم» الذي تحوَّل، حسب تعبير
جيورجو أغمبن في كتابه
السلطة السيادية والحياة العارية، إلى «استعارة
مركزية عن الجماعة السياسية» حيث إن «أجسام الرعايا، المعرَّضين للقتل
على نحو مطلق، هي التي تكوِّن الجسم السياسي الجديد في الغرب.»
٧١
في ضوء هذا «الوضع الحربي» الذي يشكِّل «حالة الطبيعة» (حالة الحياة
العارية) بوصفها طريقة حياة معرضة للقتل يمكن أن تنتهي في أي لحظة،
ولا سيما في زمن الحروب الدينية، إنما يكون علينا أن نسأل: كيف تصوَّر
هوبز شكل الانتقال من حالة «الجمهور» (the Multitude)، (حيث يمكن أن
تندلع الحروب الطائفية بين المؤمنين الأعداء في أي وقت) إلى حالة
«الشعب» (the People) السياسي أو «الدولة» التي تشكِّل «شخصًا» (one
Person) قانونيًّا (حيث يمكن للدولة أن تفرض سيادتها المطلقة بوصفها
وازعًا مركزيًّا ضد الحرب الدينية)؟
ميَّز هوبز في كتابه
المواطن بين «الجمهور» و«الشعب»
٧٢ لكنه كان تمييزًا يتعلق أساسًا بالفرق بين حالة الكثرة
البشرية التي لا تؤلف «شخصًا» قانونيًّا واحدًا وبين حالة «الشعب» الذي
يؤلف شخصًا قانونيًّا واحدًا. ولكن ما هو «الشعب» هنا؟ إنه مجرد
تعبير قانوني يشير إلى مجموع «المواطنين» في دولة ما وليس له أي مضمون
قومي. وإن الخطأ السياسي حسب هوبز هو: «أن نكون على استعداد لأن نعتبر
أمرًا على أنه فعل الشعب في حين أنه جمهرة من الأفعال قام بها جمهور من
الناس، وربما بإيعاز واحد فقط.»
٧٣ علينا أن نلاحظ، حسب تنبيه جيورجيو أغمبن، أن «الشعب» هنا
يظل مفهومًا مضاعفًا: إنه من جهة، الكثرة المجردة الفارغة من أي وحدة
أو حماية («الحياة العارية» المعرضة للقتل التي تعاني من «الإقصاء»)
ومن جهة، «الوجود السياسي» تحت عنوان «الشعب» (الخاضع للسيادة والذي
يمكن أن يتم إدماجه) في الجسم السياسي للدولة.
٧٤
لكنَّ ما وقع في نهاية القرن الثامن عشر، وتحت وقع الثورة الفرنسية
التي تحوَّلت بسرعة مذهلة إلى سلطة احتلال «تنويري» في أوروبا، هو ظهور
تصوُّر «رومانسي» لمفهوم «الأمة» تم تأسيسه هذه المرة على «روح الشعب»
بوصفه كيانًا شعريًّا وروحيًّا ينبع من «الشعور بالحنين إلى الموطن»
(
die Heimat) كما يتجلَّى ذلك في كتابات الألمان.
