بناء الإشكال
قال هيدغر في الفقرة ١٥ من
الكينونة والزمان: «قد كان للإغريق مصطلح
مناسب للإشارة إلى «الأشياء»:
πράγματα/«برغماطا»، بمعنى، ما معه يكون
لنا شأنٌ ضمن التعامل المنشغل (
πρᾶξις) [بالكائن]. غير أنهم، من ناحية
أنطولوجية، هم قد تركوا الطابع «البراغماتي» لل
πράγματα مبهمًا
وعيَّنوها «بادئ الأمر» بوصفها «مجرد أشياء».»
١ إن ما يحاول هيدغر كسر الجمود الميتافيزيقي حوله هو هذا
الربط المبكر بين «الكائن» وبين «الشيء». إن الكينونة ليست شيئًا. ذلك
أن ما يفهمه «الإنسان» (هذا الكائن المكلَّف بالسؤال عن معنى كينونته في
العالم) من معنى «نفسه» أو من معنى «الآخر» الذي يلاقيه في السياق
الأداتي حيث ينحصر العالم في ما نستعمله أو ما «
نتداوله» بيننا من
«الأشياء»، هو ليس «شيئًا» بل هو «شأن»/«براغما» (
πράγμα)، ميزته أنه
يغني معنى كينونتنا في العالم. إن الفرق بين الشيء (الكائن المحايد
إزاءنا) والشأن (الكائن المتورط في علاقة تأويلية معنا) هي المسافة «التداولية»
٢ التي يجب على المتكلِّم أن يجتازها من أجل فهم صلته بالآخر،
هذا الذي يوجد بعدُ في صلب «عالمية عالمنا»: «فإذا أراد المرء أن يماهي
بعدُ بين العالم بعامة والكائن داخل العالم، فإنه ينبغي أن يقول،
«العالم» هو أيضًا دازين.»
٣ نحن لا نعني أكثر من استعمالنا لأنفسنا في «عالم» بعينه،
ما «نتداوله» من دلالة أنفسنا هو الذي يبني صورة الآخر ويحدِّده سلفًا
داخل ذلك العالم. نحن نحمل الآخر في أفق فهمنا لأنفسنا. إنه ليس أداة
بل «كينونة-معًا» (
ein Mitsein) هي جزء من تعريفنا العميق لكياننا.
٤ قال هوسرل: «إن
الآخر، من حيث المعنى الذي يتقوَّم به، هو
يحيل عليَّ أنا نفسي، إن الآخر هو انعكاس لذاتي، ومع ذلك ليس انعكاسًا
على الحقيقة، هو مماثل لذاتي، ومع ذلك ليس مماثلًا لي بالمعنى المعتاد.»
٥
هذا التنصيب لتجربة ملاقاة الآخر في صلب فهمنا لأنفسنا بوصفه «كينونة-معًا» أو «دائرة
انتماء بيذاتية» (
eine intersubjektive Eigenheitssphäre)
٦ قد نتج عنه أمر خطير: أنه، كما بيَّن ذلك فتغنشتاين، لا توجد
«لغة خاصة» يحتكرها أحدهم دون غيره. قال: «بالإمكان تصوُّر أناس لا
يتكلمون إلا مع أنفسهم … لكن، هل بالإمكان التفكير في لغة يمكن
للإنسان أن يعبِّر بها كتابة أو نطقًا عن تجاربه الباطنية — عن مشاعره
وحالات مزاجه … إلخ — لاستعماله الخاص؟ … وهكذا لا يمكن لشخص آخر أن
يفهم هذه اللغة.»
٧ لا يمكن الحديث عن «لغة شخصية» إلا إذا كانت «أصواتًا لا
يمكن للآخر أن يفهمها»
٨ إن اللغة هي إذن أول مؤسسة للآخرية ويبدو أنها ستكون
الأخيرة.»
ويقترح فتغنشتاين مثال «الألم»
٩ لاختبار فكرته: نحن لا نشعر بآلام الآخرين إلا لغويًّا،
نعني من خلال التمييز بين الألم والتعبير عن الألم؛ إن ألمي خاص بي لكنَّ
ألم الآخر لا يمكن أن يكون بالنسبة إليَّ إلَّا سلوكًا لغويًّا. إن
التفكير لا يساعدنا في فهم علاقتنا بالآخر إلَّا إذا تحوَّل إلى تمرين على
«خيال نحوي».
١٠ يعني ذلك أننا «لا يمكن أن نفكر دون أن نتكلم»، بل إن
«التفكير نوع من الكلام».
١١ النحو هو اللعبة التي تنظم لغتي. ولذلك يفترض فتغنشتاين
أن «العالم» مثل «الله» لا يأتي إلينا إلا في اللغة وبوصفه لغة. مثلًا:
ليس الله إلا ما يقوله عن نفسه في الألفاظ. طبعًا، نحن لا نعرف «كيف
تشتغل اللفظة … يجب أن ننظر إلى استعمالها وأن نتعلم منه.»
١٢ نحن «متأخرون» دومًا عمَّا نعنيه؛ لأن اللغة تكون بعدُ قد
قالته وهيَّأت الألفاظ الملائمة لقوله. إن «الآخر» هو في ماهيه أو في
هويَّته محض لغة، ولذلك لا يمكن ترتيب العلاقة معه من أقصاها (في المقدَّس)
إلى أدناها (في الحياة العادية) إلا متى قبلنا بأن تلك العلاقة لا تعدو
أن تكون من طبيعة لغوية بحتة. إن ما نتبادله من ألفاظ هو المضمون
المعياري الوحيد لتلك العلاقة، ومع ذلك سوف يظل هناك حاجز معياري
بيننا: ما يعتبره كلٌّ منَّا «مقدسًا»، وهو ليس بالضرورة أمرًا «إلهيًّا»
بل كان هناك دومًا مقدسات «وثنية»
(آلهة اليونان، آلهة العرب القدامى، … إلخ.)
ولكن صار هناك أيضًا مقدسات «علمانية» (الوطن، اللغة الأم،
الهوية القومية، …). وهكذا فإن التمييز الرشيق الذي اقترحه إمانويل
ليفناس بين «المقدس» (
le sacré) و«القدسي» أو «القدوس» (
le saint)
١٣ هو ليس مفيدًا من ناحية تداولية: إنه يبقي على الفاصل
الاستبدادي بين دين صحيح ودين زائف، ومن ثَمَّ هو يحتفظ بقيم الضغينة بين
المؤمنين بآلهة مختلفة.
ولذلك فإن هدف الفلسفة الأساسي هو حسب فتغنشتاين ليس أكثر من «أن
ترشد الذبابة كيف تخرج من فخ الذباب».
١٤ اللغة فخ الذباب الذي ينبغي أن نحترس من التفكير فيه بشكل
غير لغوي: كل ما نزجُّ به من قيم لا تنتمي إلى الحقل التداولي الذي
يجمعنا بالآخر يمكن أن يتحوَّل بسرعة فائقة إلى وهمٍ يجعلنا نعتقد أننا
نعرف كيف «تكون» الأشياء. ولأنَّ الآخر مجرد لغة فإنه «ينبغي أن يكون
موجودًا هناك أيضًا حين لا أجده، حتى وإن لم يكن موجودًا أصلًا.»
