الفصل الخامس
الديمقراطية ليست حدثًا أو من حرية الرأي إلى «حرية الحقيقة»
مدخل: ماذا يريد «الشيوعي الأخير»؟
ربما من الغريب أن يصرَّ آلان باديو على مواصلة الانتماء إلى
«الشيوعية» في الوقت الذي يعلن فيه العالم «فشلها». إلَّا أنه إصرار قد
وجد تبريره الداخلي في استفهام فلسفي مثير عن معنى «الفشل» بما هو
كذلك. وعلينا أن نسأل: هل يمكن لعصرٍ كاملٍ أن يفشل؟ وفي حالة الشيوعية:
«هل هذا الفشل جذري، نعني: هل يتطلَّب ذلك العزوف عن الفرضية نفسها،
التخلي عن مشكل التحرر برمَّته؟»١ إن القصد هنا هو أنَّ «الأحداث الكبرى» (مايو ٦٨، الثورة
الفرنسية، كومونة باريس) لا تفشل لأنَّها ليست أحداثًا «شخصية» قد ترتبط
عرضًا باسم هذا الزعيم أو ذاك.
يقول باديو: «ذلك أن الكلية، الصفة الفعلية لأي جسم من الحقيقة
(un corps-de-vérité)، هي لا تهتم بالمحمولات. إن السياسة الحقَّة تجهل
الهويات، حتى الهوية الضعيفة جدًّا والمتغيرة جدًّا، ﻟ «الشيوعيين». هي
لا تعرف سوى تلك المقاطع من الواقع التي تشهد فكرة كبيرة على أن مفعول
حقيقتها ماضٍ قدمًا.»٢
لكنَّ الفشل ليس شيوعيًّا فقط بل هو ليبرالي أيضًا. وحسب باديو هناك
فشلان اثنان وليس فشلًا واحدًا: عندما تحالف «المتعبون من الفعل
المناضل» مع السلطة البرلمانية للرأسمالية، ولكن أيضًا عندما لجأ
«اليسار المتطرف» إلى حبس التناقض داخل غرف الموت، وهذا الفشل المضاعف
هو لا مناص منه «في اللحظات التي لا تنجح فيها الحركية السياسية
للثورات في اختراع صيرورتها، والإعلان الإثباتي لها من أجل ذاتها».٣ ما يصر عليه باديو أنَّ «معاصرة» الأحداث الكبرى ليست
زمنية، مثلًا: هو يؤكد أننا «ما زلنا معاصرين لمايو ٦٨»٤ وذلك ما دمنا نفكر في «أزمة» لكننا لا نعرف «الواقع»
الذي «تشهد» عليه.٥
هذا التمسك بالشيوعية بشكل «ما بعد تاريخي» جعل الدارسين ينظرون إلى
باديو بوصفه يمثِّل شخصية مفهومية هي «الشيوعي الأخير»؟٦
وربما من الغريب أن نقرأ كتابًا عن باديو، الذي يصرُّ على ارتداء قناع
«الشيوعي الأخير»، يصفه بأنه يعبِّر عن «فلسفة الجديد».٧ وفي الواقع فإن باديو نفسه ما لبث يؤكد أن القرن العشرين
قد ظل «مهووسًا بفكرة تغيير الإنسان، أو خلق إنسان جديد … وأن نخلق
إنسانًا جديدًا يعني دائمًا أن نطالب بأن يتم تدمير الإنسان القديم …
إن مشروع الإنسان الجديد هو بذلك مشروع قطيعة وتأسيس يؤكد، في مجرى
التاريخ والدولة، نفس النبرة الذاتية التي نجدها في القطائع العلمية
والفنية والجنسية في مطلع القرن.»٨ إن ما يعيبه باديو على العصر هو أن هذه المقولات قد ماتت
اليوم. إن نوعًا من «الذات» قد انسحب أو صار مفقودًا. تعني «الذات» هنا
تلك «العملية الفعلية التي تجري حقًّا أثناء رفض هذا المقطع أو ذاك من الواقع».٩ ولذلك لا يمكننا أن نفهم ما وقع في هذا القرن إلا عندما
نعرف «كيف تم تذويته»،١٠ وذلك يعني فلسفيًّا كيف تم «التفكير فيه»؟ ينبِّه باديو إلى
أن الفلسفة لا يهمها «ما وقع» بل «ما تم التفكير فيه»، وذلك يعني أنه
ما دمنا لا نفكر في الذي فكَّر فيه النازيون مثلًا نحن لن ننجح أبدًا في
منع تكرار ما حصل: ألَّا نفكِّر فيما فكَّر فيه النازيون هو موقف سوف يمنعنا
من التفكير في ما فعلوه، وبالتالي سوف يبقى تفكير النازيين بالنسبة
إلينا من قبيل «اللامفكَّر فيه» وبالتالي شيئًا لا يمكن تدميره.١١
ويبدو أن جرأة باديو الفلسفية إنما تتلخص في هذا الافتراض:
«حتى يمكننا فقط أن نلمس الواقع الخاص بمجتمعاتنا، ينبغي، كتمرين
قبلي، أن نطيح بشعارها الأكبر. إن المرء لن يقيِّم حقيقة العالم حيث يعيش
إلا عندما يترك جانبًا كلمة «ديمقراطية»، أنْ يخاطر بألَّا يكون
ديمقراطيًّا، وبالتالي أن يكون مشبوهًا بالفعل في نظر «كل العالم».
