بناء الإشكال
إنَّ شبحًا ما قد أخذ يخيِّم على أفق «الشعوب» التي ننتمي إليها وحتى تلك
التي لا ننتمي إليها. وكان ماركس في سنة ١٨٤٨م قد رصد شبحًا أخذ عندئذ
يقضُّ مضجع أوروبا، سمَّاه شبح الشيوعية. وفي سنة ١٩٩٣م أخذ دريدا يعدِّد
«أشباح» ماركس
١ الذي بات شبيهًا بشخصية هملت/شكسبير، وقد عثر في
«الشبحية» (
spectralité) على مقام مفيد لنوع من التحليل النفسي
التفكيكي العجوز أو الواهن لهوية أوروبا بعد انحسار سلطة الدولة/الأمة
في أوروبا ودخول الحكام ما بعد القوميين في عصر الدول ما بعد-السيادية. يبدو أن «شعوبنا»
ليس فقط قد دخلت عصر ما بعد السيادة بل
هي قد وقعت تحت شبح ما بعد-شيوعي ولكنه ينبثق من طاقة تخريبية غير
مسبوقة، ألا وهو شبح «العصيان»، وعلينا أن نتمنَّى أن يكون وأن يبقى
«عصيانًا مدنيًّا». ربما هي «شعوب» قد وصلت إلى العصيان متأخرة، بعد
عصر من «الاستقلال الوطني» الذي تهرَّم وسقط داخله، بلا جدوى تاريخية
كبيرة، تبيَّن في آخر المطاف أنه قد ترك مصادر أنفسنا العميقة على حالها
منذ العصور الوسطى، وبالتالي أنه لم يكن يمكن أن يفضي إلَّا إلى عصر من
الحكام الهوويين المتعطشين إلى استئناف الاستبداد الشرقي بمفردات
دكتاتورية، تجسِّد استعمار عالم الحياة بواسطة استعمال أداتي لمنظومات
حداثة بلا إنسان حديث.
لقد وضعت إلى حد الآن عبارة «الشعوب» بين هلالين. إذْ يبدو أن مهمة
«الشعوب» قد انتهت أو على الأقل قد تقلَّصت بشكل حاسم منذ أواسط القرن
العشرين، وذلك بعد انحسار حروب الدولة/الأمة في أوروبا وانتهاء حروب
التحرير في بقية العالم (باستثناء فلسطين المغتصبة)، وتلك كانت المرحلة
الأخيرة من الشعوب الحديثة.
إن الدخول في عصر دول ما بعد-سيادية يعني خاصة أن «المحكومين» قد
اكتشفوا فجأة أنهم منذ مدة لم يعودوا «شعوبًا» (
peuples) بالمعنى
القومي (لدى منظِّري السيادة والعقد الاجتماعي الغربيين)، بل صاروا — دون
علمهم — مجرد مجموعات «سكانية» (
populations) (حسب تشخيص فوكو)،
٢ أو «فئات» اجتماعية أو «أقليات» أخلاقية، كل فئة منها
يمكن أن تستند إلى سياسات الهوية التي يمكن أن تشرعن «جسمها» البيو-سياسي. ولكن هل يعني
ذلك أننا صرنا نشهد نوعًا من استعمال «السكان ضد الشعب»،
٣ لا سيما بعد تآكل المضمون الهووي لهذه الفكرة «الحديثة»
تمامًا (التي اخترعها هوبز)؟ وذلك فضلًا عن أنَّ مفاهيم «العرق» و«الأمة»
و«الطبقة» قد صارت عبارة عن «هويات ملتبسة»
٤ لا يبدو أننا نتوفَّر على اتفاق تأويلي مناسب حولها. إنَّ وعد
الحداثة بتكوين «أمة» من «المواطنين»
٥ قد انقلب عندنا إلى كابوس هووي. وليس عندنا فقط فإن أوروبا نفسها
٦ لم يفارقها التساؤل الهووي المرير إلى حد اليوم عن معنى أن
تكون «أمة» قومية ليس فقط من «المواطنين» بل خاصة من «الأفراد»؟
يبدو أن ما تشير إليه جوديت بتلر بأنه «قلق الجندر» لم يصلنا منه إلَّا
«قلق الشعوب»، قلق «الجنس» السردي والأخلاقي الذي نسمِّيه «الشعب»، الذي
تمخَّض عن ظهور الدولة الوطنية لدينا في العصور ما بعد الكولونيالية التي
يبدو أنها سوف تطول. قلق الشعوب يعني اضطراب الجنس الهووي الذي تتمثَّل
نفسها من خلاله وتحوُّلها دون وعي واضح إلى مجموعات سكانية أو «أغلبيات»
تشريعية إجرائية بلا خطة للمصير. يبدو أن مقولة «الشعوب» قد انسحبت
وتركت الساحة فارغة حيث تتنازع «الأغلبيات التشريعية» مع «المواطَنات»
المؤجَّلة على مجرد «البقاء» القانوني. كان النزاع هوويًّا بين الشعب
والدولة، فصار صراعًا إجرائيًّا بين «المجتمع» (الاقتصادي) و«الجماعة»
(المحافظة)، حيث لا يبقى لقوى التحرر غير تعريض الجسد العمومي إلى
مخاطر الحياة العارية. ولأنَّ مقولة «الشعب» قد صارت قيد المراجعة، كذلك
مقولة «الثورة» التي تحولت فجأة إلى مزحة سردية.
ربما منذ ستينيات القرن الماضي فقط إنما أصبح ممكنًا لمجموعات من
«السكان» العاديين أن تبدي نوعًا جديدًا من «التحرُّر» غير الهووي أو
«المقاومة المدنية» أو «العصيان المدني» تجاه السلطة السائدة، وأن تعبِّر
عن أشكال جديدة من «الاحتجاج» على وضعٍ «هشٍّ» أو «معطوب» بات غير قابل
للاحتمال وأن تخوض أصنافًا غير مسبوقة من «التظاهر» ضد سلطة أو نظام
حكم معين، لم تكن متاحة في نطاق الدولة القومية قبل ١٩٤٥م. إنَّ ما يجمع
بين هذه الأنماط من الرفض «العمومي» لسلطة أو وضع أو نظام سياسي أو
جنسي هو أنها جميعًا من طبيعة «مدنية»، ولا تقبل أي خلط بنيوي مع
العصيان غير المدني أو المسلح.
٧ كأن الأمر يشير إلى انتقال تاريخي حاسم من تاريخ
الدولة/الأمة الحديثة، القائم على السيادة «المعسكرَة» باسم هوية «شعب»
قومي مغلق على نفسه العميقة، إلى حقبة الجماهير العادية التي لم تعُد
ترى الدولة من حيث هي هوية قومية بل فقط من جهة الفضاء المدني السطحي
للحياة العادية، حيث يمكن للفرد المعاصر أن يعيش حياة أفقية وغير هووية
قابلة للحياة في نطاق «جموع» مشابهة له ولا تمارس عليه أي نوع من
التعالي الأخلاقي أو السياسي. ربما كان ذلك هو الهدية
الميتافيزيقية التي تمتعت بها شعوب أوروبا بعد حربين عالميتين، تعلَّم
فيهما الإنسان «العادي» أن حياته الخاصة هي الثروة الوحيدة التي
يمتلكها، ومن ثَمَّ أن التماهي مع الدولة الهووية لم يعُد ممكنًا. ومن ثَمَّ
انخرط «الفرد» في استعادة حياته العادية من كل أنواع السلطة (ليس فقط
سلطة الدولة بل سلطة الخطاب وسلطة الجنسانية وسلطة الجندر … إلخ). وكل
ما وقع في الغرب ما بين ١٩٤٥م و٢٠٠١م إنما كان بمثابة ورشة أخلاقية
وحقوقية لاستعادة الحياة العادية وتأسيسها من الداخل باسم فرد ما بعد
قومي كما هو ما بعد علماني، وما بعد مسيحي كما هو ما بعد حديث.
نحن نضع تاريخ ٢٠٠١م بمثابة تاريخ الناقوس المرعب الذي دقَّه رهطٌ من
الناس «غير الغربيين» على أسماع غربٍ مغلق لم ينصت جيدًا، كما يبدو، إلى
الصرخات ما بعد الاستعمارية للشعوب، على الرغم من وقائع الاستقلال
الوطني التي حوَّلتها «الدول القومية» الحديثة العهد بالانفصال القانوني
عن السلطة الكولونيالية إلى أناشيد هووية بلا محتوى، أي دون وعود
التنمية والديمقراطية، ولكن خاصة دون أي رغبة في «عصيان ابستيمي»
٨ يؤدي إلى فك الارتباط الفكري بين الحداثة والكولونيالية.