١٥ نحن لا نجد من الآخر إلا ما نضعه في اللغة التي نتكلَّمها
عنه. وهكذا ليس الآخر البشري فقط هو الذي ينبغي أن نبحث عنه في اللغة
بل «الآخر الكبير» أيضًا. قال:«أي صنف من الأشياء ذاك الذي يقوله
النحو عن الأشياء. (عندما يصبح علم الأديان نحوًا).»
١٦
لذلك فإن السؤال الصعب في فهم العلاقة بالآخر هو تحديدًا وحصرًا
عندما تتعلق تلك العلاقة بما لا يمكن التفاوض حوله، مثلًا: بمعنى
كينونتنا في العالم نفسها، وهو معنى يرتدُّ دومًا إلى منطقة محرَّمة حيث
ينشأ المقدس ويصبح معياريًّا أخيرًا لأنفسنا (حيث تنتصب ثلاثية
الله-الملك-الأب في كل ثقافة وإنْ بشكلٍ مطمورٍ). وبعامة إن ما يظل
عصيًّا على النجاح في اختبار «الآخرية» هو ما لا يمكن للغة أن تقوله،
ما لا يمكن لها أن تمتص حقيقته؛ لأنه يمكن أن يحطِّم حدودها. وهو ما تجمَّع
بشكل أو بآخر في عبارة «المقدَّس». إن الرهان عندئذ هو النجاح في تحقيق
ما سمَّاه هابرماس بعبارة مثيرة «ألسنة المقدس» (die Versprachlichung
des Sakralen) أو التحويل أو التذويب اللغوي للمقدس فيصبح معنًى سائلًا
يمكن تقاسمه بين ذوات متكلِّمة وحرة داخل جماعة تواصلية، إن الديمقراطية
الوحيدة حول المقدس هي اللغة.
قال: «إنَّ نزع السحر عن ميدان المقدس وتجريده من قواه إنما يتم عن
طريق ضرب من
التحويل اللغوي للتوافق المعياري الأساسي المؤمَّن عليه بشكلٍ طقوسي، ومن ثَمَّ تنطلق عملية رفع القيود عن مخزون العقلانية المودَع في
الفعل التواصلي. إن هالة الفتنة والخشية التي تنبعث من المقدس، والقوة
الآسرة للقداسة إنما يتم في نفس الوقت تصعيدهما في القوة
القاهرة
لادعاءات الصلاحية القابلة للنقد وإعطاؤهما صبغة اليومي.»
١٧
ما معنى ذلك؟ كيف يمكن نزع السحر عن المقدس بحيث تصبح العلاقة
«المفيدة» (بالمعنى التداولي) مع الآخر أمرًا ممكنًا؟ هل يفترض ذلك أن
ننقل «التوافق المعياري» حول أنفسنا أو حول الحقيقة التي نؤمن بها من
مستوى «الطقوس» (مع الغائب) إلى مستوى «الفعل التواصلي» (مع الآخر)؟ ما
هو دور العقلانية هنا؟ هل يمكن حقًّا «تصعيد» رهبة المقدس في شكل «قوة
إنجازية» للخطاب الذي نتقاسمه مع بقية أعضاء الإنسانية؟ كيف نقود
الحقيقة إلى اليومي؟ ما معنى تحويل الحاجز المعياري بين مختلف الأفراد
أو مختلف الأمم أو مختلف الأديان إلى «ادعاءات صلاحية» قابلة للنقد؟
كيف يصبح الآخر بعامة — مهما كان شكله أو تعريفه — «شريكًا» تداوليًّا في
جماعة «الإنسانية»؟ كيف نجتاز المسافة التداولية بين الأمم وننخرط في
«المؤتلف الإنساني» من حيث جملة القيم المشتركة بين البشر بما هم بشر
بمجرَّدهم (في معنى «المعقول» الذي يجعل عالمهم ممكنًا، ومعنى «العادل»
الذي يؤسِّس معايير سلوكهم الخيِّر، ومعنى «الخُلق» أو فن العيش الذي يغذِّي
سرديتهم عن أنفسهم)؟
إن الرهان الأخير في هذه الأسئلة هو النزاع حول القيمة «الكونية»
لعلاقاتنا بالآخرين، هناك حيث نلتقي بهم في ميدان «الخطاب»؛ حيث تصبح
كل «المقدسات» متساوية في «أصالتها» التداولية. إنَّ قيمة الكونية هي
المعيار الوحيد لصلاحية أي ادِّعاء هووي حول أنفسنا. لكنَّ أي ادِّعاء حول
حقيقتنا لا يمكن أن يتم مشاركته مع الآخر إلَّا إذا أسَّسنا شرط «التفاهم»
معه وفقًا لنوعٍ محمودٍ من «أدب الجدل» معه.
(١) لغة الإنسان «ماهية روحية» (والتر بنيامين)
كتب ولتر بنيامين سنة ١٩١٦م مقالة رشيقة عنوانها «في اللغة بعامة وفي
لغة الإنسان بخاصة»
١٨؛ حيث يقول: «كل تواصل للمضامين الروحية هو لغة، بحيث
لا يكون التواصل عبر الكلمة إلا حالة خاصة.»
١٩ إن القصد هو أن اللغة ليست مجرد «أداة» يستخدمها الإنسان
للتعبير عن معنى غريب عنه أو خارجه، بل هي لا تصبح «لغة إنسانية» إلا
متى كانت تحتوي على «ماهية روحية» (
ein geistiges Wesen)، أي علاقة ما
«بأنفسنا».
قال: «ذلك يعني: أن اللغة الألمانية على سبيل المثال هي ليست أبدًا
العبارة التي تشير إلى كل ما يمكننا — على سبيل الافتراض — أن نعبِّر عنه
بواسطتها، بل هي العبارة المباشرة عمَّا يعبِّر عن
ذاته داخلها، هذه
«الذات» هي ماهية روحية.»
٢٠
إن اللغة لا تقول أو لا «تبلِّغ» عن معنى يوجد خارجها، إن المضمون
الروحي الذي يعبِّر عن نفسه «في اللغة» هو لا يستعملها، نعني لا يعبِّر عن
نفسه «بواسطتها».
٢١ ذلك يعني أنه لا يوجد شيء «خارج» اللغة يمكن لأحدهم أن
يحتمي به ويستعمله ضد بقية المتكلمين؛ إذ لا يوجد شيء ما إلا بقدر ما
يعبِّر عن نفسه، أي بقدر ما «يتواصل» مع «نفسه» بوصفه لغة. وهكذا فإن
القضية الأساسية هنا هي:
«أن الماهية اللغوية للإنسان هي لغته، ذلك يعني: أن الإنسان إنما
يفصح عن ماهيته الروحية الخاصة في صلب لغته. لكن لغة الإنسان تتكلم في
الكلمات. وبالتالي فإن الإنسان يفصح عن ماهيته الروحية الخاصة (بقدر ما
هي ماهية مباشرة) عندما
يسمي (
benennt)
كل الأشياء الأخرى. ولكن هل نعرف
لغات أخرى تسمي الأشياء؟ لا ينبغي أن يجيب أحد بأنه لا توجد أي لغة
أخرى خارج لغة الإنسان، فهذا غير صحيح، ولكن نحن لا نعرف أي لغة
تسمي (
benennende) غير لغة الإنسان.»
