صيف في بادن
كان القطار ينطلق نهارًا، لكن الفصل كان شتاءً، بل وفي أكثر أيامه
قسوة؛ الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر – وفضلًا عن ذلك كان القطار في
طريقه إلى ليننجراد، إلى الشمال، ولهذا سرعان ما أخذ الظلام يحل خلف
النوافذ – لم تكن هناك سوى محطات ضواحي موسكو وحدها هي التي تبتعد
مندفعةً إلى الوراء مثل وميض البرق، كأن كائنًا ما راح يقذف بها بيدٍ
خفيَّة لا يراها أحد – أما الأرصفة الواقعة أمام البيوت الصيفية، فقد
تراكم فوقها الثلج، بينما راحت أعمدة الإنارة تمرق واحدًا وراء الآخر،
ليتداخل ضوء كلٍّ منها مع الآخر في شريط ناري متصل – المحطات تمرق هي
الأخرى مع صوت صليل مكتوم، مثل قطار يعبر جسرًا، الصليل خفَّت حدَّته
بفضل إطارين مزدوجين في كل نافذة، وقد أُحكِم إغلاق العربة تمامًا –
زجاج النوافذ معتم، يكاد الجليد يغطيه، لكن أضواء المحطات كانت تَنفُذ
من خلاله على أية حال، لترسم خطًّا من الضوء – وهناك، بعيدًا، يمكن
للمرء أن يتوقع وجود مساحة شاسعة يغطيها الثلج، بينما راحت العربة
تتأرجح بشدة من هذا الجانب إلى الجانب الآخر، في أَرجَحة جانبية،
لتقترب من الرصيف – وعندما حلَّ الظلام تمامًا خارج النوافذ، ولم يبقَ
سوى بياض الثلج الناصع المبهم، واختفت بيوت ضواحي موسكو الصيفية، وراح
انعكاس العربة يجري معي على زجاج النافذة، بمصابيحها المعلَّقة في
السقف والمسافرين الجالسين؛ أخرجت من حقيبتي — التي كنت قد وضعتها في
الشبكة المثبتة فوقي — كتابًا بدأت في قراءته في موسكو – وكنت قد
اصطحبته معي خصوصًا ليرافقني في الطريق إلى ليننجراد – فتحته حيث تركت
شريطًا من ورق مُقوًّى، مُوشًّى بالأحرف الصينية وزخارف شرقية بديعة –
كنت قد استعرت هذا الكتاب من خالتي، التي تمتلك مكتبة كبيرة، وأنا
أُضمِر في أعماقي ألا أُعيده إليها – أرسلتُه لتجليده، فقد كان قديمًا
باليًا للغاية، وقد تناثرت صفحاته، وقام مُجلِّد الكتب بتهذيب حوافِّه
حتى تصبح مستوية، جميعها، ومُرتَّبة الواحدة تلو الأخرى، ثم ضمها في
غلاف سميك، وألصق على غلافه الأول صفحة العنوان، وهو «مذكرات أنَّا
جريجوريفنا دستويفسكايا»، التي صدرت عن دار نشر يمكن تصوُّر مدى
ليبراليتها آنذاك، دار نشر ليست على غِرار دار نشر «فيخي» أو «نوفايا
جيزن»، أو ما شابههما من دُور – وقد كُتب على الغلاف التقويمان؛ الجديد
والقديم، وكذلك بعض الكلمات والعبارات باللغتين الألمانية والفرنسية،
من دون ترجمة، مع استخدام لقب madam
(مدام)، والتي رُسمت بدأب طالبة في المدرسة الثانوية، فكَّت شفرة
يومياتها المكتوبة بطريقة الاختزال التي استخدمَتْها في أول صيف لها في
المهجر، بعد زواجها – غادر الزوجان دستويفسكي بطرسبورج في منتصف شهر
أبريل من عام ١٨٦٧، وفي صباح اليوم التالي وصلا إلى فيلني – وفي الفندق
الذي نزلا به صادفا على السُّلم نفرًا من اليهود، الذين أَلْحفوا في
عرض خدماتهم، حتى إنهم راحوا يلاحقون الحنطور الذي استقلَّه فيودور
ميخايلوفيتش وأنَّا جريجوريفنا، من أجل أن يبيعا لهما مباسم للسجائر من
الكهرمان، إلى أن اضطُر الزوجان لطردهم – أما في المساء فكان من الممكن
رؤية نفس هؤلاء اليهود وقد أطلقوا شعورهم الطويلة المجدولة على
طريقتهم، وهم يتنزهون مع فتياتهم اليهوديات في الشوارع القديمة الضيقة
– وبعد يوم أو يومين وصلا إلى برلين، وبعدها إلى درزدن، ليبدآ بحثهما
عن شقة؛ لأن الألمان، والألمانيات على الأخص، كل الوصيفات صاحبات
البنسيونات، أو حتى الغُرف المفروشة؛ كُن يتشاجرن بغلظة مع الروس
القادمين من الخارج، ويُقدِّمن لهم طعامًا رديئًا، أما النُّدُل في
المطاعم فكانوا يغشُّون في مبالغ تافهة – ولم يقتصر الأمر على
النُّدُل، وإنما كان الألمان عمومًا يتصفون بالبلادة، لم يكن
باستطاعتهم أن يشرحوا لفيديا كيف يذهب إلى هذا الشارع أو ذاك، وكانوا
يشيرون له حتمًا ليذهب في الاتجاه المضاد – أَتُراهم كانوا يفعلون ذلك
عن قصد؟! بالمناسبة، فقد لفت اليهود انتباه أنَّا جريجوريفنا قبل ذلك
أيضًا، عندما جاءت إلى فيديا للمرة الأولى، في بيت أولونكين الذي كتب
فيه رواية «الجريمة والعقاب»، وهذا البيت — بشهادة أنَّا جريجوريفنا،
فيما بعد — ظل يُذكِّرها بالبيت الذي عاش فيه راسكولنيكوف،١ وكثيرًا ما كانت تُصادِف على سُلَّمه، أيضًا، يهودًا من
بين السكان المستأجرين (بالمناسبة، ومن قبيل الإنصاف، ينبغي القول إن
أنَّا جريجوريفنا في مذكراتها التي كتبتها قبل الثورة بسنوات طويلة،
وربما حتى بعد تعرُّفها على ليونيد جروسمان، لم تذكر شيئًا عن اليهود
الذين الْتَقتهم على السُّلَّم)، وفي الصورة الفوتوغرافية المُبيَّنة
في «اليوميات» يبدو وجه أنَّا جريجوريفنا آنذاك في مَيْعة الشباب،
وجهًا لا يبدو عليه أي أثر للتعصب، أو التظاهر بالتقوى، بل كانت نظرتها
ثقيلة مُقطِّبة – أما فيديا فكان في شَرْخ الشباب – متوسط القامة،
ساقاه قصيرتان حتى إنه يبدو — إذا ما نهض عن الكرسي الذي يجلس عليه —
أطول قليلًا فحسب، أما وجهه فيكشف عن روسي من عامة الناس، كما بدا
للجميع أنه يحب أن تُلتقط له الصور، وأنه شخص مكبٌّ على الصلاة – هذا
هو السبب الذي جعلني أتحرك بهَلَع (لا أخشى ذكر هذه الكلمة) في كل
أنحاء موسكو، ومعي «المذكرات»، إلى أن عثرت على مُجلِّد للكتب، ثم رحتُ
في لهفة أُقلِّب صفحاتها المهترئة في القطار، باحثًا بعينيَّ عن تلك
المواقع في الكتاب، على ما يبدو، أن أقع عليها، ثم، وبعد أن تسلمتُ
الكتاب — الذي أصبح ثقيل الوزن — من المُجلِّد؛ وضعتُه على مكتبي، ولم
أرفعه من فوقه نهارًا أو ليلًا، وكأنه الكتاب المقدس – لماذا أسافر
الآن إلى بطرسبورج ليس إلى ليننجراد وإنما إلى بطرسبورج؛ حيث الشوارع
التي كان هذا الرجل القصير القامة، القصير الساقين، يقطعها جيئةً
وذهابًا (مثله — بالمناسبة، على الأرجح — مثل معظم السكان في القرن
الماضي) رجل له وجه حارس كنيسة أو جندي أُحيل إلى التقاعد – لماذا أقرأ
هذا الكتاب الآن، في عربة قطار، في ضوء لمبات خافتة، تارة يتألق نورها،
وتارة تكاد تنطفئ من جرَّاء الحركة السريعة؛ حركة القطار ودوران محرك
الديزل؟! أقرأ على وَقْع صفق أبواب مدخل العربة، حيث يدخل المدخنون
وغير المدخنين، يحملون أكوابًا في أيديهم ليسقوا أطفالهم، أو ليغسلوا
بها بعضًا من الفاكهة، أو ليأخذوها معهم ببساطة إلى دورة المياه، التي
يصفق بابها بعد باب مدخل العربة، على صوت هذا الصفق والخبط لكل هذه
الأبواب، فضلًا عن تأرجُح القطار يَمْنة ويَسْرة؛ الأمر الذي يذهب
بالنص الذي أقرؤه بعيدًا، مستنشقًا رائحة الفحم والقاطرات التي لم
تَعُد موجودة في أي مكان منذ زمن بعيد – على أن هذه الرائحة لا تزال
موجودة لسبب ما – ها هما قد استقرَّ بهما المُقام في غرفة لدى مدام
زيمرمان، وهي امرأة سويسرية نحيفة القوام طويلة القامة، ولكنهما ما إن
استقرا في هذا الفندق الواقع في الميدان الرئيس حتى توجَّها على الفور،
في اليوم الأول لوصولهما، إلى إحدى قاعات عرض اللوحات – أمام متحف
بوشكين في موسكو انتظم طابور طويل، كانوا يسمحون لعدد محدَّد تلو الآخر
بالدخول، وفي أحد الأماكن في الميدان عُلِّقت بين الطوابق صورة ﻟ «المادونا الستينية»،٢ وقد وقف أسفلها شرطي – كانوا، منذ سنوات عديدة مضت، يعرضون
في هذا المتحف لوحة «الجوكندا» لليوناردو، خلف زجاج مزدوج مضاد للرصاص،
مُضاء بشكل خاص، أمام اللوحة يقف طابور من الذين جاءوا ﺑ «المحسوبية»
في هيئة قوس – بدأ الطابور في الاقتراب من اللوحة، من الزجاج المُصفَّح
إن شئنا الدقة؛ حيث توضع خلفه لوحة المادونا على خلفية منظر طبيعي،
وكأنها جثة محنطة موضوعة في تابوت – كانت ابتسامة المادونا غامضة
بالفعل، ولعل ذلك يعود ببساطة، ربما، إلى الإيحاء الناتج عن الوصف
الشائع، وإلى جانب اللوحة أيضًا وقف شرطي، راح يدفع الطابور برفق
ليتحرك، باعتبار أن الطابور يضم خبراء أو شخصيات دُعيتْ خصوصًا،
قائلًا: «وداعًا، وداعًا»، كان الناس يحاولون التلكُّؤ بجوار اللوحة،
وبعدها يلتفُّون عائدين، بعد أن ينضموا إلى الطابور الخارجي الدائري،
يمشون مُواصِلين النظر إلى اللوحة، وهم يلوون أعناقهم، مستديرين بعد أن
يديروا رءوسهم مائة وثمانين درجة تقريبًا، كانت المادونا الستينية
مُعلَّقة على حائط بين نافذتين بحيث يسقط الضوء عليها من الجنب، فضلًا
عن ذلك كان النهار غائمًا – وكانت اللوحة مغطاة بدخان ما – راحت
المادونا تسبح في السحب، التي بدت في ذيل ثوبها الرقيق، وربما بدت
ببساطة وقد ذابت فيها، وهناك في مكان ما، في الأسفل، يسارًا، يقف
حَواريٌّ له ستة أصابع في يده ناظرًا إلى المادونا في خشوع – كانت صورة
فوتوغرافية لهذه اللوحة قد أُهديت إلى دستويفسكي في عيد ميلاده، بعد
مرور عدة سنوات على رحلته إلى درزدن، وقُبيل وفاته بفترة قصيرة، حيث
كانت تُعَد اللوحةَ المفضلة لديه، آنذاك، مع أن لوحته المفضلة، ربما
كانت، هي لوحة «المسيح الميت»، التي رسمها هولباين الصغير،٣ وهكذا، فإن صورة «مادونا» رفائيل الفوتوغرافية، المحاطة
بإطار خشبي، ظلت مُعلَّقة فوق الأريكة الجلدية التي لفظ عليها
دستويفسكي أنفاسه الأخيرة، في متحف دستويفسكي في ليننجراد، المادونا
الرشيقة وقد أمسكت طفلها المستلقي في وضع مائل وقد لُف بقِماط، وكأنها
ترضعه من صدرها كما تفعل الغجريات، أمام الجميع، لكن تعبير وجهها لا
يمكن الإمساك به مثل الجوكندا، الصورة نفسها، وإن كانت أصغر وأسوأ، على
الأرجح، حيث إنها صُنعت في زماننا، كانت موضوعة، كأنما عن عمد، لتُترَك
هناك دون عناية خلف زجاج أَرفُف الكتب عند خالتي – كان دستويفسكي
وزوجته يذهبان إلى قاعة العرض يوميًّا، كما كانا يذهبان إلى منتجع
كيسلوفودسك، حيث صالة الاحتفالات؛ ليشربا المياه المعدنية – أو
ليتقابلا، أو ليتوقفا ببساطة ليراقبا الناس، ثم يذهبان بعدها ليتناولا
طعام الغداء – كان عليهما أن يختارا مطعمًا رخيصًا، حيث يمكنهما أن
يجدا طعامًا جيدًا، وحيث النُّدُل أقل خداعًا – كان هؤلاء دائمًا ما
يخدعون دستويفسكي وزوجته في اثنتين أو ثلاث قِطع نقدية فضية؛ لأن كل
الألمان كانوا نصَّابين دون أدنى شك – ذات مرة وبعد أن أَنهيا زيارتهما
الدورية لقاعة العرض ذهبا لتناول غدائهما في شرفة بريوليف، المُطلَّة
على نحو رائع على نهر إلبا – كانا قبل ذلك قد لفتا نظر النادل، وكانا
يُسمِّيانه «الدبلوماسي» لأنه كان يبدو وكأنه دبلوماسي؛ لأنهما اكتشفا
أنه أخذ منهما خمس قِطع فضية بدلًا من اثنتين مقابل فنجانٍ من القهوة،
لكنهما استطاعا خداعه، فقد دسَّت أنَّا جريجوريفنا في يده قطعة نقدية
تساوي فضيَّتين على أنها قطعة تساوي خمس فضيات، وكان النادل قد أعطاها
إياها قبل ذلك على أنها خمس فضيات كباقٍ لحسابها، في ذلك اليوم كانا
يشعران بالجوع بشدة، وخاصة فيديا، لكن «الدبلوماسي» بدلًا من أن يأتي
إليهما، انشغل بدأب في خدمة ضابط سكسوني ما، جاء متأخرًا عنهما، كان
لهذا الضابط أنف أحمر ضخم، وعينان ضاربتان إلى الصفرة، وكان من الواضح
تمامًا أنه يميل إلى الإفراط في الشراب – نادى فيديا على النادل، لكن
هذا واصل عمله برباطة جأش في خدمة الضابط، الذي حشر ورقة مُنشَّاة في
الياقة الضيقة لسترته الرسمية، كان من الواضح أن «الدبلوماسي» تعمَّد
الانتقام منهما على ما فعلاه به في المرة السابقة، طَرَق فيديا
بسكِّينه على المائدة، وأخيرًا جاء «الدبلوماسي» إليهما، ثم قال بشكل
عابر إنه سمع النداء، وإنه لم يكن هناك داعٍ للطَّرْق، طلب فيديا
دجاجًا وكُراتٍ من لحم العجل، بعد فترة من الزمن أحضر «الدبلوماسي»
طبقًا واحدًا فقط من الدجاج، وردًّا على سؤال فيديا: «ما معنى هذا؟»
أجاب النادل بأدب ملحوظ أنهما قد طلبا طبقًا واحدًا فقط من الدجاج، نفس
الأمر تكرر بعد ذلك مع كُرات لحم العجل – في القاعة المجاورة كان هناك
أربعة من الخدم يلعبون الورق، أما في القاعة التي كانا يتناولان طعام
الغداء بها فلم يكن هناك سوى عدد قليل من الزائرين، كان من الواضح أن
النادل أخطأ عن عمد – وهنا صعد الدم إلى وجه فيديا – راح يتحدث مع
زوجته بصوت مرتفع قائلًا إنه لو كان هنا وحده لكان قد تصرف معهم على
نحو آخر، ثم راح يصيح فيها، كما لو أنها هي المُذنِبة لكونهما جاءا إلى
هنا معًا، وبعد أن رفع السكين والشوكة ألقى بهما عمدًا، حتى إنهما
سقطتا مُحدِثتَين رنينًا عاليًا، بل إنه كاد أن يحطم الطبق – راح
الجميع ينظرون إليهما، بينما غادرا المكان دون أن ينظرا إليهم، ولدى
خروجه ألقى فيديا على المائدة بطالر بأكمله بدلًا من ثلاث وعشرين فضية،
هي ما كان عليهما أن يدفعاه، ثم دفع الباب حتى ارتجَّ زجاجه – سارا في
الممشى المحاط بأشجار الكستناء، هو — في الأمام، بخطًى ثابتة — وهي
خلفه، تكاد تهرول، لو لم تكن معه لَأكملَ الأمر إلى نهايته ولَنالَ ما
أراده، أما الآن فهو يغادر المكان وهو يشعر بالإهانة من جانب هذا
الخادم السافل؛ لأن كل الخدم سفلة، إنهم تجسيد لأكثر خصال الطبيعة
البشرية خِسةً، على أنه في داخل كلٍّ منا تكمن طباع التملق والخضوع،
ألمْ ينظر هو نفسه نظرة خضوع في عيون هذا الضابط الوقح، الذي كان في
حالة من السُّكر البيِّن بأنفه الأحمر ونظرته الصفراء؟! حقًّا – بمن
يُذكِّره الضابط السكسوني منذ أن رآه؟! يُذكِّره بذلك السِّكير، الذي
كان يسير بصحبة الحرس، ثم إذا به يندفع مقتحمًا العنبر الخشبي، وبعد أن
نظر إلى المعتقل في ملابسه السوداء الباهتة، وعلى ظهره رقعة صفراء، وقد
وضعوه على طاولة خشبية؛ لأن المعتقل في هذا اليوم كان يعاني بشدة من
المرض، ولم يستطع الخروج إلى العمل، صرخ فيه بكل ما أُوتيَتْ حنجرته من
قوة: «انهض! اقتربْ هنا!» – كان هذا المعتقل هو نفسه دستويفسكي، الذي
يسير الآن عبر ممرِّ أشجاء الكستناء مغادرًا هذا المطعم، وهذه الشرفة
المطلة على نحو رائع على نهر إلبا، آنذاك أيضًا، في المعتقل، كان يشاهد
الأمر كله من بعيد وكأنه يحدث له في حلم، أو لا يحدث معه هو، وإنما مع
شخص آخر، ذات مرة حضر إلى مقر الحرس ليشهد تعذيب أحد الأشخاص – رقد
صاحب العقوبة دون حَراك تحت ضربات العصا، التي تركت على ظهره ومؤخرته
آثارًا دموية، وقد قام الرجل صامتًا، وشبَّك أزرار ملابس السجن عليه
بدقة، ثم انصرف، دون أن يُنعِم ولو بنظرة على هذا الضابط كريفتسوف،٤ الذي كان يقف هنا إلى جواره، تُرى هل نجح هو أيضًا في أن
يلتزم الصمت وأن يغادر غرفة الحرس بإحساس الكرامة؟! لقد قفز من الطاولة
الخشبية، مضطربًا مرتديًا بيدَين مرتعشتَين معطفه الأسود الباهت، واتجه