وذلك أن «كل العالم»١٢ عبارة لا تُقال إلا انطلاقًا من الشعار السائد، ومن ثَمَّ «كل
العالم» هم ديمقراطيون.»١٣
تتمثَّل الجرأة هنا في وضع شعار «الغرب» نفسه موضع سؤال: أن «الغرب»
يزعم أنه «كل العالم» لكنه لا يستطيع حتى أن يكون «عالمًا» لنفسه، بل هو
في نظر باديو «مجرد نوع من النجاة (une survivance)، منطقة للحروب
ومشاهد البؤس والجدران والأشباح»؛ حيث «لا يحب الديمقراطي إلا ديمقراطيًّا»١٤ مثله. إنَّ «عالم» الديمقراطيين لا خارج له، بل هو عالم
مسروق، هو في واقع الأمر مجرد «إقليم للحياة الحيوانية» محكومة بنوعٍ من
«الأوليغارشية المحافظة».١٥ وحين لا يكون «العالم الديمقراطي» حقيقيًّا، فإن «الذات
الديمقراطية» سوف تفقد أساسها، وذلك كان، حسب باديو، ما علَّمنا إياه أفلاطون.١٦ وهذا يعني أن الديمقراطية ليست «حدثًا» بالمعنى الفلسفي.
يقول باديو:
«إن الفلسفة لا تَعتبر شيئًا ما حدثًا إلا عندما يكون مصدرًا
للحقائق، كما أيضًا للذوات التي تمنح وجهًا نشطًا لتلك الحقائق. وأنا
أوافق نيتشه بدون تردد على أنَّ الغرض الفلسفي يجب أن يكون إثباتيًّا
بشكلٍ كاملٍ».١٧
الحدث، الثورة والاستثناء
ينبِّه باديو منذ ١٩٨٨م إلى أننا صرنا «نعيش في عصر مركَّب بل مرتبك، بسبب
أن القطائع والاستمراريات التي ينتسج منها لم تعُد تقبل أن تُدرَج تحت
تعبيرٍ واحدٍ، ليس ثمة اليوم ثورة «واحدة» (أو انقلاب «واحد»، أو نقد «واحد»).»١٨ فيم يتمثَّل هذا «التركيب»؟
إنَّ أي «ثورة» (في أي واحد من تدابير الحقيقة الأربعة: نعني الحب
والفن والعلم والسياسة) هي حسب باديو «حدث»، أي شيء ما يطرأ على الكثرة
القائمة ويغيِّر هوية العالم الذي تؤثِّثه. ولذلك كل حدث هو «في موقف» أو
«متموقع» أو يمكن أن نموقعه، أي يمكن أن نبنيه بوصفه «مفهومًا» يفكر:
«إن الحدث هو دائمًا في نقطة من الموقف، أي «يهم» متكثِّرًا واحدًا مقدَّمًا
في الموقف.»١٩ ولذلك لا يمكن أن يقع أي تغيير في البنى الكبرى دون «موقع
حدثي» (مثلًا: طبقة عاملة، تيار فني، مأزق علمي، تجربة حب)؛ أي من دون
توفُّر «حافة الفراغ» حيث يسقط متكثِّر ما أو العنصر «المؤسِّس» لشيء جديد،
لكن الحدث ليس «طبيعيًّا» أبدًا، لا يوجد حدث «محايد»، «الحدث» ليس
«واقعة» طبيعية، يجب أن يوجد «موقع» يجعل الحدث ممكنًا، لكن الموقع مجرد
«شرط كينونة للحدث» وهو غير كافٍ.