٢٢
لا يدخل في ماهية الإنسان إلا ما هو لغوي، لكنَّ ما هو لغوي لا يصبح
إنسانيًّا إلا عندما يحتوي على «ذاته»، نعني على ماهية روحية تخصُّه.
وحسب بنيامين فإن هذه الخاصية لا تتعيَّن في أصالتها الخاصة إلا في فعل
«التسمية»، تسمية كل الأشياء الأخرى، أي في الاستيلاء عليها وتسخيرها
داخل لغة الإنسان. إن «التصوُّر البورجوازي للغة» إنما يعاملها بوصفها
مجرد «أداة تواصل»، موضوعها «الأشياء»، ومن أجل «مخاطبة» الإنسان،
والحال أن اللفظ ليس أداة والأشياء ليست «موضوع» اللغة والتواصل لا
يخاطب أحدًا. إن الاسم أخطر من مجرد أداة. قال: «في الاسم تفصح الماهية
الروحية للإنسان عن نفسها إلى الله.»
٢٣ إن بنيامين يضع نفسه مباشرة في أفق التقليد التوحيدي
(كما تجسِّده القبالة اليهودية تحديدًا) حيث يؤدي «الاسم» دورًا
تكوينيًّا: من «يسمي» يخلق أو يهَب «الكينونة»، نعني يمنح «ماهية روحية»
للموجود. وهي حركة تأويلية رشيقة؛ لأنها تمنحنا المقابل الإبراهيمي
للتعريف اليوناني للإنسان بأنه «حيوان ناطق» أو «متكلِّم»، حيث يفضِّل
بنيامين التعريف بصفة «
التسمية» (
heißen) بدلًا من «التكلُّم»
(
sprechen). الاسم هو «النداء الأصيل للغة» في معنى أن «اللغة لا تعبِّر
عن نفسها»، عن ماهيتها الروحية إلا «في التسمية الكونية» (
in der
universellen Benennung). الاسم «كوني» في معنى أنه يبلغ في التسمية
إلى «الكلية (
Totalität) الكثيفة للغة بوصفها كلية الماهية الروحية
المباشرة والكلية الشاملة للغة بوصفها الماهية التي تبلغ (وتسمَّى) على
نحو كوني».
٢٤ إن الكوني هو الاسم الذي يقطف كل مساحة المعنى التي تجعل
شيئًا ما ماهية روحية. وحدها لغة الإنسان تتمتع بهذه الصفة. قال: «إن
الإنسان هو وحده الذي يمتلك اللغة الكاملة من حيث الكونية والكثافة.»
٢٥
(٢) ما هي «التداولية الكونية»؟ أو في معنى «التفاهم»
(هابرماس)
قول هابرماس سنة ١٩٧٦م: «إن مهمة التداولية الكونية
(
Universalpragmatik) هي أن تحدِّد الشروط الكونية لأي تفاهمٍ ممكن وأن
تعيد بناءها. وفي سياقات أخرى يتكلم المرء أيضًا عن «الافتراضات الكلية
(
allgemeinen) للتواصل»، إلا أنني أفضِّل أن أتكلَّم عن الافتراضات
الكلية للفعل التواصلي؛ لأنني أعتبر نمط الفعل الهادف إلى التفاهم
أمرًا أساسيًّا.»
٢٦
علينا أن نسأل هنا: ما هو «التفاهم» (
Verständigung) عندما يتعلق
الأمر بنمطٍ من «الفعل» الذي يكون «تداوليًّا» و«كونيًّا» و«تواصليًّا»؟
إن أول مظهر طريف علينا تسجيله هو نقل مسألة «التفاهم» بين البشر
المتكلمين من نطاق التقليد «الهرمينوطيقي» الذي عرَّف البحث عن المعنى
بأنه «فن الفهم» الذي يريد أن يبني «تأويلية كونية»، وهو تقليد ظلَّ
ساري المفعول من شلايرماخر إلى هيدغر وغادمر،
٢٧ إلى أفق تقليد آخر، تقليد «النظرية النقدية في المجتمع»؛
حيث لا يتعلق الأمر بالبحث عن المعنى بل بإنجاز نمطٍ مختلفٍ من النشاط هو
«الفعل التواصلي» بين «ذوات متكلمة وفاعلة». هذا الانتقال من منوال
«الفهم» (حيث يظل السؤال تأويليًّا) إلى منوال «التفاهم» (حيث يصبح
الشاغل تداوليًّا) هو الذي عمل هابرماس على تحديد ملامحه الفلسفية.
وكان هابرماس قد أكد منذ ١٩٧٠م على أن «الهرمينوطيقا» ليست مناطًا
مناسبًا لإنجاز مطلب «الكونية»؛
٢٨ إذ إن «ادِّعاء الكونية» مطلب غير ممكن في ظل تأويلية تنطلق
من مذهب شلايرماخر القائل بأن «الفهم هو تفادي سوء الفهم» أو من اعتراض
غادمر عليه بأن ذلك «غير مناسب»؛ لأن «كل سوء فهم يفترض» اتفاقًا
داعمًا له (
ein “tragendes Einverständnis”).
٢٩ إن هكذا تأويلية سوف تضطر دومًا من أجل فهم «المعنى» إلى
الاتِّكاء على «تراث لغوي» يتمتع لديها بمنزلة «أنطولوجية» بحيث إن
«سوء الفهم» سوف يُعامَل أيضًا بوصفه أثرًا يخفي تحته «اتفاقًا» أو
«توافقًا سابقًا».
٣٠ والحال أن ما يختفي وراء سلطة التراث ليس «موضوعية اللغة»
فقط بل أيضًا «الطابع القمعي لعلاقات العنف التي تشوه بيذاتية الاتفاق
بما هو كذلك».
٣١
ولكن ماذا يمكن أن تكون «التداولية» إذا هي فعلًا أرادت أن تكون
«كونية» و«تواصلية» تنجح في تخطي أفق تأويلية الفهم التي تظل دومًا
قائمة على نزعة «محافظة» (تنبع من سلطة تراثٍ صامتٍ أو صريحٍ) إلى نظرية
عامة في التفاهم الذي يحوِّل اللغة إلى أفعال كلامية ذات طبيعة «إنجازية»
مفتوحة على «فضاءات عمومية» عالمية؟
ينطلق هابرماس في الإجابة عن هذا السؤال من رسم معالم ما يسميه
«قاعدة صلاحية الكلام» (
Geltungsbasis der Rede).