لكنَّ ٢٠٠١م لم تقرع نواقيس الغرب فقط بل كانت إرهاصًا حزينًا أساء وجهته
إلى منظومات الحكم الجاثمة فوق صدور الشعوب «غير الغربية» نفسها، حتى
ظنَّ البعض أن سنة ٢٠١١م، مهما كانت السردية التي نبنيها عنها، هي بمثابة
«درس في التخريب» كان الشاعر العراقي السليط مظفر النواب، في ملحمته
الشهيرة
وتريَّات ليلية
التي كتبها ما بين ١٩٧٢ و١٩٧٥م، قد بشَّر العرب
المعاصرين بضرورة حصوله يومًا ما.
حين تخرج «الجموع» ما بعد القومية وما بعد العلمانية لعزل الحاكم
الهووي هو بالفعل «درس» سياسي في «التخريب» غير مسبوق في تاريخ شعوبنا.
لكنَّ المفهوم الحديث عن «الشعب» الذي أخذ حمولة حقوقية في أفق الحداثة
إلى حد ١٩٤٥م، قد بات قيد المراجعة بشكلٍ مخيفٍ. إن السؤال «من نحن؟» لم
يعُد هوويًّا إلا عرضًا، ومع ذلك لم يتم بعدُ إصلاحه من الداخل إلى حد
الآن. لا يزال السؤال عن الحياة نفسها التي نعيشها، الحياة العادية،
مطلبًا عرضيًّا. هذه الهشاشة في مفهوم «الشعب» سوف تظل تهدد كل وعي قد
يحمل «السكان» على مقاومة سلطة الدولة دون أن تراها. كيف نفهم ما يقع
في أفق هؤلاء «السكان» ما بعد الهوويين؟ هل هي نهاية الدولة/الأمة على
طريقتنا؟ هل هو «عصيان مدني» بالمعنى الليبرالي — ولا ننس أن العصيان
المدني اختراع أمريكي ظهر سنة ١٨٤٨م نحته مواطن (دخل السجن من أجل ذلك)
رافض لدفع الضرائب التي كانت تُستخدَم لتمويل حرب قومية في مكسيكو
وتعزيز قانون العبيد الآبقين —
٩ أم هو نمط «احتجاج» ما بعد-هووي يستند إلى «فردية»
غاضبة لم يعد يمكن لأي حرس هووي، أكان قوميًّا أم دينيًّا أو
علمانيًّا، أن يعطِّلها؟ وهل ما زال لدينا «شعوب» بعامة؟ أم أننا دخلنا
عصرًا جديدًا من الكائنات البشرية «الهشَّة» التي لم تعُد تملك أي قوة
أخرى غير «هشاشتها» نفسها بوصفها الوسيلة الوحيدة لخوض أنواع أخرى من
المقاومة؟ مقاومة الأقليات الأخلاقية المعطوبة بلا رجعة، نعني من دون
أي مجال للإنقاذ الهووي؟
(١) هل هو «عصيان مدني»؟
في الفقرة ٥٥ من كتابه
نظرية في العدالة،
١٠ مستأنفًا مقالة سابقة له كان عنوانها «في تبرير العصيان المدني»،
١١ حاول جون رولز أن يضبط تعريفًا مناسبًا لمفهوم «العصيان
المدني» من المفيد أن نناقشه إذْ اعتُبر بمثابة «النقاش الفلسفي
المعاصر الأكثر تأثيرًا حول العصيان المدني».
١٢ وقد ظهر الكتاب سنة ١٩٧١م، في حقبة ساد فيها جدل عمومي عن
حرب فيتنام، حيث ظهر نشطاء السلام بقوة في تلك الفترة في أمريكا مثل
دانيال بيريغان عالم اللاهوت ليس فقط المناهض لحرب فيتنام، بل المشجِّع
على «تخريب النظام الليبرالي والدعوة إلى وضعه موضع سؤال بشكل جذري».
١٣ كان الرهان عندئذ هو حل المفارقة التي تدور حول ما إذا
كان يمكن للمعارضة غير العنيفة (العصيان في نطاق الطاعة) أن تحقق
الأهداف الثورية في كنف القانون والمؤسسات الديمقراطية.
١٤ كان المشكل هو طريقة رسم «الحدود» التي تسمح بالعصيان في
كنف القوانين.
أما طرافة رولز فهو التدخُّل في هذا النقاش عن طريق التمييز بين
«العصيان المدني» (civil disobedience)، من جهة، و«الرفض الضميري»
(conscientious refusal) و«العمل الحربي» (militant action)، من جهة
أخرى.
بيد أنَّ أهم ما نقف عنده لأول وهلة هو تنبيه رولز بأنه صمَّم «هذه
النظرية فقط من أجل الحالة الخاصة بمجتمع عادل تقريبًا، مجتمع جيد
التنظيم في معظمه، لكن مع ذلك تحدث فيه بعض الانتهاكات الجدية للعدالة».
١٥ وجه الإفادة في هذه الجملة أنها محبطة. «نحن» شعوب لا
تملك حتى الشروط الإجرائية كي تدَّعي حق «العصيان المدني» كما تصوَّره
رولز. إذْ يتطلَّب ذلك، كما نرى، أن يكون المجتمع «عادلًا تقريبًا»، أي
ديمقراطيًّا ومؤسسًا بشكل شرعي على حكم الأغلبية، وأن يكون «جيد
التنظيم في معظمه»، أي عقلانيًّا يبحث عن السياسة الفضلى حسب مبادئ
العدالة، وليس «صفقة عالقة بين أطراف متعادية».
١٦ وهكذا فإن سبب العصيان المدني لا يتعدَّى «بعض الانتهاكات
الجدية للعدالة». إن الخطير هنا هو أن ثقافتنا تبدو غير جاهزة
للاستفادة من هذا الطرح الفلسفي حول معنى العصيان المدني حتى ولو كانت
شعوبنا قد أقدمت على هذا العصيان. هي سوف تفهمه وتمارسه خارج قواعد
الإجرائية كما تصوَّرها الفيلسوف الأمريكي. الخلاصة إذن هي أنه لا يمكن
الحديث عن عصيان مدني إلا «بالنسبة لسلطة ديمقراطية مؤسَّسة بشكل شرعي …
إنها لا تطبق على الأشكال الأخرى من الحكومات ولا، إلا بالصدفة، على
أنواع أخرى من المعارضة والمقاومة.»
١٧
وحدهم «المواطنون» إذن — وليس «الرعايا» في دولة الملة — من حقِّهم أن
يقدموا على العصيان المدني إذا ما شعروا بحاجة إلى «الدفاع عن حريات
المرء» أو شعروا بشيء مثل «واجب مناهضة الظلم».
١٨ ولذلك يعتبر رولز أن العصيان المدني هو «الاختبار»
١٩ الأكبر بالنسبة إلى كل تأسيس أخلاقي للديمقراطية. ومن هنا
هو ينبِّه إلى ضرورة تمييز العصيان المدني عن «المظاهرة» وإن كانت في
إطار القانون، كما عن «انتهاك القوانين» أو العمل العسكري أو المقاومة
المنظَّمة. العصيان «المدني» لا ينتهك القانون وهو ليس مظاهرة. إن الخصم
هنا ليس الدكتاتورية بل حكومة ديمقراطية. العصيان المدني إذن مُشكل
ديمقراطي؛ ولذلك يقدِّمه رولز على أنه هو «الأسلوب من المعارضة ضمن مجتمع حر».
٢٠
وها هو التعريف الذي يقترحه رولز: «أنا أعرِّف العصيان المدني بوصفه
عملًا عموميًّا (
public)، غير عنيف، تمَّ بما يمليه الضمير
(
conscientious)، لكنه عمل سياسي مضاد للقانون يتم عادة بهدف إحداث
تغيير في القانون أو سياسة الحكومة. وإذْ يتصرَّف على هذا النحو فإن
المرء يخاطب معنى/حس (
sense) العدالة لدى أغلبية المجتمع، ويعلن أنه
بعد تمعُّن في الأمر هو يرى أن مبادئ التعاون الاجتماعي ما بين أناس
أحرار ومتساوين ليست محترَمة.»
٢١
ننبِّه أولًا إلى الطابع «العمومي» للعصيان المدني: إنه يدخل في نطاق
ما سمَّاه كانط «الاستعمال العمومي للعقل» وليس موقفًا شخصيًّا من أحد.