متى يقع حدث ما؟ في مصطلح باديو: متى تقع ثورة أو أثر فني أو اكتشاف علمي أو حب مفاجئ؟
قال: «ليس ثمة حدث إلا ضمن موقف يقدِّم على الأقل موقعًا ما. الحدث
مرتبط، في تعريفه ذاته، بنقطة، تتمركز فيها تاريخية الموقف. كل حدث له
موقع قابل للتفرُّد في موقف تاريخي ما. يشير الموقع إلى النمط المحلي من
كثرة «مَعنيَّة» بحدث ما. لا يكفي أن يوجد موقع داخل الموقف حتى يكون ثمة
حدث. ولكن من أجل أن يكون ثمة حدث، يلزم التعيين المحلي للموقع،
وبالتالي يلزم موقف حيث يُقدَّم على الأقل متكثِّر على حافة الفراغ.»٢٠
يفهم باديو «الثورة» (الفرنسية مثلًا) بوصفها متكثِّرًا لا متناهيًا من
العناصر التاريخية، نجح في بناء حدث «واحد» سُمِّي «الثورة». الثورة حدث
أي متكثِّر محض استحضر كل عناصر الموقع الذي طرأ فيه لكنه أنشأ «دالًّا
محضًا لنفسه محايثًا لمتكثِّره الخاص»، ومن ثَمَّ هو قد نجح في بناء «الواحد
الخاص بالمتكثِّر غير المتناهي الذي هو عليه».٢١
لكنَّ المخيف في فرضية باديو هو كونه لا يجزم بأن الحدث ينتمي فعلًا
إلى وضعية الموقع الذي حدث فيه. إن الحدث يبقى دائمًا «غير قابل للحسم»
(indécidable) كلما نظرنا إليه من زاوية الوضع الذي طرأ عليه.٢٢ لا أحد يملك ما يحدث له، هو لا يستطيع سوى أن «يؤوِّله».
وهكذا فإن الثورة الفرنسية حدث لا يمكن أن ينتمي إلى تاريخ فرنسا إلا
متى نظرنا إليه بوصفه «مصطلحًا محايثًا لنفسه»، أي يملك تأويله الخاص.
وحده «تدخُّل تأويلي يمكنه أن يعلن أن الحدث هو مستحضر داخل الموقف،
بوصفه مجيء اللاكينونة إلى الكينونة، مجيء غير المرئي إلى المرئي».٢٣
ولكن لماذا هذه الحاجة إلى «ما لا يكون»؟ أو إلى ما هو «غير مرئي»؟
إنَّ أهم ما يقوم عليه الحدث هو أنه ليس مجرد شيء «يكون» بل هو إجبار
لما لا يكون على أن يكون. ولذلك فالحدث ليس حالة فراغ، أو هو لا يخشى
أن يكون «على حافة الفراغ»، بل الحدث عل وجه الدقة — إذا كان ينتمي
فعلًا إلى طبيعة الموقف — هو ما «يُفصَل عن الفراغ» بواسطة نوع من
«الواحد في صيغة المبالغة» (ultra-un)، ذلك الواحد الذي ليس شيئًا
آخر سوى الحدث نفسه. «أنْ نعلن أن الحدث ينتمي إلى الموقف يعني أن نقول إنه يتميز مفهوميًّا عن موقعه عبر التخالل
(interposition)
بين الفراغ وبينه.»٢٤ الحدث هو ما يفصلنا عن الفراغ، لكنه لا يفعل ذلك بمجرد
الكينونة. وهذا يعني أنَّ الحدث اسم لفراغه الخاص، لكنَّه أيضًا «واحد-في
صيغة المبالغة» يشد «بنية الحضور» داخل الموقف. الحدث هو ذلك
«الواحد-المبالغ-فيه-الذي-يسمي-الفراغ» الذي ينشر «كينونة اللاكينونة»،
وهو ما يصطلح عليه باديو بمصطلح «الوجود».٢٥
سياسيًّا تعوَّدنا أن نسمي ذلك «ثورة»، وهو اسم صار يحتاج حسب باديو
إلى تغيير. نعني تلك اللحظة التي يهتم فيها كيان جمعي معيَّن بنفسه،
ويسمي ذلك «سياسة ثورية». لكن ما يهم الفلسفة هنا هو أنه توجد
«سياسة نوعية» (politique générique)،٢٦ أي سياسة باسم «حقيقة» لا تقبل التمايز ولا يمكن العثور
لها على اسم نهائي أو وحيد، لكنها مع ذلك تقوم على:
«طريقة إخلاص أحداثُها قطائع (césures) تاريخية حيث يُستدعى الفراغ
الاجتماعي في غياب الدولة، وعواملُها متغيرة، وإنتاجاتُها اللامتناهية
غير قابلة للتمايز (خصوصًا: أنها لا تتطابق مع أي جزء قابل للتسمية من طرف الدولة)، لكونها ليست سوى «تغيُّرات» في الذاتية السياسية في نطاق