نحو كريفتسوف، الذي كان يقف عند باب العنبر – كان يسير مُنكِّسًا رأسه،
لا، لم يكن يسير، وإنما كان يهرول تقريبًا، وهو أمر كان مهينًا في حد
ذاته، وعندما اقترب من ضابط الميدان نظر إليه، لا بثبات وجفاء، وإنما
بتضرُّع في عينَيه – كان يشعر بذلك لسبب واحد، هو أن حَدَقتا كريفتسوف
اتسعتا بشراسة – كانت حدقتا عينيه الصفراوين واجفتين، لا لأنهما كانتا
فقط تشبهان عينَي الوَشَق، ولكن لأنهما كانتا تجوسان باحثتَين عن
الضحية التالية، عندئذٍ أيضًا راح يفكر، وهو يقف أمامه، في أمر ما،
وهنا بدا له غريبًا أن يفكر في هذه اللحظة في هذا الأمر تحديدًا – على
أية حال، ما دخل المذلة هنا؟! كان ذلك خوفًا، خوفًا عاديًّا – ولكن
أليس الخوف هو الذي يخلق المذلة؟! لَحِقت به أنَّا جريجوريفنا، وبعد أن
دسَّت يدها المغطاة بقفاز مهترئ تحت إبطه، نظرت في عينَيه بإحساس
بالذنب – لو أنها لم تكن معه إذن لوبَّخ هذا الخادم، ولأَوقَفهم جميعًا
عند حدودهم! أشاح ببصره ببطء عن وجهها لينظر إلى يدها التي أسندَتْها
على كتفه: «أظن أن المرأة الأنيقة لا يليق بها أن تسير بمثل هذا
القفاز»، قالها ببطء ووضوح، ومن جديد أشاح ببصره عن يدها لينظر إلى
وجهها – كانت شفتاها ترتعشان، أما جفناها فقد انتفخا على نحو غريب،
كانت لا تزال تسير إلى جواره، وإنما بقوة الدفع، ولأنها أيضًا كانت لا
تزال تتصور أن ما حدث لم يكن لها يد فيه، إذن ما كان له أن يقول لها
ذلك – أسرعتِ الخُطى، بعد أن تركَتْه، لتنعطف وهي تجري تقريبًا إلى
ممرٍّ ما جانبيٍّ تَحفُّه أيضًا أشجار الكستناء، في لحظة حانت منها
الْتِفاتة لترى من خلال دموعها وأوراق الشجر هيئتَه، وهو يسير بثبات
كما كان يفعل قبل ذلك عبر الممرِّ، كان يرتدي بدلته الرمادية الداكنة،
الأقرب إلى اللون الأسود، التي اشتراها في برلين – لم يخطر بباله آنذاك
أن يقول لها أن تشتري لنفسها قفازًا جديدًا، على الرغم من أن قفازها قد
تمزق تمامًا، وأنها قامت برَتْقه في الطريق، مرتين أمامه، والآن يأتي
ليوبخها مرة ثانية، على الرغم من أن نفقات رحلتهما كانت من رهن أشياء
تخص أمها – كانت تسير في الشارع، وهي تعدو تقريبًا، بمحاذاة البيوت،
بعد أن أسدلت خمارها، حتى لا يرى أحد وجهها الذي انتفخ من أثر الدموع،
وكانت تقابل في طريقها رجالًا ألمانًا حَسَني السلوك، يرتدون القبعات
وهم يصطحبون نساءهم الألمانيات وقد تورَّدت خدودهن وظهر على وجوههن
الرضا، كُن يمسكن أطفالهن وقد ارتدوا ملابس نظيفة وأنيقة، ولم يكونوا
جميعًا بحاجة لأن يفكروا كيف سيدفعون ثمن غدائهم أو عشائهم اليوم، وهم
لا يرفعون أصواتهم فوق أصوات بعضهم، أما فيديا، وفي المطعم، فكان يصرخ
فيها – تسللت عبر باب بيتها مُحاوِلةً أن تبقى هناك دون أن يراها أحد،
دلفت إلى الغُرف، أولًا، إلى الكبرى، التي يستخدمانها كغرفة للطعام؛
حيث علقت على حوائطها لوحات زيتية مستنسخة، كانت تصور تارة نهرًا،
الأرجح أنه الراين، تنعكس على صفحته أشجار، وتارة أخرى قلاعًا على قمة
جبل، على خلفية سماء زرقاء على نحو متكلَّف، ثم إلى الغرفة الثانية،
وكانا يستخدمانها للنوم، وتضم سريرين كبيرين، ثم إلى الغرفة الثالثة —
غرفة فيديا — وبها مكتب رُصَّت عليه، على نحو منظم، رزمة من الورق
الأبيض وسجائر وتبغ متناثر، وفجأة أدركت أنها جاءت إلى هنا بأمل خفي هو
أن يسبقها وينتظرها في المنزل – قَرَّرت الذهاب إلى مكتب البريد، حيث
يذهب فيديا أحيانًا، لكنه لم يظهر هناك، كما لم تكن هناك أي خطابات له
أيضًا، فعادت مرة أخرى إلى المنزل، كان من المفترض أن يصل الآن،
أخبرَتْها مدام زيمرمان، بعدما قابلتها على السُّلم، أن فيديا قد عاد،
ولكنه خرج إلى مكان ما – هرعت إلى الشارع وفجأة رأته – سار باتجاهها،
شاحبًا شاعرًا بالذنب، حتى إنه كان يبتسم لها تملقًا – تبيَّن أنه عاد
إلى الشرفة، معتقدًا أنها عادت إلى هناك لتنفرد بنفسها، ثم ذهب بعد ذلك
إلى قاعة المطالعة ليبحث عنها هناك – عادا إلى البيت لدقائق لكي
يستبدلا ملابسهما، فقد كان المطر على وشك السقوط – وعندما خرجا كان
المطر ينهمر على أشده، على أنه كان عليهما أن يتناولا طعام الغداء –
عَرَّجا على Hotel Victoria وطلبا
ثلاثة أطباق كلَّفتهما طالرين وعشر فضيات – ثمن مخيف، لقد دفعا اثنتي
عشرة فضية مقابل كُرات اللحم، أين يحدث ذلك؟! كان يومًا تعيسًا
بالتأكيد، عندما غادرا المطعم كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساءً، حل
الظلام، وكان المطر لا يزال ينهمر، وعندها فتحت مظلتها، ولكنها لم
تفتحها كما يفعل ذلك الألمان المحنَّكون، إذ صدمت بها ألمانيًّا ما،
كان يمر بجوارها – صاح فيديا فيها؛ لأن رعونتها كان من الممكن أن تُفهم
على نحو سيئ من جانب هذا الألماني، ومرة أخرى تنتفخ عيونها، ولكن —
الحمد لله — لم يرَ ذلك أحدٌ في الظلام – بعدها عادا إلى المنزل
القريب، دون أن يتبادلا أي حديث، كأنهما غريبان، وفي البيت عادا للشجار
من جديد وهما يشربان الشاي، على الرغم من أنه لم يَعُد هناك — بعدها —
ما يتشاجران بصدده – بعد ذلك سألته في أمر ما يتعلق برحلته المنتظرة
إلى هامبورج، ومرة أخرى إذا به يعود ليصيح فيها، وردًّا على ذلك صاحت
هي أيضًا فيه، ثم دلفت إلى غرفة النوم – أما هو فقد أغلق على نفسه غرفة
المكتب – لكنه عاد إليها ليلًا ليعتذر – كان يجيء إليها كل ليلة يطلب
منها أن تصفح عنه، وخاصة بعد كل خلاف أو شجار، فقد كان بإمكانه أن يعطي
كلمة «الصفح» معنًى آخر – كان يوقظها برقَّة، يمرِّر يده عليها بلطف،
يُقبِّلها؛ لأنها مِلك له، ولأنه كان بمقدوره أن يجعلها تعيسة أو
سعيدة، وهذا الوعي بسلطته المطلقة على امرأة شابة تفتقر إلى الخبرة،
يستطيع أن يفعل بها ما يخطر بباله وما يشاء؛ كان يُشبِه — على الأرجح —
هذا الشعور الذي جرَّبتُه تجاه الجِراء الملساء، التي ما إن تمد نحوها
يدك، لمجرد المداعبة، حتى تبدأ في خوف وتزلُّف في هز ذيولها، وتلتصق
بالأرض وترتعش رعشة خفيفة – عانقَها، قبَّلها في صدرها، ثم بدأت
السباحة، سبَحا معًا بضربات كبيرة، كانا يطلقان يديهما من الماء في آنٍ
واحد، يملآن رئتيهما بالهواء في آنٍ واحد، ذهبا بعيدًا للغاية عن
الشاطئ، نحو موجات البحر الزرقاء العالية، ولكنه كان في كل مرة تقريبًا
يجد نفسه أمام تيار معاكس، تيار يدفع به جانبًا، بل وحتى إلى الوراء
قليلًا – لم يكن باستطاعته أن يلحق بها، بينما كانت تُواصِل بإيقاع
ثابت إطلاق يديها لتغيب بعدها في مكان بعيد، أما هو فكان يتصور أنه لم
يَعُد يسبح، وإنما يتخبط في الماء محاولًا أن يصل إلى القاع بقدميه،
وإذا بهذا التيار، الذي راح يحيد به جانبًا، والذي لم يكن يسمح له
بالسباحة معها؛ يتحول إلى عينَي ضابط الميدان الصفراوين وقد راحت
حدقاتهما تتسعان بشراسة، إلى السرعة التي راح يفك بها أزرار ملابس
السجن، لكي يرقد على طاولة منخفضة من خشب البلوط، صقلتها من قبله مئات
الأجساد، كانت موضوعة في منتصف مقر الحرس، لم يكن باستطاعته أن يكبح
أنينه، عندما راحت ضربات العصا تنهال على جسده، وكأن سلكًا محميًّا مُد
خلال عضلاته وعظامه، إلى الارتجافات التشنجية، التي بدأت تنتابه بعد
العقوبة، إلى نظرات السخرية أو الشفقة التي كانت موجودة آنذاك، إلى
ابتسامة الاشمئزاز على وجه ضابط الميدان، عندما أمر باستدعاء الطبيب،
ليستدير بعدها على كعبَيه مغادرًا مقر الحرس، نفس الأمر حدث معه تمامًا
مع نساء أخريات؛ لأنهن جميعًا — مثلهن مثل آنيا — كُن حاضرات على نحو
غير مرئي عند لحظة العقوبة – كُن ينظرن إليه من خلال قضبان نافذة مقر
الحرس، مُحاوِلاتٍ المرور عبر الباب، لكي يتشفعن من أجله، ولكن لم
يُسمح لهن – جميعهن كن شاهدات على ذلك، وقد كَرِههن جميعهن؛ لأن ذلك
حَرَمه من أن يشعر بكل هذه الأحاسيس، واليومَ يُضاف إلى كل ذلك تلك
النظرة الوقحة التي سددها إليه هذا الخادم الذي سخر منه، ثم وجْه
الضابط السكسوني، الذي يُذكِّره بوجه ضابط الميدان – منذ زمن بعيد
ميَّز في قاعة المعرض — حيث عُلِّقت لوحة المادونا الستينية — كرسيًّا
مُريحًا ذا ظهر مُقوَّس، موضوعًا بطريقة ما بعيدًا عن الكراسي الأخرى
التي جلس عليها الزوار لينالوا قسطًا من الراحة، أو ليتأملوا اللوحة –
لسبب ما لم يجلس على هذا الكرسي أحد؛ ربما لكونه كان مخصصًا للموظف،
وربما، لأنه يمثِّل قيمة تاريخية ما – وعندما فكَّر للمرة الأولى في أن
يفعل ما دار بخَلَده سَرَت البرودة في ظهره؛ إذ بدا له ذلك سلوكًا
وقحًا، أمرًا لا يمكن اقترافه – راح يتحايل على الأمر، وهو يمر بجانب
الكرسي، بل إنه كاد أن يرفع قدمه، لكن القاعة كانت مليئة بالجمهور،
والموظف في سترته الرسمية وقد اكتسى وجهه بالملل، واستند بظهره إلى
الحائط – ربما كان عليه أن يفعل ذلك بالمناسبة أمام كل الناس، بل وأمام
الموظف على وجه الخصوص؛ لأن الموظف تحديدًا يجب أن يعترض على ذلك –
عندما اقترب من الكرسي – راح قلبه يهبط إلى مكان ما، تماسك لثانية
وحيدة، كأنه أعاد النظر في فكرته؛ من أي جانب يتفادى هذا الكرسي؟!
ولماذا مرَّ بعيدًا عنه؟! بينما راح يمعن النظر وباهتمام مبالغ فيه في
المادونا – ولكنه في تلك الليلة، عندما ابتعدت آنيا سابحة بعيدًا عنه،
بينما ظل هو يتخبط في مكان ما بالقرب من الشاطئ، لم يفلح في أن يبلغ
القاع – في تلك الليلة قرر بصورة أكيدة أن يفعل ذلك الأمر – عندما دخلا
قاعة العرض في الصباح، كالعادة، اتجه على الفور إلى القاعة التي
عُلِّقت فيها لوحة المادونا الستينية، كان قلبه يخفق، حتى يكاد يسمعه
بأذنيه – أمام اللوحة جمع غفير من الناس، بعضهم كانوا واقفين، وبعضهم
جلسوا بعيدًا حاملين مناظير مُقرِّبة – كانت الرؤية من خلالها أفضل؛
حيث لا يتشتت النظر، وإنما يتركز على اللوحة – للوهلة الأولى لم يرَ
الكرسي؛ ولهذا، ولأن قلبه توقف عن الدق والخفقان، أدرك أنه قد شعر
بالاطمئنان وسُر في قرارة نفسه من ذلك – ولكن تبيَّن أن الكرسي كان
محجوبًا بسبب الزحام، وأن الموظف كان موجودًا أيضًا في القاعة في زيه
الرسمي الكامل بأزراره النحاسية – اتجه فيديا بخطًى ثابتة نحو الكرسي،
حتى إنه راح يصطدم بالزائرين – أنَّا جريجوريفنا، التي عرَّجت على
القاعة بصحبته، انْتَحت في مكان ما جانبًا، بل إنها — على ما يبدو —
أمسكت بنظارة مُقرِّبة، أما هو فصعد بقدم على الكرسي، بعد أن أغلق
عينيه، أو ربما لم يَعُد يرى في هذه اللحظة أي شيء بالمرة، ثم صعد
بالقدم الأخرى، غاص بحذائه في عمق الكرسي الليِّن؛ ليعلو فوق رءوس
الحضور – بدَوْا جميعًا أقزامًا، كما بدا هذا الموظف قزمًا هو الآخر،
وهو يندفع نحوه – وفي نفس المكان الذي عُلِّقت فيه اللوحة يظهر وجه
ضابط الميدان برقبة عِجْل وذَقَن مكتنزة مستندة إلى ياقة سترة عسكرية
ضيقة، ابتسم فيديا في خجل، بل وحتى في تملُّق، لم يكن ذلك ما ارتسم على
وجهه فحسب، وإنما ما انعكس على هيئته كلها، التي بَدَت لسبب ما ضئيلة
ذليلة، وهناك — حيث وقف الزائرون فقط — كان ثمة بحر مكان رءوسهم، وإذا
به هو وزوجته يسبحان فيه متجهَين نحو الزرقة النائية، وهما يدفعان
أذرعهما في إيقاع منتظم، ملتقطَين أنفاسهما معًا، مبتعدَين أكثر فأكثر
عن الشاطئ، بينما اختفى ضابط الميدان تقريبًا، وفي مكان بعيد لاحت
هيئته المزرية المنحنية؛ هيئة شحاذ يسأل الناس إحسانًا، وفي هذه اللحظة
صاح الموظف وهو ينظر في حزم إلى هذا الشخص الواقف على الكرسي في هندام
حسن: «أيها السيد، غير مسموح عندنا بالوقوف على الكرسي»، تقدَّم الموظف
إلى الأمام، ثم رفع يده وكأنما يقدمها ليستند إليها هذا الواقف على
الكرسي – نزل فيديا، قافزًا تقريبًا من الكرسي، بعد أن أزاح يد الموظف؛
لينظر إلى ركن القاعة، حيث تقف أنَّا جريجوريفنا، وخلال هذه البرهة
نجحت أنَّا في الابتعاد أكثر، وراحت تتظاهر بالنظر إلى اللوحة من خلال
منظارها المُقرِّب، لكن يدَيها، الممسكتين بالنظارة، كانتا ترتجفان:
«بالله عليك، هلَّا خرجنا من هنا!» قالت أنَّا هذه الكلمات بصوت متحشرج
من أثر الاضطراب، بعدما اقترب منها، راح الحضور يرمقونهما ويتبادلون
الهمسات عن شيء ما – تأبَّطت ذراعه، جاذبةً إياه نحو الباب المؤدي إلى
القاعة الأخرى، كان بودِّه لو أنه ظل واقفًا على الكرسي حتى النهاية،
غيرَ آبهٍ بملاحظة الموظف، لكنه — على أية حال — لم يتحمل الوقوف ونزل،
أما وجه ضابط الميدان، الذي ظهر له الآن في النافذة الكبيرة للقاعة،
فكان يبتسم له في وقاحة، وقد راح يمسح بيده السمينة اللحيمة شاربه
بشعور باللامبالاة والانتصار – ومن نافذة مقر الحرس تراءى لفيديا بعض
الناس – بعض المقربين من الرجل الذي كانوا ينفِّذون فيه العقوبة، فضلًا
عن بعض النسوة – كانت نظراتهم مليئة بالشفقة والتعاطف، ها هو يرقد هناك
على الطاولة، وقد أنزلوا سرواله، بينما راح الحارس يجلده بإيقاع منتظم
– تخلَّص بفظاظة من ذراع أنَّا جريجوريفنا – بخطوات ثابتة دلفت أنَّا
إلى القاعة المجاورة، وقد نكَّست رأسها – لا يمكن أن يكون الكرسي
شاغرًا – إنه لأمر غير طبيعي، الكرسي شاغر، اتجه بسرعة نحو وسط القاعة،
وها هي أقدامه تغوص من جديد في شيء ليِّن، شَعر من خلاله بحركة الزنبرك
– سوف يقف هنا ما طاب له الوقوف، عليه أن يقهر بداخله هذا الشعور
بالانحطاط أمام الموظف، هل من المعقول أنه لن يستطيع أن يتجاوز هذه
الخَصلة فيه؟ ساد الهدوء القاعة، تمامًا مثلما يحدث عند رفع الستار،
كان وجْه ضابط الميدان — الذي ظهر الآن مرة أخرى مكان اللوحة — وجهًا
وقحًا، وقد راح يغمز بعينيه، لوَّح فيديا بيده ثم صفعه على خده، اختفى
الوجه، ثم توارى في مكان ما على الأرجح، الآن ها هو يقف إلى جانب ضابط
الميدان نفسه، الذي كان راقدًا على الأرض بالقُرب من الطاولة المصقولة،
أما المعتقل، الذي حاول أن يعاقبه لتوِّه، فقد وقف في وضعية المنتصر،
بعد أن وضع قدمه على بطن ضابط الميدان، بينما راح المشاهدون، الذين
ينظرون من النافذة، يصفقون في صخب، وقد راحت النسوة، وخاصة اللائي كُن
يقفن بالقُرب منه، ينظرن إليه بدهشة، ويرسلن إليه بقبلات الإعجاب عبر
الهواء – نزل من الكرسي، على مهل، دون أن يقفز، وإنما نزل هكذا بالضبط،
ليتجه ببطء إلى القاعة المجاورة، اصطدم عند الباب بالموظف الذي — على
ما يبدو —
كان قد اختفى في مكان ما، أما الخادم فقد أفسح له الطريق بكل
احترام، وفي الليل، عندما عاد إلى أنَّا ليعتذر، راحا من جديد يسبحان
معًا وقد أطلقا أيديهما في إيقاع منتظم، رافعَين رأسيهما من الماء في
الوقت نفسه؛ لكي يستنشقا الهواء، لم يجرفه التيار هذه المرة – كانا