هو إذن يقع خارج دائرة «الحياة الخاصة»، ومن ثَمَّ هو لا ينطوي على أي
تصور سردي للهوية أو لنموذج العيش الخاص بطائفة أو جماعة على حدة. هو
أسلوب في المشاركة السياسية بعد أن يقبل «المواطنون» بشرعية الدولة
التي يعيشون في كنفها. وهذا القبول المسبق هو ما يجعل هذا العصيان
مدنيًّا أي «غير عنيف». لكنَّ رولز يفاجئنا هنا بأن يقحم خاصية أخلاقية
عميقة تدفع نحو هذا العصيان وليس من طبيعة سياسية أو عمومية: إنها صفة
«ما يمليه الضمير» (
conscientious). لا يتعلق الأمر هنا بمجرد «الوعي»
(
consciousness, awareness) بل بما يمليه «الضمير» (
the conscience). لا
يكفي أن تكون واعيًا حتى تفعل ما يمليه الضمير. وهذا بالذات ما يجعل
العصيان عملًا «سياسيًّا»، أي يتعلق بالتفاوض بين المواطنين حول مبادئ
العدالة في مجتمعهم على الرغم من اختلافاتهم السردية أو الأخلاقية حول
هويتهم. هو سياسي في معنى أنه يهدف إلى إحداث تغيير في «القانون» أو في
«سياسة» الحكومة، وليس إلغاء القانون أو هدم شكل الحكم. ولذلك يؤكد
رولز أن «العاصي» بشكل مدني هنا لا ينتهك القانون الذي «يحتج»
(
protest) ضده أو هو ليس مضطرًّا إلى ذلك. قال: «عوضًا عن ذلك، قد
يعصي المرء أوامر المرور أو قوانين حرمة الأراضي عصيانًا هو بمثابة
طريقة لعرض قضيته (
one’s case)»
٢٢ هنا يؤدي مفهوم «القضية» دورًا حاسمًا: هي تتعلق حصرًا
«بالاحتجاج ضد قوانين غير عادلة» (
to protest unjust laws). لا يعصي
المواطن باسم عدمية تقع خارج المجتمع، بل هو يحتجُّ على «تشريعات» فقدت
«معنى العدالة» الذي تأسَّس عليه عقد المجتمع.
يقول رولز في الفقرة الأولى من الكتاب: «إن العدالة هي الفضيلة
الأولى للمؤسسات الاجتماعية، مثلما أن الحقيقة هي الفضيلة الأولى
لأنساق التفكير.»
٢٣ يعني ذلك أن مقياس القانون ليس «نجاعة» (المنظومة) بل منع
«الظلم» (الذي يمكن أن يسلَّط على أي شخص).
ثمَّة هوَّة شكلية تخلقها الحكومات بين «معنى» أو «حس» العدالة (وهو أساس
أخلاقي يمتلك المواطن حق التفاوض حوله) وبين آلة القوانين التي تتحوَّل
فجأة إلى حيوان شكلاني لا يرى المواطنين إلَّا بوصفهم مجرد حوامل بنيوية
للمنظومة. لذلك فالعصيان المدني هو فعل خِطابي وليس تمردًا. هو طريقة
في «مخاطبة» (to adress) الأساس الأخلاقي الذي تم تغييبه أو إهماله،
الأساس الذي هو «معنى» العدالة أو «حس» العدالة. ومن ثَمَّ فإن العصيان
المدني ليس موجَّهًا إلى الدولة أو ضدها، بل هو خطاب إلى المنطقة
الأخلاقية من الرابطة المجتمعية بين المواطنين، أي حس العدالة.
إن المعنى الوحيد للعلاقة مع «أغلبية المجتمع» (the majority of the
community) هي «المواطنة»، مثلما أن «العدالة» هي الشعور الوحيد بشرعية
الحكومات أو الدساتير. ما عدا ذلك، تكون الدولة مساحة إجرائية لتنفيذ
قوانين شكلية على أجسام طيِّعة تم تجريدها من كل مقومات «السياسة». يبدو
العصيان المدني نزاعًا تأويليًّا صامتًا بين المواطنة والعدالة، وهو لا
يصطدم بالسلطة الحاكمة إلَّا عرضًا. العصيان المدني «رأي» وليس عداوة
عدمية. وهذا الرأي يشترط رولز أن يكون «بعد طول تأمُّل» (considered
opinion). والقصد أنه لا يوجد مواطنون حمقى، المواطنة ذكاء مدني يفاجئ
الحكومات بعد أن ظنَّت أنها جرَّدت الناس من قدرتهم على الحرية ومن حقهم في
التساوي مع الجميع. عنوان العصيان هو هذا: «أن يعلن المرء أنه بعد تمعُّن
في الأمر هو يرى أن مبادئ التعاون الاجتماعي ما بين أناس أحرار
ومتساوين ليست محترَمة». قد يبدو هذا الطلب متواضعًا جدًّا ومخيِّبًا
لآمال «الثوريين». لكنه لن يبدو كذلك إلا بالنسبة إلى محتجِّين في ظل
مجتمعات «سيئة التنظيم». ولكن ما هو «المجتمع الجيد التنظيم»؟
يقول رولز: «إن مجتمعًا ما هو جيد التنظيم (
well-ordered) حين لا
يكون مصمَّمًا فقط من أجل تنمية الخير لأعضائه، ولكن حين يكون أيضًا
منظمًا فعلًا بواسطة تصور عمومي (
public) للعدالة.»
٢٤ لا تتعلق «جودة» المجتمع بالمنظومات التي ينفِّذها على
الناس بل بالتصوُّر «العمومي» الذي يطوِّره عن «العدالة» التي لا يمكن
اختبارها إلا بقدرة مواطنيها على التمتع بحقٍّ شرعي في «العصيان المدني».
تصور «عمومي» عن العدالة أي ناتج عن نقاش علني بين مواطنين أحرار
ومتساوين حول مبادئ التعاون الاجتماعي فيما بينهم. ولذلك لا يمكن فهم
«الحق» في العصيان المدني دون فهم «من» يقوم أو يطالب به: قد تبدو
العدالة مشكلًا إجرائيًّا لكنها ليست كذلك إلا عرضًا. إذ إن موضوع
العدالة الوحيد لا يمكن أن يكون إلا «الشخص» الذي يحتج ضد القوانين غير
العادلة. قال رولز: «كل شخص يمتلك حرمة غير قابلة للانتهاك
(
inviolability) هي مؤسَّسة على العدالة حتى رفاهية المجتمع برمَّته لا
تستطيع أن تلغيها (
override).»
٢٥ إن المفارقة هنا هي أن تصوُّر العدالة لا يمكن أن يكون إلا
«عموميًّا» (حصيلة نقاش حر بين الناس) لكنَّ رهان العدالة لا يمكن أن
يكون حكرًا على أي كان، بل «كل شخص» (
each person) يمتلك حقًّا
طبيعيًّا في أن يكون «محرَّمًا» أو «محصَّنًا» (
inviolable) ضد «الظلم»، أي
ضد إساءة القوانين له. وهكذا فالعصيان المدني هو مقاومة ضد ظلم قانوني
يجرِّده من «حرمته» (
inviolability) الطبيعية، وبهذا المعنى لا يوجد
عصيان مدني دون تورُّط «شخصي».
ومع ذلك فإن رولز ينبِّهنا إلى أنه لا يمكن «تبرير» العصيان المدني
باللجوء إلى مصادر غير مدنية. قال: «عند تبرير (
justifying) العصيان
المدني لا يدعو (
appeal) المرء إلى مبادئ الأخلاق الشخصية أو إلى عقائد
دينية، على الرغم من أنها يمكن أن تتوافق مع مطالبه أو تسندها، ولا
نحتاج إلى القول بأن العصيان المدني لا يمكن أن يكون مؤسَّسًا فقط على
مصلحة مجموعة أو شخص، بل عليه أن يستحضر (
invoke) التصوُّر المشترك
للعدالة الذي يشد النظام السياسي.»
٢٦
إنَّ ما يهمنا هنا أن العصيان المدني يحتاج في كل مرة إلى «تبرير»
معياري، نعني ليس فقط بما هو إجراء خطابي يهدف إلى «شرعنة» تصور ما
للعالم بل باعتباره مؤلفًا من حججٍ أو عللٍ لإسناد حقيقة أو اعتقاد يؤخذ
على أنه وضعية معنى مناسبة أو مفيدة للذوات المشاركة في الكلام والفعل.
ومن ثَمَّ لا يمكن لأي «أخلاق شخصية» أو «عقيدة دينية» أن تكون سندًا
معياريًّا لأي فعل عمومي، وخاصة عندما يتعلَّق الأمر بالعصيان. ذلك أن
رولز يفرِّق بين ما هو «عادل» (قيمة تمتلك صلاحية كلية مثل القوانين)
وبين ما هو «خيِّر» (تصوُّر ينبع من مصادر أنفسنا ويعبِّر عن نفسه من خلال
سردية هووية). ومن ثَمَّ لا يمكن تبرير العصيان المدني باسم أي «مصلحة»
آنية أكانت شخصية أم جماعية. العدالة ليست مجرد «مصلحة» بل هي قيمة
معيارية تخص مبادئ التعاون الاجتماعي بين الناس بعامة.