الموقف، واستقصاءاتُها هي النشاط المناضل المنظم.»٢٧
كل «ثورة» (سواء كان ذلك في السياسة أو في الفن أو في الحب أو في
العلم) هي تولِّد «حقائق» تختلف عن «معارفنا» الثابتة عن الموضوعات، وليس
لنا من سبيل إلى اعتبارها سوى أن نربطها بحدثٍ ما، أي بذلك «المجهول في
كينونتها». ولذلك ليست الثورة شيئًا متاحًا: حتى الفلسفة يمكن أن تسقط
في قطاع «الخدمات»، خدمات المرافق العمومية، حيث لا يمكنها أن تنتج أي
نوع من الحقائق، وإن كانت تتبجَّح بمعارفها. وفي أفضل أحوالها فإن
«الفلسفة هي مشروطة بالتدابير المخلصة لعصرها»، لكنها لا تنتج حقائق،
فهي ليست «تدبيرًا نوعيًّا» مثل الحب أو الفن أو السياسة أو العلم،
وليس لها سوى أن تكون في خدمة واحد من هذه الشروط النوعية.٢٨
كل ثورة هي «تدبير نوعي مخلص يذهب إلى اللانهاية في مراجعة الموقف»،
هي «قطيعة حدثية» تتم باسم مفرط الانتماء إلى نفسه، قطيعة
«تجبر الموقف على استقبالها»،
حيث يعني الاستقبال تمكين نوع من الحقيقة من أن ينتمي
إلى الحدث، وأن يصبح طريقة «عرض» ذلك الحدث لنفسه.٢٩ إن الثورة هي تدبير «يجبر» الموقف على الانخراط في كثرة
مجهولة الهوية تبدو مفرطة أول الأمر لكنها تنجح آخر الأمر في تقديم
انتماء جديد، محايث لنفسه. لكنَّ ذلك لن يجعل الحقيقة المعبَّر عنها قابلة
للتمايز بل يجب أن تظل دومًا حقيقة «نوعية» أي لا تقبل التمايز ولا
تحصرها أي معرفة جاهزة عن الموضوعات. «إن التدبير النوعي المخلص يحايث
(immanentise) ما لا يقبل التمايز»، نعني يجعله «معترفًا به بوصفه
مصطلحًا، وداخليًّا»، لكنه لا يجعله بذلك واضحًا متميزًا، بل هو يعيش
على عدم تمايزه، بل الثورة هي طريقة نوعية في إنتاج اللامتمايز، أي تلك
القدرة التي تتمتع بها الحقيقة على تغيير ما هو كائن حتى يستطيع أن
يستقبل «ما لا يُسمَّى» أو «ما لا يمكن تسميته» في عصر ما.٣٠
بهذا الثمن فقط أمكن لباديو أن يعلن سنة ٢٠٠٦م، في المجلد الثاني من
الكينونة والحدث، أن «الحقائق إنما توجد بوصفها استثناءات عما هو ثمة»،٣١ «ما هو ثمة»: هو العالم أو العوالم، والاستثناء هو كسر
قوانين تلك العوالم. و«الحقيقة» تختلف عن مجرد أن تكون «ثمة» فقط في
عالم معين. كل حقيقة تبدأ إذن بأن «لا تكون موجودة»، ثم توجد، وهي لا
تنجح في ذلك إلا لأنها قادرة على «الاستثناء»، نعني على كسر القوانين
السائدة، تلك التي تحكم ما هو «ثمة» فقط. «الحقيقة هي ما يستمر الفكر
في تقديمه حتى إذا كان نظام الأشياء معلَّقًا.»٣٢
ما بعد السياسة
إن التأكيد على فصل الحقيقة عن مجرد المعرفة إنما قاد باديو إلى
إلقاء ضوء مثير حول دلالة «الفلسفة السياسية»: هذا الخطاب الذي ينظر
إلى «السياسة» بوصفها «معطًى موضوعيًّا» علينا «نعرفه»، وبالتالي هو لا
يرى السياسة نفسها من حيث هي «الواقع الذاتي للمسارات المنظمة والمناضلة».٣٣ ما يريده باديو هو أن نعيد التفكير في معنى «السياسة» بما
هي كذلك. تبدو «السياسة» بالنسبة إليه لفظًا مريبًا، خاصة في المعنى
الذي أخذه المصطلح بعد كتابات حنَّا أرندت، أي السياسة بالمعنى الذي ضبطه
كانط: ممارسة «الحكم الحر» على آراء الآخرين في «فضاء عمومي»، لكن ذلك
يعني أن أفق السياسة هو «الآراء» السائدة وليس الحقيقة.