يسبحان نحو الأفق البعيد، إلى الأزرق المجهول السحيق، بعدها راح
يقبِّلها من جديد – انقلبت قمة المثلث المظلم إلى أسفل، هذا المثلث بدت
قمته دائمًا بعيدة المنال بالنسبة إليه، مثل قمة جبل شاهق، غرقت في
مكان ما في السحب، وعلى الرغم من أنها كانت مقلوبة لأسفل، فقد سعى
للوصول إليها، ومع ذلك، فالأرجح أنها كانت فُوَّهة بركان، عند هذه
القمة وفي هذا القاع الذي لا يمكن الوصول إليه إنما يكمن الحل المرعب
والممتع لهذا الشيء، الذي لم يكن بمقدوره أن يسميه، بل ولا أن يتصوره،
فيما بعد ظل طوال عمره، وحتى في خطاباته لها، يسعى دون توقف للاقتراب
من هذه القمة – الفوهة، لكنها ظلت صعبة المنال، هل وقف مؤخرًا على
الكرسي في القاعة، التي عُلِّقت فيها لوحة المادونا؟ كم مرة أراد أن
يفعل ذلك؟ لقد كان الموظف غائبًا، عندما وقف على الكرسي في المرة
الثانية، ولهذا لم يكن من الممكن تأكيد أنه وقف ضد إرادة الموظف، على
الرغم من أنه كان قد قرر بينه وبين نفسه أنه سوف يقف، طالما أنهم لن
يبعدوه، ليكن لهم ذلك؛ فالموظف، وربما حتى رجل الشرطة، راحا يسحبانه
عبر القاعة كلها أمام أعين الجميع وأمام أنَّا، بات كل شيء يتدحرج إلى
أسفل، تحت الجبل، أسرع فأسرع، وعندئذٍ ربما يطبق فوقه وجه ضابط الميدان
مثل كرة زرقاء حمراء، مثل كرش محشوٍّ بدم الناموس؛ لتتحول حياته
بأكملها إلى عذاب لذيذ؛ لأنه بسبب هذا الإذلال يمكن الاستيلاء على
الروح، لكن شيئًا لم يحدث، لا هذا ولا ذاك، نزل من الكرسي، على الرغم
من أن ذلك كان بإرادته الشخصية، ولكنه لم ينتظر الموظف، وفي الوقت نفسه
لم يصل الأمر إلى حد انفجار فضيحة، القمة المُحرَّمة للمثلث المختفي في
السحب، الضاربة في الوقت نفسه في أعماق الأرض، ربما إلى مركز الأرض؛
حيث تغلي الحمم دون توقف، وقد ظلت هذه القمة عصيَّة على المنال، مدَّت
أنَّا يدها بلطف على وجهه، لكنه — وحتى دون أن يقول لها كعادته: «طابت
ليلتك» — ذهب إلى غرفته، وما هي إلا نصف ساعة حتى استيقظت من نومها على
وقع صوت غريب، لم يكن شخيرًا، أو خريرًا، بعد أن أشعلت شمعة بيدَين
مرتعشتَين، هرعت نحو فراش زوجها، كان راقدًا على حافة الفراش، منحنيًا
بجسده كله، كما لو كان يريد الجلوس، لكن حبلًا يعوقه، حبلًا كان يشده
إلى الفراش، وقد كَسَت وجهَه زرقةٌ، وعلى فمه زَبَد – راحت تدفعه بكل
ما أوتيَتْ من قوة نحو وسط الفراش حتى لا يسقط، وبعد أن جلست على
ركبتيها، راحت تمسح الزَّبَد من شفتيه بمنشفةٍ، وتجفف العرق المتصبب من
جبهته – الآن يرقد فيديا في هدوء، وقد بدا وجهه شاحبًا شحوب الموتى،
الْتفَّ الحبل الخفي به؛ ومن ثَم لم يكن بإمكانه الجلوس، هل من المعقول
أن يكون هذا هو زوجها؟ – هذا الرجل الذي عَلَت وجهَه الزرقةُ، وهو
يحاول الجلوس في الفراش، محاولًا التغلب على شيء ما يقاومه، وقد سال
الزَّبَد على شفتَيه، وبدت ذَقَنه الخفيفة الشعثاء مائلة إلى الجنب –
هل من المعقول أنها منذ ما يزيد قليلًا على نصف عام مضى، صعدت ذلك
السلم الضيق الكئيب ذا الدرجات الحادَّة، رتَّبت هندامها، بقلب يخفق من
القلق حرصت على أن تخفِّف من وطء كعبَي حذائها، بأنفاس متقطعة من
الاضطراب أخذت تنظر للمرة المائة في حقيبتها؛ حيث وضعت الأقلام الرصاص
الجديدة ورزم الورق التي اشترتها لتوها من محل جوستيني دفور٥ (تُرى هل فقدت هذه الأشياء؟!) سبقت، بحذاقة، صديقتها في
الفصل بساعة، وقد كانت هي أيضًا تلميذة ماهرة؛ لأنه منذ تلك اللحظة،
كما كانت تعلم، كان بحاجة شديدة إلى مُختزِلة، كل شيء حولها الآن يسبح
ويتأرجح مثل سفينة في وقت العاصفة – موجة عاتية جرفت حبال الشراع كلها
وحتى حاجز السفينة – لم يبقَ سوى الصاري، كل من على السطح كانوا
يحاولون الوصول إلى هذا الصاري وأن يتشبثوا به بأيديهم، حتى لا يكتسحهم
الموج نحو البحر، لكن شخصًا واحدًا استطاع أن يمسك بهذا الصاري، وهذا
الشخص الوحيد كان ينبغي أن يكون هي – قابلها عند مدخل الشقة، نظر إليها
وقد أمال رأسه قليلًا وكأنه يتأمل حشرة ما غريبة، ومن باب آخر أطلَّ
فتًى رثُّ الهيئة، ترتسم على ملامحه سمات الضجر والتأفُّف – إنه ربيبه،
ابتسم إليها الفتى في وقاحة وغطرسة، ثم ابتسم لها مرة أخرى بنفس
الطريقة عندما دخلت مومئًا برأسه إيماءة خفيفة – أما فيديا فقد قادها
إلى غرفة ليست متسعة بها مكتب، إلى جانبه مائدة صغيرة مستديرة، وعدد من
الكراسي بهت قماشها، وما إن أجلسها إلى المائدة المستديرة حتى شرع في
الإملاء، في هذا اليوم لم ينظر إليها، وإنما راح يمشي جيئة وذهابًا في
الغرفة، كان يملي عليها بصوت منخفض رديء، بينما كانت تخشى أن تكرر عليه
السؤال؛ لأنها تصورت أنه هو الآن الذي سيقودها، على أنه كان من الضروري
أن تتمالك نفسها، أن تتشبث بالصاري قبل الآخرين، وإذا بها وقد فقدت
توازنها، لتسقط، ثم لتتحرك بثبات تجاه هذا الصاري – وفي اليوم الثالث
أو الرابع من العمل اقتنص نظرة إليها، نظرة حادَّة وفاحصة، وخُيِّل
إليها للحظة من الزمن أنه يريد الاقتراب منها ليقول لها شيئًا ما أو
يسألها، لكنها أخفضت بصرها بحزم، وباهتمام بالغ راحت تنظر مليًّا إلى
ما سجلته لتوِّها بالاختزال – لقد تشبثت جيدًا بالفعل بالصاري، ولكن
ينبغي عليها ألَّا تتعجل، حتى لا تفقد توازنها في اللحظة الأخيرة – في
كل مرة كان يقترب منها أكثر فأكثر – لم يَعُد يمشي الآن من ركن الغرفة
إلى ركنها الآخر، مثلما كان يحدث في المرات الأولى، وإنما كان يدور
حولها، وفي كل مرة كانت هذه الدوائر تزداد ضيقًا – عنكبوت يقترب من
ذبابة – شيء ما ممتع ومُحرَّم، هكذا وبشكل حتمي، يُضيِّق الحلقة على
نفسه وعليها، شيء يَسْبي الروح، لكنها بكل حزم — الآن — غضت البصر في
زهد متحاشيةً نظراته، ولكن أليست هي نفسها التي نسجت هذه الشبكة؟!
ألَعلَّهما معًا هما اللذان نسجاها؟ لقد أرخيا الخيوط، وقد بدا أنها
يمكن أن تتمزق في أي لحظة، لكن هذه اﻟ «أي لحظة» بدأت بمجرد أن فُتِح
باب غرفة المكتب ودَس فيها الربيب رأسه، بنظرته الوقحة المتغطرسة،
وابتسامته الفاضحة، حتى إن الرجل الذي كان يقوم بالإملاء انتقل من
المشي مرة أخرى في الدوائر إلى المشي في خطوط مائلة من ركن إلى ركن
محاولًا أن يكف عن النظر إلى المُختزِلة، لكن ذلك كان فوق طاقته، أما
هي فقابلت ظهور الربيب بنظرة صريحة عابسة، ربما، منذ أن ظهر أمامها
للمرة الأولى، نفس النظرة التي ألقتها على الصورة الفوتوغرافية في
الصفحة الأولى من «اليوميات» في النهاية، فإن كل هذه الضجة العنكبوتية
انتهت على النحو الذي كان ينبغي أن تتم عليه؛ لقد لدغ ضحيته في لذة،
أما هي فأمسكت بالصاري والتصقت به بكل جسدها، حتى لا تنجرف، وحتى لا
يستطيع أحد غيرها أن يمسك به بدلًا منها – قصَّ عليها كل ما حدث له،
سواء عن المعتقل، أو الصرع، أو عن إفلاسه (الذي خمَّنته)، وعن الاتفاق
الذي عقده مع الناشر ستيلوفسكي، الذي كان عليه بموجبه أن يُقدِّم له
رواية جديدة في موعد أقصاه الثلاثون من الشهر الجاري، وإلا انتقلت كافة
حقوق نشر أعماله إلى هذا الناشر، جلس قبالتها إلى المائدة المستديرة
وقدَّم لها شايًا مع بسكويت مُملَّح، انتقاه بنفسه من محل الحلوى
الواقع في شارع فوزنيسينسكي – كان يحب شراء الحلوى بنفسه، وهنا في
درزدن، لدى عودته من مكتب البريد أو قاعة العرض، كان يشتري كافة أنواع
الحلوى التي تحبها، وفضلًا عن ذلك، الثمار والفاكهة – كانت تنظر من
النافذة لتراه وهو يقترب من البيت، مُحمَّلًا بالمشتريات، حاملًا في
يديه اللفائف – كانت تنتظره قُرب الباب – كان يحب أن تخرج لاستقباله
وأن تأخذ المشتريات من يديه، فهو يغضب إذا ما تلكَّأت – في شقة
بطرسبورج كان يجلس إلى المائدة أمامها ويصب لها الشاي بنفسه، ثم بصوت
مشروخ يحكي لها عن نفسه – لم تكن تغيب ببصرها عنه، وإنما كانت تنظر
إليه نظرة مُقطِّبة في ثبات، هذه النظرة الثابتة المقطِّبة كانت تبدو
له واضحة مستكينة، كانت نظرتها — على الأرجح — على هذا النحو دائمًا
بالفعل، أحيانًا ما كان يعبث في لحيته، وعندما ينهض ويذهب إلى المطبخ
ليُحضِر مزيدًا من الشاي، كانت ساقاه تتحركان بطريقة ما على نحو غريب،
لم تكونا تنثنيان تقريبًا عن ركبتيه، وكأنهما لا تزالان مشدودتين
بالقيود، فيما بعد أصبح يزورهم في منزلهم في بيسك، وكانت أمها آنذاك
تتململ وهي تُعِد المائدة، كانا يذهبان بعد ذلك للتنزُّه بالحنطور –
أخذها إلى مكان ما، وعندما أوقف الحوذي خيوله فجأة عند أحد التقاطعات
المزدحمة بالمارة، إذا بها تندفع إلى الأمام بقوة الدفع، وعلى الرغم من
أنه كان من الواضح أنها لن تسقط، فقد أمسك بها من خصرها، بل إنه
احتضنها لثانية من الوقت، أحسَّت بالاضطراب، أما بعد الزفاف فكانا
يذهبان إلى موسكو وينزلان في فندق ديوسو، في غرفة صغيرة تقع في الطابق
الثالث، كانا باستطاعتهما أن يشاهدا منها قِباب كنائس موسكو وأجراسها
وقد كساها الثلج، أما في الأسفل، فكانا يريان الشوارع مُغطَّاة بالثلج
وقد تركت الزحافات أثرها عليها – كانا يغادران الفندق كل يوم تقريبًا
ليذهبا بالزحافة المغطاة بغطاء ثقيل من الفرو، لزيارة أخته التي كانت
تعيش في شارع ستاريا باسمانَّايا، كانا يتوقفان أثناء الطريق بالقرب من
برج مينشيكوفا، وبعدها وبالقُرب من كنيسة أم الرب في بوكروفكا، كانا
يغادران الزحافة لعدة دقائق؛ لكي يطوفا حول الكنيسة، كانت تزور موسكو
للمرة الأولى، وكان يُريها كل شيء، كما يُري صاحبَ المنزل أشياءه التي
يزهو بامتلاكها – يتجهان نحو الكنيسة بعد أن يغادرا الزحافة، يقف برهة
ويخلع غطاء رأسه ويرسم علامة الصليب ثم ينحني، وكانت هي أيضًا ترسم
علامة الصليب وتنحني، وفي شقة أخته أحسَّت بنظرات العداء في عيون
أقاربه؛ لأنهم كانوا يعتزمون تزويج فيديا من إحدى قريباتهم، ولكن ذلك
لم يحدث، وقد ردَّت عليهم بنظرات عابسة، ولكن عندما كان فيديا يدخل إلى
الغرفة المجاورة، أو يتحدث بحماس إلى الآنسات، كانت تبدأ في تصوُّر أن
الصاري — الذي تتشبث به الآن بشدة، إلى حد أنها نسيت أنه الْتَصق بها،
تمامًا — قد بدأ فجأة ينزلق من يديها، وقد تظاهرت، وقد أسبلت عيونها،
أنها تقوم بترتيب حواشي ثوبها، لكن أصابعها، إلى جانب إرادتها، راحت
تُجعِّد القماش، حتى إنها كادت أن تصعد على الكرسي، ومرة أخرى راحت
تصلح من تنورتها المنتفشة، أما في غرفة الفندق، حيث ساد الهدوء الردهة،
فقد توجه إليها كما يحدث هنا في درزدن ليقدِّم اعتذاره لها؛ ليشرعا في
السباحة، وقد أطلقا أيديهما من الماء ليسبحا بعيدًا، حتى تغيب عنهما
خطوط الشاطئ، أما في بطرسبورج فقد بدأت مرة أخرى نظرات العداء نحوها من
جانب الربيب وأرملة أخيه، إميليا فيودوروفنا، امرأة عجفاء، ذات عينين
جارحتين شديدتَي السواد، جميعهم كانوا يريدون أن ينتزعوه منها، وفي
شقتهم ظهر الدائنون، تجار بُدناء مختالون يلبسون خواتم ذهبية ضخمة في
أصابع قصيرة، ويضعون سلاسل ذهبية ثقيلة متدلية من جيوب الصديريات،
جميعهم كانوا يطالبون بسداد ديون مصنع التبغ، الذي كان ملكًا لأخيه، ثم
ديون المجلتين اللتين كان الأخوان يُصدِرانها، بعد ذلك ظهر مراقب الحي
يرتدي كابًا ذا إطار أزرق ليعلن، بعد أن دق الأرض بكعبيه، أن الحجز
سيتم على أملاكهم غدًا، عندئذٍ ذهبت إلى والدتها التي — وبعد أن رسمت
عليها علامة الصليب وقبَّلتها من خديها — قالت لها إنها سترهن أشياء
العائلة – افتديا نفسيهما من الدائنين مؤقتًا ومن الحجز على أملاكهما
ليغادرا بطرسبورج إلى الخارج، بعيدًا عن كل هذا الكابوس، وعن نظرات
الكراهية، وعن الربيب، وعن الدائنين، وعندما جلسا في عربة القطار
خُيِّل إليها أن حياة جديدة بالنسبة إليها تبدأ الآن – كان يرقد في
فراشه على وضعه السابق، وعلى الرغم من أنه لم يحاول الجلوس، فقد كانت
أنفاسه مضطربة، متقطعة، كان الهواء يندفع من بين أسنانه المطبقة مثل
فحيح، ليتحول إلى زَبَد على شفتيه، شيء ما هناك داخل حلقه كان يقرقر،
وكما لو ابتلع ماءً راح يغرغر – ظلت واقفة على ركبتيها، شرعت تجفِّف
الزَّبَد والعرق بمِنشَفة، حتى وصلت إلى جبهته، التي أصبحت الآن — مثل
وجهه كله — شاحبةً، أمعنت النظر في عينيه، كانتا مفتوحتين، نظراتهما
تتطلعان إليها، لكنه لم يكن ليتعرف عليها، راح ظِل لحيته الشعثاء
الملقى على الحائط يتراقص بفضل ضوء الشمعة المهتز، ليبدو شبيهًا بوحش
ما أشعث – شعرتْ فجأة بالخوف، اندفعت نحو الباب لتنادي على مدام
زيمرمان أو حتى على الخادمة، أو لتستدعي طبيبًا، لكنه نادى عليها بصوت
واضح، وها هي تجلس على ركبتيها بالقُرب منه، تنظر في عينيه، تحدِّق في
جبهته، أما هو، فقد جذب ذراعها نحوه وضمها إلى شفتيه، على امتداد ثلاثة
عشر عامًا ونصف العام، كان يجذب إليه يدها بنفس الطريقة إلى شفتيه،
وبعد أن قرأت عليه الفقرة الغامضة من الإنجيل، طلب منها أن تدعو إليه
الأطفال ليودِّعهم – كان يرقد آنذاك في شقته في بطرسبورج على الأريكة
الجلدية وقد علقت فوق ظهرها صورة للمادونا الستينية، التي أُهديت له
يوم عيد ميلاده، وعلى النحو الذي كان عليه تقريبًا لحظة موته، عندما
رَسَمه كرامسكوي؛٦ – رأسه غائص تقريبًا في الوسادة وقد انتشرت أسفلها كرمشة
على هيئة شعاع، عيناه مغلقتان، تعبير الوجه صارم، وفي الوقت نفسه تعلوه
السَّكينة، كما يحدث تقريبًا لكل الموتى، لحيته داكنة طويلة تَجعَّد
شعرها لسبب ما على هيئة خصلات – لحية مثل هذه كنت أراها تقريبًا كل
صباح في التروللي باص – على وجه عجوز كان يستقل التروللي باص بنشاط من
المحطة الواقعة بالقرب من فيلَّا نظيفة من طابقين، نوافذها دائمًا
مُسدَلة الستائر وقد عُلِّقت عليها يافطة كُتب عليها: «مجلس الشئون
الدينية التابع لمجلس وزراء الاتحاد السوفيتي» – كان العجوز مشدود
القامة، يمسك في يده بعصًا غليظة، وقد اعتمر طاقية من طراز عتيق، تشبه
تلك التي كان يرتديها، في زمن ما، بائعو المحالِّ أو البرجوازيون
الصغار – الأرجح أنها ظلت لديه منذ ذلك الزمن، كانت ملابسه أيضًا من
طراز عتيق، يرتدي قميصًا روسيًّا أزراره على جانب، وفوقه معطف – كل شيء
قديم لكنه نظيف ومحبوك – كان يضع كلتا يديه، بعد أن يستقر في جلسته،
فوق الطرف الأعلى لعصاه، يدًا فوق الأخرى، يداه أيضًا كانتا ضخمتين
مُعتنًى بهما، وجهه يَشي بالجدية والحزن، ولحيته شامخة إلى الأمام
قليلًا – كنت أحاول أن أتحاشى النظر إلى عينيه، ولكني كنت أختلس النظر
إليه – غادر التروللي باص معي، في نفس المحطة، ولكنه لم يتجه إلى
المترو، وإنما واصل سيره، كان يمشي بخطًى سريعة، متخطيًا إياي، ليدور
خلف الناصية، متجهًا إلى الكنيسة، حيث من المفترض أن تبدأ خدمة الصباح