٣٢ وتتمثَّل هذه القاعدة في المفترضات «الكونية» لأفعال
«الكلام» التي من شأنها أن تنجز عملية «التوافق» (
der Konsens) بين
المتحاورين، وذلك يعني داخل «جماعة» يجتهد كل مشارك ضمنها في أن يكون
«فاعلًا تواصليًّا» مع سائر المشاركين. وعلى خلاف كارل أطو آبل الذي
أراد تأسيس هذا الطرح التداولي على مفترض معياري موجود «بعدُ دومًا فينا
نحن أنفسنا وفي الآخرين»
٣٣ (أي بشكل قبلي أو ترنستندنتالي)، فإن هابرماس لا يعوِّل
إلا على أفعال الكلام بين البشر الذين يقبلون التحوُّل إلى ذوات فاعلة
ومتكلِّمة داخل جماعة من المتكلمين الفاعلين الذين لا هدف لهم سوى
«التفاهم» فيما بينهم بواسطة «أفعال كلام توافقية» (
konsensuelle Sprechhandlungen).
٣٤ لا يدخل أحد في «مسار التفاهم» إلا إذا قبِل تأمين مجموعة
من «الادعاءات الكونية» بواسطة جملة من أفعال الكلام، وهي عند هابرماس
عملية مؤلَّفة من أربع خطوات يحقِّقها ذلك الفاعل التواصلي عندما:
تتعلق هذه المستويات الأربعة بمجالات اختبار تداولية متمايزة، ألا
وهي «
اللغة» (ما نعبِّر عنه ينبغي أن يكون «قابلًا للفهم»)،
و«
الطبيعة الخارجية» (ما نقوله ينبغي أن تكون له علاقة بالواقع بحيث ينطوي على
قيمة «موضوعية» تصف «حالات الأشياء»، ومن ثَمَّ يكون «حقيقيًّا»)،
و«
الطبيعة الباطنية» (ما نتكلم عنه يجب أن يكون «صادقًا» صدقية
(
Wahrheftigkeit) تفصح عن «ذاتيتنا» أو «أصالتنا» الخاصة؛ لأنه «إفصاح
عن تجارب ذاتية» خاصة بنا)، و«
المجتمع» (ما نتخاطب في شأنه يجب أن يكون
منظَّمًا حسب «معايير» تتميَّز بقدر محمود من «السداد» أو «الصحة»
(
Richtigkeit) المعيارية التي تمكِّنه من «إرساء علاقات بيشخصية» موجَّهة
نحو التفاهم، وليس موجَّهًا نحو مجرد النجاح حسب مقضيات منظومة لا ترانا).
٣٦
لا معنى لتعبير لا يكون «قابلًا للفهم»، وهذه هي الخاصية الحاسمة في
كل «كلام» أو «خطاب». إن «معقولية» القول أو «قابليته للفهم»
(Verständlichkeit) هي الركيزة الأولى في اعتبار أي تعبير يبثُّه متكلِّم
نحو سامع ما. ولا يصبح «تداوليًّا» أو قابلًا للتداول إلا ما يستطيع
أعضاء الجماعة اللغوية (أو أعضاء الإنسانية بوصفها جماعة لغوية) «فهمه»
على نحو يمكِّن من «التفاهم» في شأنه. ولا يتعلق الفهم أو التفاهم بحدس
أو وحي أو لغز، ينزلق معه المتكلم في أتون رطانة أو خطابة متعالية على
اللغة العادية، بل فقط هو يستعمل ذلك القدر من المعنى الذي تستطيع
الذوات المتكلِّمة تقاسمه بشكل متساوٍ ومتساوق. إن معقولية الخطاب أو
قابلتيه للفهم هي شرط الإمكان الكوني الأول في تحقيق أي مسار من
التفاهم. ولا ينبغي أن ننظر إلى «قابلية الفهم» بوصفها تواضعًا
خطابيًّا أو تنازلًا تأويليًّا، بل فقط بوصفها شرط إمكان معياريًّا
كونيًّا لتحقيق التواصل بين البشر بعامة.
لكنَّ الخطاب لا يكون قابلًا للفهم حقًّا إلا إذا أضاف إلى بنيته
التداولية ثلاثة شروط إمكانٍ معيارية أخرى، هي بمثابة تمايز داخلي في
ادعاءات الصلاحية التي يجب على كل فعل كلامي أن يتحلَّى بواحدٍ منها أو
أكثر، كي يحقق مقصده التواصلي.
يجب أن يكون الفاعل التواصلي قد قدَّم «شيئًا» ما للفهم؛ وذلك يعني أن
يحرِّكه «مقصد» معين إلى «تبليغ مضمون قضوي
حقيقي» أو «
صائب» (
wahr): إن
«الحقيقة» (
Wahrheit) هي المحتوى الوحيد للخطاب الذي يريد أن يتخذ شكل
«قضايا» قابلة للصواب والخطأ. «أن يبلِّغ» (
mitteilen) تعني في الألمانية
«أن يتواصل» في معنى «أن يتقاسم» مع غيره. والحقيقة هي المحتوى الوحيد
الذي يمكن تقاسمه في شكل قضايا. إن «المحتوى القضوي» هو الشكل الوحيد
للحقيقة بحيث «يستطيع السامع أن
يتقاسم معرفة المتكلم».
٣٧ ولذلك ليس ثمة من «إفادة» (
Relevanz) في أي خطاب يريد أن
يكون كونيًّا وهو يخل بشرط الإمكان الخاص بمسألة «الحقيقة». لا يتفاهم
الناس إلا بعد تسوية تفاهم مفترض سلفًا بين عقولهم حول ما هو حقيقي وما
هو غير حقيقي. إن التفاهم بين البشر حول وضع العالم يوجد «بعد» الحقيقة
العلمية وليس بمعزل عنها.
لكنَّ المتكلِّم مطالب أيضًا بالإفصاح عن مقاصده بشكل «صادق» أو «نزيه»
حتى يستطيع السامع أن «يصدِّقه» في معنى قريب من «الاعتقاد» أو «الثقة».
٣٨ كل ما يقوله المتكلم عن «نفسه» هو مسألة «تصديق» أو
«اعتقاد» وهو رهين قدرة التلفُّظ على إحداث شعور «الثقة» لدى السامع. ومن
ثَمَّ ليس له على المستوى التداول الكونية أي سند معياري آخر؛ ولذلك يجب
على الفاعل التواصلي أن يختار «تلفُّظًا سديدًا»(
richtige Äußerung)
٣٩ أو تعبيرًا صحيحًا موافقًا للمعايير السائدة حتى يمكن
للسامع أن «يقبل» هذا الفعل الكلامي بوصفه موجَّهًا نحو التفاهم وليس نحو
شيء آخر.
يقول هابرماس: «إن هدف التفاهم هو التوصُّل إلى
اتفاق (
Einverständnis) من شأنه أن يفضي إلى الأرضية البيذاتية المشتركة التي
يقوم عليها الفهم المتضافر والمعرفة المتقاسَمة والثقة المتبادلة
والتآلف (
Übereinstimmen) الواحد مع الآخر. وإن الاتفاق إنما يقوم على
قاعدة الاعتراف بادِّعاءات الصلاحية الأربعة المتعلقة بها: قابلية
الفهم، الحقيقة، الصدقيَّة والسداد. ونحن نرى أن عبارة «التفاهم» هي في
الألمانية تُقال على معانٍ عدة».
