تمهيد إشكالي: عصر كانط
إن خوف أوروبا على نفسها من «الآخرين» ليس جديدًا، إذْ له عمر حيرة
الفلاسفة الأوروبيين المعاصرين
١ أمام ظاهرة «الدولة-الأمة» التي تجمع في مفهومها بين
«أوروبا الدول» (الجمهوريات) و«أوروبا الشعوب» (القوميات) جمعًا هشًّا
وإشكاليًّا على الدوام؛ مما جعل نيتشه يصف الدولة الحديثة (بعد
انهيار العالم المسيحي والممالك الدينية) بأنها «الصنم الجديد» الذي
يؤدي دور «الغول» في الأزمنة الحديثة قائلًا في كل مكان: «أنا هو الشعب.»
٢
فمن كانط إلى نيتشه ومن هوسرل إلى هابرماس، ظل الفيلسوف الأوروبي
يحذِّر من النزاع الأصولي بين «الدولة» و«الشعب»، بين القانون «الجمهوري»
والهوية «القومية»، بحيث قد يؤدي ذلك النزاع إلى انفجار الكينونة
الأوروبية الحديثة بما هي كذلك، إما في الداخل (في الحروب القومية بين
الأوروبيين) أو إزاء الخارج (في أزمة التعايش مع «الأجانب» بمختلف
أشكالهم الهووية، أكانت عرقية أو دينية أو ثقافية …).
بالطبع قبل كانط، كان قرن التنوير قد بكَّر إلى البحث الحثيث عن تصور
الطرق المناسبة التي تجعل «أوروبا» أفقًا سياسيًّا جامعًا بين دول
الأوروبيين. وأفضل مثال هو ما كتبه بشكل مبكر رئيس دير القديس بطرس
(١٦٥٨–١٧٤٣م) تحت عنوان
مشروع من أجل جعل السلم دائمًا في أوروبا
المنشور سنة ١٧١٣م، حيث بيَّن أن اعتبار «التوازن بين القوى في أوروبا» هو
الحل الأفضل من أجل السلم، هو مجرد وهم. وهو مشروع نقده روسو بوصفه يقف
في صف الأمراء وليس في صف الشعوب، لكنَّ كانط رحَّب به واستلهم منه مقالته
مشروع السلم الدائم (١٧٩٥م). وفي الواقع فإن كانط
٣ قد كان أول من ضبط الإطار الذي يجدر بنا أن نفكر داخله في
مستقبل «أوروبا» في تنازعها المعياري الداخلي بين بُعديهما المشار
إليهما، نعني، أوروبا-الدول (التنويرية) وأوروبا-الشعوب
(الرومانسية)، وذلك في نصوصه الأخيرة، ولا سيما من خلال فكرة «القانون
الكسموسياسي» (القائم على مواطنة عالمية) الذي يسمح ببلورة ضرب من
«الضيافة الكونية»
٤ بين البشر بعامة؛ إذ هو قد ميَّز بين «قانون مدني» (داخلي
للدول)، و«قانون للشعوب» (خارجي بين الدول)، و«قانون كسموسياسي» (يجمع
بين مواطني العالم). وحسب الباحثين في المثالية الألمانية فإنَّ كانط هو
الذي فتح الطريق نحو تناول فلسفي لفكرة أوروبا يخرجها من نطاق الصلة
الكنسية اللاهوتية ويعيد تأسيسها على «المماهاة بين هذه القارة وبين العقلانية».
٥
بالطبع كان ذلك أفضل ما قدَّمه عصر التنوير من وعود أخلاقية حول مستقبل
أوروبا الذي انشطر بعدُ في أواخر القرن الثامن عشر بين «الثوريين»
المبشِّرين بالعصر «الأوروبي» الذي يقوم على المعاهدات القانونية ويمحو
الفروق القومية ويوحِّد الأذواق والأخلاق (مثل روسو كما في نصِّه «مقتطفات
من مشروع السلم الدائم للسيد رئيس القديس بطرس، ١٧٦١م، كما في نصِّه
«اعتبارات حول الحكم في بولونيا وحول إصلاحه المنشود» ١٧٧١-١٧٧٢م)
٦ وبين «المحافظين» الذين بدءوا بعدُ في قرع طبول السخط
القومي وإحصاء الكوارث المعيارية التي قد تنجم عن ثورات التنوير فيما
يتعلق بشرعية الحكم التي يجب أن تكون شرعية هووية بالشعب وبالتقاليد
وليست تعاقدية بالقوانين الكونية للإنسانية (مثل إدموند بوركا ضمن
تأملات في الثورة الفرنسية
١٧٩٠م).