قال: «إن العصيان المدني فعل عمومي (
a public act).»
٢٧ ثمة صلة بنيوية بين «العمومي» و«المبرَّر»: لا يكون العصيان
مبررًا إلا عندما يكون فعلًا عموميًّا. إن نواة الشرعنة هي قدرة
«الناس» (دون أي تحديد هووي آخر) على الفعل بشكلٍ «علني» من أجل حياتهم
أو حريتهم، في إطار فضاء عمومي غير مصادَر من أي سلطة أو باسم أي سلطة
مهما كان تعاليها، عموديًّا كان أم أفقيًّا. علينا أن نؤكد بشدة على
هذا الطابع «العلني» أو «المفتوح» لأنه هو الضمانة الوحيدة على أنه
«سلمي»:
«إن العصيان المدني هو فعل عمومي. فهو ليس موجَّهًا فقط نحو المبادئ
العمومية، بل هو يتم على العموم (
in public). إنه ينطلق بشكلٍ صريحٍ أو
مفتوحٍ (
openly) مع إشعار معقول (
fair notice)، فهو ليس مخفيًّا أو
سريًّا. وبمقدورنا أن نقارنه بكلام عمومي (
public speech)، ولكونه
شكلًا من الخطاب (
adress)، تعبيرًا عن قناعة سياسية عميقة ونابعة من
الضمير، فهو يحدث في ساحة عمومية (
public forum). ولهذا السبب، من بين
أسباب أخرى، فالعصيان المدني ليس عنيفًا.»
٢٨
نحن نعثر هنا على ترجمة حاسمة لمعنى «العمومي» الذي يجعل العصيان
«مدنيًّا» وليس عنيفًا: إنه «الكلام العمومي» بوصفه البراديغم الذي
يهيِّكل كل فعل غير عنيفٍ بين الناس بوصفهم «متكلمين» بعامة. ولا ننس أن
الفلسفة السياسية التي رسمها رولز هي على الأرجح الثمرة العليا لجملة
تقاليد فلسفة اللغة الأنجلوسكسونية. كل عصيان مدني هو في طبيعته فعل
لغوي وليس حركة خارجة عن اللغة. وكل خصائصه المشار إليها، أي كونه
عموميًّا ومفتوحًا وعلنيًّا وليس مخفيًّا ولا سريًّا، هي مستمدة كليةً
من كونه يجد في «الكلام» بنيته العميقة. وعلينا أن نفهم هنا بالكلام كل
أفعال الكلام ذات الطبيعة «القانونية». ما يتميز به المجتمع «الحديث»
أنه إنتاج خِطابي لجملة من المفاعيل الإنجازية التي تضخُّ قوة معيارية لا
يوجد أي وسط آخر للتعامل معها إلا الوسط اللغوي. وليس «الدستور» غير
الهيكل القانوني العام للخطاب الشرعي الذي تكون كل الخطابات العمومية
الأخرى ترجمة إنجازية له. من هنا لا يمكن أن يكون عصيان القوانين
مخفيًّا أو «سريًّا»؛ فالسرية سوف تجرِّده من شرعيَّته أو من قدرته على
إنتاج قوة إنجازية منتجة للشرعنة.
ومع أن رولز قد قارن تصوُّره للعصيان بمفهوم الكلام، حيث مثَّله بنوعٍ من
«الخطاب» في «ساحة عمومية»، فهو قد ضخَّ قيمة معيارية خطيرة ليس من
البديهي أنها جزء من نموذج الخطاب، ألا وهي مسألة «القناعة السياسية
العميقة والنابعة من الضمير (
conscientious)». صحيح أن رولز قد سبق أن
أقرَّ ما يسميه في الفقرة ٣٣ من الكتاب «حرية الضمير بشكلٍ متساوٍ»
(
Equal Liberty of Conscience)، وهي تتمثَّل في أن «الأفراد يتمتعون بهذه
الحرية الأساسية عندما يكونون أحرارًا في مزاولة مصالحهم الأخلاقية أو
الفلسفية أو الدينية دون قيود قانونية تفرض عليهم أن يلتزموا أو لا
يلتزموا بأي شكل مخصوص من الممارسة الدينية أو أي ممارسة أخرى، وعندما
يكون على الناس الآخرين واجب قانوني بعدم التدخل.»
٢٩ ومع ذلك فإن وجه الصعوبة هنا هو في الفرق بين حرية الضمير
التي تبدو حقًّا في مصلحة أخلاقية أو دينية خاصة يجدر بها أن تبقى في
دائرة الحياة الخاصة، وبين المساواة القانونية في حرية الضمير لجميع
المواطنين في الفضاء العمومي. إن المساواة سوف تظل مشكلًا إجرائيًّا
فقط ما دامت منابع الضمير مختلفة. ذلك أنَّ كل عصيان مدني سوف يكون تحت
إملاء حرية ضمير مختلفة عن الأخرى بسبب أنها تنبع من مصادر أخلاقية
مختلفة. كأن المطلوب من المواطنين هو الإقدام على العصيان المدني باسم
إلزامات أخلاقية أو دينية صامتة أو مجهولة أو تقع خارج النقاش العمومي
مع المواطنين الآخرين المختلفين من حيث المصالح الأخلاقية أو الدينية؛
إذ إن حرية الضمير هي تنبع في كل مرة من إلزامات خاصة أوَليس من
الضروري تقاسمها.
لكنَّ نكتة الأمر هنا هي أن نفهم «العصيان المدني بوصفه نوعًا من
الخطاب (
a mode of address)»
٣٠ وليس عنفًا لا سيما ضد أشخاص آخرين. في الواقع لا يكمن
الطابع «المدني» في التبرير القانوني للعصيان، أنه «حق» معترف به، بل
في كونه ينبع من منطقة أخلاقية لا يراها القانون لكنها تؤسِّسه، ألا وهي
منطقة «القناعة» أو «الضمير». «إن العصيان المدني يمنح صوتًا للقناعات
النابعة من الضمير والمنعقدة لأسباب عميقة (
conscientious and deeply
held convictions)».
٣١ إن ما لا يستطيع القانون أن يراه هنا هو هذه المنطقة
الأخلاقية حيث تتشكَّل «القناعات» بوصفها ميولًا أو مواقف معيارية تنبع
من «الضمير» وتشدُّنا إليها بشكلٍ عميقٍ. وذلك يعني أن العصيان المدني ليس
مشكلًا سياسيًّا إلا عرضًا، وأقل من ذلك أن يكون مشكلًا قانونيًّا. لا
يعصي الناس القوانين بسبب خصومة تشريعية إجرائية أو لمصلحة سياسية
حزبية. إنَّ ما يحركهم يوجد في منطقة عميقة حيث يكون الضمير هو مركز
القناعات التي يعبِّرون عنها. لكن تلك المنطقة ليست غريبة عن مشكلة
«العدالة» بل هي المساحة العميقة حيث تتبلور المبادئ العمومية للتعاون
الاجتماعي بين الناس. ومن ثَمَّ، حيث تواصل التصورات الأخلاقية عملها دون
أن تحتاج إلى التدخل المباشر في النقاش القانوني. ولذلك ينبِّه رولز إلى
أن العصيان المدني لا يشكِّل «تهديدًا» (
a threat) لأحدٍ، فهو يبقى في
حدود «التحذير» و«اللوم».
٣٢
لكنَّ رولز يضيف سببًا آخر لتفسير الطابع السلمي للعصيان. ويبدو أنه
يسوقه من أجل التنبيه إلى خصوصية الفهم الذي يبسطه عن «الضمير» الذي
يتحدث عنه. فهو لا يعني بالضمير حرية الضمير، وليس هذا المحتوى الديني
أو ذاك؛ ولذلك فإن العصيان المدني ليس خصمًا للقوانين بل هو طريقة خاصة
أو حرة في التعامل معها. بل أكثر من ذلك: يعتبر رولز أنَّ العصيان ليس
عدوًّا للقوانين بل هو نوع خاص من «الوفاء للقانون» (
fidelity to law)
بعامة، إلا أنه وفاء حدودي. قال: «هو وفاء للقانون على الرغم من أنه
يوجد على الحافة الخارجية منه.»
٣٣ لا يحتاج العصيان إلى «الخروج» عن دائرة القانون بل إلى
سياسة حدودية معه. الحرية هي الحافة الخارجية من القانون، وليس العصيان
غير التعبير عن هذه الحدود بوصفه قوة إنجازية يحتفظ بها الناس في نطاق
الخطاب وعليهم أن يستعملوها كلما احتاجوا إلى ذلك. لا يجب على الدولة
الديمقراطية أن تكون دائرة مغلقة بالقوانين، بل أن تكون مساحة مفتوحة
حيث يمكن أن تنشأ أنواع حرة من الوفاء للقانون باسم حافة خارجية لا يحق
لأي شرعية حاكمة أن تلغيها. وهذا يعني أنه ليس هناك تضارب ضروري بين
انتهاك القانون وبين الوفاء له. «إن الوفاء للقانون هو معبَّر عنه عن
طريق الطبيعة العمومية وغير العنيفة للفعل».