٧٥ ومن ثَمَّ ظهر رهان جديد بالنسبة إلى الحداثة السياسية، ألا
هو: كيف يمكن تأمين الانتقال المناسب، حسب تعبير هابرماس، «من شعب روح الشعب إلى أمة
المواطنين»؟
٧٦
(٣) «الدولة صنعت الحرب»: أطروحة شارل تيلي أو في «تأميم الدولة»
لقد كان السؤال المحير دومًا هو هذا: كيف نبني دولة؟ وهل هو سؤال
يمكن فصله عن السؤال الآخر الذي يفترضه: كيف نبني أمة؟ إن «بناء أمة»
(
nation-building) هو مشكل لا يُطرح، مثلًا، بنفس الطريقة في أوروبا
وأمريكا؛ إذ يشير فرانسيس فوكوياما في كتابه
بناء الدولة: الحوكمة والنظام العالمي في القرن الواحد والعشرين، إلى أن الولايات المتحدة قد
قامت على نحو لا يتم التمييز بين «بناء الدولة» (
state-building)
و«بناء الأمة»، حيث إن «التجربة الوطنية» في أمريكا قد وفَّرت سياقًا حيث
يتم تشكل «الهوية الثقافية والتاريخية» عن طريق «المؤسسات السياسية مثل
النزعة الدستورية والديمقراطية»، لكنَّ «الأوروبيين يميلون لأنْ يكونوا
أكثر وعيًا بالتمييز بين الدولة والأمة، ويؤكدون على أن بناء-الأمة في
معنى خلق الجماعة المترابطة عن طريق التاريخ والثقافة المتقاسمة هو أمر
يتخطى كثيرًا قدرة أي سلطة خارجية على تحقيقه.»
٧٧ ويعترف فوكوياما بأن الدولة جهاز يمكن بناؤه، لكن أن
«تنبثق أمة» من «حالة الدولة» (
stateness) فهي «مسألة حظ أكثر منها
مسألة قصد وتخطيط.»
٧٨ رب صعوبة هي نكتة الإشكال في السؤال عن «الدولة القومية»
بوصفها كيانًا مميزًا للإنسان الحديث بما هو كذلك.
حين أشرف شارل تيلي سنة ١٩٧٥م على كتاب جماعي ضخم من أجل دراسة
تكون الدول القومية في أوروبا الغربية٧٩ اعترف في الفصل الأول الذي كتبه بنفسه في نحوٍ من الاستياء
المبطَّن بأن الكتاب قد أخذ وجهة لم تكن مخططًا لها، قائلًا: «لقد بدأنا
عملنا ونحن نقصد تحليل تشكُّل الدولة (
state-making) وتَكوُّن الأمم
القومية (
nations) من جهة أن إحداهما متوقفة على الأخرى. ولكن مع تقدم
بحثنا، نحن ركزنا انتباهنا بشكل متزايد على تطور الدول بدلًا من
التركيز على بناء الأمم. وهناك أسباب عديدة لهذا الانجراف. واحد منها
كان اليسر الكبير الذي به كنَّا نستطيع أن نصل إلى بعض الاتفاق الجاري
على معنى لفظة «الدولة» (
state). أما «الأمة» (
nation) فإنها تبقى
واحدًا من الأصناف الأكثر متاهة والأكثر تحيزًا في المعجم السياسي.»
٨٠
إن هذا «الانجراف» (
drift) وراء سهولة دراسة الدولة هروبًا من متاهة
البحث في معنى الأمة لم يكن مجرد استسهال للبحث، بل كان يعبِّر عن صعوبة
كامنة في صلب نفس الأمر المبحوث فيه. إن «الأمة» صفة متأخرة في مفهوم
الدولة الحديثة. إذْ يؤكد تيلي أن عصور «الدولة الأولى» (دولة القرن
السابع عشر، دولة الخروج من الحروب الدينية، ما بين ١٥٠٠ و١٦٥٠م) لم تكن
«عصور النزعة القومية أو هوية سياسية جماهيرية أو حتى تجانس ثقافي كبير
داخل حدود الدولة.»
٨١ وعندما تساءل: «ما هو القاسم المشترك في أوروبا سنة ١٥٠٠م؟»
٨٢ لم يكن الحس القومي هو ما عثر عليه، بل مجموعة من العناصر
الموروثة عن الإمبراطورية الرومانية (لغة، قانون، دين، ممارسة إدارية، … إلخ)
٨٣ أخذت تشير إلى أنه «منذ سنة ١٣٠٠م كان من الواضح أن الشكل
السياسي المهيمن في أوروبا الغربية كان ذاهبًا نحو أن يكون الدولة
السيادية (
the sovereign state)».