٧
إن نكتة الإشكال في السؤال عن أوروبا منذ نهاية عصر التنوير إلى
اليوم هي نفسها: إنها تتعلق بالنزاع التأويلي والمعياري بين فكرتيْن
متنافستين عمَّا يجب أن تكون عليه «أوروبا»: «أوروبا الثورية» التي
تصوَّرها التنويريون، أم «أوروبا المحافظة» التي دافع عنها نقَّاد التنوير
الرومانسيون.
تشخيص نيتشه: نقد العقل القومي
في سنة ١٨٨٦م استجمع نيتشه في الفصل الثامن من كتابه ما
وراء الخير والشر: مقدمات إلى فلسفة المستقبل، والذي يحمل عنوانًا ذا دلالة هو
«الشعوب والأوطان» (Voelker und Vaterlaende)، كل عناصر الإشكال الذي
تمثِّله «أوروبا» بالنسبة إلى «نفسها»: إنها مكوَّنة من «شعوب» هي لم تستقر
ماهيتها التاريخية بعدُ في «أوطان» ذات هوية قادرة على الاستمرار
الهووي.
قال في الفقرة ٢٤٠ من الكتاب: «… ما أعتقده عن الألمان هو: أنهم من
ما قبل الأمس ومن ما بعد الغد؛
فهم ما زالوا لا يوم (Heute) لهم.»
٨
هذا الحكم هو الذي بنى عليه نيتشه تشخيصه الفائق لوضعية «أوروبا» في
أواخر القرن التاسع عشر: كونها «هوية» لا توجد في «الشعوب» التي لا
«حاضر» لها بل في مستوى آخر من التشريع الروحي لنفسها بوصفها «وطنًا»
يقع ما وراء «الدول» القومية. ذلك أن «اليوم» الهووي الذي تدَّعي كل دولة
قومية في أوروبا أنها قادرة على تأسيسه بمعزل عن بقية الدول الأوروبية
هو حسب نيتشه مجرَّد ادِّعاء سياسي لا يفي بوعوده. ولذلك هو ينقل مشكل
«الهوية» التي يمكن لشعب أوروبي أن ينتمي إليها من مستوى «قومي» إلى
مستوى أعلى رتبة هو ما يسميه «الأوروبية الجيدة» (gutes Europaeerthum)
كانتماء لا قوميَّة له إلَّا عرضًا.
قال: «نحن «الأوروبيون الجيدون (
guten Europaeer): نحن أيضًا لنا
ساعات حيث نسمح فيها لأنفسنا بهوس أرض الأجداد (
Vaterlaenderei)، بسقطة
وانتكاسة في الأهواء والرؤى الضيقة القديمة … ساعات من الفورات
القومية (
national) والهواجس الوطنية (
patriotisch)، وجميع أنواع
الفيضانات العاطفية القديمة. أما الأرواح الأثقل منَّا، فهي ربما لا
تستطيع أن تأتي على ما هو محصور عندنا في ساعات وينتهي في ساعات، إلا
في مدد زمنية أطول، في نصف سنة عند البعض وفي نصف حياة إنسان عند البعض
الآخر، وذلك حسب السرعة والقوة التي بها هي تستطيع هضمه و«تغيير
مادته». أجل، أنا يمكنني أن أتخيل أعراقًا مملَّة ومترددة هي حتى في
أوروبتنا المسرعة (
unserm geschwinden Europa) سوف تحتاج إلى نصف قرن
من أجل أن تتغلب على هكذا هجمات وراثية (
atavistisch) من الهوس بأرض
الأجداد والالتصاق بالتراب (
Schollenkleberei)، وأن تعود إلى رشدها
(
wieder zur Vernunft)، نعني إلى «أوروبيتها الجيدة»
(
zum guten Europaeerthum).