٣٤ ليس الوفاء مجرد مطابقة أو خضوع لقانون يدَّعي أنه امتصَّ
كل مساحة الشرعية التي تتحرك فيها أي حرية، بل يمكن أن يكون من طبيعة
أخرى. إن مجرد كون العصيان فعلًا عموميًّا وغير عنيفٍ هو علامة على وفاء
للقانون لا يراها الحقوقيون؛ لأنه نابع من منطقة الضمير أو القناعات
العميقة التي لا تستوعبها لعبة التشريع. لكن ذلك يعني أيضًا أن من يقوم
بالعصيان هو مستعد لتحمُّل «عواقبه القانونية». العصيان ليس سرقة، إنه
وفاء خارجي لقانون لا يرى القناعات العميقة التي تحرك الناس في علاقتهم
معه. وإنما بهذا المعنى تحديدًا هو فعل «سياسي»، أي فعل «نابع من
الضمير ونزيه سياسيًّا» (
politically conscientious and sincere)، حيث
يكون «الضمير» مثله مثل «النزاهة» مسائل سياسية حاسمة، وليس مجرد
خلفيات دينية أو نفسانية يمكن تحييدها.
قال: «لا شك أنه من الممكن أن نتخيَّل منظومة قانونية حيث يكون
الاعتقاد الذي يمليه الضمير بأن القانون غير عادل أمرًا مقبولًا
باعتباره دفاعًا عن عدم الامتثال.»
٣٥
علينا أن نبصر الفارق الخطير هنا بين ما هو «قانوني» وما هو «عادل».
إن القانون لا يغطي إلا جزءًا إجرائيًّا من مساحة السياسة، جزءًا لا
يستوعب كل «معنى العدالة» الذي يؤسس عليه الناس مطلب «الشرعية». أمَّا ما
يسد الفراغ المرعب أحيانًا الذي يفصل بين القانوني وبين الشرعي فهو
الحرية أو قدرة الناس على الحرية المتساوية لدى الجميع. ولذلك يبدو أن
رولز يعتبر «القناعات السياسية العميقة والنابعة من الضمير» إنما هي
التعبير المناسب أو الوحيد عن حرية المواطنين في مواجهة القوانين. إنَّ
«عدم الامتثال» للقوانين ليس جريمة بالضرورة. إذْ يمكن أن يكون وفاءً
لها من مستوى آخر. فالناس لا يعيشون حياتهم في مرآة واحدة يمكن تقنينها
تحت إشراف الدولة. هناك دومًا جانب غير مرئي من علاقتهم بالفضاء
العمومي ويجب أن يُسمح لهم دومًا بالتعبير عنه. ذلك أنه قد يكون عنصر
نزاهتهم الذي ينقذ المنظومة من الانهيار.
تبدو طرافة مفهوم العصيان المدني الذي يقترحه رولز في كونه يوجد في
منطقة وسطى وإشكالية بين مجرَّد «الاحتجاج القانوني» (legal protest)
و«حالات اختبار» (test cases) المنظومة من جهة، وبين «الرفض باسم
الضمير» (conscientious refusal) ومختلف أشكال المقاومة من جهة أخرى.
لا يتعلق الأمر بمجرد تقابل صوري بين القانون (الحديث) والضمير
(الديني)؛ ذلك أن العصيان المدني لا يمكنه أن يكون إلَّا فعلًا
«عموميًّا» يريد أن يكون «وفيًّا» للقانون بقدر ما يكون نابعًا من
«قناعات عميقة نابعة من الضمير»، العصيان ليس مشكلًا قانونيًّا بحتًا،
مثلما أنه بنفس القدر ليس عقيدة دينية.
لا يوجد عصيان مدني قائم على مجرد «الاحتجاج القانوني» لأن «الظلم»
أو غياب العدالة ليس صعوبة قانونية يمكن معالجتها إجرائيًّا، كما أنه
ليس بالون اختبار لامتحان مدى صمود المنظومة القانونية، بل هو متعلق
بالمنطقة المعيارية العميقة للمجتمع البشري حيث تنشأ الأسس أو المبادئ
الكبرى التي تبعث معاني «الإنصاف» و«المساواة» و«الحرية» و«الواجب»
و«الخير» (وهي المسائل التي عالجها رولز في كتابه) التي يقوم عليها
التعاون الاجتماعي. وفي المقابل لا يوجد عصيان مدني «ديني» نعني نابعًا
فقط من اعتراضات الضمير من حيث هو شعور لاهوتي صرف؛ لا يثور الناس من
أجل الآخرة إلا عرضًا.
ما ينبِّه إليه رولز هنا هو هذا: أن العصيان المدني يقع دومًا في منزلة
وسطى مزعجة وقلقة بين «الاحتجاج» و«استنكاف الضمير»، بين الخصومة
القانونية والموقف الديني، بين أن يصبح مهاترة شكلية وبين أن يؤدي إلى
«التكفير». وهذه الحالة الثانية هي النقطة المرعبة هنا: فهي «تمثِّل
شكلًا من المعارضة (
form of dissent) يقع على حدود الوفاء للقانون».
٣٦ لذلك يشدِّد رولز على أنَّ العصيان المدني يتميز عن «العمل
الحربي» (
militant action) وعن «تعطيل» (
obstruction) القانون وعرقلته،
وهو يختلف عن «المقاومة القسرية المنظَّمة». إن «المحارب» (
the
militant) — أي من لا يكتفي بالعصيان المدني — هو لا ينظر إلى القانون
على أنه «عادل تقريبًا»، بل يفترض أنه يستند إلى «تصوُّر للعدالة خاطئ في
جملته». هو يفترض أن المجتمع القانوني على خطأ، وأن محاربته هي تتجاوز
مجرد عصيان مدني لنظام قانوني مقبول في جملته. إن المشكل ليس في الوفاء
للقانون بشكل آخر بل في أن «معنى العدالة» السائد بحكم «الأغلبية» هو
معنى خاطئ؛ لذلك فإن «المحارب بمقدوره أن يحاول الإفلات من العقاب بما
أنه ليس مستعدًّا لأن يقبل بالعواقب القانونية التي تنجرُّ عن انتهاكه
للقانون، وهذا لا يعني فقط أنه لن يسلِّم نفسه إلى قوى هو يعتقد أنه لا
يمكن الوثوق بها، بل أيضًا أنه يعبِّر عن اعتراف بمشروعية الدستور الذي يعارضه».
٣٧ ومن ثَمَّ فإن العصيان المدني ليس عملًا حربيًّا، فهو ضد ظلم
لا يستدعي تغييرًا جذريًّا أو ثوريًّا. كان الشغل الشاغل لدى رولز هو
كيف نبرِّر العصيان المدني بشكل ليبرالي، لكنَّ «أفضل حجج رولز لا تفترض
بقية نظريته، وبوجهٍ ما هي تقطع معها».
٣٨
لقد تمَّ نقد أطروحة رولز من جهة أنَّ كل عصيان مدني غير عنيفٍ هو
«محدود». إنَّ رولز يتصور العصيان في نطاق التقليد «السقراطي»:
٣٩ أي عصيان قوانين المدينة التي نحترمها، ومن ثَمَّ دون أي
رغبة «ثورية» في تغيير النظام. وهو عادة المضمون الأخلاقي لكل
المناشدات التي تحضُّ «الشعوب» على أن تكون سقراطية في طريقة عصيانها
للأنظمة غير العادلة (!). وهكذا، على عكس ما يظهر من التصور الليبرالي
للحق في العصيان المدني الذي يبرِّره رولز، فإنَّ هذا العصيان هو في حقيقته
مجرد «ممارسة إصلاحية هي غالبًا ما تعزِّز النظام الاجتماعي القائم».
٤٠ إن مفهوم العصيان المدني الذي يدافع عنه رولز هو يعبِّر عن
رغبة مكبوتة في منطق الدولة الحديثة: ذلك أن «صورة الفاعلية الإنسانية
التي تتولَّد عن العصيان المدني هي تجسِّد الهوس الحديث بالمراقبة والرغبة
في النظام وفي اليقين».
٤١
كأن هدف رولز هو مساعدة المجتمع الليبرالي على تمثُّل طريقة مناسبة
للانتقال من ثقافة الضمير الدينية التي لم تعُد ناجعة بعد انسحاب الدين
من الفضاء العمومي إلى ثقافة العصيان المدني المبرَّر دستوريًّا، وهو
عصيان يبدو كمكافأة أخلاقية وتعويض ديني. «إن الفراغ الذي حدث مع موت
الإله هو الآن قد تم ملؤه بواسطة ثقة لا محدودة في الصرح الليبرالي وفي
السردية المكوْنِنَة (
universalising) التي تأسس عليها».