٤٠
إن التفاهم مسار وليس معطًى جاهزًا، إن هدفه هو إنتاج نوع معين من
«المتفق عليه» حتى يصبح التواصل ممكنًا. وهو متفق عليه لغوي؛ أي يتحقق
عبر أفعال كلامية توصَّلت إلى رسم «أرضية مشتركة» بين «ذوات» متساوية
انتقلت من الخطاب المنفرد بنفسه إلى الخطاب القادر على «الفهم
المتضافر» (wechselseitig) أو المتآزر الذي تنجزه ذوات تتبادل أفعال
الكلام من أجل الوصول إلى «اتفاق» (Einverständnis). واللفظة تعني في
الألمانية نوعًا من «الفهم الواحد» الذي لم يكن «واحدًا» أو ناجمًا عن
فهمٍ أحادي بل «صار» واحدًا بفضل التفاهم بين عديدين. علينا أن نسأل
الآن: بأي وجه يمكن للتداولية أن تساعد في تحقيق تخريج فلسفي مناسب
لمفهوم «التآلف الواحد مع الآخر (das miteinander Übereinstimmen)»
بوصفه الثمرة العليا لمسار التفاهم؟
(٣) شرعنة التآلف: «الكرامة الإنسان» بوصفها معيارًا للكونية
تكمن طرافة أعمال هابرماس في قراءة العنصر «الإنساني» بوصفه مهيكلًا
باللغة على نحوٍ يجعل كل ما يقوله أو يفعله هو عبارة عن «فعل تواصلي»
موجَّه نحو التفاهم بين ذوات فاعلة ومتكلِّمة. هذا التجريد من شأنه أن يحرر
قدرة البشر على «التآلف» فيما بينهم من وطأة أي أجهزة معيارية «أخرى»،
قد تكون غير قادرة على اعتماد اللغة بوصفها نموذجًا عميقًا لكل نوعٍ من
إنتاج المعنى المشترك. ووجه الطرافة الأخص هو أن هذه المقاربة ليس
أحادية، أي لا تُقصي أيَّ خطاب حول هوية الإنسان أو حول معنى الكينونة في
العالم (أكان طقوسًا أو دينًا أو ميتافيزيقا أو فنًّا أو سنة أخلاقية
أو حياة يومية …) بل فقط «تعيد بناءه» في مفردات تداولية ومن ثَمَّ تمتحن
صلاحيته في تحقيق التفاهم بين البشر. إن القصد هو أنه لا توجد «دلالة»
ذاتية للوجود الإنساني تكون بمعزلٍ عن «الصلاحية» التداولية لما يقوله
عن نفسه أو إلى الآخرين. وسوف نكتفي هنا باختبار قول هابرماس في التآلف
بواسطة «خطاب حقوق الإنسان» والسؤال عن «الكرامة الإنسانية»، وذلك من
جهة أن «المؤتلف الإنساني» اليوم لئن كان لا يمكن أن يُصاغ إلا في لغة
تداولية فليس له من محكِّ اختبار آخر إلا ما نفهمه من عبارة «حقوق
الإنسان» بعامة: صحيح أن ما يقوله الناس عن أنفسهم أو لبعضهم البعض هو
ليس شيئًا آخر سوى «أفعال الكلام» التي يؤسِّسون عليها «مسار التفاهم»
الذي يفضي إلى إرساء «اتفاق» ما بعد-تقليدي حول معنى حياتهم
المشتركة. لكنَّ كلَّ ذلك لن يكون له أي مفعول «إنجازي» إذا لم يجد سندًا
معياريًّا له في تصوُّر معين عن «حقوق الإنسان» ولا سيما من زاوية السؤال
المركَّب عن معنى «الكرامة الإنسانية» التي تُقال على معان «هووية» شتَّى
ومن الصعب بمكان إجراء «مناظرة» منصفة في شأنها.
ويبدو أن هابرماس قد شرع فعلًا في رفع هذا التحدي «الهووي» ضد فلسفته
منذ كتابه التأصيلي «إدماج الآخر» (
Einbeziehung des Anderen) سنة
١٩٩٦م، وخاصة القسم الرابع منه حول «حقوق الإنسان: على مستوى عالمي
وداخل الدولة»، والذي طوَّره انطلاقًا من مقالة كانط عن السلم الأبدي
(١٧٩٥م) ولكن في إطار مراجعة تداولية لتلك المقالة في ضوء انحسار نموذج
الدولة القومية وظهور العنصر «ما بعد القومي» أو «المعولم» بوصفه
مجالًا جديدًا للخطاب الكوني حول «حقوق الإنسان» من خلال نقلها من نطاق
الدولة/الأمة إلى أفق «قانون المواطنة العالمة» (
das Recht der
Weltbürger) .
٤١ والنتيجة هي أنه لا معنى لمواطنة عالمية دون إرساء «سياسة
في حقوق الإنسان»،
٤٢ لأن ما هو «كوني» ليس «العالم» بل «المواطنة» الإنسانية.
إن رهان أي تفاهم هو بناء اتفاق تداولي حول نوع ادعاءات الصلاحية التي
نقيم عليها خطابنا حول أنفسنا أو تجاه الآخرين من حيث نحن «بشر» في
«مواطنة عالمية» دائمة، الواحد بالنسبة إلى الآخر.
وانطلاقًا من هذا المقام امتحن هابرماس جملة عديدة من مثل هذه
الاتفاقات ما بعد التقليدية: سواء منها السياسية («إدماج الآخر»
٤٣ في ظل دولة تحقق «الديمقراطية التشاورية») أو الأخلاقية
(«أخلاق الخطاب»
٤٤) أو الدينية («التعدد الديني» و«التسامح الديني بوصفه خطوة
نحو تحقيق الحقوق الثقافية»،
٤٥ و«ألسنة المقدس»
٤٦ في «مجتمع ما بعد علماني»)
٤٧ أو الحقوقية («دسترة القانون الدولي» وطرح مسائل «الشرعنة
في مجتمع عالمي بلا دولة»).