٩
لقد رسم نيتشه ملامح المشكل والحل في نفس الوقت: إن «أوروبا» هي
انتماء وليس مجرد إقليم قانوني للسكان؛ ولذلك لم يتردد في نسبتها إلى
«نحن» معيَّنة وصريحة قائلًا «أوروبتنا»، وبهذا المعنى هو يثبت قصدًا أنَّ
أوروبا «هوية» ولها منتمون إليها، وليست فكرة، كما كان يجول في خاطر
كانط الكسموسياسي. نلاحظ كذلك أنَّ مُثل التنوير قد انطفأت وعوَّضتها سردية
تؤرخ لهوية أوروبية معيشة أكثر مما تؤمثل فكرة تنويرية منشودة. وبدلًا
من البحث عن «سلم دائم» كما كان ديدن القرن الثامن عشر، يصر نيتشه على
التمييز بين «أوروبيين جيدين» و«أوروبيين سيِّئين»، وهذا إقرار خطير بأنه
لا وجود لشيء مثل «أوروبا الواحدة» بل هناك أوروبتان اثنتان، واحدة
«جيدة» وأخرى «سيئة». ولأول مرة تصبح الحداثة اختيارًا سرديًّا وموقفًا
نقديًّا من سردية تاريخية قائمة. ما يراهن عليه نيتشه هو أن تكون
«الأوروبية الجيدة» هي الاختيار الذي سوف يأخذ به المعاصرون. وحسب
التشخيص الذي قدَّمه فإن أوروبا السيئة واضحة المعالم: إنها أوروبا
المصابة بهوس أرض الأجداد، وهو معنى يبدو أن نيتشه قد نحت له عبارة
خاصة للتعبير عنه تبدو مثل رطانة زائدة للتوكيد، نعني عبارة
Vaterlaenderei، ووجه النحت يكمن في الفرق بين
Vaterland (أرض
الآباء أو الوطن) وبين Vaterlaenderei أي «الهوس بأرض الآباء» الذي
يتحول إلى «نزعة قومية» (Nationalismus) قائمة على كراهية «الآخر».
ما يعيبه نيتشه على الأوروبيين السيئين ليس أنهم يحبون أرض الأجداد،
أي ليس كونهم «وطنيين» (Patrioten)، بل كونهم يقعون في «هوس» (وهو معنى
نهاية اللفظة الألمانية التي تفيد التحقير rei)، بأرض الأجداد هو لا
يعدو أن يكون حسب نيتشه «سقطة وانتكاسة» في تجارب حب وضيق أفق
قديمة عاشتها الشعوب الأوروبية وتقاتلت باسمها لقرون عديدة، ولذلك هو
يعتبر أن الأوروبي الجيد هو ذاك الذي لا يسمح لنفسه بالسقوط مرة أخرى
في الهوس بأرض الأجداد والانتكاسة في تلك الأنواع من الحب القائم على
النعرات القومية إلا «ساعات» فقط. وإنَّ إقحام معنى الزمن هنا في تخريج
انفعالات الهوية هو موقف فلسفي طريف جدًّا: إنَّ الأوروبي الجيِّد لم يعد
يؤمن بالانتماءات طويلة الأمد، الانتماءات القائمة على نعراتٍ قومية
متطاولة في الزمن؛ لأنَّ ذلك الطول ليس فضيلة معيارية لفهم نفسها. إذْ هي
مجرَّد عرَض سيئ على أنَّ ذلك الانتماء هو مجرَّد «روح ثقيل» تجرُّ نفسها في
انتماء لم يعُد يحقِّق ذاتها بل صار يعوقها عن التقدم. ولذلك يفترع نيتشه
تراتبًا بين أرواح الشعوب بحسب قدرتها على الشفاء من الهوس القومي بأرض
الأجداد عند تحديد معنى الوطن. فمن يُشفى من هوسه القومي في «ساعات» هو
أوروبي جيِّد، أما الأوروبيون السيِّئون فهم درجات: منهم من يُشفى في «نصف
سنة»، ومنهم في «نصف حياة إنسان»، ومنهم في «نصف قرن». هذه ليست مجرد
تكميمات إجرائية للمدد الزمنية التي يستغرقها الانتهاء من المشاعر
القومية الحزينة أو التغلُّب عليها، بل هي درجات هووية للأوروبيين
القادمين. لقد رسم نيتشه برنامجًا علاجيًّا لتأسيس نزعة «أوروبية
جيدة»، أي لتأسيس نموذج انتماء لا يحتاج إلى الانفعالات القومية
الحزينة إلا لساعاتٍ فقط. وهذه الساعات ليست مجرد ضعف بشري كان يجب على
نيتشه الاعتراف به، بل هي تلميح رشيق إلى أنَّ الشعوب تظل دومًا في حاجة
إلى الانتماء، ومن ثَمَّ فما اقترحه نيتشه هو «ترشيد» الشعور بالانتماء؛
لأنَّ «العودة إلى الرشد» هي لدى نيتشه موقف لا يمكن تصوُّره إلا بوصفه
عودة إلى «الأوروبية الجيدة». إن الرشد الهووي ليس قوميًّا بالضرورة؛
إذْ بدلًا من الهوس بأرض الآباء يقترح نيتشه أن يكون الأوروبي الجيد
قادرًا على «النسيان» النشط، ألَّا يكلِّفه السقوط في المشاعر القومية
والفياضات العاطفية «العرقية» إلا «ساعات» فقط، وهو وقت لا يصلح إلا
للنسيان، ولا يمكن لشعبٍ أن يعوِّل في بناء هويته على هواجس لا تدوم إلا
لساعات.