٤٢
علينا أن نسأل: لماذا يصر رولز على ألَّا يبحث إلَّا في معنى أو صلاحية
مقاومة يمكن «تبريرها» في نطاق «نظام دستور عادل تقريبًا»؟ طبعًا هو
يعترف صراحة بأنه «في بعض الظروف يكون العمل الحربي والأنواع الأخرى من
المقاومة (
other kinds of resistance) مبرَّرة بكل تأكيدٍ (
surely justified).»
٤٣ لكنه يرفض الخوض في ذلك.
نحن بلا ريب نقف في خانة تلك الأنواع الأخرى من المقاومة التي يرفض
الفيلسوف الليبرالي أن يخوض في معناها، وعلى الرغم من أنه يعترف بأنها
«مبرَّرة بكل تأكيد» لكنه يرفض بنفس القدر «أن يفهمها».
كيف نبرِّر العصيان الذي لا يكون مدنيًّا؟ ولذلك تساءل نقَّاد رولز:
لماذا يجب أن يكون العصيان بالضرورة «عموميًّا» أو «علنيًّا»؟ لماذا
يجب على «العاصي» القبول الصريح بالعقاب القانوني حتى يكون العصيان
مبرَّرًا؟
٤٤ إن المثير هو أن رولز لا يبدو مناصرًا للسلام عندما يشترط
أن يكون العصيان «مدنيًّا» أو «غير عنيفٍ»، بل لأنه يتصور العصيان بوصفه
«فعلًا سياسيًّا يخاطب الجمهور العمومي».
٤٥ ولكن ذلك لا يمنع أن نسأل: لماذا يعتبر رولز أن العنف ليس
طريقة مناسبة للاحتجاج؟
ربما كان رولز يطبِّق فقط براديغم اللغة الذي يحكم طريقة التفلسف في
التقليد الأنجلوسكسوني. ولذلك يمكن اعتبار أنَّ أهم خاصية في طرحه تكمن
في تعريفه للعصيان المدني بوصفه «نمطًا من الخطاب» (
a mode of adress)،
وقد تم فعلًا إخضاع هذا التعريف إلى اختبار لساني تداولي (وفق نظرية
بول غريس) بوصفه «وسيلة لدلالة غير طبيعية»: أي بوصفه فعلًا تداوليًّا
يقصد إلى أن يدل لدى المتلقي على معلومة لم تكن معروفة لديه من قبل.
٤٦ ومع ذلك لم يكن تصوُّر رولز خطابيًّا بحتًا، إذْ تم نقد هذا
التصوُّر للعصيان المدني في ضوء تصور غاندي عن المقاومة غير العنيفة.
٤٧ فإن دولة رولز تحرص على الاحتفاظ (فضلًا عن قوة الخطاب)
بإمكانية السماح لنفسها باستعمال إجراء تأديبي ضد العاصين لسلطتها، أما
غاندي فهو يرى أن العصيان قائمٌ على فكرة «عدم التعاون»
(
non-cooperation)، فالعصيان عنده «إقناع غير إكراهي» يبدو أنه يستعيض عن
«الخطاب» بقوة السكوت العمومي.
والسؤال هو عندئذ: إلى أي مدى يمكن ﻟ «الشعوب» أن تراهن على سياسات
«الخطاب»؟ وهل الدولة كائن لغوي آن الأوان لترجمته في مقام تداولي آخر؟
(٢) مواطنون بلا مضمون
إن تاريخ «لا» (ضد كل أنواع السلطة) لم يُكتب بعد في هذه الثقافة؛
ولذلك لا أحد يمتلك اليوم تفسيرًا مناسبًا يبيِّن لنا لماذا، على وجه
الدقة، تتظاهر «الشعوب» في هذا العصر ما بعد الدكتاتوري؟ ربما، أيضًا،
لأن سردية أنفسنا التي نحتمي بها من أجل أن «نتهوَّى» (حسب تعبير قديم
للكندي) هذه الهوية أو تلك هي نفسها متورطة بشكلٍ أو بآخر في ما يحصل
لنا. ولكنَّ فوكو قد بيَّن أن خطاب السلطة التي تُخضعنا هو نفسه الجهاز
الذي يتم داخله تذوُّتنا. إن جلد الذات إذن ليس طريقًا مأمونة في حالتنا.
ربما هو يكرس فقط الصيغة المخفَّفة من آلامنا. لكنه لا يفلت من هويتنا
السردية إلا عرضًا. ثمة عنصر «كولونيالي» في كل هوية، ولذلك هي لا
تتردد في اتهام أي ذات داخلها بالخيانة حتى تدافع عن نفسها. لكن تطوير
هوية متمردة أو «ناكثة» للانتماء قد كان دومًا تجربة متاحة لتخفيف
أعباء العالم على كاهل جيل ما. علينا أن نفترض بأن شبح «الصعلوك» قد
كان يخيِّم دومًا على كل فرادات الحرية في تقاليد التمرد في ثقافتنا إلى
حد الآن. من الشنفرى إلى «المحتج» المعاصر علينا أن نرسم دومًا سردية
«لا» بكل عنفوانها، ولنحترس في كل مرة من الوطأة الهووية لأي سردية
متعبة أخذت تفضِّل اتساقها التداولي على كرامتنا أو بشريَّتنا الهشَّة في كل
مرة.
ربما «يتظاهر» الأوروبيون داخل سردية «احتجاج» تجد جذورها القديمة
منذ القرن السادس عشر في التقاليد «البروتستانتية»، حيث انتشر مصطلح
Protestant في ألمانيا سنة ١٥٢٩م، عندما عمد أعداء حركة «الإصلاح» إلى
وصف ستة أمراء ممن اتَّبعوا تعاليم مارتن لوثر بأنهم «أمراء بروتستانت»،
بحيث إن التسمية قد كانت في أول الأمر «تهمة» للأمراء قبِل بها
المتهمون وحوَّلوها إلى «فضيلة» سياسية. كانت اللفظة تعني في أول الأمر
معنى «الاحتجاج» السياسي على السلطة الكاثوليكية والتمرد عليها فتحوَّلت
عند المتهمين أنفسهم إلى «شهادة» دينية منهم على أنهم لا يخضعون إلا
إلى سلطة «الكتاب المقدس» وسلطة «الضمير» الفردي، وهو ما أعلن عنه لوثر
سنة ١٥٢١م أمام المجلس الإمبراطوري في المدينة الحرة وورمز (
Worms)،
رافضًا للسلطة الكنسية، مما أدى إلى تكفيره (
excommunication). كان
«المحتج» اللوثري يتميز إذن بالمناداة بجملة من المبادئ التي وضعت سلطة
الإمبراطورية المقدسة الرومانية في خطر محدق: رفض الوسائط والعلاقة
المباشرة بالله من خلال الحرية الدينية أو الضمير الفردي، وفتح معنى
الكتاب المقدس أمام العموم في ترجمة عمومية إلى اللغة الشعبية،
والمساواة بين البشر كافة. وهذا يعني أن ما كان يرنو إليه لوثر هو
بلورة نمط جديد من الحكم يمر عبر نوع جديد من «مرايا الملوك» تعبِّر عنه
حسب تعبير ماكس فيبر «دعوى» (
Beruf) أو رسالة «الأمير المحتج»
٤٨ و«الكنيسة المحتجة» (حيث تكون «المهنة» عبارة عن «واجب»
ديني). لكن ما يثير انتباه المؤرِّخ هو أن «المحتج» اللوثري الذي اكتسح
الثقافة الأوروبية يبدو وكأنه قد تقلَّص بسرعة مربكة في صورة مصطلح
«ديني» تم تجريده من طاقته «الاحتجاجية» الأصلية وتجمَّد في التصنيف
اللاهوتي لحركة «الإصلاح البروتستانتي»، حتى إن لفظة
protestant قد
اختُزلت بلا رجعة في دلالة دينية صرفة تشير إلى نوعٍ جديدٍ من
«المسيحيين». لقد تحوَّل الاحتجاج من «تهمة» (وجَّهها الكاثوليك ضد
المنادين بالحرية الدينية) إلى شهادة (على مبادئ حرية الضمير) وأخيرًا
إلى معتقد مغلق (ضمن تصنيف ثلاثي يضم الكاثوليك والبروتستانت
والأرثوذكس).
