المقدمة
جاءني كتاب من أحد الأصدقاء فيه هذه الكلمات العسجدية: «وأنت إنسان عين الفضل والكمال، مجمع أشعة الحكمة، بل قطب دائرة العلوم على الإجمال.» فخفت لأول وهلة من نفسي، ثم خجلت، وهل في عالم الأدب يا ترى — شرقًا وغربًا — من يستحق هذا الإطراء؟!
ثم جاءني كتاب من صاحبة مجلة «مينرفا» ومعه «ملازم» هذا الكتيب، تسألني مقدمةً تليق به، فذكرت إذ ذاك كتاب صديقي الآخر، وقلت: قد كتبها بارك الله فيه، فإن ما جادت به قريحته لا يليق بغير واحد من كتَّاب العالم في القرن العشرين، وهو أناتول فرانس.
ومع ذلك، فإن «إنسان عين الفضل والكمال» كبيرة، حتى على الكاتب الإفرنسي الشهير، و«مجمع أشعة الحكمة» صفة من الصفات الإلهية، و«قطب دائرة العلوم على الإجمال» لا تنطبق إلَّا على محرر أو لجنة تحرير دائرة المعارف، ولكنها في كنهها؛ أي فيما يتغذى ويتجلى به الأدب الممتاز هي من محاسن أناتول فرانس أو بالحري هي سيماء محاسنه، ففي الصفة الأولى — ولك أنْ تصرف النظر عن «العين وإنسانها» — الفضل والكمال، الفضل الجم في عطفه الإنساني، والكمال أو ما يدنو منه في الفن.
إنَّ أناتول فرانس لمثل الآلهة الذين يكثر من ذكرهم عظيم التساهل، رءوف رحيم، فهو قلَّما يقف منددًا مهددًا، أو مرشدًا منذرًا، بل يروي لك من الحوادث، ويبدي من الآراء، ويداعب ويتفلسف دون أنْ يدعك تشعر بسعة علمه، أو بكروية نبوغه، أو بما في الاثنين من سلطان.
أجل، إنَّ نبوغ هذا الإفرنسي كروي لا يحده غير ما يحد الأرض ويصلها مع ذلك بلا نهاية الأكوان، وإن عطفه لمثل نبوغه هذا؛ يحيط بما للقوى العقلية والنفسية من الآثار والأصول، وذاك يشمل الضعف البشري في مظاهره كلها، وهو من هذا القبيل مثل ذاك الذي صلب في قديم الزمان، يمر بالخطيئة — خطيئة القلب وخطيئة الحواس — مر الكريم، بل مر المسيح.
أمَّا الصفة الثانية، فهي تنطبق عليه أيضًا إنْ لم يكن بالكمية فبالكيفية، ففي صفحاته تنعكس أشعة للحكمة من مطالع أنوارها القريبة والبعيدة، القديمة والحديثة، من بلاد الإغريق والرومان، ومن بلاد فلتير ورنان، ومن مصادر العلم والعرفان في كل زمان.
إنَّ في حكمة هذا الإفرنسي الكبير أشعة من اﻟ «أكروبول»، وأشعة من جبل «برناس»، وأشعة من جبال الجليل، كما أنَّ فيها أشعة من فلتير ولافونتين ورنان؛ وهي متنوعة الألوان، فيها الأصفر والأحمر والأبيض والأزرق — أي السخرية والحماسة والحب والأمل — على الدوام.
وإنه في رأيي أعظم الثلاثة الذين ورث روحهم الفكرية والفنية؛ لأن الشك عنده خيال لليقين، والتهكم تهكمه لا يدمي ولا يشين، ابتسم فلتير فهدم، وضحك لافونتين فأضحك وأدهش، وسخر رنان فأحزن، أمَّا أناتول فرانس، ففي ابتسامه ما يؤنس دائمًا ويسر، ويدعو فوق ذلك إلى التفكير وإلى الأمل.
وهناك مزية أخرى يمتاز بها صاحب الآراء في هذا الكتيب الكبير على من تقدمه، وكلهم استرسلوا في بعض المواقف إلى التعصب، فكانوا متحاملين، قد غالى فلتير بمحاسن الطريقة المدرسية في الشعر مثلًا، فتحامل من أجل ذلك على شكسبير، وغالى في أمر الخرافات والخزعبلات، فتحامل على النبي محمد، أمَّا رنان فتعصبه للفنون الإغريقية، ولكل ما هو إغريقي في الأدب والفلسفة، حمله على الطعن بالشرقيين وخصوصًا بالساميين، وليس فيما كتب أناتول فرانس، أو فيما قرأت له في الأقل، حتى في سيرة جان درك شيء من التعصب، أو ما يشف عن تعصب خفي.
يجب أنْ أحافظ في هذه الكلمة على قاعدة التناسب، فلا أستوقف القارئ إلى حدِّ الملل في الباب، وهو — ولا شك — يود أنْ يقرأ أناتول فرانس لا أنْ يقرأني، فأقف في النظر بنبوغه عند هذا الحد، إذن لأقول كلمة وجيزة في حياته ومؤلفاته.
وقد كان انتخابه — ولا شك — من باب التعويض والموازنة؛ لأن الأكاديمية التي لا تخطئ لا تصيب، وإنَّ أجمل كلمة قيلت فيها هي التي ستقرأ في الصفحة الأولى من هذا الكتاب، وقد أحسن المترجم الاختيار والتوازن فيه.
ولكن محاسن أناتول فرانس كلها لا تظهر في آرائه، بل في الروايات التي هي مسرح فنه، وعلمه، وخياله، وحكمته، هناك يتمثل لك التساهل بكليته، والتوازن والإنصاف في الأحكام، والحكمة التي لا تخلو قطعًا من العطف الجميل، والعلم الخالي من التنطُّع، والسخرية الخالية من السم، وتلك الروح الخفيفة السامية — الساميَّة — المقرونة بفكر ثاقب كالنور، جلي كالبلور، دقيق كالأثير، منور كالربيع، مثمر كالصيف.
إنَّ أناتول فرانس قريب دائمًا من الأرض، حتى فيما تسامى من فكره وخياله، وقريب كذلك من السماء التي يبغيها للإنسان في هذا العالم، وإنْ كان من أركانها ركن أو ركنان للأوهام.