يقول باديو: «ليست «السياسة» اسمًا لتفكير ما (إذا ما اتفقنا على أن
كل تفكير، في نظام تعريفه الفلسفي، هو يرتبط بطريقة أو بأخرى بمسألة
الحقيقة) ولا هي اسم لفعل ما … إذا لم تكن السياسة تدبيرًا للحقيقة يهم
كينونة الجماعة القائمة، وإذا لم تكن حتى بناء جماعة مفردة وجديدة
وتنشيطها، من أجل إدارة أو تحويل ما هو كائن، فما يمكنها أن تكون؟
أعني: ماذا يمكنها أن تكون بالنسبة إلى الفلسفة؟»٣٤
إن الوهن الفلسفي الذي يرصده باديو في هذا التصوُّر الكانطي للسياسة هو
ذاك الذي يتأوَّل الثورة بوصفها «فرجة»؛ حيث يكون الفيلسوف هو «المتفرِّج»
العمومي؛ لكنه متفرج لا يملك حقيقة ما يرى. وفجأة ينحصر معنى «الذات»
في دور «المتفرج على العالم». إلا أن ما يتم تحاشيه بعناية هو تغيير
العالم. وما فعله كانط وورثته حنا أرندت هو حصر الفلسفة في تدبير
«الرأي العام» بوصفه دائرة الفعل الوحيدة. ضد هذا التوجُّه يؤكد باديو أن
ربط السياسة بالرأي العام هو عزلها عن «تدبير الحقيقة». وذلك يعني
اقتراح سياسة عاجزة عن تطوير أي علاقة مع «التفكير». ربَّ سياسة يمكن أن
تدافع عن «حرية الرأي» لكنها لا تستطيع أن تدافع عن «حرية الحقيقة».٣٥ وليس ذلك لانعدام الحقائق، بل لأن الحقيقة هي دومًا حدث
استثنائي، يقع في المفرد (في العلم أو في الفن أو في السياسة أو في
الحب)، ومن ثَمَّ أنه حدث شجاع يكسِّر قوانين العالم كما هو، وليس «رأيًا»
علينا أن نعتنقه مثل عقيدة كسولة.
ما تشير إليه الفلسفة هنا هو أن السياسة ليست «موضوعًا»، لا يمكن فهم
السياسة إلا بوصفها «تفكيرًا»: فما نفكر فيه هنا ليس «موضوعًا»
(بالمعنى الوضعي) بل هو «علاقة»، ليست علاقة بموضوع ما بل علاقة تفكير
بالواقع الذي ينتمي إليه.٣٦ السياسة ليست «اسمًا» لما هو قائم بل اختراع «علاقة
تفكير» تغيِّر ما هو «ثمة» في العالم كما هو، من خلال «انزياح مما هو ثمة
إلى ما يمكن أن يحدث»، وحسب باديو «ليس ثمة تفكير إلا بقدر ما يكون
هناك مثل هذا الانزياح.»٣٧
السياسة علاقة تفكير بلا موضوع جاهز، علاقة تفكير تتم دائمًا في
«المفرد»، و«بما أن السياسة فرادة، فإنه ليس ثمة تعريف للسياسة».٣٨ لا يمكن أن نعرِّف علاقة تفكير، وفي حالة السياسة فإن ذلك
يتم دومًا بإحالتها على شيء آخر غيرها، نعني على الدولة. لكن الدولة
ليست السياسة إلا عرضًا. إن المشكل المتميز الذي يثيره باديو هو هذا:
«هل يمكن النظر في السياسة بوصفها فكرة؟»٣٩ ولكن ماذا يمكن أن تكون علاقة السياسة بفكرتها؟
في الادعاء الديمقراطي
يتميز آلان باديو بموقف فلسفي «أفلاطوني» من ظاهرة «الديمقراطية»
بناءً على حكم مفاده أنه لا يمكن للفيلسوف أن يزعم أنه قطع مع «الرأي»
السائد دون أن يقطع مع الادعاء «الديمقراطي»؛ وذلك لأن خطاب «الحقيقة»
لا يمكن أن يتساوق مع خطاب «الرأي العام». ولذلك هو يصف الديمقراطية
بأنها تدخل في باب «الرأي التسلطي» (l’opinion autoritaire)٤٠ الذي يمنع الناس من حقهم في «ألا يكونوا ديمقراطيين». وذلك
أمر يتم فرضه من خلال آلة «الإجماع» أو «التوافق» (consensus): «إن
الديمقراطية هي اليوم المنظِّم الرسمي للتوافق»،٤١ والحال أنه بالنسبة إلى الفيلسوف (الأفلاطوني) «كل ما هو
توافقي (consensuel) هو مشبوه.»٤٢
ما يطمح إليه باديو هو تأويل «السياسة بوصفها فكرة»، ولأن هذه الفكرة