وحسب نيتشه فإنَّ أصل الإشكال الهووي في أوروبا هو أنها تعيش في «عصر
الجماهير» (
das Zeitalter der Massen)، في معنى «الكتل البشرية» التي
لا تميز لها سوى ما هو كمٌّ «متكتِّل» (
massenhaft) من السكان الذين فقدوا
توقيعاتهم الخاصة وتحوَّلوا إلى كمٍّ هائلٍ من الناس، من السهل لأي «متغوِّل
في الملك والسلطة» (
ein Ungeheuer von Reich und Macht) أن يصبح
بالنسبة إليهم «عظيمًا».
١٠ وضد هذا التجمهر المحموم وراء الأبطال القوميين المتغوِّلين
يدعو نيتشه إلى العودة إلى الاعتقاد القديم بأن «الفكرة الكبرى وحدها
هي التي تمنح العظمة لفعلٍ ما أو قضية ما.»
١١ وهكذا يميز نيتشه بين أوروبا «القومية» التي يقودها رجل
دولة يفرض على شعبه أن «يمارس السياسة» (
das Politisieren) بناءً على
نعرات هووية قديمة خاوية من أي عظمة روحية كبيرة؛ وبين أوروبا جيدة لا
تحفل بالنعرات القومية؛ لأنها تطمح إلى ممارسة «سياسة كبرى» (
grosse
Politik)، أي سياسة ما بعد قومية لا تقودها الفيضانات العاطفية لهذا
العرق أو ذاك، بل تقودها «فكرة كبرى» عن نفسها أو عن ماهية الإنسانية
أو عن الحضارة.
وحسب تشخيص نيتشه فإن الأوروبيين قد دخلوا في «مسار فيزيولوجي»
١٢ خطير؛ حيث أخذوا يتحرَّرون من خصائصهم القديمة (المناخ،
العرق، الطبقة، الوسط، …) التي تخلق هوية واحدة تقوم ﺑ «نقش» جملة من
«المطالب المتطابقة في النفس والجسد»؛ وفتحوا الباب أمام «نشأة نوع
من الإنسان ما بعد القومي والمترحِّل في ماهيته»
١٣ يتميز فيزيولوجيًّا بقدرة هائلة على التأقلم. ومن ثَمَّ فإن
ما يسمى «الشعور القومي» (
National-Gefuehl) هو لا يعدو أن يكون سوى
«سقطة كبيرة» لا تؤدي إلَّا إلى «الفوضى القادمة». ولا يتردد نيتشه في
التصريح بشكِّه الحاد في أن تكون «دمقرطة أوروبا» (
Demokratisirung
Europa’s) هي الحل؛ فهو يتوجس من أن تكون هي أيضًا سببًا غير مقصود
لظهور «الطغاة» (
Tyrannen).
١٤ لم يكن نيتشه مطمئنًّا إلى قدرة معاصريه على فهم ما يقول
عن مستقبل أوروبا، لكنَّه قد خمَّن المدة المطلوبة، لذلك حين اعترف ضمن
رسالة كتبها سنة ١٨٨٦م إلى صديقة بأن ما قاله في كتابه
ما وراء الخير والشر
لن يصبح قابلًا للقراءة إلا بعد قرن على الأقل حوالي سنة ٢٠٠٠م.
١٥
لكنَّ السؤال عن فكرة أوروبا ومستقبلها لم ينقطع في الفلسفة القارية،
وأفضل مثال على ذلك هو بالطبع ما كتبه هوسرل وتلاميذه والمتأثِّرون بفكره
خاصة جان باتوشكا. وكان المقام الفلسفي الهادي هو هذا النوع من
التساؤل: «ما هو معنى أوروبا؟».