٤٨
نحن لن نهتم هنا إلا بما يجعل «التآلف الواحد مع الآخر» بين البشر
ممكنًا، وليس ذلك إلا السؤال التداولي عن «الكرامة الإنسانية» عمومًا
بوصفها السند «الأخلاقي» لأي تساؤل نظري حول «التفاهم» (من حيث هو
الثمرة العليا للعقل التواصلي/الوريث ما بعد الميتافيزيقي للعقل
التقليدي أكان «جوهرًا» أو «ذاتًا» متعالية) أو أي بحث عملي حول
«العدل» (من حيث هو الرهان السياسي الذي أطلقته نظرية الخطاب لدى
هابرماس حول الديمقراطية التشاورية الكفيلة بتحقيق «إدماج الآخر» في
«مجتمع متعدد الثقافات»). إلا أنه علينا أيضًا أن نفصل بين التأصيل
التداولي لمفهوم الكرامة الإنسانية وبين النقاش الثقافي حول «الهوية»
القومية التي هي موقَّعة دائمًا من طرف ثقافة ما، حيث يتحدث هابرماس
نفسه، دونما خجل فلسفي يُذكر، عن كيان ثقافي أو أخلاقي خاص اسمه
«أوروبا»، عن «تعريف أوروبا» وعن نشأة «الهوية الأوروبية»،
٤٩ وعن «من ينتمي إلى أوروبا» (
Wer gehört zu Europa?)،
٥٠ وعن نوع العلاقة المناسبة بين هذه الهوية وبين «الفعل
الكوني» أو «ذي النزعة الكونية» (
universalistisches Handeln)
٥١ الذي يجدر بهذا النوع من «أوروبا الجديدة» أن تقوم به، إن
الفعل الكوني إذن ليس فعلًا هوويًّا ولا ينبغي له أن يكون.
أين يقع السؤال عن «المؤتلف الإنساني» إذن متى حصرنا البحث عنه في
أفق السؤال عن الكرامة الإنسانية؟ وما هي المساهمة التي تفيدنا بها
تداولية هابرماس؟
إن الحديث عن «مؤتلف إنساني»، أي عن حقل تداولي مشترك بين جميع
المشاركين في الجماعة التواصلية، غير ممكن من دون فكرة واضحة عن
«الإنسانية». وكان كانط قد اقترح فكرة «أخلاق كونية» مؤسَّسة على النزعة
«الكسمو-سياسية» (
Kosmopolitismus) أو مواطنة العالم باعتبارها
أساسًا «قانونيًّا» مناسبًا لجمع البشر حول قيم كونية مشتركة تؤلِّف
بينهم. إلا أنه لا يجب أن ننسى أن هذا المصطلح من نحت فيلسوف يوناني هو
«ديوجانس السينوبي» أو الكلبي، الذي كان يجوب شوارع أثينا حاملًا
مصباحه في وضح النهار قائلًا لأبناء مدينته «أنا أبحث عن الإنسان (
anthrôpos).»
٥٢ إنه لم يكن يبحث عن «رجل» (
anèr) بل عن «الإنسان» الذي
يتحدث عنه أفلاطون.
٥٣ وعلينا أن نفهم لماذا مثل هذا السؤال قد جعل منه فيلسوفًا
«كلبيًّا» أو «يعيش حياة كلب».
٥٤ إنَّ سعيه إلى تخطي نطاق «المدينة» إلى أفق «العالم» لا يعني
سوى الدعوة إلى نقل السياسة من خصومة «القوانين» الخاصة بشعبٍ أو ثقافة
معينة إلى مناقشة أخلاق المواطنة العالمية. إنَّ «العالم» يحتاج هو أيضًا
إلى نمط من «السكن» ما بعد القومي الذي بمقدوره مساعدة البشر على
التآلف فيما بينهم والاشرئباب إلى «سلم دائم».
ما نظفر به من هذا التبيين هو أنَّ «الإنساني» ليس «رجلًا»، نعني ليس
نظامًا «ذكوريًّا» يمكن أن ترفعه ثقافة ضد أخرى أو شعب ضد آخر. ومع ذلك
من السهل الانزلاق في تصوُّر أبوي أو ذكوري لمعنى «الكوني»، لذلك فإنَّ
استدعاء كانط لمعنى «الكسمو-سياسة» هو من أجل بلورة أخلاق عقلية
قادرة على احتمال قيم الكوني، أي قيم المشترَك الذي يتخطى جميع الثقافات
أو الهويات لكنه يستطيع التأليف بينها. لكن النزعة الكونية يمكن أن تكون
فخًّا سياسيًّا «كلبيًّا» بمجرد النزاع حول معنى «الإنسانية»، التي هي
مفهوم يمكن أن يتحوَّل حسب توصيف كارل شميدت في بحثه حول
مفهوم السياسي (١٩٣٢م)
٥٥ إلى «أداة إيديولوجية» ضد الشعوب. ولذلك ينبِّه هابرماس بشدة
إلى خطورة موقف كارل شميدت من فكرة كانط عن «الإنسانية» القائمة على
مواطنة العالم: إنَّ شميدت قد حوَّل كلمة برودان «من يقول إنسانية، يريد أن
يخدعنا» إلى عبارة «الإنسانية، بهيمية» (
Humanität, Bestialität)، ومن
ثَمَّ يتحدث عن «خديعة النزعة الإنسانية» التي تمارسها أي جهة عالمية تريد
أن تبني مجتمعًا دوليًّا على أساس فكرة كانط عن السلم الدائم، والحال
أنها تشرِّع لنزعة «التدخُّل» المعمَّم في سيادة الدول القومية.
٥٦
إلا أنه قد تم أيضًا نقد طرح هابرماس الذي يدعو إلى تأصيل المؤتلف
الإنساني على أساس تداولية كونية بناءً على هذا الاعتراض: «ما صلة هذه
النزعة الكونية بالتسامح مثلًا؟ أليس التسامح على الأرجح هو مفهوم أبوي
من الأفضل تعويضه بمفهوم «الضيافة»؟»
٥٧ كما فعل دريدا، هنا نحن نظفر بتنبيه هامٍّ جدًّا بالنسبة
إلى مسألة «التآلف» الإنساني: إنه ليس مجرد «تسامح» أبوي بين قوي
وضعيف؛ لأنَّ «النزعة الكونية» ليست تسامحًا. قال هابرماس: «بالمعنى
الدقيق لا تكون هناك «نزعة كونية» إلا مع الفردانية المساواتية التي
تقوم على أخلاق عقلية، هي تقتضي الاعتراف المتبادل في معنى الاحترام
المتساوي والاعتبار المتبادل تجاه أي واحد من الناس.»
٥٨ بدلًا من التسامح، الذي هو راسب تقليدي خاص بالمدونة
الدينية، أو الضيافة، التي هي أثر أخلاقي يعود إلى آداب وثنية قديمة،
يقترح هابرماس التجرؤ على تطوير «أخلاق عقلية» حيث يكون «العقل» هو
البؤرة التداولية للخطاب الذي يقوم على الفعل التواصلي، نعني ذاك
الخطاب الذي أنجز «نقد العقل الأداتي»
٥٩ الذي يلتبس به في فهم نفسه أو فهم عالم الحياة الذي يعيش
فيه.