ليس لها من غاية غير نفسها، فمن المستحيل أن تُختزل في بُعد «الدولة»،
ومن ثم يأتي باديو إلى جملة فلسفية يصفها بأنها «لقيطة بعض الشيء»،
تقول: «إن الدولة لا تفكر» (l’État ne pense pas).٤٣ وهو ما جعل «الفلسفات السياسية» تدور غالبًا حول أشكال
سياسية لم تتحقق أبدًا، فهي لا تجد في عالم الواقع سوى «دول طغيانية لا تفكر».٤٤ والاستنتاج الأساسي حسب باديو هو هذا: أن الدولة ليست
مدخلًا مناسبًا لفهم معنى السياسة، وهو ما يفضي إلى القول بأن «الدولة
هي نوع من عدم-التفكير (non-pensée)».٤٥
هذا الافتراض يقود رأسًا إلى الاستنتاج بأن الديمقراطية لا يمكن أن
تكون «شكلًا من الدولة»، بما أن الدولة لا تفكر. وبالتالي لا يمكن
للفلسفة أن تعتبر الديمقراطية إحدى مقولاتها (أي مقولة قادرة على ربط
الجزئي بالكلي) إلا إذا كانت «تشير إلى شيء آخر غير شكل الدولة».٤٦ لكن هذا الشيء «الآخر» لا يمكن أن يكون «الجماهير»، ذلك
أن «ديمقراطية الجماهير» تنتهي غالبًا في دكتاتورية رومانسية. ولذلك
فإن الحل حسب باديو هو أن نقرن الديمقراطية بالمطلب السياسي نفسه بما
هو كذلك: الديمقراطية بلا برنامج؛ لأن البرنامج سوف يكون عندئذ «برنامج الدولة».٤٧
يقول باديو: «سوف يكون هناك تخصيص ديمقراطي في صميمه للسياسة، وذلك،
طبعًا، بقدر ما تتعيَّن السياسة ذاتيًّا بوصفها فضاءً للتحرُّر متخلِّصًا من
الأشكال التوافقية للدولة.»٤٨
ولكن إلى أي مدى يمكن ممارسة الديمقراطية بمعزلٍ عن الدولة؟ إذْ يبدو
أن تأسيس الديمقراطية أمر مختلف عن تأسيس الدولة. ربما نقول إن
الديمقراطية مشكل سياسي في حين أن الدولة جهاز قانوني. وحسب باديو ذلك
يعني أن الديمقراطية تشير إلى نوع من السياسة هي «سياسة التحرر» التي
يكون موضوعها «حياة الناس في جزئياتها» وليس الدولة، وهي سياسة لا
تستطيع أن تفهم «الجزئي» إلا متى أدرجته ضمن «مطلب كلي» أي «مساواتي»
حول حياة الناس. إلَّا أنَّ ما يقع دائمًا هو أن «كل مطلب جزئي هو يعيد
السياسة إلى الدولة ويضعها تحت إكراه صلاحيات الدولة».٤٩ وهكذا فإن ما تفكر فيه الديمقراطية هو سياسة لكنَّها
مستحيلة؛ لأن ما تطمح إليه هو أن تجعل أي نوع من عدم المساواة بين
الناس أمرًا مستحيلًا: ما يقلق الديمقراطية ليس «الممنوع» (كما يفرضه
منطق الدولة) بل «المستحيل» (كما يفرضه منطق الواقع).٥٠
لكن الدولة ليست العدو الوحيد للديمقراطية: إن الهوية والعرق والدين
والجنس كلها معاول «جماعوية» (communautaires) تهدم مبدأ المساواة
وتجعل المستحيل الديمقراطي أكثر استحالة، وذلك بأن توفِّر في كل مرة
مقامًا للتمييز أو للفصل بين الناس؛ ولذلك لا يمكن للديمقراطية أن تكون
مقولة فلسفية تمكِّن من التفكير في السياسة إلَّا إذا نجحت في جعل
اللامساواة بين الناس أمرًا مستحيلًا. ذلك أنه لا يمكن للفلسفة أن تطمح
جديًّا إلى بناء مفهوم كوني عن «العدل» إلا في ضوء ما يسميه باديو
«أبدية صغيرة».٥١ وهو لا يعني بذلك أبدية «شعب» من الشعوب (حيث تنصب الدولة
الحديثة فخاخ الهوية وتحوِّل السياسة إلى ركحٍ شعبوي بلا أحداث) بل أبدية
«الحقائق» التي أثبتت الإنسانية الحالية أنها قادرة عليها: أبدية
النظرية العلمية أو أبدية الأثر الفني أو أبدية الثورة التحررية أو
أبدية الحب.