١٦ وعلى الرغم من أن هوسرل قد حاول تشخيص «أزمة الإنسانية الأوروبية»
١٧ و«أزمة العلوم الأوروبية»
١٨ في إطار استشكال حول «فقدان المعنى» الذي قاد الحضارة
الغربية منذ اليونان، فإنه قد حصر نقده في تشخيص «أزمة العلم» الأوروبي
في معنى أنه «فقد دلالته بالنسبة إلى الحياة البشرية». ومن ثَمَّ كان
هوسرل بعيدًا عن بناء سؤال مركزي حول مستقبل «الدولة-الأمة»
الأوروبية. وحتى عندما حاول باتوشكا أن يقحم التأويل «السياسي» في فهم
معنى أوروبا فإنه ظل هوسرليًّا أي باحثًا فينومينولوجيًّا في «إشكالية»
المعنى، وليس في أزمة الدولة-الأمة الحديثة. بل أكثر من ذلك هو قد
أعاد المشكلة إلى جذورها الروحية لدى أفلاطون،
١٩ وخاصة فكرة «العناية بالنفس» كفكرة استثنائية خاصة
بالأوروبيين دمَّرها التصوُّر التكنولوجي للعالم.
٢٠
وعلينا أن نسأل: ما الذي حوَّل أوروبا من «فكرة» تنويرية «عقلانية»
(جيل كانط) وسؤال فينومينولوجي عن «المعنى» (جيل هوسرل) إلى خوف هووي
مريب من «الآخر» بمختلف تعريفاته (جيل بيتر سلوترديك)؟
٢١ هل هو ظهور العوالم المنافسة في أنحاء الأرض وعودة
«الغرب» إلى نفسه كحضارة متعبة وذاتٍ متصدِّعة ومنافس قلق على تفوقه الذي
نجح لفترة طويلة في تمريره باسم «الحداثة» كشكل كولونيالي غير مرئي
يأخذ لبوس نشر الحضارة بعد اليأس من مواصلة التبشير؟ وبعبارة واحدة:
كيف أصبحت أوروبا شعبوية في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين؟
حلول هابرماس: البحث عن مواطنة ما بعد قومية
في مقالة حول «هابرماس وأوروبا»
٢٢ يشير أحد شرَّاحه ومترجميه الفرنسيين الكبار إلى أن اهتمام
هابرماس بأوروبا هو موقف فلسفي متأخر في مسيرته. وكان لا بد من انتظار
سنة ١٩٩٠م الذي دشَّن نقاشًا خطيرًا حول «الهوية الألمانية» حتى ينخرط
هابرماس في تمييز حاسم بين «المواطنة والهوية القومية»، وهو عنوان
مقالة ظهرت له بالنسبة إلى القارئ الفرنسي ضمن مجموع نُشر سنة ١٩٩٢م وله
عنوان مثير بالنسبة إلى بحثنا، وهو
أوروبا في عشية القرن: الهوية والديمقراطية.
٢٣ ما ينبغي الاحتفاظ به من مقدمة هذا الكتاب هو تأسيس «فكرة
أوروبا» (
L’IDEE d’Europe) بشكلٍ جديدٍ انطلاقًا من أنها لا تعدو أن تكون
في أواخر القرن العشرين سوى فكرة «طوباوية» على الأوروبيين إعادة
بنائها في نطاق «مشروع أوروبي» يمكن أن يكون أساس «الوحدة الأوروبية»
المنشودة. ولكنَّ المعيار الأكبر لهذا النقاش لا يجب أن يكون شيئًا آخر
غير «الديمقراطية». قال محرِّرو الكتاب:«إن النقاش حول أوروبا يجب أن
يكون نقاشًا حول الديمقراطية.»
٢٤ ولذلك فإن هابرماس لم يأت إلى مسألة أوروبا إلا عندما قرر
الأوروبيون الانخراط في بناء وحدة أوروبية لم يجدوا لها من تبريرٍ عميقٍ
سوى قيمة الديمقراطية وجملة القيم الإنسانوية التي أفرزها التنوير. وهو
مشكل لا يمكن حله إلا متى وجدنا العلاقة المناسبة بين «الهوية القومية»
ومطلب الديمقراطية، وهو معنى «المواطنة».