لا يمكن إذن تأصيل مفهوم «الكرامة الإنسانية» بعامة دون تكريس مقولة
«الفرد»: إن البشر بعامة ليس مجرد «عضو» في جماعة حيوانية لا تراه، بل
هو كيان قائم بنفسه ومستقل بذاته هو يتساوى بشكل كوني مع كل فرد آخر
على وجه الأرض. وإنما بهذا الإقرار فقط يمكن تأسيس «أخلاق عقلية» ليس
لها من مضمون معياري سوى «الاعتراف المتبادَل» بين الأفراد الذي يحملهم
التساوي «العادل» فيما بينهم على الاحترام والاعتبار المتبادل تجاه «أي
واحد من الناس». هذا التأكيد على صفة «أي واحد من الناس» (jeden) هو
علامة «الكونية»: إن الكرامة الإنسانية كلٌّ لا يتجزَّأ. وليس مفهوم
«الفرد» غير التجسيد الاجتماعي لها. فإنَّ ما تتطلَّبه الكرامة ليس «الفرد»
من حيث هو تعبير ثقافي طوَّره الغرب بل «الشخص» الإنساني بما هو كذلك،
هذا المفهوم الذي لا تخلو منه ثقافة سواء أكانت حديثة أو غير حديثة،
أكانت غربية أم شرقية. نحن كونيون سلفً «بأشخاصنا» وليس فقط بما نطالب
به من الفردانية الحديثة.
لكنَّ الأمر الأخطر هنا هو معاملة الشخص الإنساني وكأنه مجرد قيمة
أخلاقية تحت تصرف السلطة بلا أي سندٍ قانوني. ومن يعوِّض مطلب «العدل»
بمجرد «التسامح» هو يسقط دون أن يدري فيما يسميه هابرماس «الكونية
المزيَّفة» (
der falsche Universalismus). إنَّ العدل ليس مطلبًا
أخلاقيًّا فقط. يقول هابرماس في مقابلة حملت عنوانًا لها «سبل الخروج
من فوضى العالم»: «إنه حتى قوة شديدة الحداثة مثل الولايات المتحدة
يمكن أن تسقط في الكونية المزيفة للممالك القديمة وذلك عندما تعوِّض
القانون الوضعي بالأخلاق والإتيقا في مسائل العدل الدولي. فمن وجهة نظر
بوش تسوغ قيمنا (
unsere Werte) بوصفها القيم الصالحة بشكل كوني
التي يجب على كل الأمم الأخرى أن تقبل بها من أجل مصلحتها الخاصة، إنَّ
الكونية المزيفة هي نزعة إثنية موسَّعة بعامة.»
٦٠
ما هي الكونية الصحيحة إذن؟ لا يمكن أن تكون هناك كونية صحيحة إلا
باسم «الإنسانية» بمجردها. كل أجهزة المعنى الأخرى (مثل الهوية القومية
أو الطائفة أو المعتقد أو المذهب أو الثقافة أو اللون …) هي بشكلٍ أو
بآخر بنى معيارية لا تتساوى في المسافة التداولية التي قطعتها من أجل
أن تتهيكل بشكلٍ لغوي أي بشكلٍ تواصلي. هناك عمر لغوي أو تداولي على كل
واحدة من هذه البنى المعيارية أن تقطعها من أجل أن تدخل في أفق
الإنسانية بما هي كذلك. ولذلك من السهل جدًّا أن ينزلق النقاش حول
الإنسان في «المنحدر الطوباوي» (das utopische Gefälle) المريح الذي
توفِّره الهواجس الهووية أو الطائفية أو المذهبية أو العرقية، وتمنع
«العقل» عندئذ من إعادة بناء نفسه على أسس تداولية متحررة من رواسب
العنف أو القمع الروحي الموجود في كل ثقافة أكان رمزيًّا (كما في
الجماعات قبل الحديثة) أم استراتيجيًّا (كما في المجتمعات الحديثة).
إن تطوير نزعة كونية صحيحة يتطلَّب قبل كل شيء تحرير مفهوم الكرامة
الإنسانية من سياقات الفهم التي تشوِّهه. وعلى الرغم من أنه مفهوم عرفه
القدماء ومنحه كانط التحديد الذي لا يزال ساريًا إلى اليوم، فهو لم
يدخل في نصوص القانون الدولي إلا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ هو لم
يوجد لا في إعلانات حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر ولا في تشريعات
القرن التاسع عشر.
٦١ وهو ما قاد هابرماس إلى التساؤل بشكل صريح: «لماذا كان
الكلام في القانون عن «حقوق الإنسان» أسبق بكثير من الكلام عن «الكرامة الإنسانية»؟»
٦٢
يشير هذا السؤال إلى التمييز الإشكالي بين معنى «الكرامة الإنسانية»
من جهة، وبين إعلانات «حقوق الإنسان» من جهة أخرى. إذْ يبدو أن علينا
أن نقطع المسافة الفاصلة بينهما بوصفها هوَّة معيارية حقيقية بين التكريس
الأخلاقي للإنسانية وبين مجرد «قوننة» حقوق الإنسان أو «دسترتها». لذلك
فإن «المؤتلف الإنساني» ليس مشكلًا قانونيًّا فحسب، إنه تأليف مركَّب من
قيم متقاسمة بين دوائر متعددة من المعنى تمضي حسب تداولية هابرماس من
«التفاهم» (في الخطاب) إلى «الحقيقة» (في القضايا العلمية) و«السداد»
(في المعايير) و«الصدقية» (في التعبير عن الذات). لا يمكن اختزال معنى
«الإنساني» في مشكل لساني «إجرائي» أو قول علمي «مُمَوْضَع» للطبيعة أو
استعمال «استراتيجي» للمنظومات الاجتماعية (مثل المال أو السلطة) أو
تجارب في الحياة ذاتية ومعزولة (مثل السرديات الهووية). لا يمكن
الاعتراف بالمؤتلف الإنساني إلا في صيغة مركَّبة تجمع أعضاء نادي
الإنسانية الحالية حول علاقات عابرة للثقافات نجحت في الربط المناسب
بين «الكلي» (في الخطاب الحجاجي) و«الكوني» (في الخطاب المعياري).
إنَّ الحداثة لم تعرف منذ القرن السابع عشر غير «حقوق الإنسان» لكنها
لم تطرح مسألة «الكرامة الإنسانية». كانت أوروبا كلية هووية مغلقة على
نفسها ولا تحاور غير نفسها، أما منذ الحرب العالمية الثانية فإن أوروبا
أصبحت طرفًا ثقافيًّا وليس أفقًا متعاليًا لإنتاج المعنى. كانت «حقوق
الإنسان» متعلقة بترسيخ جهاز «الذاتية» وفرضه بوصفه الشكل الحقيقي
لإنسانية الإنسان. وبلغ ذلك مع كانط حدوده الداخلية. لكنَّ السؤال عن
«كرامة الإنسان» هو سؤال عن كرامة «الآخر»، ومن ثَمَّ فإن بناء مفهوم
«الآخرية» هو الذي فرض أفق التساؤل عن «الكرامة الإنسانية» بوصفه
المعيار الكوني الخفي والوحيد لأي اختبار موجب للعلاقة مع الآخر.
ولذلك يقرُّ هابرماس بصعوبة التعامل مع مفهوم «الكرامة الإنسانية»: هل
هو مفهوم أساسي له مضمون «معياري» يمكن أن تتفرَّع منه حقوق الإنسان؟ أم
هو عبارة لا تقول شيئًا محددًا تشير إلى مجموعة من الحقوق التي لا رابط بينها؟
٦٣ إن إجابة هابرماس هي أنَّ «الكرامة الإنسانية هي المصدر
الأخلاقي للحقوق الأساسية.»