٨٤ أجل، في جو الحروب الدينية السائدة إلى حد القرن السادس
عشر كان المشكل الأساسي للسياسة في أوروبا هو «السيادة» وليس «الأمة»
بالمعنى الرومانسي الذي سيظهر لاحقًا.
إلا أننا نلاحظ من جهة أخرى أن شارل تيلي يرادف في استعمال المفهوم
بين ظهور «الدولة» السيادية في أوروبا الغربية وبين ظهور «الدولة
القومية» (
national state)، ويثبت صراحة أن «البنية التي أصبحت مهيمنة
في أوروبا بعد سنة ١٥٠٠م هي الدولة القومية.»
٨٥ لكن الخصائص التي حددها باعتبارها مقومات الدولة القومية
هي ليس شيئًا آخر سوى خصائص الدولة السيادية، وهو يحصيها في أربع:
وعلينا أن نتساءل عندئذ: هل يمكن إقامة دولة قومية في معنى الدولة
السيادية (مهمتها تحقيق الخروج السلمي من الحروب الدينية) دون نزعة
قومية أو سياسة هووية (تؤدي إلى اندلاع حروب تحركها نزعة قومية
استعمارية)؟ ثمة هنا صعوبة اصطلاحية ينبغي اختبارها: هل يوجد فرق بين
مفهوم «الدولة القومية» (
Etat national) ومفهوم «الدولة-الأمة» (
Etat-Nation)؟
٨٧ يفترض مصطلح «الدولة-الأمة» تكافؤًا تامًّا بين ثلاثة
عناصر: الأمة = الدولة = الشعب؛ حيث ترمز «الأمة» هنا إلى العنصر
«الإثني-الثقافي» (اللغة، الدين، الذاكرة المشتركة)، وترمز «الدولة»
إلى العنصر الجيوسياسي (السيادة والإقليم)، ويرمز «الشعب» إلى العنصر
الاجتماعي-السياسي (المواطنة والشعور بالانتماء إلى دولة أو جماعة سياسية).
٨٨ قد يجدر بنا أن نستمع للمؤرخين وليس للمنظِّرين.
قال شارل تيلي: «إن الدول
القومية (
national state) — الدول التي
تحكم مناطق متجاورة عديدة ومدنها (
cities) عن طريق هياكل مركزية
ومتمايزة ومستقلة — هي عبر أغلب فترات التاريخ لم تظهر إلا نادرًا. إن
أكثر الدول قد كانت
لا- قومية (
non-national): إمبراطوريات، دول-مدن، أو شيء آخر. إن مصطلح الدولة القومية، بشكل مؤسف، هي لا تعني
بالضرورة الدولة-الأمة (
nation-state)، دولة حيث يتقاسم الشعب
(
people) هوية لغوية ودينية ورمزية قوية … إن الدول القومية الأوروبية
التي وصفت نفسها يومًا ما بأنها دول-أمة هي قليلة جدًّا.»
٨٩
ولكن هل يغير ذلك من طبيعة علاقة الدولة بالحرب في الحالتين؟ إن
تمييز تيلي بين «الدولة القومية» (وربما علينا أن نقول منذ الآن
«الدولة الوطنية») وبين «الدولة-الأمة» هو مؤسس في الواقع على تشخيص
واحد لعلاقة كل أشكال الدول بظاهرة «الحرب»، في ضوء أطروحة مركزية هي:
أن «الحرب تصنع الدول والدول تصنع الحرب».
٩٠ لا يوجد أي وهم حول مهمة الدولة: إن دورها المركزي هو
«التحكم في وسائل الإكراه»؛ ولذلك فإن أول إجراء مرتبط بالسيادة هو
«تجريد السكان المدنيين من السلاح»، وتحديد تمييز حاسم بين «سياسة
داخلية وسياسة خارجية».