بعد بضع دقائق – كان القطار يصلصل فوق الجسر، أما أنا، وبعد أن انقطعتُ
عن مواصلة القراءة، فقد اقتربت بوجهي من النافذة، وضعت كفي على وجهي
مثل غمامة لأتحاشى الضوء المبهر – من خلال البياض المبهم للَّيل
الشتوي، على الرغم من أن الوقت كان لا يزال مساءً، بل ولم يتأخر بعد،
في مكان بعيد لاحت العديد من الأضواء المتلألئة – راحت أبواب مداخل
العربة تصطفق – أخذ عدد من المسافرين يحملون حقائبهم في أيديهم،
مُتَّخذين طريقهم نحو الخروج، متصادمين مع الخارجين من الباب من أطفال
وفتيات، يحملون أكوابًا وترامس بأيدٍ مبتلَّة، نافضين أيديهم،
مُجفِّفيها في الهواء؛ لأن المناشف في دورة المياه لم توجد — على
الأرجح — أو ربما كانت مبتلَّة بشدة، مما جعلها غير صالحة للاستعمال –
اقترب القطار من مدينة كالينين – لمعت خلف النوافذ أضواء المباني
الملحقة بالمحطة، وفي مكان ما خلفها – توارت في الأفق سلسلة من أعمدة
الإنارة في الشارع، وحواجز الطريق والأكشاك المضاءة، الأضواء الواهنة
لمصابيح السيارات، المنتظرة بالقرب من حواجز الطريق، من جديد تتلألأ
الأضواء أكثر لمعانًا وسطوعًا، بعدها راح رصيف المحطة المرتفع يزحف
مباشرة ببطء أسفل النافذة، مُضاء بقوة، مُغطًّى بالثلج، يقف عليه أناس
يرتدون بلاطي شتوية طويلة أو معاطف قصيرة من الفرو، يحملون في أيديهم
حقائب، ثم ظهر مبنى المحطة، بنوافذه المُضاءة بقوة أيضًا، وقد ظهر
خلفها كذلك أناس يجلسون في المطعم وفي قاعة الانتظار، وعند شبابيك
التذاكر، وبالقُرب من كشك الصحف – توقفت العربة، بعد أن تجاوزت مبنى
المحطة – مرة أخرى راحت الأبواب تصطفق، ومن مداخل العربة اندفعت أعمدة
من البخار البارد، ازدادت الحركة على الرصيف، راح الناس يجرون – بعضهم
يغادرون عرباتهم، وبعضهم الآخر، بعد أن قفزوا من القطار دون معاطف،
راحوا يبحثون عن البيرة والفطائر والصحف – وعلى الجانب الآخر من الرصيف
والمحطة وقف قطار آخر طبق الأصل، بعربات حمراء، لكنه قادم من الاتجاه
المعاكس من ليننجراد إلى موسكو، وقد تلاقيا في كالينين تحديدًا، وتوقفا
فيها بعد شراء الفطائر أو الصحف، من الممكن تمامًا في هذا الهرج أن
يخطئ الناس القطار فيسافروا إلى الاتجاه المعاكس، وفي مكان ما هناك،
على جانبَي هذين القطارين المتماثلين الواقفين، لم تكن لتظهر سوى سلسلة
من عدد قليل من الأعمدة تضيء في الظلام الدامس – ومن بعيد تراءت بيوت
هذه المدينة المجهولة بالنسبة إليَّ – إلى هنا وصل دستويفسكي قادمًا من
سيميبالاتينسك، قادمًا مباشرة من المنفى، بصحبة زوجته الأولى ماريا
ديمترييفنا؛ امرأة مصدورة هيستيرية – في البداية نزلا في أحد الفنادق،
وبعد بضعة أيام انتقلا للسكن في شقة مفروشة من ثلاث غُرف، بالقُرب من
مكتب البريد – كان الخريف قد بدأ لتوِّه، ثم سرعان ما حل الخريف
الحقيقي بأمسياته التي تحل مبكرًا، وأصباحه التي تنبلج متأخرة، وهطول
أمطاره – كانت المدينة تغرق في الأوحال، وهو يهرول طوال الوقت من مصلحة
حكومية إلى أخرى، ثم إلى مكتب البريد، فيرسل بالطلبات المليئة
بالاستعطاف وبالالتماسات من أجل استصدار تصريح له بالإقامة في سان
بطرسبورج، مُلحِقًا بطلباته شهادات طبية، هرع ذات ليلة ليقابل أخاه على
المحطة، وكان مسافرًا من بطرسبورج إلى موسكو، ثم ذهب مرة أخرى ليقابله
وهو في طريق عودته، شخص ما آخر كان مسافرًا بالقُرب من تفير،٧ وها هو مرة أخرى يهرع ليلًا إلى المحطة، التي تبعد ثلاثة
فراسخ عن مكتب البريد – لم يَعُد شابًّا، كانت أطراف سترته البالية
تتطاير في الهواء، لم يكن قد حلق شاربه بعد أن ترقَّى إلى رتبة ضابط
بفضل سلوكه الحسن، شارب قصير، غير طبيعي، يبدو وكأنه مصبوغ، راح يركض
من جانب إلى جانب، تارة يمينًا ثم تارة إلى اليسار، نحو هذا العابر
بالقُرب من تفير قادمًا من موسكو أو من بطرسبورج، سلَّم عليه، متحدثًا
إليه بصوت مرتفع، عارضًا طلبه، ممسكًا بالسادة رفيعي المقام من أطراف
أثوابهم الرسمية أو ستراتهم العسكرية، راجيًا إياهم أن ينصتوا إليه،
متوسلًا، حاسبًا خطواته بدهاء، مثله في ذلك مثل هؤلاء اليهود، الذين
كانوا يطاردونه هو وأنَّا جريجوريفنا في فيلني، وهم يعرضون عليهما
خدماتهم، في خطابه لأخيه راح يستعطفه وقد اغرورقت عيناه من الدمع أن
يشتري لماريا ديمترييفنا قبعة، على أن يكون لونها بنفسجيًّا؛ لأنه من
غير المعقول أن تمشي حاسرة الرأس، فهنا لا يوجد ما يمكن شراؤه – بعد
أحد عشر عامًا، وإبان وجوده مرة أخرى مع أنَّا جريجوريفنا في درزدن في
الشقة المفروشة التالية، الواقعة عند ناصية البيت؛ لأن ناصية البيت
كانت تقع عند رأس مثلث، الأمر الذي كان يسعى إليه دائمًا، في هذه
الشقة، وعلى المكتب الذي وُضعت عليه شمعة كبيرة تقليدية وكوب من الشاي
الثقيل، ظهرت في إحدى الليالي الملاحظات الأولى، وقد كُتبت بخط دقيق،
يشبه تقريبًا خط الاختزال، من الظلام سوف تبدأ شخصية الأمير٨ في الظهور، في هذه الفكرة الرئيسة المتناقضة يكمن التجسيد
لأمانيه غير القابلة للتحقيق، هذا الإنسان الخارق ذو الملامح
الشيطانية، يمشي بخطًى ثابتة فوق الجسور المهتزة، الواقعة بمُحاذاة
واحد من شوارع مركز المحافظة الغارقة في الوحل، وظلمة الليل الحالكة
التي عاش فيها بعد المنفى، وإلى جانب ستافروجين، كلا، ليس إلى جانبه،
وإنما خلفه، راح يخطو في الوحل؛ لأنه فوق نفس هذه الجسور لم يكن ليجرؤ
أن يسير بجانبه بخطوات قصيرة سوف يسير بيوتر ستيبانوفيتش فيرخوفينسكي،٩ بخطوات قصيرة أسرع، إنه يتحدث بسرعة وسلاسة، إنه مراوغ،
مقنع، وقاتل إذا ما استلزم الأمر، ذو وجه ضارب للَّون الرمادي وربما
يكون حليقًا بالماكينة، هذا الوجه يُذكِّرني بغرابة بواحد من معارفي –
درسنا معًا في فصل واحد، حتى إننا تبادلنا الزيارات المنزلية – كثيرًا
ما كان يزورنا والد رفيقي في الفصل في منزلنا، كان يأتي خصوصًا لجدي،
الذي كان تِربًا له تقريبًا، لكن الرجل كان ميَّالًا بشدة للنساء، وكان
هو نفسه — بطبيعة الحال — يهوديًّا، كان عازفًا على البيانو، عازفًا —
كما فهمت بعد ذلك — من الدرجة الثالثة، مدرسًا عاديًّا في الكونسرفتوار
أو حتى في مدرسة موسيقية، ولكن آنذاك كنت أحاول أن أؤلف موسيقى ما، كنت
أنظر إليه باعتباره شخصًا غامضًا لا يمكن الوصول إليه، كإله تقريبًا،
وعندما جاء إلينا ذات مرة تحول من يومها تمامًا بالنسبة إليَّ إلى إله،
جلس إلى البيانو، فتح الغطاء، الذي كنت قد أغلقته، مسَّ بأنامله
المفاتيح، التي كنت أقوم عليها بتدريباتي، عندما جلس إلى البيانو
العادي الموجود في غرفة المائدة، الذي اختلَّت دَوزنته بعض الشيء، بدأ
في عزف فالس لشوبان – الفالس السابع، هذا الفالس الذي كنت أحاول أن
أستظهره بلا جدوى – كانت يداه بعروقهما الزرقاء النافرة، كما علمت بعد
ذلك، تجري بسرعة العصافير، ترفرف فوق المفاتيح، كانت كتلة من الحلوى
تدخل في فمي، على الأرجح، كانت الدموع تنساب من عينيَّ – لم يكن طويل
القامة، كان نحيفًا، نشيطًا، وقد مات قبل الحرب على إثر نوبة قلبية،
أتصور أن ذلك حدث في الطريق، مباشرة قبل أن يموت جدي، وعلى الأغلب بسبب
شهوانيته المفرطة، أما ابنه، رفيقي في الفصل، الذي جاء من زوجته
الأخيرة، وكانت امرأة بسيطة، بدينة، ذات وجه مستدير، ولهذا كانوا في
بيتنا يقولون إنها تشبه طبَّاخة أو خادمة في منزل، ولم تكن، كما أتصور،
تُستقبَل في بيتنا، ولعله لم يكن يصطحبها هو نفسه لزيارتنا – وهكذا كان
ابنهما، رفيقي في الفصل، يتميز أيضًا بالنشاط والمشاكسة، ولديه أذن
جيدة بالوراثة، لكنه كان ينظر إلى الموسيقى باحتقار، كان تلميذًا
فاشلًا، وقد ترك المدرسة في الصف السابع أو الثامن ليلتحق بالمدرسة
الجوية، وبعد انتهاء الحرب قابلته عدة مرات – كان مثل أبيه متوسط
الطول، حليق الرأس؛ حتى يبدو صَلَعه أقل، كان يتحدث كثيرًا وبسرعة وفي
غاية السلاسة، طلَّق زوجته الأولى، ثم تزوج وأنجب أطفالًا من زواجه
الثاني، لكنه كان يتشكَّى من أن قلبه يدق على نحو غير منتظم، ولهذا فهو
لا يطير، وإنما يعمل ربما بوصفه مراسلًا، أو ملَّاحًا في مطار المدينة
التي كنا نعيش فيها آنذاك، وعندما علم ذات مرة أنني نزلت بها عابرًا
خرج لملاقاتي في صالة الانتظار، ثم قادني إلى الطائرة بنفسه، حتى إنهم
سمحوا لنا بالمرور دون طابور، أما الركاب الذين كانوا ينتظرون الخروج
للركوب، فقد تنحوا جانبًا بكل احترام عندما كنا نمر نحو البوابة
الحديدية المؤدية إلى ساحة الإقلاع – كان يمشي إلى جواري، متوسط
القامة، يرتدي زي موظفي المطار المدنيين، عُلِّقت على ياقاته شارات غير
مفهومة بالنسبة إليَّ، ممسكًا في يده بكاب رسمي أزرق عليه شعار مُذهَّب
بوجه ضارب إلى اللون الرمادي، ورأس صلعاء – تحدث إليَّ حديثًا سريعًا
يبدو منه أن هذا العمل قد أصابه بالملل، وأنه تعب، وأنه يود لو أنه
أرسل بكل هذا إلى الجحيم، استخدم في حديثه ألفاظًا بذيئة، لكنه لم يكن
يَفصِلها بشكل خاص عن حديثه، وإنما كان يستخدمها باعتبارها جزءًا لا
يتجزأ من عناصر هذا الحديث – في طفولتنا كانت أسرتانا تقضيان الصيف في
بيتين صيفيين متجاورين، وكان هو آنذاك يتسلق السياج ثم يصيح قائلًا:
«هللويا، مصيبة تسقط عليكم»، بالمناسبة، هذا ما حكته لي أمي بعد عدة
سنوات من إقامتنا في البيت الصيفي المجاور لبيتهم، وحتى الآن لا تزال
تتذكر ذلك، ما إن يأتي الحديث على ذكر زميلي السابق في نفس الفصل –
حلَّ بيوتر فيرخوفينسكي محلَّ ستافروجين، حتى إنه حاول، فيما بعد على
ما يبدو، أن يمسك به من كُمِّه؛ إذ كان عليه أن يستعطفه في شيء ما لدى
ستافروجين، لكن الأمير، بعد أن لمعت عيناه في الظلام بنظرة شيطانية
دفعه جانبًا، كما دفع جانبًا، أيضًا، فيديا – المعتقل، الذي كان
متربصًا به فوق الجسر في ليلة مطيرة مظلمة، وهكذا بَرَقت عيناه كما
لَمَعت السكين في يدَيْ فيديا، الذي أراد أن يضرب بها الأمير، لكن
الأمير انتزعها بحركة واحدة من يد فيديا، ثم أعادها إليه مرة أخرى
بلطف، عاد الأمير من زاريتشا، من منزل ليبيادكين، بعد لقائه بالأعرج،
وبعد عدة أيام، وربما حتى في اليوم التالي، في منتصف الليل، إبَّان
الفضيحة التي وقعت في الحفل المقام لدى المحافظ، اندلع حريق في زاريتشا
– أيكون ذلك هو ما حدث في المكان الذي تلألأت فيه الأضواء، التي رأيتها
من نافذة عربة القطار، هل وقعت هناك، في زاريتشا؟ ومن الحفل مباشرة،
ومن كافة أطراف المدينة هرع الناس نحو الحريق – هرعوا في جماعات كبيرة،
كما يحدث دائمًا عند اندلاع الحرائق، أما ستافروجين وليزا، الضحية
التالية لنزعاتهم الباردة المدبَّرة، فقد جاءا إلى هذا الحريق، كان
البيت الذي أمسكت به النيران (أليس هو بيت ليبيادكين؟) يشتعل، كما كانت
البيوت المجاورة أيضًا مشتعلة، وقد راحت أضواؤها البنغالية١٠ تقذف وهي تُقرقِع بقِطَع من الخشب متوهجة إلى حد الاحمرار
– أمسك ستافروجين بيدِ ليزا، التي كان وجهها شاحبًا، على الرغم من
الوهج الأحمر للنيران والقيظ الناشئ عن اللهب، كانت — بطبيعة الحال —
ترتجف قُبيل هذا الحريق، كانت ليزا قد سلَّمت نفسها للأمير، ومثل كافة
العذارى النبيلات كانت ترتعش بعدها، وراح وجهها يكسوه الشحوب – كما كان
مؤلف وبطل «مذكرات من العالم السفلي»، والقاصُّ في «المُذَلون
والمهانون»، وبطل «الليالي البيضاء»، وبطبيعة الحال ماكار ديفوشكين،١١ يحلمون، وهم يَصِرون على أسنانهم، بهذه الانتصارات –
الحريق هو عرض باهر أسطوري يختلط فيه العذاب بالمتعة – لَحْنان
متعارضان في رواية واحدة تقريبًا – في المقاربات الخاصة بهذين اللحنين
ارتقت الكاتدرائية — بطبيعة الحال — وسط ساحتها، أدخل اليهودي ليامشين١٢ فأرًا خلف زجاج أيقونة أم الرب الكازانية، المثبَّتة في
الحائط بالقرب من المدخل الرئيس للكاتدرائية، بعد أن حطم جزءًا من
الزجاج مسبقًا، وفي اليوم التالي حضر إلى الكاتدرائية كافة مواطني
المدينة الكبيرة من الأشراف، وقفوا طويلًا صامتين، لكن الأمر الهام في
هذا — على الأرجح — انعكس في التسامح العظيم للأرثوذوكسية، وربما حتى
في رسالتها المكرَّسة لهذا التسامح، أما اليهودي ليامشين، فقد راح
يُسلي الضيوف؛ عندما اجتمعت «جماعتنا» عزف على البيانو بمهارة، قَلَّد
البط والخنازير، كما راح يحاكي مُختلِف كبار القوم، وحتى إنه — على
الأرجح — راح يتكلف ويجعل من نفسه مهرجًا، وبعد انتهاء الحريق، وفي
لحظة المعارضة اللحنية وقع مصرع شاتوف،١٣ بطريقة وحشية وهيستيرية، في مكان قصيٍّ مُكْفهرٍّ من حديقة
ستافروجين، في مساء خريفي غائم بالقرب من كهف يقع على ضفة مستنقع – بعد
ذلك وطوال اليوم التالي راح يرتعش من الخوف، دون أن يخرج من أسفل
ملاءته، متصنعًا دور المريض، متظاهرًا عازمًا على الخداع – أما الرجل
الذي كان معتقلًا بالأمس القريب، والعائد لتوِّه من سيميالاتينسك بشارب
مصبوغ ومعطف بالٍ يرفرف من أطرافه، فراح يركض من جانب إلى جانب آخر،
متشبثًا بياقات وأطراف السترات العسكرية والملابس الرسمية ذات النجوم،
مستعطفًا، متوسلًا، راجيًا، ناصبًا الفخاخ الماكرة، من أجل الحصول على
حق الإقامة في بطرسبورج حتى يواصل مسيرته الأدبية – كنت قريبًا من هذا
الكهف، الذي يقع، على أية حال، لا في تفير، وإنما في موسكو، في نفس
المنطقة التي كانت تُسمى بتروفسكو-رازوموفسكي، والتي تشغلها — الآن —
أكاديمية تميريازيف الزراعية السوفيتية، وتقع على ضفة البِركة، أو — إن
شئت الدقة — البُحيرة، بل حتى — على الأصح — حوض الماء الاصطناعي، حيث
توجد هناك الآن سلسلة من هذه الأحواض تقوم عليها أبراج للقفز في الماء،
ومَراسٍ للزوارق، وهذه الزوارق تجوب هذه الأحواض في كل الاتجاهات،
تتعالى فيها صرخات مَرِحة وضجيج مبحوح، صادر عن شباب حي تميريازيف في
العاصمة، الذين جاءوا إلى هنا للنزهة أو للتعرض لأشعة الشمس – انتصف
اليوم الصيفي، وفجأة احتشدت وبسرعة سحب بنفسجية اللون راحت تزحف، بينما
دوت الريح، وعلى الفور أسرعت الزوارق نحو المرسى، أما الذين كانوا
يستمتعون بالشمس، فقد أخذوا في ارتداء ملابسهم عائدين إلى بيوتهم على
عجل، وقد بادر المراهقون، الذين كانوا يلعبون الكرة فوق سطح الكهف
بالهبوط، كان مدخل الكهف ذا أعمدة، وله سياج حديدي لمنع الناس من
الدخول إليه، على أنه — وفي عمق الكهف — كانت تبدو في العتمة آثار
واضحة لحضور بشري؛ كان جانبا الكهف المائلان مفروشين بحصباء ضخمة، حتى
تضفي على الكهف زينة كبيرة – أصبح الجو مظلمًا، وكأن المساء قد هبط،
خُيِّل إليَّ أنني أستمع إلى قمم الأشجار وقد راحت تخشخش، مثلما حدث