ليست الهوية الأوروبية هي المشكل الذي أثار هابرماس بل «الإرادة
السياسية لبناء وحدة أوروبية»: هابرماس لم يكن أبدًا «أوروبيانيًّا» (
européiste)
٢٥ بالمعنى الهووي لكنه حرص على التدخُّل في النقاش حول أوروبا
بوصفها كيانًا من الدول في حاجة إلى تأسيس قانوني وأخلاقي مناسب. لم
يكن تدخُّله مجرد موقف مثقف ملتزم من سجال عمومي بل كان موقف الفيلسوف
الذي يريد الإسهام في تأطير مفهومي للنقاش وتأسيسه؛ وهو ما نشهده ضمن
مقالة كتبها هابرماس سنة ٢٠٠١م تحت عنوان «لماذا تحتاج أوروبا إلى إطار دستوري؟»
٢٦
وفي واقع الأمر فإن هابرماس قد ظلَّ يفكر طيلة فترة تمتد من ١٩٩٠م (في
كتاب
ثورة التدارك٢٧ حيث طرح السؤال عن «الهوية الألمانية» وأنه لا حلَّ لها إلا
بالانخراط في «وطنية دستورية» للشفاء من المرض «القومي» الدفين) إلى
٢٠١١م (مع كتاب
دستور أوروبا٢٨ حيث عرض الحل الدستوري للمسألة الأوروبية)، وذلك مرورًا
بسنة ٢٠٠٨م (تاريخ نشر كتاب الشكوى
آه، أوروبا)،٢٩ الشكوى من انسداد أفق الحل الأوروبي بالنسبة إلى الدولة-الأمة في ظل غموض مربك لدور
المثقف في معالجة «القضية الأوروبية»،
وإلحاح السؤال حول علاقة «أوروبا ومهاجريها» (
Europa und seine Immigranten)،
٣٠ والإقرار الصريح بأن «السياسة الأوروبية في أزمة»
٣١؛ قد ظل يفكر في نطاق إشكالية «أوروبية» واحدة لديه: ألا
وهي كيف نؤسِّس «الحاجة إلى أوروبا» بشكل دستوري بحيث يتم الانتقال
المعياري من الدولة-الأمة إلى «الوحدة الأوروبية» انتقالًا
ديمقراطيًّا من دولة «الهويات القومية» إلى دولة «المواطنين-الغرباء»
أو ما بعد القوميين أو ما بعد الهوويين.
كان السؤال إلى حدِّ ٢٠١١م: «هل يمكن للوحدة الأوروبية أن تصبح دولة فدرالية؟».
٣٢ وكانت عناصر الإجابة لا تعدو أن تكون «دستورية»: ما يوحِّد
الأوروبيين هو السوق المشتركة باعتبارها «كوكبة ما بعد قومية»
(
constellation postnational) تبحث عن مصالحة قانونية ما بين العولمة
الاقتصادية ومحدودية سيادة الدولة-الأمة. وحتى أطروحة المتشككين حول
«عدم وجود شعب أوروبي (
no-demos-thesis)» يبرر الوحدة الأوروبية
فإن هابرماس قد تغلَّب عليها بالتمييز بين «وطن المواطنين» وبين «الشعب»
أو الهوية الموروثة من لغة أو تاريخ ما، أي بين المواطنة الجمهورية
والهوية القومية. ومن ثَمَّ قد رأى المشكل في التساؤل عن الطريقة الأنسب
للمصالحة بين «أوروبا الدول القومية» و«أوروبا المواطنين»، وذلك بحثًا
عن «تصور مدني للوطن»
٣٣ بعيدًا عن الهوس الهووي للشعوب.
وفي هذا الصدد كان هابرماس يريد أن يكون بمثابة «بيداغوجي أوروبا في
نطاق العولمة»،
٣٤ ذاك الذي يعلِّم الهوويين كيف يخرجون من قمقم الدولة-الأمة ويتحوَّلون إلى مواطنين،
وقد عمل على فتح الطريق نحو ما يسمِّيه
«التضامن المواطني بين الغرباء» (
staatsbürgerliche Solidarität unter
Fremden) في نطاق دولة ما بعد قومية.
٣٥
لكن، منذ ٢٠١٤م وإلى اليوم أخذ هابرماس، وبانشغالٍ شديدٍ، يطرح أسئلة
من نوع آخر: أسئلة غير مثالية أو «تواصليَّة»، ولا تتعلق فقط بالإطار
«الدستوري» الذي ينبغي رسمه في أفق التصوُّر ما بعد السيادي الذي عرضه في
كتابه الكوكبة ما بعد القومية
الذي نشره سنة ١٩٩٨م
٣٦ وتُرجم إلى الفرنسية تحت عنوان
ما بعد الدولة الأمة، وختم
به حقبة كاملة من مسيرته تجد أوجها في كتابه
إدماج الآخر: دراسات في النظرية السياسية،
٣٧ حيث طرح السؤال عن حاجة أوروبا إلى دستور ما بعد قومي.