٩١
إن الدولة عمل حربي قام به كل من استولى على مناطق السيادة في بلد
ما: إن «كل من تحكم في وسائل الإكراه المادية هو قد حاول الإبقاء على
منطقة آمنة حيث يمكنه التمتع بعائدات الإكراه، زيادة عن منطقة عازلة
محصَّنة، ربما هي معرضة للفقدان، من أجل حماية المساحة الآمنة. والسياسة
أو ما يعادلها تبسط قوة في المساحة الآمنة، في حين أن الجيوش تراقب
المنطقة العازلة وتواجه الخطر خارجها».
٩٢
يساعدنا هذا التشخيص على فهم طبيعة الدولة بوصفها في جوهرها عملًا
حربيًّا، لكن الحرب ليست مجرد «عنف» بلا وازع. إن أول ممارسة للسيادة
بالمعنى الحديث قد كانت عملية تجريد صارمة للسلطة من أي مرجعية متعالية
على من يحكم. إن الحكم نشاط «زمني» وهذا يعني أنه لا يمكن تبرير أي
سلطة على أجسام الآخرين إلا بكون تلك السلطة «مطلقة»؛ أي لا تدين
بنفسها إلى أي جهة خارجة عن منطقها. ولأن السيادة مطلقة فهي بطبيعتها
عمل حربي: «المطلق» هو وصف اقتبسه هوبز من فكرة «الإله» التقليدية كي
يطبِّقه على «العاهل» الذي يمكنه وحده أن يمكِّن «جمهور» الملة الدينية من
الخروج السلمي من حلبة «الحروب الدينية» والتحوُّل إلى «شعب» قانوني. لا
تعني «علمنة» السلطة السياسية غير تجريدها من أي مرجعية متعالية عليها
باسم أي نوع من الهيئات الدينية الخارجة عن منطق السيادة. قال تيلي: «إن الحرب قد نسجت
شبكة الدول القومية الأوروبية، والتهيؤ للحرب قد خلق
البنى الداخلية للدول في نطاقها».
٩٣
هذا الطرح من شأنه أن يلقي ضوءًا جديدًا ومربكًا على مقولة من
المقولات المتداولة في الفلسفة السياسية الحديثة، نعني نزعة المحدثين
إلى تأويل ظهور الدولة على أساس ضرب من «العقد الاجتماعي» (في نظرياته
الثلاثة المعروفة: هوبز، لوك، روسو). ضد هذا الطرح الكلاسيكي يؤكد
تيلي أنه بدلًا من تأسيس الدولة على فكرة العقد الاجتماعي أو فكرة
السوق المفتوحة؛ حيث «يقدم القائمون على الجيوش والدول خدمات
للمستهلكين الراغبين» أو فكرة مجتمع؛ حيث «يتم تقاسم معايير وانتظارات
تدعو إلى نمط معين من الحكم»، علينا على الأرجح أن ننظر إلى «صناعة
الحرب وصناعة الدولة على أنها جريمة منظمة» تجري على قدم وساق منذ بعض
مئات السنين في أوروبا، وبالتحديد باسم هذا الشكل المحدد من الحكم الذي
نسميه «الدول القومية: تنظيمات مركزية ومتمايزة إلى حد ما، يدَّعي
المسئولون عليها، بقدرٍ ما من النجاح، التحكم في الوسائل الرئيسية للعنف
المركزة في نطاق مجموعة سكانية تقطن في إقليم واسع متماس.»
٩٤ الدولة «جريمة منظمة» تأخذ شكل «حرب قانونية»، ولكن من أجل
اختراع نمط جديد من «الشرعنة» في بلد ما.
ما نخرج به من كل ما سبق هو:
-
(أ)
أن النموذج الأقصى للحرب هو عندما يدَّعي المتحاربون أنها «مقدسة» (دينية، طائفية، …).