ذلك في تلك الأمسية الخريفية التي قُتل فيها شاتوف، والتي سقط فيها
ليامشين في نوبة من الهيستيريا، راح يمسك خلالها بتلابيب الذين أحاطوا
بالقتيل مطلقًا صرخات رهيبة، حتى إنهم اضطُروا لربطه وحشر كمامة ما في
فمه، سقطت القطرات الأولى من المطر، وأنا أيضًا ركضتُ عبر ممر الحديقة
— على الأرجح — نحو باب الخروج، حتى أتمكن من الاختباء من العاصفة التي
اقتربت، من المحتمل أن شقيق أنَّا جريجوريفنا الطالب بأكاديمية
بتروفسكو رازوموفسكايا، كان يعيش في واحد من هذين أو من الثلاثة مبانٍ
ذات الأعمدة، التي تطلُّ ظهورها على الحديقة، بينما تطل واجهتها على
الشارع – لقد جاءت إليه هنا في يوم من تلك الأيام، التي كانت تقضيها مع
زوجها في موسكو، بعد الزفاف مباشرة، وكانا قد نزلا في فندق ديوسو،
آنذاك كانا يذهبان لزيارة أخته التي كانت تسكن في ستاريا باسمانَّايا،
وعندما جلست أنَّا جريجوريفنا على الكرسي، وقد خفضت بصرها، راحت تحاول
على نحو مبالغ فيه في تسوية ثنيات تنورتها، أما الصاري الذي كانت تتشبث
به، فقد بدا لها أنه راح يُفلِت من يديها، كان أخوها، كما وصفته،
شابًّا بشوشًا، أنيقَ المظهر، متوردَ الوجه، أشقرَ، مرحًا – باختصار؛
هذا الدم الروسي الممتزج بالحليب – أطالت الجلوس في ضيافته أطول من
الزمن المقدر؛ ذلك لأن الطلاب راحوا يتوافدون على غرفته دون انقطاع،
جماعة وراء الأخرى، وقد غلبهم الاهتمام بزوجة مؤلف «الجريمة والعقاب»،
هذا على الأقل ما راحت تحكيه، استمر النادل يحضر سماور تلو الآخر،
بينما كان فيديا في هذا الوقت يقف عند مفرق الطريق بالقرب من فندق
ديوسو، وفي عتمة المساء الشتوي، الذي حلَّ وهي لا تزال جالسة عند
أخيها، راح يحملق في السيدات وفي الناس، الذين كانوا يستقلُّون عربات
الحنطور – أما الأمر الذي لا يزال غامضًا فهو إذا كان قد رأى في يوم ما
هذا الكهف أم لا – كان القطار قد تحرك منذ فترة طويلة، تاركًا وراءه في
مكان ما النيران المتوهجة في السديم الثلجي عند مدينة كالينين، والتي
راح أُوارها يزداد كلما ازدادت سرعة الاهتزاز الجانبي للقطار – من جانب
إلى آخر، حتى إنني اضطُررت إلى الإمساك بالكتاب حتى لا ينزلق، وهناك،
في الكتاب، كان ثمة قطار آخر، كان قد غادر بعرباته، التي لم أشاهدها
إطلاقًا، عربات منخفضة، تشبه عربات القطارات الأجنبية التي تسافر إلى
بودابست أو بلجراد وقد كُتب عليها Vagon
letti (عربة صيفية)، وهي عربات ليست مصنوعة بالكامل من
المعدن، وإنما من الخشب، لها أبواب عديدة، كل واحد منها يقودك إلى
مقصورة منفصلة، أو إلى ديوان ذي أريكتين متقابلتين ليِّنتين، مكسوُّتين
بالمُخمَل، تهتزان في نعومة على إيقاع حركة البساتم في القطار، الذي
كان ينطلق بسرعة عربة بريد تجرُّها ثلاثة خيول – على كل أريكة تجلس
ثلاث سيدات وسادة، يضعون على رُكبهم صناديق كرتونية مستديرة، وتقبع
حقائب سفرهم في الشِّبَاك – الرجال يعتمرون قبعات أسطوانية ويمسكون في
أيديهم بعِصيٍّ، والنساء يعتمرن قبعات عالية ذات ريش ولها حوافُّ
عريضة، يُسدِلن على وجوههن خُمرًا، ويضعن وشاحًا قصيرًا للطريق – ما إن
غادر فيديا مكانه لبرهة إلى مكان ما حتى جلس في مكانه ألماني ما، فريتز
– كان مسافرًا بصحبة أخته، امرأة عجوز، كان يعاملها بلطف شديد، لكنه لم
يُرِد أن يتنازل عن المكان، وأكَّد أن فيديا لم يضع حاجياته على
المقعد، كما ينبغي، حتى يتم اعتبار المكان مشغولًا، وإنما وضعها بعيدًا
في الشبكة – عاد فيديا وأعلن أنه لن يتنازل عن مكانه، ولكنه جلس بالقرب
من النافذة في مكان العجوز، الذي اتضح أنه خالٍ لسبب ما (ربما تكون
العجوز قد خرجت؟) تم استدعاء المحصِّل، وهنا صعد الدم إلى وجه
الألماني، مثل كافة الألمان عندما يبدءون في التذمر أو الغضب، وقال إن
هذا «حقُّه»، وإنه لن يتنازل عن مكانه، لكنه بعد ذلك ولسبب ما جلس في
مكان آخر، إلى جوار أنَّا جريجوريفنا، لكنه دخل في صدام مرة أخرى إلى
أن تبادلوا الأماكن على نحو ما بحيث وصلوا إلى حل يرضي الجميع – سافر
الزوجان دستويفسكي من درزدن إلى بادن، حيث كان فيديا يعتزم أن يربح في
القمار مبلغًا كبيرًا؛ حتى يتمكن من سداد ديونه – قبل ذلك كان قد سافر
من درزدن إلى هامبورج، تاركًا أنَّا جريجوريفنا في رعاية مدام زيمرمان،
التي ذهبت ذات مرة مع أنَّا جريجوريفنا في رحلة بالباخرة في نهر إلبا،
لكن أنَّا جريجوريفنا شعرت بالوحدة أكثر، شاهدت أطلال القلاع القديمة،
وكانت تذهب عدة مرات في اليوم الواحد إلى مكتب البريد وإلى محطة
القطار، لكن فيديا لم يأتِ، وكتب لها يقول إنه سوف يتأخر يومًا آخر،
وطلب منها أن ترسل له نقودًا – كانت تسير بخفة، على الرغم من أنها كانت
قد تقيأت، وكان قبل سفره، وحتى قبل أن يبدآ سباحتهما، قد تحدثا عن ميشا
القادم، أو سونيا القادمة – كان ذلك قد تقرر بصورة نهائية، وعشيَّةَ
وصوله قادمًا من هامبورج فتحت عن غير قصد (وربما عن قصد) خطابًا
أرسلَتْه تلك المرأة التي جاء بصحبتها — منذ عدة أعوام خَلَت — إلى نفس
هذه الأماكن، ليذهبا معًا بعد ذلك إلى إيطاليا وباريس، حيث كان يلعب
فيهما القمار، وقد حملت البطلة الرئيسة لرواية «المقامر» اسم هذه
المرأة، وهي الرواية التي كان يمليها عليها آنذاك، في الشهر الأول من
تعارفهما كانت تحاول الكتابة بأسرع ما تستطيع، ثم تمضي لتستكمل عملها
بعد ذلك مساءً، في بيتها، جالسة حتى ساعة متأخرة من الليل، كانت تعيد
كتابة كل شيء، حتى يستطيع أن يقرأه في اليوم التالي – كان من الضروري
أن تنجز هذا العمل قُبيل نهاية الشهر حتى لا يقع تحت رحمة الناشر
ستيلوفسكي، وبفضل ما قدمته من مساعدة، استطاع أن يُنهِي كل شيء في
الموعد المحدَّد ليتجنب هذا المصير – مدموازيل بالينا١٤ كانت، بطبيعة الحال، فتاة عسيرة المنال، تميزت على وجه
الخصوص بسلوكها الأرستقراطي، وبقدرتها على التجاهل، كانت كرامتها
مُهانة، سقيمة على نحو ما، لكنها كانت تمتلك مع ذلك شخصية قوية، كانت
أقلام أنَّا جريجوريفنا الرصاص تتقصف، وكانت تشعر بالخجل عندما يلقي
بنظراته عليها، فكانت تُصلِح من حواشي تنورتها، الأقرب إلى تنورات
تلميذات المدارس الثانوية، وهي غارقة في الحرج، بينما كان صوتها ينخفض
عندما تسأله عن شيء ما، وفي هذا الوقت كان الربيب يختلس النظر إليهما،
وهما يعملان في غرفة المكتب، وقد ارتدى ملابس رثَّة، وبدا صدره عاريًا،
ظاهرًا من تحت قميص قذر، ملوثًا بشيء ما، وقد عَلَت وجهَه ابتسامةٌ
وقحة، أما بالينا فكانت في ذلك الوقت تُحلِّق في مكان شاهق لا يمكن
الوصول إليه، وقد ركع عند قدميها، مستعدًا لأن يُقبِّل آثار حذائها، ها
هي الآن تظهر من جديد، لا في الرواية، وإنما كواقع حي مجهول تمامًا
بالنسبة إلى أنَّا جريجوريفنا، وبخط يدها، لتشعر مرة أخرى كيف راح
الصاري ينفلت من بين يديها، راحت تخطو في الغرفة إلى الأمام وإلى
الخلف، وقد ضمَّت يديها إلى فَوْديها، كأن صراعًا حلَّ برأسها، وكأن
عليها أن تتخذ قرارًا ما مُلحًّا – كانت تُسمِّيها في هذا الخطاب
بأنَّا جريجوريفنا بريلكينا، مع أن اسم عائلتها هو سنيتكينا، وفي هذا
التهجِّي على هذا النحو كان هناك شيء مهين، مُحتقِر بشكل خاص، وكأن هذا
العالم ليس به سوى بالينا واحدة – واحدة هي الأهم، أما أنَّا
جريجوريفنا فبَدَت عائقًا في طريقها، ناهيك عن أنه عائقٌ ما، لا قيمة
له، شيء لا يستحق أن تأخذه على محمل الجِد، شيء أشبه ببِركة قذرة أو
مستنقع تافهٍ يمكن تخطِّيه ببساطة – وضعت خطابها على مكتبه وسط
الخطابات الأخرى، وكأنه لا يعني بالنسبة إليها شيئًا أكثر مما تعنيه
باقي الخطابات، وعندما قابلَتْه، أخيرًا، في محطة القطارات، ليعودا
معًا إلى البيت، وقد تأبط ذراعها بحرص، راح ينظر إليها باهتمام، وكأنه
يحاول أن يكتشف تغيرًا ما طرأ عليها، تغيرًا يمكن أن يكون قد حدث لها
أثناء غيابه – سارا معًا، وقد حمل حقيبة السفر، وقد كسا وجهَه غبارُ
الطريق، كما اتسخت ياقته وصدر قميصه، بينما راحت تفكر كيف أنها وبعد أن
يصلا إلى المنزل سوف تقوم بغسل وكيِّ ملابسه – طوال سيرهما كانت قد
نسيت بشكل ما أمر ذلك الخطاب، ولكنه عندما جلس إلى مكتبه وراح يقلِّب
في خطاباته، أسندت ظهرها إلى قائم الباب وأمسكت به بيديها من وراء
ظهرها، متشبثة به حتى لا تسقط، كان عليها أن تنظر لترى بأم عينيها، على
أي نحو سوف يقرأ هذا الخطاب، فضَّ الخطابَ، وعلى الفور تقدَّم بجسده
كله إلى الأمام، لقد سافر إلى باريس ليذهب من فوره إلى الفندق، وهناك
خرجت إليه بضفيرتها الشقراء الداكنة، الملتفَّة حول رأسها، مرتدية
ثوبًا طويلًا، هوى عند قدميها؛ لأنه رأى في عينيها أن أمرًا ما قد وقع،
وقد أخبرته أن ذلك ما يفعلونه في الروايات العاطفية فقط، وأنها أحبَّت
شخصًا آخر، وأن هذا الآخر هو إسباني وسيم، مثل الذين يصورونهم على
أغلفة مجلات الموضة، ذو شعر أسود ضارب إلى الزرقة ينسدل على كتفيه،
وعيون زرقاء، وأسنان بيضاء خلَّابة، أرستقراطي يَرفُل في النعيم، شخص
غارق ببساطة في الملذات، وقد استطاع أن يهجرها، لكن فيديا كان على
استعداد أن يفعل أي شيء من أجلها، وتوسل إليها أن تذهب معه – عاشا في
الفنادق في غرفتين متجاورتين، سافرا معًا في نفس القطار جنبًا إلى جنب،
سكنا قَمَرة واحدة في الباخرة، لكن كل منهما أقسم للآخر أنهما سيكونان
صديقين فحسب – كان هو، بالأحرى، الذي اقترح عليها ذلك، مدركًا مسبقًا
عبثية الأمر، آملًا ومؤمنًا في قرارة نفسه في أمر آخر، على أن هذا
الأمر الآخر لم يقع، وإنما ظهر في أحلامه، لقد رأى فيما يرى النائم
أنهما راحا يسبحان في اتجاه ما، بعيدًا نحو الأفق الأزرق، رافعَين
أيديهما في إيقاع رتيب، متنفِّسَين في وقت واحد – نَفَسها هو نَفَسه،
ولكنه وبعد أن هبَّ من نومه إذا به يجد نفسه جالسًا على الشاطئ في وضع
غير ملائم، بينما اختفت هي تمامًا، فإما أنها اختبأت في مكان ما وراء
الأفق، وإما أنها لم تنزل إلى المياه عمومًا – هرع عائدًا إلى الغرفة،
دخل دون أن يقرع الباب، آملًا في شيء ما – استقبلته في رداء صباحي
فضفاض، وبعطف، مثل ملكة، مدَّت له يدها – لم تكن قد أعادت ترتيب فراشها
بعد، ولثانية من الوقت، وبعد أن أغلق عينيه، تخيل نفسه مرة أخرى وهو
يسبح معها، لكن شمس إيطاليا الحارقة نَفَذت من خلال الستائر المغلقة
دون إحكام، لتصل إلى سمعه أصوات الباعة المفعمة بالحيوية ودبيب
المركبات من الشارع – انتهى الصياح على لا شيء، وها هو النهار يُوغِل
في التقدم، لتشتدَّ قسوة الشمس ذاتها، لكن الأكثر قسوة كانت الرحلة في
قَمَرة واحدة، فبعد أن استيقظ من أضغاث أحلامه ميَّز في غَبَش السَّحَر
شبح جسدها، وقد ارتسمت خطوطه تحت الغطاء الوبري الناعم – ذات مرة، وقد
ارتدى رداءه المنزلي، جلس إلى جوارها – قامت من مكانها سابحة في شعرها،
ثم راحت تدفعه، أما هو فالْتَصق بالغطاء، الذي كان يغطي ركبتيها، وأراد
يُقبِّل الغطاء، عندئذٍ قالت له إنها ستنادي على الخادمة، وإذا به
ينزلق على نحو ما ليقع بكل ثقله على السجادة، إلى جوار أريكتها، تمايلت
الباخرة قليلًا، وعَبْر الكوة تَناهَى إلى سمعهما صياحُ طائر النورس –
فوق سطح الباخرة، وفي المطعم كانوا ينظرون إليهما باعتبارهما عاشقَين
رحَّالَين، راح يُقبِّل طرف الملاءة، التي انزلقت من الفراش – صرخت فيه
قائلة: «لقد جُننتَ!» – جلستْ مستندة إلى ظهر الأريكة، مُسدِلة شعرها،
وقد فتحت عينيها من الفزع على نحو يعيد إلى الذاكرة الأميرة تاراكانوفا،١٥ وكأن الماء سوف يندفع إلى القَمَرة – عندما أحس بالخوف في
عينيها راح يُقبِّل السجادة، وهو راقد على الأرض، بدا كل شيء كما لو
كان ينحدر من جبل وكأن إيقافه بات مستحيلًا، وبسبب هذا السقوط تقطعت
أنفاسه – كان عليها أن تخطو فوقه – كان هذا ما يريده فحسب؛ لأنه كان من
الضروري أن ينحدر إلى أسفل حتى النهاية – كان يرى ذاته عن بُعد –
راقدًا في الليل على أرضية القَمَرة في ردائه مُنكبًّا على وجهه، كهلًا
يسيل الزَّبَد على شفتيه – زد على ذلك؛ ألمْ يفقد وعيه لبرهة من الزمن،
وإلا من أين جاء هذا الزَّبَد؟! – كانت يداه الممسكتان بالخطاب ترتعشان
قليلًا، وقد راح يقرأ السطور التي كتبتها بيدها – كانت أنَّا
جريجوريفنا تمسك بقائم الباب حتى سرى الألم في أصابعها، وقد بدا لها أن
الغرفة — الآن — تتمايل، وأنها على وشك السقوط – كان القطار ينطلق في
خط حديدي ضيق، متعرجًا على نحو عجيب بين التلال المستديرة، المغطاة
بغابات خضراء داكنة من أشجار الزان والدردار وغيرها من الأشجار، التي
تشتهر بها مناطق وسط ألمانيا ومرتفعاتها – شفارتسفالد، وتيورينجن أو —
ربما — جبال أخرى – قطار صغير مكوَّن من عربات صغيرة تجرُّه أيضًا
قاطرة صغيرة ذات عجلات ومكابح حمراء ومدخنة طويلة، مثل هذه القطارات
يصورونها الآن على طوابع البريد في مجموعات خاصة، مكرِّسة لتاريخ بناء
القطارات – وفي واحدة من هذه العربات — التي تشبه إلى حدٍّ كبير سكك
حديد الأطفال — سافر في الدرجة الثانية رجل تجاوز سن الشباب، يرتدي
حُلة داكنة على الطراز البرليني، له وجه روسي ساذج، أصلع ذو لحية شقراء
مائلة إلى اللون الرمادي، تجلس إلى جواره امرأة شابة، تشبه — على نحو
ما — طالبة في المدرسة الثانوية، لكن نظرتها كانت ثقيلة مُقطِّبة،
تعتمر قبعة، وترتدي وِشاحًا قصيرًا، وعلى ركبتيها صندوق من الورق
المقوَّى، كان النعاس يغالبها بين الفينة والفينة، بل وكانت تستغرق
أحيانًا في النوم إن شئت الدقة، أمالت برأسها على كتف زوجها، الذي راح
يرمقها شزرًا، كان يتأمل وجهها من حين إلى آخر باهتمام وريبة وكأنه
يحاول أن يطالع فيه شيئًا ما – لقد رأيت وجهه منذ زمن غير بعيد في معرض
للصور لواحد من الفنانين المعروفين، كان مرسومًا في الزاوية العليا إلى
اليسار في اللوحة، التي وقف بالقرب منها على وجه الخصوص جمع غفير، حتى
إن الجزء الأسفل من هذه اللوحة كان محجوبًا عني، على أية حال فقد شققت
طريقي إلى الأمام، ورأيت ما كنت أتوقع أن أراه بناءً على حكايات الذين
شاهدوا هذه اللوحة؛ ثلاثة خنازير سمينة، لونها وردي، وقد رُسمت في
الوقت نفسه على طريقة الإعلانات إلى حد ما، على هذا النحو تحديدًا
كانوا يرسمونها في أي لوحة مكرسة للمتفوقين في الإنتاج في حظائر
الخنازير، وعلى مسافة غير بعيدة من هذه الخنازير، إلى أعلى إن شئت
الدقة، كان شيء ما يرقد، شيء لا هو بدون رأس، ولا هو جثة غارقة في
الدم، ثم أعلى قليلًا — وهو ما كان يمكن رؤيته عن بُعد، دون الحاجة لأن
تنحشر في الأمام — مائدة طويلة عليها بقايا وليمة؛ أقداح مليئة بسائل