٦٤ إنها تؤدي «وظيفة استكشافية»
٦٥ لجملة حقوق الإنسان. ومن ثَمَّ فإن الكرامة الإنسانية هي
المحتوى المعياري الكوني الوحيد للآخرية من حيث هي في أساسها مجال
تداولي حيث يتم اختراع وإعادة اختراع «المؤتلف» الإنساني في كل مرة.
خاتمة: في «نزع الطابع الريفي» عن كونية الغرب: نحو هجرة جديدة إلى الإنسانية
لا يمكن أن ننجح في الانخراط في تداولية كونية إلا متى قبلنا بإعادة
بناء تعريف مناسب عن «الإنساني» بوصفه هذه المرة «عملًا إنجازيًّا»
وليس بوصفه «هوية» جاهزة مسبقًا على الفرد أن يدافع عنها أو يمكن أن
تُستعمَل ضده. إن الإنساني اليوم هو وعد تأويلي بنوعٍ من المعنى في
العالم لا يمكن تملُّكه إلا بقدر ما نقبل تقاسم أفق التفاهم الذي يجمع
بين المشاركين في الجماعة التواصلية التي قد تكون هذا المجتمع أو ذاك،
ولكن في أفق جماعة الإنسانية برمتها. ولذلك فإنَّ أخطر نقد وُجِّه إلى
«نظرية الفعل التواصلي» التي أنجزها هابرماس سنة ١٩٨١م هو أنها نظرية
غير موجَّهة إلى «غير الغربيين» وبالتالي هي تعاني هي بدورها من «طابع
ريفي» غير مفكَّر فيه. ومن ثَمَّ ظهر نمط من النقد ما بعد الكولونيالي ينادي
صراحة بنزع الطابع الريفي (
Deprovincializing)
٦٦ عن هابرماس وعن حقله التداولي: إذْ هو أيضًا مفكِّر «ريفي»
لأنه على الرغم من التداولية الكونية التي بناها هو قد تعوَّد ألا يخاطب
غير «الغربيين» داخل «هوية ثقافية» جاهزة.
في مقابل ذلك يعترف هابرماس بأن أفضل السبل المتاحة بين أعضاء نادي
الإنسانية هو تأسيس «خطاب تثاقفي حول حقوق الإنسان»
٦٧ من شأنه أن يرسم ملامح «المؤتلف الإنساني» فيما بينهم، حيث
على الجميع أن يأخذ «مسافة» معينة عن تراثه الخاص، ولكن أيضًا حيث لا
يمكن للفيلسوف «الغربي» نفسه أن يكون أكثر أو أقل من «محاور» يؤدي «دور
المدافع عن مشارك غربي» في المؤتلف الانساني. لكن «المفهوم الذي ظل
يقيِّد مساهمة هابرماس في هذا النقاش «ما بعد الغربي» مع «غير الغربيين»
هو بالتحديد مفهوم «الشرعنة» (
Legitimation): لا يمكن أن يكون ثمة
«مشترك» إنساني دون أن يكون «كونيًّا» أي قابلًا للشرعنة بشكل كوني. إن
خطة هبرماس هي أن جملة المشاركين في «نزاع الاعتراف» في عصرنا (وهم في
تقديره كل أولئك الذي يؤسِّسون خطابهم «الإنساني» على التعددية الثقافية
والنزعة القومية والنزعة النسوية والصراع ضد إرث المركزية الأوروبية للاستعمار)
٦٨ هم مدعوُّون إلى العمل على إرساء ضرب جديد من «التفاهم
التثاقفي» (
interkulturelle Verständigung) الذي ينجح في إنارة
الصعوبات التي تحول دون بناء مؤتلف معياري جامع بينهم. قال: «إن هذه
الظواهر هي مناسبة جدًّا من أجل بيان صعوبات التفاهم بين الثقافات: هي
تنير العلاقة بين الأخلاق والسنن الاجتماعية أو العلاقة الباطنية بين
الدلالة والصلاحية وتمنح تطعيمًا جديدًا للسؤال القديم عمَّا إذا كنَّا
نستطيع بعامة أن نتخطى سياق لغتنا وثقافتنا الخاصة بنا أو أنَّ كلَّ مناويل
العقلانية هي تبقى مشوبة بضرب معين من صور العالم أو التقاليد.»
٦٩
إنَّ أول صعوبة هنا هي أن الغرب لا يرى «الإنساني» بل يرى «الفرد»
والسياق الفرداني الذي يستند إليه. ولذلك فإن الانتقال من مجرد الضمير
«الخلقي» (Moral) الذي يحرك الفرد بمجرده الليبرالي إلى «السنن
الاجتماعية» (Sittlichkeit) التي تنادي بها الجماعة في كل مكان بشكل
هووي أو «استخلافي» هو موقف تداولي لا يخلو من صعوبة في أي ثقافة، فما
بالك بين ثقافة فردانية وأخرى جماعوية. كذلك فإن الفرق بين الدلالة
(الإجرائية للسان بوصفة مجرد أداة نحوية أو منطقية) والصلاحية
(المعيارية لما تقوله الثقافات في لغاتها الخاصة) هو فرق تأويلي ليس من
اليسير التحكُّم فيه لا سيما عندما يطرح السؤال عن إنتاج «المعنى» في أفق
الفهم الخاص بكل شعب أو مجتمع. وأخيرًا فإن التحرُّر من وطأة السياق
الثقافي الخاص بكل شعب لا يمكن أن يتحقق من دون الاتفاق على أن مناويل
العقلانية التي تهيكل أفعال التفاهم بين المتحاورين هي من طبيعة
تواصلية وليس من طبيعة أداتية، ومن ثَمَّ أن «صور العالم» أو «التقاليد»
الخاصة بكل شعب لا يمكن أن تصبح موضعًا معياريًّا مناسبًا للتفاهم مع
الآخر أو مع الآخرين إلا متى تمت «إعادة بنائها» بشكل تداولي.
إن طرح هابرماس على ما فيه من طرافة وقوة واتساق هو نفسه لا يخلو من
صعوبات تداولية ربما هي حدوده «الغربية». وإنَّ أفضل امتحان وجدناه ضده
هو موقفه من القضية الفلسطينية، حيث يقول: «إن تأسيس دولة إسرائيل
الناجم عن حركة قومية-دينية وعن فظاعة أوشفيتز في إقليم فلسطين تحت
الانتداب البريطاني الذي يطالب به العرب، إنما هو حالة خاصة.»
٧٠ ومن الصعب بمكان أن «نتفاهم» تداوليًّا حول معنى هذه
«الحالة الخاصة» أو طرق «التآلف» حولها دون أن ينفجر مفهوم «الإنساني»
الذي كنا «اتفقنا» حوله. إن «الغرب» إذن ليس سقفًا معياريًّا لا يمكن
تجاوزه أو التحرر منه، إنَّ
هجرة جديدة إلى الإنسانية قد صارت أوكد من أي
وقت مضى.