-
(ب)
أن الحداثة السياسية تعلِّمنا أنه لا مخرج من الحرب القصوى إلا ببناء «دولة مطلقة»، دولة
«سلام وستفاليا».
-
(جـ)
أن الثورة الفرنسية على «الدولة المطلقة»
قامت على أساس أن «بناء الأمة» هو الشكل الوحيد من «الدولة الجمهورية»
التي تنجح في علمنة مفهوم الحرب ونقله من «الدين» إلى «الوعي القومي».
-
(د)
أن «الثورة» لا يمكن أن تسقط «الدولة المطلقة» دون أن تنتج «دولة
أمة»، أي دون أن تنقل الحرب من الدين إلى الوعي القومي، ومن ثَمَّ دون
«علمنة» ماهية السلطة وتغيير نمط «الشرعنة».
خاتمة: في نقد براديغم الدولة-الأمة: الحرب باسم «جماعات متخيلة»
لقد دار سجال حول طبيعة العلاقة بين «الأمة» (
nation) و«النزعة
القومية» (
nationalism) من المفيد أن نعرض له كي نقف على مدى أصالة
الإشكال الذي تثيره علاقة الحرب بالدولة. لكن نواة الإشكال، أكانت
صريحة أم ضمنية، هي ليست شيئًا آخر غير «الحرب» أو إمكانية الحرب
بوصفها بالتحديد نزاعًا حول «الأمة» بوصفها «مصدرًا للشرعية السياسية».
٩٥
قال إرنست غلنر، أحد أبرز المختصين الذين بدأت معهم الدراسة الحديثة
للنزعات القومية منذ أواسط الستينيات، في كتابه
الأمم والقوميات: «إن
النزعة القومية (
nationalism) هي التي تخلق الأمم (
nations) وليس العكس.»
٩٦ وهذا الطرح يعني أن «الأمة» ليست انتماءً «بالولادة» بل
هي هوية «بالثقافة»: «أن الثقافات تحدِّد
وتصنع الأمم … أن الثقافات
«تمتلك» (
have) وتصنع أممًا، أما الأمم فهي في البداية لا هي توجد ولا
هي تملك ولا هي تفعل أي شيء.»
٩٧ ماذا يعني بالنسبة إلى السؤال عن علاقة الحرب بالدولة
القومية؟
ينطلق غلنر من أن النزعة القومية لا تظهر إلا حيث يكون وجود الدولة «مضمونًا».
٩٨ وذلك يعني أن الدولة موجودة قبل ظهور النزعات القومية.
لكن غلنر يضيف تنبيهًا أكثر خطورة: أن النزعة القومية لا تظهر إلا
بالنسبة «إلى بعض الدول فقط».
٩٩ ومثل شارل تيلي يعترف غلنر بدوره بأن تعريف «الأمة» يثير
صعوبة أخطر من تعريف الدولة. لكن الأمر الأكثر إثارة في مقاربة غلنر هو
طرحه بأن الأمة مثلها مثل الدولة هي شيء «عرضي» أو «حادث» (
contingent)
وليس «ضرورة كونية»، ومن ثَمَّ فهو يفترض أن «مشكل النزعة القومية» (هكذا
يسميه) هو مشكل «ظاهري» فقط: «أن امتلاك أمة ليس صفة جوهرية في
الإنسانية، لكنه الآن يظهر وكأنه كذلك.»
١٠٠ ومع ذلك يستدرك غلنر بأن «عرضية» الدولة مختلفة عن عرضية
الأمة: فالنزعة القومية تدَّعي أن الأمة «مقدَّرة لكل منَّا»، في حين أن
«الدولة قد انبثقت دون مساعدة الأمة»، ومن ثَمَّ أن الأمة «فكرة معيارية»
لم تعرفها بعض الدول بل العكس هو الذي يحدث: أن فكرة الأمة «تفترض
سلفًا وجود الدولة.»