وهنا علينا أن نسأل بدورنا: في أي تقاليد «احتجاج» تأتي «شعوبنا» أو
هذه الجموع الغفيرة راهنًا نحو التمرد على سلطة «دولة الاستقلال»
المنهكة باستحقاقات العصر ما بعد الدكتاتوري في القرن الواحد والعشرين؟
هل ثمة بوادر «أمراء محتجِّين» من نوع شرقي؟ نعني: هل يمكن أن نقرأ
مناداة المتظاهرين بالحريات الفردية وحرية الضمير والتمرد على المؤسسات
الدينية القائمة على أنها شكل من «الإصلاح» من النمط «البروتستانتي»؟
ذاك الذي ينجح في تحويل «التهمة» القانونية بالخروج عن الحاكم إلى
فضيلة «سياسية» لتكوين إرادة حكم من نوعٍ غير تقليدي؟ أم أنَّ هذه
«الجموع» (multitudes) لم تعُد لا «جماعة» دينية يمكن صيدها لاهوتيًّا
ولا «شعوبًا» ما يزال يمكن تربيتها هوويًّا؟ ليست حيرة الحاكم أو رجل
الدين بأقل حدة من حيرة الباحث. قال فتغنشتاين مرة: «إنَّ العالم هو كل
ما يقع». لكنَّ ما يقع ليس «الأشياء» التي نراها. ثمة «وقائع» تكسِّر
الفضاء المنطقي لما نعرفه عن أنفسنا إلى حد الآن. وأول ضحايا هذا النوع
من الوقائع هو الهوية السردية التي تعوِّل عليها السلطة القائمة لمعاملة
الناس وكأنهم أشياء عمومية يمكن جمعها أو استهلاكها في أي موسم.
يمكن المجازفة بأنَّ «ما يقع» من تمرد علني ومفتوح هو حدث غير تقليدي
لكنه يدعونا إلى فهمه في نطاق تاريخ مفهوم «التظاهر» المعاصر منذ نشأة
الدولة/الأمة الحديثة. هو تمرد لا يمكن إرجاعه إلى أي سردية غير حديثة،
ذلك أن معارضة السلطة هو دومًا توقيع سياسي محكم؛ لأنه يعكس طبيعة
السلطة التي يعارضها في كل مرة. ولذلك لا مناص من كتابة تاريخ مفهوم
التظاهر في ثقافتنا الحديثة حتى نقارب قليلًا معنى أن تتظاهر «الشعوب»
في وقتٍ لم يكن يمكن ترصُّده بأي وسائل هووية قد تكون الدولة/الأمة قد
نجحت في اختبار نجاعتها منذ الاستقلال. كان مفهوم «الشعب» اختراعًا
هوويًّا محكمًا للدولة/الأمة، لكنَّ تظاهر «الشعوب» بهذا الشكل غير الهووي
قد وضع هذا الاختراع القانوني في خطرٍ محدقٍ.
يشير المؤرخون، مثلًا، إلى أن فرنسا لم تعرف قاعدة قانونية تنظِّم الحق
في التظاهر في الطريق العام إلا سنة ١٩٣٥م. قبل ذلك كانت النصوص نادرة
ولا تمنح التظاهر صيغة قانونية. مثلًا: إنَّ إعلان حقوق الإنسان والمواطن
إبان الثورة الفرنسية سنة ١٧٨٩م لا يضمن حرية الرأي أو المعتقد إلَّا إذا
كان «إظهارها لا يعكِّر النظام العام الذي يقرُّه القانون». لم يكن
«الثوريون» يتصوَّرون حقًّا في التظاهر العمومي يمكن أن يتعارض مع النظام
العام الذي يقرُّه القانون.
ربما علينا أن نسأل: لماذا وصلت «شعوبنا» إلى مناقشة الحق في التظاهر
في مرحلة هي بمعنى ما متأخرة؟ يبدو أن معارك «التحرير» (من السلطة
الاستعمارية) قد أجَّلت معارك «التظاهر» (من أجل الحق في الحياة الكريمة)
إلى أجيال أخرى. هذا يعني أن احتجاج الجموع ما بعد الدكتاتورية وما بعد
الهووية هو لا يقبل الفهم بواسطة معجم كولونيالي، أكان داخليًّا (سردية
الدولة/الأمة/الوطن المستقلة/الرومانسية المؤسَّسة على زعيم هووي) أو
خارجيًّا (سردية الدولة/الإمبراطورية التنويرية المؤسَّسة على التحديث
العنيف الذي تحوَّل إلى «استعمار لعالم الحياة» الخاص بالشعوب غير
الغربية).
علينا أن نتذكر أن مفهوم «الشعب» اختراع حقوقي «حديث» بالأساس رغم أن
الرومان كانوا يتحدثون عن «شعب» (populus) في معنى «جماعة المواطنين»
أي الذين يحق لهم المشاركة في الحياة السياسية داخل الإمبراطورية. ربما
كان هوبز هو من دشَّن التفكير الحديث حول هذا المفهوم، عندما ميَّز أو
افترض تمييزًا بين الحالة الطبيعية حيث لا توجد إلَّا «الجموع»
(multitudes) والحالة المدنية حيث يمكن أن يتم نقل القوة من الجموع إلى
العاهل من أجل حماية مصالحهم الأنانية فيتحوَّلون من جموع إلى «شعب»
(peuple) بناءً على عقد مع «التنين» (الإله الفاني للسلطة التي تؤسِّس
الدولة الحديثة). وبالتالي لا يوجد «شعب» قبل العقد السياسي، ولذلك هو
مفهوم «تمثيلي» بالأساس. لكنَّ ما وقع طيلة القرون اللاحقة هو أن ما
سُمِّي «شعبًا» في معجم الدولة/الأمة التي قادت الحداثة السياسية هو قد
تحوَّل دون علمه إلى مجرد «سكَّان» (population) خاضعة بشكل بيو-سياسي لا
يمكن مقاومته. كأنَّ كل خطة الدولة الحديثة قد كانت من أجل بناء «هويات»
فردية أنانية، مغلقة ورقمية، للسيطرة على «السكان» باسم فكرة «الشعب»
الحقوقية التي هي بناء سياسي أو معياري وليس معطى هوويًّا جاهزًا.
توهم فكرة «الشعب» الحقوقية الحديثة بأن الناس كافة «مواطنون»، في
علاقة قومية بأنفسهم، تحت مسمَّى صلب هو الهوية الوطنية؛ ولذلك تم انزلاق
فكرة «الشعب» بسهولة مذهلة من معجم القانون إلى المفردات الرومانسية عن
«الوطن». من هوبز إلى فيشته مثلًا كان الطريق سالكًا. وفجأة أخذت مقولة
«الشعب» تحتوي ضمنًا على تخوين مخيف للمواطنين الذين قد يرفضون
الانخراط في تصوُّر هووي لأنفسهم بناء على خارطة التماهي مع
الدولة/«الأمة»، ويحرصون في مقابل ذلك على الوقوف عند واقعة «السكان»
البيو-سياسية؛ إن الفرق بين «الساكن» و«المواطن» هو نفسه موضع ريبة.
ومن المفيد أن نلاحظ أن حالتنا الخاصة — حالة «الشعوب» التي أخذت
تنتفض في كل مكان من البلدان العربية الراهنة — هي بمثابة ورشة اختبار
لفرضية «الشعب» الحديثة، ومن ثَمَّ لدلالة التظاهر ضد سلطتها. بيد أنه
علينا ألَّا نتحاشى الخوض في السؤال البدائي هنا: كيف أصبح الناس عندنا
«شعبًا»؟ قبل الحقبة الكولونيالية كان الناس الذين ننتمي إليهم
يطلقون على أنفسهم أسماء سردية أخرى، كانوا «عامة» من المؤمنين، «أمة»
من المسلمين، «جماعة» من «الطائعين/الدائنين» حيث الدين هو الطاعة أو
البيعة … إلخ، وكان الإسلام (بمفرداته المختلفة) يؤدي دور السردية
الكبرى التي التهمت كل السرديات الصغرى وحوَّلتها إلى ألعاب هووية تحت
الوصاية. لنقل: كان الناس جموعًا من المؤمنين «المبايعين» للخليفة أو
للأمير، الذين «يدينون» له بالطاعة، ولم يكن ثمة حاجة واضحة لطرح مسألة
التحوُّل إلى «شعب». علينا إذن أن نؤرِّخ جيدًا لتكوُّن هذه الحاجة المعيارية
الطارئة على ثقافة الملة.
«نحن» (وهذا نفسه معطى هووي يجب مناقشته) لم نعش إذن ذلك التحوُّل الذي
وصفه هوبز وصار بمثابة البراديغم السياسي لبلورة مفهوم «الشعب» الحديث.