٣٨ إن المشكل الذي صار يعترض أوروبا ويشغلها ليس العلاقة «ما
بعد القومية» مع شعبٍ مجاورٍ، ولا إدماج «الآخر» الذي يتقاسم مع
المواطنين الأوروبيين مساحة «المجتمع المتعدد» القوميات؛ بل خطر من
نوع آخر. ولا يبدو لنا أن هابرماس قد طرح السؤال عن هذا النوع الآخر من
الخطر إلا في فترة متأخرة وقريبة جدًّا، وهي على الأرجح بعد سنة ٢٠١١م،
تاريخ نشر كتابه
دستور أوروبا،
٣٩ حيث لا يزال يبحث عن حلٍّ «دستوري» يسمح بنقل أشكال السيادة
القومية إلى هيئة ما بعد قومية، وإن كان على وعي تام بالتصادم الصامت
بين البعد الكوني لحقوق الإنسان واختزالها في حقوق المواطن، أي بين
العدالة الاجتماعية والديمقراطية، وبأن الديمقراطية غير ممكنة إلا ما
وراء مستوى «الأمة» (
nation)، أي بشكل ما بعد قومي يمكن أن يصالح بين
المفهوم «الكوني» (اليوناني/الكانطي) للحقوق وبين التصور «المساواتي»
(الإبراهيمي/المسيحي)
للكرامة. وإلى حد سنة ٢٠١٢م كان هابرماس لا يزال
يعتقد أن «أوروبا مشلولة من الخوف»
٤٠ كما يقول عنوان مقالة له، لكنه خوف متأتٍّ من «أزمة الوحدة
الأوروبية» في نطاق البحث عن «الدستور» المناسب لها بشكل ما بعد قومي،
وليس من شيء آخر.
وفي الواقع فإن وضعًا راهنًا ولكن غير فلسفي هو الذي قاد هابرماس سنة
٢٠١٣م إلى نقل «خوف أوروبا» من مجرد الحجاج الدستوري حول مستقبل التعايش
ما بعد القومي إلى الخشية الواقعية من خسارة الانتخابات الأوروبية سنة
٢٠١٤م أمام الأحزاب اليمينية ووقوع تهديد حقيقي لنمط الحياة الذي يتمتع
به المواطنون إلى حد الآن. ففي المؤتمر الدولي للفلسفة المنعقد في
أثينا سنة ٢٠١٣م، تحت عنوان «الفلسفة بما هي بحث وفن للعيش»، أطلق
هابرماس صيحة فلسفية كبيرة يحث فيها أوروبا على الحذر من صعود
«الشعوبية» قائلًا في نبوءة لم يقع تكذيبها:
«يجب الابتعاد عن المشروع النخبوي، الذي تصوغه نخب سياسية اليوم في
أوروبا، وتشريك المواطنين … وإلَّا فإن الأحزاب الشعبوية سوف تنتصر في
الانتخابات الأوروبية [في مايو ٢٠١٤م] … أنا لست رجل سياسة، ولكنني
أعتقد أن الشعبوية أمر خطير. والنزعة القومية لم تكن فقط مسألة القرنين
التاسع عشر والعشرين، بل هي حاضرة في كل البلدان.»
يعتقد هابرماس بذلك أنه لا يمكن الاحتراس من «أوروبا الشعبوية» إلا
بالدفاع عن «أوروبا المواطنين» — تلك التي يكون بإمكانها نقل رهان
الانتخابات الأوروبية من المخاوف القومية إلى ملامح الإطار الدستوري
الذي يضمن التعايش بين هويات ما بعد قومية؛ لأنها قائمة على تصوُّر مدني
لشكل «الجماعة» التذاوتية التي سيشيِّدونها معًا بواسطة الفعل التواصلي.
وفي مقابلة له سنة ٢٠١٤م انتقل هابرماس بشكلٍ حادٍّ من نغمته الهادئة
للبحث الفلسفي عن «إطار دستوري» لتأمين أوروبا-المواطنين، إلى نبرة
ساخطة حيث يعترف بشكلٍ حزين قائلًا: «لقد عادت النزعات القومية في
أوروبا إلى الظهور.»