١٠١ وعلى وجه الدقة هي لا تفترض أي دولة، بل شكل الدولة التي
أنتجها العصر الصناعي الذي فرض نفسه على العالم بواسطة الاستعمار. وهنا
يعلن غلنر أطروحته الأساسية: أن النزعة القومية هي «
مفعول ناجم عن
التنظيم الاجتماعي الصناعي»، بحيث إن التصنيع هو الذي أنتج سياقًا
اجتماعيًّا مخصوصًا حيث يسود «تجانس» ثقافي يمكن أن يجعل ظهور النزعة
القومية ممكنًا.
١٠٢ إن النزعة الصناعية والنزعة القومية مترابطتان، ويضرب غلنر
مثلًا على ذلك علاقة البروتستانتية بالنزعة القومية ولكن خاصة حالة
الدول العربية-الإسلامية التي مرَّت من العصر الزراعي إلى العصر
الصناعي في جو قومي.
١٠٣
بيد أن هذه الأطروحة قد تعرضت إلى نقدٍ شديدٍ، ولا سيما من زاوية مسألة
الحرب. والسؤال الذي يمكن طرحه ضد مقاربة غلنر هو التالي: «هل
التجانس الذي تخلقه النزعة القومية هو فعلًا نتيجة لعملية التصنيع؟» أم
أنه ربما يكون راجعًا في الواقع إلى «عسكرة» (
militarisation) الدولة؟
١٠٤ لقد افترض غلنر أن الحداثة تتميز بالعلاقة الثلاثية بين
«التجانس» الثقافي والنزعة «القومية» وتجربة «التصنيع». وهكذا هو قد
فهم «النزعة القومية بوصفها قد حدثت من نفسها بكل بساطة بوصفها نتيجة
لحاجات التحديث الجديد التي أتت بها عملية التصنيع».
١٠٥ ومن ثم فإن النزعة القومية هي مفعول الزواج بين الدولة
والثقافة التي تجد تجسيدها في «التربية الجماهيرية» التي تعتبر «اللغة»
هي «نواة القيم»
١٠٦ في تقليد رومانسي يعود إلى هردر، ربما وصل إلى غلنر من
أستاذه في أكسفورد إشعيا برلين.
١٠٧
ولكن ماذا لو أن عملية فرض التجانس (
homogenisation) بين السكان قد
كان موجودًا قبل ظهور النزعة القومية؟ إن اضطهاد المنحدرين من اليهود
والمسلمين (المورسكيين) في فترة سقوط غرناطة سنة ١٤٩٢م من أجل خدمة
«المجانسة الإثنية/العرقية» للرعايا المسيحيين بمثابة وسيلة فعَّالة
لبناء الدولة الحديثة المبكرة في إسبانيا، وهو ما أفضى إلى محاربة كل
الأقليات الدينية باسم معاداة المسلمين، وما أدى إلى طرد مكثَّف لليهود
في نفس السنة.
١٠٨ إن «المجانسة الدينية» (أن دين الحاكم ينبغي أن يتطابق مع
دين المحكوم) قد كانت سياسة «عسكرية» للدولة السيادية في مختلف أنحاء
أوروبا وذلك قبل عصر القوميات، وهو ما فرض «تغييرات تكنولوجية وتنظيمية
داخل الجيش».
١٠٩ وهكذا فإن «العسكرة كانت مصحوبة بضغوطٍ متزايدة نحو
المجانسة والمركزية»، وقبل الثورة الفرنسية كان الجيش الفرنسي
«نموذجًا» للسلطة الحربية الحديثة حيث يتم تطبيق مبدأ «المجانسة القومية».
١١٠ ليست اللغة هي أداة المجانسة بين المواطنين بل الجيوش
الحديثة. وهكذا فإن «غلنر قد فشل في معرفة كيف أن الجيش في بعض الحالات
قد أصبح هو المصهر حيث تم تصور عملية المجانسة لأول مرة».