أحمر كثيف، لا بد أنه يعني الدم بالضرورة، ثم أعلى اللوحة — ولكن على
الجانب الأيسر، أي على نحو أقرب من وجه مؤلف رواية «الشياطين» — رجل
أسود الشعر، هجين غريب من أبطال الإنتاج، ثم رجل آخر يجرُّ محراثًا،
بينما استند شاب دون قميص على ركبتيه، حافيًا يرتدي سروالًا من الجينز،
هو أيضًا ذو وجه لا يبدو وجه بطل من أبطال الإنتاج، ولا هو ابن بلد،
أما على يسار اللوحة، من أعلى، وخلف خط شبه دائري، يبدو شيء ما ينبغي
أن يعني — على ما يبدو — ما يشبه الهالة، التي يرسمونها في العادة حول
القديسين، وخلف هذا الخط احتشدت زُمرة من الروس رفيعي الشأن؛ لومونوسوف١٦ وبطرس الأول١٧ يضعان على رأسيهما باروكات، وسالتيكوف-شيدرين،١٨ وليف تولستوي، ثم شخص آخر، وفي وسط هؤلاء يقف مؤلف
«الشياطين»، ثم أشباح لها وجوه باهتة، كأنها قادمة من صفحات كتب
التلاميذ المدرسية – كانت اللوحة تحمل اسم «عودة الابن الضال»، وإلى
جوارها عُلِّقت لافتة صغيرة كُتب عليها بخط كبيرٍ تفسيرٌ لما أراد
الفنان أن يعبِّر عنه في عمله تجنبًا لأي تأويل منحرف – كان الجمهور
يحاصر هذه الصورة، التي تشغل نصف الحائط، في الحقيقة لم تكن هذه مجرد
صورة، وإنما لوحة كاملة، تشبه لوحة «تجلِّي المسيح على الشعب»،١٩ وخلف هذا الجمهور كان هناك بعض الأشخاص ذَوو الوجوه
البسيطة يمشون جيئة وذهابًا – ومن بين الذين يذبحون الكِباش، بدا واحد
منهم تحت تأثير الخمر، جيبه منتفخ، وقد اختبأت بداخله، على الأرجح،
زجاجة خمر – كان يتحدث مع الجميع مُلوِّحًا بيديه، مشيرًا بإصبَعه في
اتجاه اللوحة، وبينما أنا ناظر إلى كتفَي صاحب الجينز الراكع على
قدميه، لاحت أمامي — من غير قصد — كَتِفا الراكع على قدميه أمام الأب
في لوحة رامبرندت «الابن الضال»، ضخمة، غير مستوية، تمثل مركزًا
للَّوحة – كان قطار السكة الحديد الصغير، المغطَّى بسُحب الدخان،
المندفعة من المدخنة الطويلة للقاطرة، لا يزال في هذا الوقت يواصل
طريقه المتعرج بين شفارتسفالد وتيورينجين – كان من الممكن للمرء أن
يحتويه كله بين يديه بكل عرباته وركابه، كما كان جليفر يفعل مع
الأقزام؛ ليطلق هؤلاء البشر الصغار بعد ذلك ليسيروا فوق المائدة، ثم
يروح يتسلى بهم، فينفخهم نفخًا خفيفًا، كما ينفخ شمعة يريد إطفاءها –
وكما لو كانت تنقلب من أثر هذه العاصفة، مثل نملة في عش للنمل يدفعها
أحد بعصًا ما، أو حتى بمجرد عود ثقاب، انتبهَتْ أنَّا جريجوريفنا من
غفوتها لتنظر عبر النافذة، لتشاهد التلال والجبال المغطاة بالنباتات
الخضراء الداكنة، على القمم أو على المنحدرات وقد راحت تلوح باللون
الأبيض ثم الأحمر، أو تكتسب لونًا ورديًّا، تبعًا للون الحجر، أو ساعة
النهار ودرجة الضوء، كانت هناك قلاع ملكية في السابق ذات أبراج
مُسنَّنة على هذا النحو تحديدًا كانت تتخيلها كما شاهدتها في الصور
المعلَّقة في غرفتهما في الفندق، ومن الغابة المظلمة، التي تغطي
منحدرات الجبال، خرجت عربات التروللي الخرافية، التي كانت تعزف على
النايات، ومن سفح إلى سفح دوَّت أغاني منطقة تيرول بإيقاعات ثلاثية، مع
التشديد على الإيقاع الثالث «آه-لُو-لُو! آه-لُو-لُو!» مع تنويع في
اللحن وتكراره، تمامًا مثل صدًى في الجبال، وعند سفوح التلال كانت
الغُدران الألمانية الهادئة تتدفق، وعلى ضفافها راحت قطعان الأبقار
السمينة والأغنام ترعى، بينما راحت المدن ببيوتها ذات القمم الحادة
المبنية من القرميد الأحمر وأبراجها على الطراز القوطي تسبح – وفي
شوارع هذه المدن كان الناس يتنزهون دون عجلة وهم يدقون الأرض الحجرية
بأحذيتهم الثقيلة – كم من مرة قامت أنَّا جريجوريفنا وفيديا باستبدال
قطار بآخر، تارة بالنهار، وتارة أخرى بالليل – كان فيديا يأخذ أنَّا
جريجوريفنا إلى الحمَّام المخصَّص للسيدات؛ إذ كانت تشعر بالغثيان، وقد
تقيأت ذات مرة – ليبتسيج، فارسبورج، فرانكفورت – وفي فرانكفورت نزلا في
أحد الفنادق لا يبعد عن محطة القطارات سوى خطوتين، وهناك طلبا حساءً
وكُراتٍ من لحم العِجل، ثم ذهبا بعدها لمشاهدة المدينة – دخلا إلى شارع
Langestrasse، الذي يبدأ بممر كبير،
على جانبيه صفان من أشجار ذات زهور بيضاء، شرح لهما أحد الألمان —
ردًّا على سؤالهما — أن هذه شجرة الأكاسيا البيضاء – كانت أنَّا
جريجوريفنا ترى للمرة الأولى شجرة أكاسيا بيضاء مزهرة، وقد أُعجبت بها
كثيرًا – بعدها وجدا نفسَيهما في شارع كبير يشبه شارع نيفسكي به كثير
من المحالِّ، اشتريا صحيفة «جرس» هيرتسن،٢٠ لكنها كلَّفتهما ثمنًا باهظًا؛ أربعة وخمسون كريتسر، بعدها
اشترى فيديا لنفسه ربطة عنق، في البداية وقع اختياره على واحدة وردية
اللون ذات خطوط عريضة، لكنه غيَّر رأيه وأخذ واحدة زرقاء منقطة بلغ
ثمنها ثلاثة فلورينات وخمسة عشر كريتسر، لكن أنَّا جريجوريفنا رأت أنه
لا توجد في هذا المحل ربطات عنق مناسبة، فهي إما رفيعة وإما عريضة، إما
غير جيدة على وجه العموم، وقد شاهدا في محل آخر قبعات لطيفة جدًّا، لأن
فيديا كان يؤكد طوال الوقت أن أنَّا جريجوريفنا بحاجة لقبعة جديدة –
سارا في شارع طويل حار، كان خاليًا من المارة في هذا الوقت، وكانت
نوافذ البيوت موصدة كلها تقريبًا، حتى بدت المدينة مهجورة، ثم عرَّجا
على شوارع جانبية، ليخرجا منها إلى كورنيش نهر الماين الذي كان يشبه
مرة أخرى إلى حد كبير نهر الماين المرسوم في اللوحة المُعلَّقة في غرفة
الاستقبال في بيت أنَّا جريجوريفنا – وبعد أن عادا إلى الشارع الشبيه
بشارع نيفسكي؛ عرَّجا من جديد على نفس المحل، حيث اشترت منه أنَّا
جريجوريفنا ربطة عنق بنفسجية بفلورينين اثنين واثني عشر كريتسر، ثم
جرَّبت قبعة من القش ذات ريشة بنفسجية، غاية في الأناقة، كانت قد راقت
لها من قبل عندما مرَّا بهذا الشارع في المرة الأولى بالقرب من هذا
المحل، لكنها لم تملك الشجاعة وقتها لتطلب من فيديا أن يدخلاه؛ إذ كان
طوال الوقت متعجلًا الذهاب إلى مكان ما، وقد تبيَّن أن سعر هذه القبعة
يبلغ عشرين فلورينًا – ثمن مخيف إذا ما قُورِن ببساطة بالأسعار في
درزدن، وعلى الرغم من ذلك فقد انحنى فيديا راجيًا الفتاة الفرنسية،
التي كانت تعرض عليهما القبعات، أن تبيع لهما القبعة؛ لأنها — على
الأرجح — تصورت أنهما غريبان جِلْفان، حتى إنها أجابت بوقاحة، كان من
الواضح أنهما ليسا جِلْفين على الإطلاق، قالت عدة مرات «حسنًا» بلغة
روسية ركيكة؛ الأمر الذي أثار في النهاية غضب فيديا ليجيء رد فعله
حادًّا، فما كان منه إلا أن أعرض عن شراء القبعة، ليخرجا من المحل
ليعودا من جديد للتجول في الشوارع، بعدها مرَّا بمحل للزهور، ليقضيا
وقتًا طويلًا ينتقيان فيه الزهور؛ لأنها كانت جميعها في حالة سيئة –
وفي نهاية الأمر اشتريا مع ذلك زهرتين بلغ سعر الواحدة ثمانية عشر
كريتسر – بعد مائة عام ونيِّف يصل إلى مطار هذه المدينة — في حراسة
ثمانية موظفين يحملون مسدسات في جيوبهم الخلفية، على متن طائرة
أيروفلوت، تأخرت رحلتها الدورية ساعتين، بسبب المباحثات التليفونية
التي استغرقت وقتًا طويلًا، والتي دارت بين إدارة سجن ليفورتوفسكايا،
الذي يقع في مبنى المخابرات في ميدان لوبايانكا، وسلطات المطار
والممثلين الدبلوماسيين في بون — شخص متوسط القامة، يرتدي معطفًا من
الفرو، ذو لحية، بدا بسببها متقدمًا في العمر، تمتدُّ على جبينه
تجعيدتان طويلتان حزينتان، لا يزال شعره بحالة جيدة، يحمل في يده طاقية
من الفرو لها طَرَفان لتغطية الأذنين – هبط على السلم برفقة الحرس،
وكأنه رئيس دولة، بينما اصطفَّت في الأسفل في نصف دائرة على مسافة لا
يُستهان بها كاميرات التصوير والتليفزيون والسينما والمراسلون، راحت
آلات التصوير تُطقطِق وتئزُّ، وبعدما نزل وراح يخطو على الأسفلت أخذ
هذا الزحام في الالتفاف حوله، لتبدأ آلات التصوير في الطقطقة والأزيز
على نحو أكثر حدَّة، أما الذين كانوا يقفون في الصفوف الخلفية، فراحوا
يرفعون كاميراتهم مُمسكين إياها بأيدٍ ممدودة، مواصلين الطقطقة والأزيز
– عاد الحرس إلى الطائرة، ومن خلال الزحام الذي انشقَّ بصعوبة عند
ملاقاة الضيف، عبر الكاتب الألماني الشهير مرتديًا معطفًا رماديًّا
فاتحًا أنيقًا، وها هما يستقلان معًا سيارة ليموزين سوداء طويلة،
يملكها الكاتب الألماني، سارت عبر الطريق السريع الفسيح، المؤدي إلى
المدينة الواقعة على نهر الماين، على نفس الكورنيش، الذي كان الكاتب
الروسي وزوجته يتمشيان عبره لتوِّهما، بعد أن غادرا بطرسبورج في منتصف
شهر أبريل من عام ١٨٦٧م، وبعد عدة أيام سيرحل الضيف الهام، الذي سيقيم
في الخارج إلى الأبد، سيُحضِرون له زوجته الشابة إلى الطائرة – امرأة
شابة لديها طفلان – كانت أصغر منه بسنوات كثيرة، وقد قضت ليلتها في
فيلَّا الكاتب الألماني، كان أول شيء فَعَله الضيف الروسي هو أن مد يده
— بحكم العادة — ليحتضن زوجته، لكنه وجد إلى جواره فراغًا غريبًا بدلًا
منها – كانت في مكان ما هناك، بعيدًا عنه، ورأى كيف راحوا يكسرون
ذراعيها، طالبين منها أن تعترف، لكنها كانت مستعدة على الأرجح للقيام
بعمل آخر، عمل أكثر فظاعة، ولمجرد التفكير في إمكانية إقدامهما على فعل
هذا الأمر الآخر، بدأ قلبه يخفق، وضع الوسادة بعنف تحت رأسه، بعد أن
قَلَبها على جنبها الآخر؛ حتى يُبرِّد من حرارة وجهه، ثم عاد من جديد
ليستغرق في النوم، لكنه كان نومًا قهريًّا، وكأنه واقع تحت تأثير مخدر،
ليرى في الحلم كيف راحت يداها تلتفَّان حول رقبته، ثم ابتسامتها، وكيف
راحت تنظر إليه وقد ضَيَّقت عينيها برموشها الطويلة، بعد أن أبعدت
يديها عن رأسه ذي الشعر الكثيف – لقد حدث الأمر نفسه منذ عدة سنوات
خَلَت، بينما كان يردم الحفر؛ إذ كان يرى وجهًا آخر، وعندما سمحوا لها
ذات مرة بالذهاب إليه جلس معها في مقر الحرس، بينما راح الحارس يذرع
المكان جيئة وذهابًا وقد نفد صبره، أما هو فقد أمسك بها بكلتا يديه،
متصوِّرًا أن ذلك لم يكن سوى حلم؛ إذ لم يَبدُ مشابهًا للحقيقة بعد كل
هذه الأحلام الحقيقية، وطوال تلك السنوات، التي كان فيها هناك، كانت هي
تطوف على كل الجهات مُقدِّمة الالتماسات، واقفة في الطوابير؛ لكي تسلم
العرائض، ولكنه عندما عاد بدت له على نحو مختلف، لم يره عليها من قبل
في أحلامه، وإبان هذا اللقاء الوحيد أصبح الجلد حول عينيها مليئًا
بالتجاعيد، وظهرت الخصلات البيضاء في شعرها، وعندما قبَّلها رأى هذه
التجاعيد والخصلات البيضاء، حتى بعد أن أغمض عينيه، وفي الشارع لم
يتمالك نفسه من النظر إلى النساء دون توقف، ثم راح — عامدًا — يتتبعهن
بنظرة طويلة، بعضهن رُحن يتمهلن ثم يلتفتن إليه، ومع ذلك كانت ترى أن
من الضروري أن يقيم حياته على نحو آخر، وفي هذا الوقت ظهرت هذه المرأة
بعينيها العذبتين الضيقتين وشعرها الكثيف المنسدل على كتفيها، كانت
امرأة ليِّنة العريكة على نحو غير عادي، تتميز بالخفة، وهو ما انعكس
على جسدها – كان يقفز دائمًا على نحو ما يفتقد إلى الرشاقة إلى سُلم
الترام أو الحافلة، بينما كان يشعر بالرشاقة وهو يعمل، وكانت الكلمات
تأتي إليه طوعًا، دقيقة وباهرة – لقد تبيَّن أن هذه المرأة المُسنَّة
ذات الشعر الأشيب نزيلة في المستشفى، كان الأطباء يتحدثون في ارتباك
وقد توجهوا بأبصارهم نحو زاوية ما، مؤكدين أن ما تعاني منه هذه المرأة
إنما هو بسبب السن، وأنه أمر مؤقت وعابر – كانت تسير بخطًى سريعةٍ
قاطعةً ردهةَ المستشفى الطويلة من أولها إلى آخرها، ومن نافذة مُغطَّاة
بسياج خشبي، إلى أخرى، وقد ارتدَتْ نفس الرداء الذي يرتديه الآخرون،
وكانت تشعر أن الجميع يعرفون، ويرَوْن، ويفهمون، السبب وراء وجودها
هنا، أما هو فظل يواصل خُطبه ودعواته، وفَضْحه للأمور، ومناشداته،
كتابةً وشفاهةً، وكان هذا الفضح والمناشدة يزدادان حدَّة ولَددًا؛ لأن
الضحية كان يجب تعويضها بشيء ما، وكان لزامًا عليه أن يستخدم هذه
الحرية الداخلية، التي اكتسبها بفضل هذه الضحية قبل أن تنفد، بدا وكأنه
يستعين بحدَّة فَضْحه ومناشداته من أجل إخماد ألمه، كان يعتمد في
خُطَبه وفَضْحه في بعض الأحيان على هذا الكاتب الروسي، الذي كان يتنزه
لتوِّه هو وزوجه على كورنيش نهر الماين – بالمناسبة، فإن واحدة من
أفكار هذا الكاتب الروسي من القرن التاسع عشر كانت تتلخص في أنه من
المستحيل بناء السعادة، وحتى السعادة الإنسانية الشاملة، على حساب
معاناة الآخرين، ولو حياة إنسان واحد، هلاك إنسان واحد، وخاصة لو كانت
حياة طفل – الأطفال، وخاصة الفتيات، المتسولات، اللائي تعرضن للضرب أو
للانتهاك، كُن يخرجن من مكان ما من الظلام بأيادٍ ممدودة مرتعشة من بين
ضباب بطرسبورج الرطب في مكان ما بالقرب من جسر فوزنيسينسكي أو شارع
جوروخوفايا، تمامًا كما لو كُن يَسِرن على سُلم كهربائي، وقد أُلقي
عليهن الضوء للحظة خاطفة من كشَّاف مسرحي؛ لكي يختفين مرة أخرى في
الظلام مُستبدِلات بأشكالهن أشكالًا أخرى أكثر خنوعًا وأكثر عجرفة،
ولهذا فإنهن كن على استعداد، سواء بخوف أو دون خوف؛ لكي يهبن أنفسهن
للدنس – إنهن نيللي،٢١ التي تحررت على يد القاص من صاحبة البيت الفاسدة، التي
اعتزمت أن تبيعها لواحد من الشهوانيين، والتي تعيش — الآن — في غرفة
واحدة مع القاص على مقربة مُغوِية منه، ونيتوتشكا،٢٢ اليتيمة، العاشقة حد المرض في البداية لزوج أمها، ثم بعدها
لكاتيا، التي كانت تتعرى معها في الفراش، حتى إننا في غرفة كاتيا نتخيل
لا كاتيا، وإنما الفتاتان في ضباب لندن (وليس ضباب بطرسبورج في هذه
المرة) في رواية «مذكرات شتاء عن مشاعر صيف»، اللتان كانتا تمدان
أيديهما القذرة إلى المارة لمجرد أن يلتقطوها فحسب – وماتريوشا٢٣ الآتية من ركن من أركان بطرسبورج القذرة، التي اغتصبها
ستافروجين لينتحر بعدها شنقًا، ومرة أخرى يتراءى له ستافروجين في صورة
فوتوغرافية ما في أحد محالِّ فرانكفورت على نهر الماين، التي كان يتجول
في أرجائها الزوجان دستويفسكي منذ زمن غير بعيد، هذه الفتاة التي في
القبر هي التي حلم بها سفيدريجايلوف في الفندق ليلًا عشية انتحاره،
وكانت قد تعرضت أيضًا للانتهاك – تُرى هل حدث ذلك على يد سفيدريجايلوف؟
على يد ظل ستافروجين، هذا الحلم النقيض لفكرة من أبدعه، الحلم الذي
تجسد نصفه فقط، ثم ليغرق بعد ذلك – كل هؤلاء الفتيات – المراهقات، هذه
المخلوقات المدنسة، القادمة من كافة أرجاء المدينة القذرة، وآخرهن
يليزافيتا سميردياشايا المجنونة، التي كانت الخطيئة — على الأرجح —
أمرًا محببًا لها، فكلما كانت الضحية أكثر ضعفًا كانت المتعة التي تحصل
عليها أشد قوة، أما المرأة الفاسقة فتفعل كل ذلك على نحو أكثر تفننًا،