خاتمة: «السياسة بوصفها نوعًا من تدبير الحقيقة»
ما يدعونا إليه باديو هو إعادة السياسة إلى «نفسها»، أي إلى شروطها
الخاصة التي تجعلنا نفكر في حدث ما بأنه سياسي؛ إذ لا يكون الحدث
سياسيًّا لأنه متعلق فقط بنشاط الدولة. ما يقع سياسيًّا يقع لسببٍ آخر:
يصبح الحدث سياسيًّا عندما يمكن أن ننسبه إلى «كيان جمعي» يحوِّله فجأة
إلى موقف «كوني». ما هو «جمعي» (collectif) ليس مجرد عدد أو كتلة
إحصائية نسميها «الشعب». ثمة «فكرة» هنا في ما هو «جمعي» علينا أن
نقرأها. يعرِّف باديو الفكرة (pensée) قائلًا: «هي تدبير للحقيقة مهما كان
شكله يتم اتخاذه باسم ذاتية ما. «فالفكرة» هي اسم الذات التي تكمن وراء
تدبير ما للحقيقة.»٥٢ وهذه الذات ليست فردًا، إنها موقف سياسي، أي تفرُّغ مخصوص
للتفكير هو الذي يميِّز الذات التي تتبلور من وراء نشاطات كل «المناضلين»
من أجل فكرة ما. لكن المناضل ليس أحدًا بعينه، إنه «مقولة بلا حدودٍ،
تعيين ذاتي بلا هوية أو بلا مفهوم»، وذلك لأن السياسة ليست توقيعًا
هوويًّا أو جماعويًّا. قال: «أن يكون الحدث السياسي جماعيًّا هو أمر
يستوجب أن الجميع هم — افتراضيًّا — مناضلون من أجل الفكرة التي صدرت
(procède) انطلاقًا من الحدث.»٥٣ «صدرت» أي تم «تدبيرها» من الداخل، من داخل العلاقة
الذاتية بحدثٍ كبيرٍ جعل نوعًا من السياسة أمرًا ممكنًا. السياسة إذن
علاقة ذاتية بنوعٍ من تدبير الحقيقة. وهي النشاط الوحيد الذي يعيد ذاتًا
ما إلى الحقيقة؛ لأن السياسة هي الفكرة الوحيدة التي تدَّعي أنها «فكرة
الجميع»، وإلا فإنها بلا معنى. وذلك على عكس نظرية رياضية أو تجربة حب
أو لوحة فنية؛ كل «تدابير الحقيقة» التي تتم في العلم أو الفن أو الحب
لا تحتاج إلى آخرين كثيرين، أو إلى موقف «جمعي». وحدها السياسة يمكنها
أن تدَّعي أنها «كونية» لأنها تخاطب «جميع الناس». ولذلك تبقى السياسة
مستحيلة ما دام الناس لا يفكرون في ما يحدث لهم. وذلك أن هذا التفكير
هو شكل الذات التي تنجم عن العلاقة بحدثٍ يأتي كي يغيِّر طبيعة جماعة ما،
نعني طبيعة علاقة الناس بأنفسهم. ومع ذلك فإن الذات السياسية ليست
فردًا، وذلك لأن تدبير الحقيقة ليس مشكلًا فرديًّا.