١١١
وعلينا أن نسأل عندئذ: إذا كانت «الأمم» من اختراع «النزعات القومية»
فإن ذلك يعني بوجه ما أن الحروب القومية إنما كانت نابعة في واقع الأمر
مما يسميه بينيدكت أندرسون «الجماعات المتخيلة» (
imagined communities)
١١٢ التي تخترعها الدولة لبسط «سلطة سيادية» لم تكن موجودة، أو
يخترعها «السكان» من أجل التحرر من سلطة كولونيالية. لكن «النزعة
القومية» هي في نشأتها الأولى «شذوذ»(
anomalie)
١١٣ اخترعه الأوروبيون لخوض «الحرب» ضد شعوب أخرى. ولذلك
يعودنا أندرسون إلى إعادة تعريف «الأمة» على هذا النحو الأنثروبولوجي:
«إن الأمة هي جماعة سياسية متخيلة، وهي متخيلة من حيث إنها في جوهرها
محدودة وسيادية في كرة واحدة.»
١١٤ ولأن النزعة القومية تفترض جماعة انتماء متخيَّلة «يموت»
الناس من أجلها فإن لها صلة قرابة عميقة بنوع آخر من الجماعة المتخيلة
هو الجماعة الدينية، وهو ما يدعو إلى طرح المسألة من زاوية علاقة
«الجذور الثقافية التي تربط النزعة القومية بالموت».
١١٥
يفترض أندرسون أن أوروبا قد عرفت في القرن الثامن عشر حدثين خطيرين
متناقضين ولكنهما على قرابة مركَّبة: من جهة «بزوغ عصر النزعة القومية»
ولكن من جهة «أفول أنماط التفكير الديني». لكن ما يجمع بينهما هو هذا
الاعتبار المرعب: «أن قرن التنوير، والعلمانية العقلانية، قد جلب معه
ظلمته الحديثة الخاصة».
١١٦ ولأن «الحرب» هي الاستعمال النسقي للموت بين البشر فإن
الموت قد غيَّر من ملامحه، وتحوَّل من موت «ديني» (موت «حرب الثلاثين» أو
الحرب الطائفية التي انتهت سنة ١٦٤٨م) إلى موت «قومي» (موت دفاعًا عن
«الدولة-الأمة» ضد أعدائها الجدد أو العلمانيين أو الكولونياليين).
من أجل ذلك تم اختراع «خلاص» أو غفران «يقوم على«الهوية» وليس على
الإيمان» عن طريق «تحويل علماني للقدر إلى استمرارية، ولمجرد الحدوث
العرضي إلى معنى».
١١٧
ولكن ماذا لو أن «الأمم» هي مجرد ظواهر تاريخية، أو بعبارة هوبز عن
الدول، هي «آلهة فانية»، لها أعمار محدودة، أن شكل الانتماء إلى أمة ما
قد فقد «زمنه»؟
١١٨ وبالتالي علينا أن نسأل: أي نوع من «الحرب» سوف تندلع بين
البشر عندما ينهار براديغم الدولة-الأمة، وتدخل الكيانات السياسية في
عصر «ما بعد الأمة»؟ يصف صموال هنتنغتون هذا الوضع المستقبلي
قائلًا:«إن الانقسامات الكبرى داخل الإنسانية والمصدر المهيمن للنزاع
سوف تكون ثقافية. أجل، إن الدول القومية سوف تبقى الفواعل الأكثر قوة
في شئون العالم، لكن النزاعات الرئيسية للسياسة العالمية سوف تحدث بين
الأمم والمجموعات من الحضارات المختلفة. إن صدام الحضارات سوف يهيمن
على السياسة العالمية. إن خطوط الصدع بين الحضارات سوف تكون هي خطوط
الصراع في المستقبل.»
١١٩ فهل تهيَّأنا لهذا النوع من نزاعات المستقبل أم لا نزال
في الأقفاص التاريخية للدولة-الأمة؟