وكل هؤلاء الفتيات – المراهقات، «الحوريات»، اللائي تغنَّين بشكل صريح
بنابوكوف في روايته «لوليتا»، ألم يجئن إلى الدنيا من العالم السفلي
للكاتب؛ لكي يحررن ضمير مبدعهن من وطأة شيء ما غامض ومخيف؟ – وألَيس
لهذا كان قويًّا أيضًا حماس الفضح، الأمر الذي دعاه لأن يخمد في داخله
أية مشاعر أخرى؟ – ها هي ضواحي بادن تظهر خلف زجاج عربة القطار وقد
اكتنفها ضباب لم ينقشع بعد – كانت أنَّا جريجوريفنا نائمة، وقد مالت
برأسها على كتف زوجها – بينما راح هو يتأمل وجهها شزرًا بنظرة ثاقبة
مفعمة بالريبة والشك، هل أحبته هذه المرأة حقًّا؟ – عندما رآها في بيته
للمرة الأولى، بدا له أمرًا غير معقول أن هذه الفتاة الشابة، التي تبدو
تقريبًا تلميذة بالمدرسة الثانوية، لها وجه نَضِر يفيض طهرًا، وأنها
وبعد أن جاءت إليه وقد تورَّد هذا الوجه من برد الطريق، يمكن أن تبقى
في بيته إلى الأبد، وأن تصبح زوجًا له، وسوف يكون له الحق عندئذٍ، وفي
أي لحظة، أن يقترب منها وأن يُقبِّلها في رقبتها، في هذا المكان حيث
رفعت شعرها إلى أعلى، لكن فكرة أنها يمكن أن تصبح زوجًا له كانت قد
خطرت بباله لسبب ما للمرة الأولى عندما جلست إلى المائدة المستديرة،
على نحو جاد، في غرفة مكتبه، وقد مالت ميلًا خفيفًا برأسها، وهي تقوم
باختزال ما يمليه عليها بصوت خفيض – في هذا اليوم تعامل معها بغلظة
وجفاء، حتى لا يسمح لها بأن تشعر بأن بإمكانها أن تفرض سلطانها عليه،
وهو أمر كانت قد حققته بالفعل، ولكنه عندما راح يملي عليها من جديد،
راح يتخيل كيف جثا أمامها على ركبتيه في هذا الضوء المهتز لشمعة أوشكت
على الانطفاء وقد أخذ يقبِّل قدميها، بينما لم تعتزم هي مغادرة المكان؛
لأنها باتت زوجته، ها هو — الآن — قد أطفأ الشمعة؛ لينطلقا في سباحة
جنونية مبهجة، أصبح صوته أجشَّ، أغلق عينيه؛ حتى لا يرى أمامه هذه
الطالبة في المدرسة الثانوية، التي كان يحاول عمدًا أن يفكر فيها أو
يتجنب أن يطلق العنان لخياله؛ لأن الطالبات كن يشبهن في الوقت نفسه
طالبات المدارس الدينية – هل صحيح أنها أحبته بالفعل؟ أحيانًا كان
يتصور أن بساطتها كانت نوعًا من التكلف – تُرى هل شهرته هي التي
جذبتها؟ عندما كان في درزدن يُصوب في ميدان الرماية كانت تقف إلى جواره
مبتسمة ابتسامة خفيفة، كانت ترى أنه لن ينجح في التصويب، بل إنها قالت
له: «لن تنجح في التصويب»، قبله كان هناك ألماني يُصوب، وكان ينجح
دائمًا في إصابة الهدف؛ الأمر الذي دفع بالتركي الحديدي للظهور من تحت
الأرض – كانت تنظر بالإعجاب إلى الألماني وهو يصوب، وقد ألقى إليها
الألماني أيضًا بنظرات تحمل معاني عديدة، بينما قالت له: «لن تنجح في
التصويب»، لكنه أصاب الهدف من الطلقة الأولى، نكايةً بها، عندئذٍ قفز
التركي الحديدي في طربوشه المزركش من تحت الأرض، تمامًا مثلما حدث مع
الألماني، وهنا عاد إليها منتشيًا بالنصر ليقول لها بصوت مرتفع، صارخًا
تقريبًا: «ما رأيك؟ أصبت الهدف؟» وبعد كل طلقة صائبة كان يستدير نحوها
المرة تلو الأخرى وهو يصيح: «ما رأيك؟» – حتى إن الناس بدءوا في
الالتفات نحوهما، راح تعبير وجهها يزداد هلعًا وأسفًا على نحو ما، وهو
ما كان يزيده هياجًا فيصيح بصوت أعلى: «ما رأيك؟» – التفَّ الحاضرون
حولهما، أما وجهها فأصبح قبيحًا، بل إن جبهتها كانت تمتقع اصفرارًا
كلما استدار نحوها وهو يطلق صيحة انتصاره «ما رأيك؟» – في هذه اللحظة
كان يود لو أنها وصلت بأسرع ما يمكن إلى سن الشيخوخة وأن تصبح دميمة،
وأن يتوقف الرجال، الذين على شاكلة هذا الألماني، عن النظر إليها، وأن
تفقد سلطانها عليه – من المرجَّح أنها كانت في خطاباتها إلى أقاربها
تسخر منه، وحتى — ربما — تحكي لهم أشياء ما وقحة عن سباحتهما – أحيانًا
ما كانت تتظاهر بأنها يَقِظة، لكنه كان يعرف، من نبرة صوتها، أنها قد
نامت – معقول أنه لم يكن باستطاعتها أن تجلس إلى جانبه في هذه السويعات
المسائية، عندما كان يظن ظنًّا حسنًا أنها ستجلس إلى جوار مكتبه؟ كانت
— حتمًا — تغادر المكان إلى الغرفة الأخرى، وكان يعلم أنها قد استغرقت
في النوم على الأرجح، ولكنه عندما كان يدخل إليها، ويبدأ في هزها من
كتفها حتى تستيقظ، كانت تؤكد له أنها لم تنم، على الرغم من أن عينيها
كانتا تتغامضان، وهذا الكذب المكشوف كان أكثر ما يدفعه إلى الجنون –
إنها ببساطة لا ترغب في الجلوس معه، بينما كانت تتسامر بحيوية مع مدام
زيمرمان، هذه الألمانية الثرثارة فارغة الرأس، فتتحدثان عن مختلف أشكال
الدانتيلا وغيرها من الأمور التافهة – ذات مرة راح يكذِّبها المرة تلو
الأخرى، بقولها إنها كانت نائمة، وهي تعارضه، كما كان يحدث دائمًا،
وأنها لم تكن نائمة، لكنها جاءت إليه على أية حال في غرفة مكتبه وجلست
بجوار مائدته المستديرة، أشاح بوجهه عنها، لكنه أحس أن عينيها تنعسان،
وأنها تغالب النوم – لم يكن يرغب في أن تسدي له جميلًا – آنذاك كان
حوذي يمر خلف النافذة، وقد راحت حدوات حصانه تدق أحجار الشارع، وفي
مكان ما بعيد خلف أسطح البيوت الحادَّة المبنية بالقرميد الأحمر، كانت
الشمس تميل نحو الغروب، أربكته فكرة أن هناك شيئًا ما غريبًا، وقد
خامرته فكرة أنها هي هذا الغريب، وأنها تعيش معه على غير إرادتها،
وأنها مضطرة لذلك، صاح فيها وقد قفز عن كرسيه قائلًا إنها تعيش معه
لتنتقم منه، لتكدر عليه حياته على وجه الخصوص، وكلما أدرك في نفسه
عبثية هذا الاتهام، كلما ازداد صياحه حدَّة، حتى يسمع الجميع ذلك وعلى
رأسهم مدام زيمرمان، القريبة منها، زميلتها، صديقتها! دفع الكرسي بقدمه
بشدة وراح يبحث عن تبغ يحشو به غليونه، بينما راحت يداه ترتعشان –
اندفعت أنَّا جريجوريفنا راكضة من الغرفة وهي تضع كفيها على وجهها، أما
هو فقد أطاح بعنف بالأوراق والكتب، التي كانت موضوعة على المكتب وراح
يسحب أدراجه بغضب – لم يكن التبغ موجودًا، على الرغم من أنه كان يذكر
أنه وضعه على المكتب، بالقرب من طرفه الأيمن، حتى يكون في متناول يده
دائمًا، وهو يعلم أن التبغ لم يكن سوى حُجة يتذرَّع بها – كانت تجلس
على حافة الفراش، على نفس وضعها، وقد غطت وجهها بيديها، كانت أكتافها
تهتزان بشدة – جثا أمامها على ركبتيه، سحب إليه يديها بقوة – كانت
الدموع تنهمر على وجهها – راح يُقبِّل يديها وركبتيها – ضمت رأسه
إليها، وفجأة إذا بها تضحك – خلَّص رأسه من بين يديها، ونظر في عينيها
الضاحكتين المبللتين بالدموع نظرة تساؤل – قالت له إنها تضحك لأنه لا
يمكن لشخص نائم أن يكون مسئولًا عن كلامه، وهو ما يطلبه تحديدًا منها
الآن، وفي المساء، كما كان يحدث دائمًا، أَقبَل عليها معتذرًا، ومرة
أخرى راحا يسبحان بعيدًا جدًّا، حتى إن الشاطئ قد اختفى تمامًا عن
ناظريهما، وكأنه لم يكن موجودًا، كانا يسبحان وقد راحا يتنفسان
بانتظام، تارة غارقين في المياه، وتارة وهما يخرجان منها برفق من أجل
أن يملآ رئتيهما بالهواء، وعندما بدا لهما أن لا نهاية لهذه السباحة،
وعندما راحا يغادران المياه رويدًا رويدًا، وقد أحسا أنهما سيحلقان مثل
طيور البحر، محلقين بحُرية وخفة فوقه؛ إذا به يتذكر فجأة وجهها الضاحك
– لقد كانت تضحك ساخرة منه بالطبع، هنا راح تيار معاكس يدفع به جانبًا،
وإلى جوار وجهها ظهر له وجه ضابط الحرس المنتفخ المتهدل على هيئة ذقن
كروية، مشبعة بالدماء مثل بطن بعوضة، وقد ظهرت إلى جانب هذا الوجه
العبوس المتعجرف وجوهٌ أخرى – إنهم أصدقاؤه ومعارفه، وخاصة النساء منهم
– تلك المرأة، التي وجد نفسه معها في عربة قطار واحدة، دون أن يمتلك
الشجاعة أن يمسها؛ إنها نفس المرأة التي، يومًا ما في سنوات شبابه
وقُبيل اعتقاله، رآها في صالون آل فيليجورسكي، حيث كان الكُتاب يجتمعون
لديها، كانت رائعة الجمال إلى حد لا يمكن تصوره في ثوبها الطويل، بذيله
الذي كان يتبعها دون حفيف وكأنه يتبع ملكة، وخصلات شعرها الفاتحة التي
أحاطت بوجهها، امرأة عسيرة المنال على نحو لا يُصدَّق برائحة عطرها
اللطيف، وعندما مدت يدها إليه، أمسكت بيده قليلًا على نحو أدرك منه
أنها إنما فعلت ذلك لكي يُقبِّل يدها، التي كانت تلوح بلونها الأبيض في
نعومة من خلال فتحة قفازها، حتى إنه راح يتمايل على نحو غريب حتى كاد
أن يسقط – لعلَّه فقد وعيه بضع ثوانٍ – أكان ما حدث له معها آنذاك هو
الإنذار الأول لمرضه؟ بعد تلك الواقعة راح الحضور يضحكون عليه، حتى إن
أحدهم كتب رباعية شعرية جارحة في حقه، على أنها ظلت على أية حال جادة
معه ومهتمة به، كل ما فعلته أنها توقفت عن إمساك يده بيدها، لكنها راحت
— الآن — تضحك هي أيضًا، بينما راح الحضور في صالة الاستقبال يقهقهون
ببساطة من فرط الخيلاء، وقد زاد صخبهم لافتقارهم لأي موهبة، وقد كشف
أمامهم آنذاك عن مكنون روحه، وهو ما أذاعوه في بطرسبورج مشبعًا بالنكات
والسخرية، أما هو فقد رأى أنهم قد اقتبسوا أفكاره ببساطة وأنهم أعجبوا
بها، والآن ها هم يَضجُّون بالضحك، وأخيرًا إذا به يتخبط بالقرب من
الشاطئ نفسه، أما أنَّا فكانت لا تزال تسبح في مكان ما بعيدًا، هناك
عند الأفق تقريبًا، حيث تذوب زرقة البحر مع زرقة السماء – جميعهم، وهي
أيضًا، راحوا يسخرون منه – بعد أن تركها تسبح في مكان ما خلف الأفق،
ارتدى ثوبه، ثم خرج إلى الغرفة الأخرى، أشعل شمعة، ثم جلس إلى مكتبه،
وأسند رأسه بيديه – حقًّا، لقد كانت، بالطبع، عدوًّا له، لا شك في ذلك،
وفي اليوم التالي، عندما اصطدمت دون حذر بقائم المائدة وهي تزحزحها
قليلًا وعليها قهوة الصباح، قال لها إنها فعلت ذلك عن عمد لتكدر صفوه،
وفي الأيام التالية كرر عليها نفس القول – في هذه اللحظات اكتسب وجهها
تعبيرًا بائسًا مليئًا بالرعب، مثل الذي كان عليه في ميدان الرماية، لم
تستطع بعد ذلك أن تضحك، وإنما اكتفت بأن أخفضت رأسها إلى أسفل، وكأنما
تحاول أن تخفي وجهها عنه، وعندئذٍ جثا أمامها على ركبتيه، احتضن قدميها
ورجاها أن تغفر له، والأهم، ألا تسخر منه، هبَّ واقفًا على قدميه، بعد
أن شعر بشدة الضجر من جرَّاء إحساسه بالمذلة أمامها، ثم راح يذرع
الغرفة على عجل من ركن إلى ركن بميل، ليصطدم بقدمه بقائم الكرسي،
مسقطًا إياه في طريقه وهو يصيح، إنه يستحق الاحترام على أية حال، على
الرغم من أنه لا يملك مالًا – راحت تخفض رأسها أكثر فأكثر وقد أطبقت
بيديها على رأسها، كما لو كانت تشكو صداعًا، ثم وقفت دون حراك وقد تجمد
كل تعبير على وجهها، الذي تحول لسبب ما إلى حالة من الرعب، كانت ضواحي
بادن المعروفة لديه بمنازلها وبيوتها الصيفية تسبح خلف النافذة، لكنه
راح كسابق عهده يحدق في وجهها باهتمام وتوتر شديدين – كانت تنام وقد
أسندت رأسها إلى كتفه، وللحظة خاطفة بدا له أن ظلًّا من الاصفرار ينعكس
من جديد على جبهتها وخدَّيها، هذا الاصفرار الذي لاحظه آنذاك جيدًا في
ميدان الرماية – كانت تتنفس بهدوء وانتظام – لقد كانت في أمسِّ الحاجة
إلى النوم، لعل هذا الاصفرار أيضًا قد حدث لها نتيجة انتظارها لمولد
ميشا أو سونيا – كيف لم يدرك ذلك من قبل؟ – ألقى بنظرة على رأسها، كانت
تغطُّ في النوم، كانت نظرته إليها كمن ينظر إلى أطفال نائمين – قال
لها: «ها قد اقتربنا» – نظرت فرأت من خلف نافذة العربة جبلًا شاهقًا،
تغطيه الخضرة، عليه بيوت بيضاء، وأخرى من القرميد الأحمر، وفي وسطها
أبراج كنائس على الطراز القوطي، وفوق هذا وذاك سماء داكنة الزرقة تسبح
فيها سحب خفيفة – على هذا النحو تمامًا كانت تتخيل هذه المدينة، على
أنه كان عليهما أن يستعدا لمغادرة القطار، وأن يجهزا حقائبهما – جلس
وقد أسند ظهره إلى الأريكة واضعًا يديه على ركبتيه، كدأبه عندما تُلتقط
له الصور الفوتوغرافية، شاخصًا ببصره إلى المدينة وقد راحت تزداد
اقترابًا وسط خضرة الحدائق التي كانت تغطي سفح الجبل، رأى بوضوح منزلًا
أبيض، من طابقين، له سطح على الطراز القوطي، كانت نوافذه مغطاة، حتى
أثناء النهار، بستائر ثقيلة من المُخمَل، وقد أضيئت تحت الأسقف
ثُريَّات بِلَّورية ضخمة، تسبح في دخان التبغ، كانت الثريات تُلقي
بضوئها على صالات مكسوة بقماش أخضر، بينما كانت أركانها غارقة في
الظلام؛ إذ لم يكن ضوءها ليصل إلى هذه الأركان بسبب كثافة دخان التبغ،
وفي وسط كل صالةٍ واحدةٌ كبيرة واثنتان جانبيتان أقل اتساعًا، صُفَّت
كراسٍ مغطاة أيضًا بالجوخ الأخضر، وحول الموائد أناس وجوههم شاحبة
أضناها الأرق، راحت أيديهم تمتد إلى الموائد، حيث توزعت عملات ذهبية –
كانت وجوههم تلمع بفضل ضوء خافت ضارب للَّون الأحمر، مثل أُطُر
الأيقونات في الكنيسة أثناء إجراء الطقوس المقدسة، عندما تُضاء كل
الشموع، وتهتز نيرانها في سحب البخور – وفي القلب من هذه الموائد، وفوق
الرصيد الذهبي، ترتفع أقراص مطلية باللون الأحمر الضارب للخضرة، كان
هذا هو المذبح، أو قُل البوابة الذهبية؛ لأن شخصًا واحدًا هو الذي كان
بإمكانه الوصول إليه، شخص له وجه بلا مشاعر، يلقي بسحره في هدوء على
هذه الأسطوانة الغامضة، ذات الأرقام السوداء مثل العقيق، أو الحمراء
مثل الياقوت، تجري فوقها كرة فضية تحسم المصائر، كرة لا يمكنك الإمساك
بها، كرة عصيَّة المنال، مثل كرة أثناء مباراة للتنس – على المائدة
عملات ذهبية منثورة، راحت تتجمع من تلقاء نفسها في أكوام، كأن يدًا
خفية ما راحت تُصنِّفها وترصها – الشخص الجالس في القطار وقد شبك يديه
فوق ركبتيه، أطبق جفنيه – راح يربح أكوامًا من هذه العملات الذهبية،
ولكنه ما إن مدَّ يده ليجرفها إليه، إذا بأيدٍ ما غريبة تمتد إليها
وتستولي عليها وتجرفها نحوها – كانت هذه أيدي أناسٍ ذوي وجوه صفراء،
كانوا محتشدين حول المائدة – فجأة أدرك لماذا كانت هذه الأكوام من
نصيبه – لم تكن لها قمة، وقد حاول أن يأخذها قبل أن تأخذ شكل المثلث،
كان من الضروري عليه أن ينتظر حتى تأخذ هذا الشكل، أي أن تصبح لها قمة،
عندئذٍ تصبح هذه الأموال ملكًا خالصًا له – فتح عينيه، عندما بدأ
القطار يهدئ من سيره خلف النافذة راح المبنى الأنيق لمحطة السكك
الحديدية لبادن يسبح في بطء ثم ليتوقف – راحت أنَّا جريجوريفنا تتفحص
مبنى المحطة والناس وقد التصقت بالنافذة، كان الناس يتسكعون على رصيف
المحطة، وكأنهم ينتظرون أحدًا ما سوف يأتي لاستقبالهم، ها هي مدينة
بادن الحقيقية المفعمة بالحياة، راحت أنَّا تتخيل نفسها وهي تتنزه مع
زوجها في شارع Lichtentaler Allee وهو
الشارع الرئيس في بادن، والذي كثيرًا ما سمعت عنه، تتنزه وسط أناس
يستجمون وقد ارتدوا ثيابًا فاخرة، وقد بدوا في أبهى زينة، وتكون هي قد
استبدلت بخمارها الأسود المطرز بالدانتيلا ثوبًا آخرَ فاخرًا، إذ بات
من الممكن أن تسير أخيرًا برفقة فيديا.