ربما «غير الغربيين» بعامة لم يعرفوا هذا التحوُّل «القانوني» في طبيعة
السلطة إلَّا متأخرين، نعني في سياق سردية من نوعٍ آخر. إذ إن ما كان
«حداثة» سياسية في الغرب هو قد وفد إليهم في شكل «كولونيالية» عنيفة لا
يجوز أبدًا الفخر بوقوعها عليهم، حيث كانوا «موضوع» هيمنة وليس «ذاتًا»
سياسية. لذلك فإنَّ الخطاب «الحداثي» (بالوكالة أو بدرجة ثانية) هو
تُشتَم منه دومًا رائحة كولونيالية لا يبدو أن الثقافة ما بعد
الكولونيالية قد تحرَّرت منها. إن اللغة — لغة التفكير وليس مجرد
الاستعمال اللساني — هي لا تزال حاجزًا مزعجًا. ومن ثَمَّ لا يمكن لمفهوم
«الشعب» أن يفلت من تلك الرائحة. إن «الشعب» مفهوم نشأ في لغتنا
السياسية أثناء الحقبة ما بعد الكولونيالية بشكلٍ مستنسخٍ من معجم
الحداثة السياسية منذ هوبز. ولذلك لا يبدو أن «ثورات» الناس تحت شعار
«إرادة الشعب» (الذي هو اختراع هووي حديث/كولونيالي) هي قادرة على
تحرير الحرية في أفق حيواتنا الجديدة. إن تحرير الحرية (أو تحرير
الاستقلال المعلن منذ عشرات السنين)، في الفضاء العمومي أو في دائرة
الحياة الخاصة، لا يتطلَّب فقط إنهاء خدمات الحاكم الهووي دون المساس
بجهاز الهوية الحديث نفسه، والذي صار يجد، مثلًا، في عبارة «الشعب
يريد» شعاره ما بعد الدكتاتوري. إن المطلوب أكثر من مجرد تغيير
«دستوري» أو «حقوقي» إجرائي فحسب يعوِّض «الحكام» دون تغيير طبيعة
«الحكم». إن تحرير الحرية هو أكثر المعارك المعيارية تعقيدًا مفهوميًّا
وكلفة ميتافيزيقية.
وحين يصبح مفهوم «الشعب» قيد المراجعة فإن الدولة نفسها لن تتأخر.
إن الناس يتظاهرون رغم أنهم طردوا الحاكم الهووي وأخذوا يعيشون في حقبة
ما بعد-دكتاتورية. تتظاهر «الشعوب» لأنها تشعر أنها لم تعد معنيَّة بكل
السرديات العميقة التي كانت تحتكم لها عند ابتكار معنى السكن في العالم
الخاص بها. كل سرديات «التعالي» التقليدية (سردية الإله/الملك/الأب) قد
تعطَّلت أو فقدت شطرًا غير يسيرٍ من قوتها الإنجازية. نحن نشهد أول جيل
«محايث» في تاريخ أنفسنا. وهو ليس محايثًا لنفسه؛ لأنه «متمرد» على
قبيلته أو «كافر» بآلهة مدينته أو «خارجي» عن خلافته أو «آبق» عن سيده
أو حتى «مقاوم» لمستعمره، … إلخ، إنه محايث في تاريخ غير مسبوق للحرية:
تاريخ يدشِّن نفسه بمطلب لم يُرفع سابقًا، ألا وهو تحرير الحرية من هويَّتها
المتعالية عليها (هوية الإله/الملك/الأب التي بلغ النقاش حولها اليوم
إلى قضايا الجندر بوصفها وقود الثورات في المستقبل). ولذلك علينا أن
نقرَّ معنى جديدًا للرفض أو لقول «لا» قد أخذ يرسم ملامحه، «لا» موجبة
تجاوزت مرحلة التمرد والكفر والخروج على الحاكم أو حتى الاستقلال عن
المستعمر.
إن «المتظاهر» ليس ثوريًّا تقليديًّا ولا هو متمرد أخلاقي أو وجودي،
ولا هو معارض غير منظَّم، وليس إرهابيًّا نائمًا ولا عميلًا لمؤامرة
إمبراطورية … بل هو فقط «متظاهر»، وذلك يعني:
- (١)
أنه «يظهر»؛ أي يأخذ شكلًا ظاهرًا من التعبير عن نفسه أو رأيه،
إنه ليس شبحًا سرديًّا. لكنَّ الظهور هنا ليس محايدًا أبدًا، وعلينا أن
نسأل: كيف خرج معنى «الظهور» أو «الإظهار» السياسي من معنى «الظهر»،
عضو الحيوان البشري الذي يعتبره وراءه أو خلاف بطنه؟ كيف أمكن الربط
بين «الظهر» (أي ما غاب عنك من الشخص) وبين «الظهور» (أي الانكشاف على
مرأى ومسمع من عين الحاكم)؟ «الظهر» مؤخر الكاهل إلى أدنى العجز: فهل
«نؤخِّر» شيئًا ما عندما نتظاهر؟ كيف يتظاهر الغاضبون «بالمؤخِّرات»
البشرية، بالجوانب الغائبة، المتوارية أو الخلفية من أجسادهم أو من
أنفسهم؟ من الذي صار بلا وجه هنا؟ المتظاهر أم الدولة الهووية؟
- (٢)
لذلك ثمة معنى ثانٍ للتظاهر: فإنَّ ما «يظهر» ينكشف أمره، «يُفتضح»،
إذ يمكن للظهور أن يكون نوعًا من الفضيحة، ولكن لا يمكن أن يفتضح إلَّا ما
تمَّ إخفاؤه أو تأجيله طويلًا. لذلك فإن ما يظهر هو دومًا جزء خفي من
نفسه. هو مشهد يخفي ظهره، لعبة إخفاء لا يمكن السيطرة عليها مسبقًا، هي
يمكن أن تنزلق وراء حضورنا الوجهي. إنَّ السلطة لعبة وجهيَّة تتعطَّل هنا.
فإن الظهور يمكن أن يكون قناعًا لا يخفي شيئًا أو حفلة تنكُّرية تعطِّل
هوية الحاضرين لعلَّها تظفر بتذوِّتٍ لا يتماهى مع أحد. يعني التظاهر عندئذ
إظهار ما ليس موجودًا، التنبيه إلى أنَّ جبَّة الهوية فارغة من أهلها منذ
وقت طويل.
- (٣)
لا يمكن حصر التظاهر في الحضور المادي للكتل البشرية كأنها جاءت
كي تؤثِّث المكان دون أن تمسَّ بماهيته. التظاهر ليس تشيُّؤًا بل هو استعمال
للأجساد بوصفها قوة إنجازية. من يظهر في فضاء «عمومي» تحت سيطرة الدولة
هو يجعل من مجرَّد الجسد أو الكتلة «اللحمية» شكلًا من التعبير عن معنى
ما لا يمكن قوله بشكلٍ «إداري». التظاهر يعطِّل المجتمع/الإدارة ويفتح
الطريق نحو الإفصاح عن سخطٍ ظلَّ صامتًا لأنه ليس وثيقة يمكن تسليمها إلى
المعني بالأمر. ولذلك فإنَّ المشاركة في مظاهرة هو عمل إنجازي دون أن
يكون ذلك محصورًا في فعلٍ لغوي. إنَّ المظاهرة مفاوضة تشكيلية بين «الخروج»
و«المكان»: من يخرج إلى الساحات الحرة يستعمل المكان بوصفه وسيلة تعبير
عمَّا لا يُقال إلَّا بواسطة الأجساد. إنَّ الأمر يتعلَّق باستعمالٍ إنجازي
للأجساد للتعبير عن فعلٍ معياري يتخطَّى مجرد اللغة. إنَّ التظاهر مفاوضة
سائلة أو علاقة مبهمة ومخاتلة بين «الظهور» (في معنى الحضور العلني)
و«الإظهار» (في معنى كشف الخفايا وفضح المسكوت عنه) من أجل المشاركة في
«مظاهرة» من أجل إنجاح عمل إنجازي هو «المشهَدة» (enactment) أو
الإخراج الركحي لأجسادٍ ساخطة. لذلك فإنَّ التظاهر هو استعمال علني
«للظهور» (جمع ظهر) بوصفها «وجوهًا» غاضبة على فضيحة ما آن أوان
إظهارها.
إنَّ المتظاهر الذي يجوب الساحات هو مواطن بلا مضمون، نعني بلا مضمون
هووي. إذْ حين تفرغ الدولة/الأمة من مضمونها الهووي الذي وعدت به
إعلانات الاستقلال والأناشيد الوطنية والدساتير هي تتحوَّل فجأة إلى صدفة
قانونية خالية أو إلى ثقب أسود يمتص «السكان» ويلفظهم في شكل «شعبٍ» بلا
مواطنين. وحين يكون التظاهر ممارسة لمواطنة بلا مضمون فإنَّه يتحوَّل إلى
«حدث» تشكيلي، إلى «أثرٍ فني» بواسطة الأجساد: مرح لا يرجو شيئًا من أي
جهة، إذْ لا معنى لتظاهر حزين.