كل خطاب عن الحقيقة ينقل الناس من «تناهيهم» العرضي (حيث تتناسل
سرديات الموت) إلى مقام أكبر يسمِّيه باديو مقام «اللامتناهي» (حيث
يمكننا بناء مفهوم مناسب عن الحياة). ولذلك لا يتحرر الناس إلا عبر
سلسلة لا متناهية من المواقف لا يؤدي فيها الفرد أي دور ما دام هو لم
يتحوَّل إلى «ذاتٍ مخلصة» لحدث كبير. السياسة هي ما يجعل «تفكير الجميع»
موقفًا ذاتيًّا، وذلك بأن تجمع بين «الجماعي» و«الكوني» عبر مفهوم
«اللامتناهي». ومهمة الفلسفة هي أن تقدِّم هذه «اللانهاية» بوصفها «كونية
ذاتية»، أي بوصفها «لانهاية ذاتية من المواقف».٥٤ لكن كل موقف هو أكبر من نفسه دائمًا: هو يكشف الدولة في
تناقضها المرير بين «قوة» مفرطة و«عدم تعيُّن» مزعج لما تريد. ولذلك تلجأ
الدولة سريعًا إلى وظيفتها «القمعية» بوصفها إفراطًا عاديًّا للقوة، يضع
حدًّا للتحدي الذي يصدر عن أي علاقة ذاتية حرة بالحقيقة. وإنه هنا إنما
تصطدم الدولة بالسياسة وكأنها جسم غريب عنها. السياسة التي تصدر عن ذات
تريد تدبير الحقيقة، وفجأة هي تضع «مقياسًا مرئيًّا» عن قوة الدولة
بوصفها إفراطًا.٥٥ السياسة هي ما يضع الدولة على «مسافة» من نفسها، وبهذا
المعنى فقط هي تكون ضربًا من «الحرية». يقول باديو: «إن الحرية هنا هي
وضع لمسافة إزاء الدولة، من خلال التثبيت الجماعي لمقياس الإفراط، وإذا
ما تم قيس الإفراط فذلك لأن الكيان الجمعي يمكن أن يقيس نفسه.»٥٦
١
A. Badiou, “Qu’APPELLE-T-ON ÉCHOUER?”, in:
L’HYPOTHÈSE COMMUNISTE (Paris: Nouvelles Éditions Lignes,
2009), p. 11.
٢
Ibid.
٣
Ibid., p. 19.
٤
Ibid., p. 37 sq.
٥
Ibid., p. 75 sq.
٦
Andreas Hetzel, “Der letzte Kommunist. Alain Badiou
über Staat und Revolution”, in: Franziska Martinsen/Oliver
Flügel–Martinsen (Hg.), Demokratietheorie und Staatskritik
aus Frankreich. Neuere Diskurse und Perspektiven, Stuttgart
2015 (Steiner), 109–130.
٧
Ed Pluth, Badiou. A Philosophy of the New. op. cit. p.
5-6.
٨
A. Badiou, Le Siècle (Paris: Editions du Seuil, 2005),
p. 20.
٩
Ibid., p. 16.
١٠
Ibid. “comment il a été subjectivé”.
١١
Ibid., p. 13-14.
١٢
tout le monde. علينا أن نفهم العبارة بشكل حرفي:
«كل العالم» في معنى «كل واحد من الناس».
١٣
A. Badiou, “L’emblème démocratique”, in: Giorgio
Agamben et autres, Démocratie, dans quel état?. (Paris: La
fabrique, 2009), p. 15.
١٤
Ibid., p. 16.
١٥
Ibid., p. 17.
١٦
Ibid., p. 19.
١٧
A. Badiou, Circonstances, 1. Kosovo, 11 septembre,
Chirac/Le Pen (Lignes Editions Léo Scheer). Préface.
١٨
Alain Badiou, L’Être et l’Evénement. (Paris: Le Seuil,
Coll. L’ordre philosophique, 1988). p. 8-9.
١٩
Ibid., p. 199.
٢٠
Ibid., p. 199-200.
٢١
Ibid., p. 201.
٢٢
Ibid., p. 202.
٢٣
Ibid.
٢٤
Ibid., p. 203.
٢٥
Ibid., p. 204.
٢٦
Ibid., p. 375.
٢٧
Ibid.
٢٨
Ibid., p. 375-376.
٢٩
Ibid., p. 377.
٣٠
Ibid.
٣١
A. Badiou, Logiques des mondes. L’Être et l’Evénement,
2. (Paris: Le Seuil, Coll. L’ordre philosophique, 2006) p.
12.
٣٢
Ibid., p. 14.
٣٣
A. Badiou, Abrégé de métapolitique (Parie: Editions du
Seuil, 1998), p. 19-20.
٣٤
Ibid., p. 20-21.
٣٥
Ibid., p. 22-23.
٣٦
Ibid., p. 36-37.
٣٧
Ibid., p. 41.
٣٨
Ibid., p. 56.
٣٩
Ibid.
٤٠
A. Badiou, “Raisonnement hautement spéculatif sur le
concept de démocratie”, in: Abrégé de métapolitique (Parie:
Editions du Seuil, 1998), p. 89.
٤١
Ibid.
٤٢
Ibid., p. 90.
٤٣
Ibid., p. 99.
٤٤
Ibid.
٤٥
Ibid., p. 100.
٤٦
Ibid.
٤٧
Ibid., p. 103.
٤٨
Ibid.
٤٩
Ibid., p. 106.
٥٠
Ibid.
٥١
Ibid., p. 108.
٥٢
Ibid., p. 155.
٥٣
Ibid.
٥٤
Ibid., p. 157.
٥٥
Ibid., p. 159.
٥٦
Ibid., p 160.