٤١
ما يثير الانتباه هو أن هابرماس لا يحذر من النزعات القومية إلا من
جهة صدورها عن «التشكيك في أوروبا» (
l’euroscepticisme)
٤٢ بسبب أزمة اقتصادية اندلعت منذ ٢٠٠٨م تدور حول الصعوبات
المالية والديون العمومية. وهذا يعني أن سبب الخوف هذا ليس غياب إطار
دستوري لحل مشكل الانتقال من الهوية القومية إلى المواطنة، بل إن
المواطنة نفسها تعاني من أزمة اقتصادية تهدد شكل الحياة الذي تفتخر به
أوروبا. وحسب هابرماس فإن السياسيين تنقصهم الشجاعة كي يجعلوا من
«الوحدة المصرفية» (منطقة الأورو) «وحدة سياسية». إن العلاقة بين السوق
والسياسة غير متجانسة، بحيث إن المخيف حسب هابرماس هو التخلي عن مشروع
الديمقراطية ما بعد القومية والتضحية بالنموذج الاجتماعي الذي قامت
عليه أوروبا، وإن الضغط الاقتصادي سوف يدفع الدول القومية إلى التضحية
بمكاسبها الاجتماعية.
وهنا يعترف هابرماس بأن ثمة شعورًا سائدًا اليوم حول «انكفاء الدول-الأمة حول نفسها»
(
le repli sur soi des Etats-nations)، ومن ثمة
«عودة القوميات التي لا تمس السكان فقط، بل الحكام أيضًا.»
٤٣ لكنَّ الخوف من انهيار النموذج الاجتماعي لا يتحوَّل من نفسه
إلى كراهية ضد أوروبا أو ضد القوميات الأخرى، بل هو حسب هابرماس نتيجة
مباشرة لتأويل سيئ للأزمة الاقتصادية، وهو ما يطلق عليه هابرماس اسم
«شعبوية اليمين». وبدلًا من إرساء «تضامن ما بعد قومي» بين المواطنين،
ما يقع هو «انكفاء المصالح القومية على نفسها».
أمَّا الحل الأنسب حسب هابرماس في مقاومة النزعات القومية الانفصالية
فهو بناء «أوروبا المواطنين» بحيث إن الوحدة الأوروبية ليست مشكلًا
أحاديًّا خاصًّا بالشعوب والدول، بل بمجموع المواطنين. ثمة إذن مصدران
للسيادة هنا: الشعوب والدول من جهة، والمواطنون من جهة أخرى. ولذلك
هناك مطلبان متضافران: «وحدة سياسية» ما بعد قومية للصمود الاقتصادي
أمام العولمة المتوحشة، ولكن أيضًا الاحتفاظ بالدول القومية من خلال
«مواطنيها» لأنهم هم الذين سوف يدافعون عن الحقوق والحريات التي حققوها
تاريخيًّا.
إن المطلوب حسب هابرماس هو «إعادة التفكير في أوروبا»
٤٤ بشكلٍ جديدٍ في ضوء الأزمة الاقتصادية ولكن باسم نوع سياسي
من «التضامن» ما بعد القومي علينا أن نميِّزه جيدًا عن «الإحسان» أو محبة الجار.
٤٥ وذلك أن المشكل أكثر خطرًا من علاقة أخلاقية بين الشعوب.
وتشخيص هابرماس هو أن أوروبا مهدَّدة بأمرين اثنين: أزمات عالمية وغرب
منقسم على نفسه. وهو يعتقد أن وجه أوروبا تغيَّر بعد الحرب في سوريا
وأزمة أوكرانيا وتخلي الولايات المتحدة عن دور السلطة التعديلية
العالمية. إن أوروبا بذلك قد أصبحت وحيدة في الدفاع عن القيم الكونية
للحداثة.
قال: «وفي النهاية فإن الحكومة الأمريكية الجديدة تهدِّد ليس فقط
بتقسيم الغرب فيما يخص التجارة العالمية والسياسة الاقتصادية. بل إن
الأحكام المسبقة القومية والعنصرية والمعادية للإسلام (anti-Islamic)
والمعادية للسامية — التي هي بفضل أسلوب الحكومة الأمريكية في التواصل
والإيديولوجيا قد اكتسبت وزنًا سياسيًّا كبيرًا — إنما تشكِّل، مع
التطورات التسلُّطية في روسيا وتركيا ومصر وبعض البلدان الأخرى، تحدِّيًا
غير متوقع بالنسبة إلى الغرب، سواء على المستوى السياسي أو الثقافي.
فإذا أوروبا ترى نفسها فجأة متروكة لنفسها في دور الحارس المدافع عن
المبادئ الليبرالية الذي يناصر الأغلبية المهمَّشة في الانتخابات
الأمريكية.»