•••
ها هما مرة أخرى، مثلما كان عليه الحال في درزدن، يستأجران غرفتين
لدى ألمانية أخرى متقاعدة، وخادمة تُدعى ماري، سمراء مفعمة بالحيوية
الشديدة، تشبه الإيطاليات – قدَّرت أنَّا عمرها بأربعة عشر عامًا، ولكن
تبيَّن أنها تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا – كانت تبدو للوهلة الأولى
طفلة تمامًا – مرحة، ضَحوكًا، تصيح طوال الوقت في أرجاء البيت كله
بكلمة Ja (نعم)، لكنها كانت على قدر
كبير من الغباء، مثل كل الألمان والألمانيات على أية حال – لن تفهم ما
يقال لها على الفور مهما حدث، ولو أبديت لها نفس الملاحظة مائة مرة
فإنها لن تدرك مع كل ذلك ماذا تعني – عندما يحين موعد الغداء ستجدها
تنسى إحضار الملاعق – حمقاء على نحوٍ مدهش، وفي فناء المنزل، حيث سكنا،
كانت هناك ورشة حدادة، كانوا يبدءون الطَّرْق فيها بالمطارق منذ
الرابعة صباحًا، أما في الغرف المجاورة فكان ثمة أطفال لا يكفون عن
البكاء والصراخ والدحرجة، على أية حال فقد بدت الأيام الأولى لوجودهما
في بادن مثل صباح صحو في يوم من أيام الصيف عندما تسرع الخُطى إلى مكان
ما – في الليل كان المطر يهطل، فيبدو كل شيء مغسولًا، الخضرة، الأسفلت،
البيوت، وحتى عربات الترام الحمراء، وكأنه قد تم طلاؤها للتو باللاكيه
الجديد، وأنت تسير مسرعًا إلى مكان ما، متنبئًا بحدوث شيء ما، حتمًا
شيء سعيد غير عادي – على هذا النحو كانت الأمور تسير في سنوات الشباب،
كنت لا أزال أدرس في المعهد، كنت أخرج من باب المستشفى، الذي كنا نسكن
فيه في السنوات الأولى بعد عودتنا من التهجير؛ لأن المدينة التي عُدنا
إليها كانت قد دُمِّرت تمامًا، وقد أعطونا غرفة ملحقة بالمستشفى، الذي
كان والدي يعمل به، ويقع إلى جوار الحمام والمرحاض، وبالقرب من غرفتنا
كان المرضى لا يكفُّون عن السير وهم يدقون الأرض الحجرية بعكاكيزهم،
كان مبنى المستشفى قديمًا ذا حوائط تم ترميمها ترميمًا شاملًا، وأسقفٍ
مُقبَّبة ترك الدخان أثرًا أسود عليها، كان هذا المبنى يشغله قبل
الثورة إما مستشفًى للفقراء اليهود، وإما مأوًى للعَجَزة، لا يزال
مصابو الحرب الوطنية يدقون الأرض بعكاكيزهم وهم يعرجون، بالقرب من باب
غرفتنا، وقد راحوا يجرُّون أقدامهم الملفوفة في الجبس وقد اتسخ تمامًا
في الصباح، عندما كنت أسرع متجهًا إلى المعهد كنت أمرُّ بحديقة
المستشفى الصغيرة، كان هؤلاء المصابون يتنزهون أو يجلسون على الأرائك
خلف الموائد الخشبية، يلفُّون السجائر مستخدمين في ذلك ورق الصحف، أو
يلعبون الدومينو، كنت أتعجل الذهاب إلى البوابة، حتى أغادر المكان
بأقصى سرعة إلى الشارع المؤدي إلى هذا التل، الذي تبقت فوقه بعض منازل
فقط، تتوسطها خرائب، نَمَت عليها الأعشاب والنباتات الشائكة، وتناثرت
فيها أكوام من حجارة قديمة تبقت من المباني التي زالت، كانت الممرضات
وكذلك العديد من الأطباء يبادرونني بالتحية؛ وذلك لأن والدي كان كبيرًا
للجراحين في هذا المستشفى، وحتى حارس البوابة كان يبادرني هو الآخر
بالتحية، وها أنا أسير الآن في الشارع، منطلقًا إلى حيث تسير عربات
الترام الحمراء المطلية باللاكيه الجديد، عربات مفردة، إذ نادرًا ما
تجد هنا عربات مزدوجة – كانت عربات الترام تقطع الشوارع، لعلها سُميت
شوارع مجازًا، وقد امتدت على جانبَي خطوطها أنقاض متناثرة من الأحجار
والخرائب، التي نمت فيها النباتات الشائكة، بينما انتصبت في وسطها،
بمعجزة، بيوتٌ سليمة، أو قل ببساطة عُلَب تبرز منها شرائط من أوراق
الحوائط ممزقة متهدلة تتأرجح بفعل الرياح، بينما يلوح في مكان ما على
ارتفاع ثلاثة طوابق صنبور أو بلاطات فوق مدفأة على النمط الهولندي –
أُسرع نحو الترام – الذي يوصلني إلى المعهد – كانت مباني العيادة
الطبية المقامة على أطراف المدينة ما تزال سليمة أيضًا، مثلها مثل
المستشفى الذي كنا نسكن فيها – لقد تعمد الألمان ألا يقصفوا مباني
المستشفيات خصوصًا حتى يستغلوها فيما بعد – كانت الريح تندفع عبر
النوافذ المنخفضة قليلًا في الترام، أخذت مكاني بالقرب من النافذة،
وجهي إلى الأمام – هذا هو الوضع الذي أفضله في وسائل المواصلات –
الأرجح، على أية حال، أنه الوضع المفضل لدى كثير من الناس، كنت أنظر
مستندًا بوجهي على الزجاج، وأحيانًا ما كنت أنهض قليلًا مُطلًّا برأسي
إلى الخارج، أفعل ذلك، على أية حال، بكثير من الحذر؛ حتى لا يدخل
التراب في عيني أو أصطدم بعامود من أعمدة البرق – في مبنى العيادة
الطبية، إلى حيث كنت أتعجل الوصول إلى الدروس، كانت حلقة من الطلاب
والطالبات في بلاطيهم البيضاء يزدحمون، في غرفة الأطباء أو في البهو،
حول المساعد، وفي وسطهم كانت هذه الفتاة ذات الشعر الذهبي تقف وقد
انسدل شعرها من تحت غطاء رأسها، هي الوحيدة التي كانت لدينا في تلك
السنوات، في تلك السنوات فقط، هي الوحيدة الخيالية والحقيقية في الوقت
نفسه، بعروقها الزرقاء عند صدغيها، وتلك الأوردة تحت سطح جلد رقيق
ناعم، وقد راح قلبها يخفق بانتظام وهو يدفع بالدم الطازج الساخن –
أتراه حقًّا كان ساخنًا؟ – عبر الشرايين الدقيقة المَرِنة، التي لم
تمسسها بعدُ ذرة كلس واحدة – هذا الدم الذي يمد جلدها وجسدها كله بهذا
اللون الوردي المدهش، الذي يمكن أن يُسمى به لون الجسد، اللون الذي
يحاولون تزييفه بالجوارب الطويلة، منذ زمن بعيد وأنا أظن أن هذه
الجوارب هي شيء ما يرتديه الأطفال فقط، إلى أن حكت لي إحدى معارفي، وهي
زوجة لواحد من مشاهير الكُتاب آنذاك، أنها اكتشفتها في فراش زوجها –
وهو دليل قاطع، سمح لها بأن تثبت خيانته – حتى ألوان ورق الحائط أو
الأباجورات، كل هذا عبث، جلد المرأة الشابة فقط هو الذي له هذا اللون،
كنت أتخيل نفسي وأنا في الترام، وأنا أحاول أن أكون موجودًا إلى جوار
طالبة ذات شعر ذهبي، حتى أنعم بدغدغة شعرها المنساب من تحت غطاء رأسها
على خدي – وا أسفاه، الآن فقط، على أية حال، ونحن على منحدر العمر،
نصبح أكثر حساسية تجاه مس الشَّعر النسائي، نُقرِّب خدنا أو رأسنا
الأصلع، ونحن جلوس في وسائل المواصلات، لتكون أسفل شلال من الشعر
النسائي ينهمر من مكان عالٍ، وكلما جاء هذا المس بمحض الصدفة كان
الإحساس بالمتعة أكثر حدَّة، حتى إنه عندما يضع المرء جلده أسفل هذا
الشلال، عن قصد، فإننا نحاول أن نقنع أنفسنا أن هذا المس جرى عن غير
قصد، وكان الابتعاد الاضطراري عن هذا التيار الذهبي البارد المنساب من
أعلى منسدلًا من الأكتاف على معطف من الشمواه أو على سترة من الجينز
أكثر إيلامًا، وهو يحمل تيارًا كهربيًّا إلى جلدنا العجوز، من أجل هذا
التيار الكهربي الغامض غير المُوجَّه نحونا على الإطلاق؛ لأنه يكون
مرغوبًا بوجه خاص، ولهذا فإننا نخرج من بيوتنا في الصباح، مسرعين أيضًا
إلى مكان ما، مفعمين بإحساس داخلي وبالتنبؤ بوقوع حدث غير عادي ينبغي
أن يقع لنا، على الرغم من أننا في سنِّنا هذه علينا أن نتوقع بالأحرى
انسدادًا في الأوعية الدموية ونحن نركب المواصلات، لكننا مع ذلك نسرع،
بقدر ما يسمح به قلبُنا وجسدنا الممتلئ ونَفَسنا المتهالك – سرعان ما
حالف الحظ فيديا في الأيام الأولى لوجوده في بادن، وقبل عدة أيام من
وصولهما إليها كان وشاح أنَّا جريجوريفنا، أو «الكيس»، كما وصفته في
موقع ما، مليئًا بثمانين قطعة نقدية، ليمتلئ بوفرة بعد بضعة أيام إلى
أن يضم في اليوم العاشر مائة وثمانين قطعة؛ أي ثلاثة آلاف فرنك – كان
فيديا يقطع المسافة جيئة وذهابًا بين المنزل ومحطة القطار، حيث يقع
نادي القمار، أحيانًا عدة مرات في اليوم الواحد، وهو تارة يخسر، وتارة
أخرى يربح، ولكنه كان يربح أكثر، لكن خسارته تجيء أكثر بسبب الصدفة،
عندما كان يصطدم به بعضهم إبان رهانه على الأحمر أو الأسود، على فرد أو
زوج، أو عندما كانت تفوح بشدة رائحة عطر منبعثة من واحد من المتجمهرين
حول المائدة ذات القماش الأخضر، حيث كان من النادر أن تصادف هنا سيدات،
أو عندما كان يعوقه بولندي ما بصحبة امرأة بولندية فيُشتِّتان انتباهه
بحركتهما، حاجبين عنه رؤية الأرقام الحمراء، التي كان يعتزم الرهان
عليها، وبسببهم كان يراهن على الأرقام السوداء، وبطبيعة الحال كان
يخسر، أحيانًا كان يصطحب معه أنَّا جريجوريفنا، وعندما تزعجه كان يخسر
أيضًا بسببها، فيروح يصبُّ عليها جامَ غضبه، حتى إنها قررت من نفسها
على الفور أنها لا تجلب له الحظ الحسن؛ ومن ثَم توقفت عن المجيء معه
إلى محطة القطار، على الرغم من أنه غَضِب لأنها رفضت طلبه بالحضور –
أصبحت أنَّا تقوم بالتنزه في بادن وضواحيها، متجنبة السيدات الروسيات
اللائي كُن يرتدين الملابس الفاخرة، على أية حال ها هي تقرر ذات مرة
الذهاب إلى ممشى Lichtentaler Allee،
بعد أن أخذت طريقها من أجل ذلك إلى شارع Lichtentaler
Strasse، لكنْ قدماها قادتاها لسبب ما إلى مكان آخر
تمامًا إلى كنيسة كاثوليكية للرجال، دخلت إلى الفناء، وبعد أن تنزهت
فيه قليلًا عادت أدراجها إلى المنزل، ذات مرة ذهبت في نزهة ما بعيدة،
وبعد أن قطعت فرسخين أو ثلاثة صعدت سُلمًا، ثم عرَّجت على القلعة
القديمة ومنها إلى القلعة الجديدة، وعند مدخل إحدى القلعتين كان هناك
مصباح معتم، بدا كل شيء هنا لأنَّا جريجوريفنا جميلًا على نحو
استثنائي، لكنها أحست بشيء من الخوف من مواصلة السير بعيدًا؛ إذ خشيت
أن تتعثر وتسقط فتفقد سونيا أو ميشا القادمين، وفضلًا عن ذلك، فالأرجح
أن فيديا ينتظرها هناك في الممشى على الأريكة تحت شجرة الكستناء
القديمة – من بعيد، من هيئته فقط، راحت أنَّا تحزر دون خطأ، أَتُراه
خسر أم لم يخسر؟! – كانت قبعته السوداء موضوعة إلى جانبه، على الأريكة،
كان وجهه شاحبًا، مستندًا بيديه إلى ركبتيه، وكأنه يهم بالوقوف،
يتلفَّت في قلق، مدققًا النظر في الناس، الذين كانوا يلوحون له عن بُعد
في عمق الممشى – أحيانًا كان الأمر يبدو لها مضحكًا ببساطة، كيف لم
يلحظ وجودها، عندما كانت تقترب من الأريكة نفسها، وهو لا يزال يبحث
بعينيه ناظرًا إلى مكان بعيد ما؟! أحيانًا يرفع يده عن ركبته لكي يمسح
بمنديله قطرات العرق، التي تنزلق على فَودَيْه وصلعته والتجاعيد
الموجودة فوق جبهته، تلك التي رسمها الفنانون بقدر كبير من الدقة، بل
وأحيانًا مع شيء من المبالغة، وبخاصة النحَّاتون – كان ينظر إليها،
ولكنه لم يكن يرى أنها هي، ليستمر في النظر في اتجاه ما نحو عمق
الممشى، بينما وقفت إلى جواره وهي تضحك تقريبًا؛ تقريبًا لأنه كان من
الممكن أن يعتبر ضحكها سخرية منه – قال لها وهو ينهض بسرعة عن الأريكة:
«لقد خسرت كل شيء»، بينما جلست هي ريثما تلتقط أنفاسها وهي تهز
مروحتها، رمقها بنظرة مِلؤها الشك من رأسها إلى أخمص قدميها وكأنه لا
يعرفها قائلًا: «أين اختفيتِ؟» – مرت بضع دقائق وها هما يسيران باتجاه
المنزل، عبر شوارع نظيفة مرصوفة، تحفُّها أشجار مُشذَّبة أنيقة، بالقرب
من البيوت الألمانية وقد أُغلقت درفات نوافذها تجنبًا لشمس الظهيرة –
كان يسبقها قليلًا، وقد أمسك بيده قبعته السوداء، التي تشبه القِدْر –
كان قد اشتراها في برلين بإلحاح من أنَّا جريجوريفنا، الآن يشعر بالحر
عندما يعتمرها، وفضلًا عن ذلك فقد كانت تُذكِّره بتلك القبعة، المرسومة
في تلك الصورة الهزلية — باختصار — في الكاريكاتور، الذي ظهر في أحد
أعداد مجلة «التقويم الأدبي المصور» فور نشر قصته «السيد بروخارتشين»
في مجلة «حوليات الوطن» التي كان يصدرها كرايفسكي – بدا في الصورة وهو
يخفق بحذائه أمام كرايفسكي، ممسكًا بيده نفس هذه القبعة – على أية حال،
لم يكن يبدو أنه كان يرتدي قبعته، وإنما كان يتأهب لخلعها – كانت تبدو
في الصورة غير متجانسة بمقاييسها الكبيرة، تمامًا مثل رأسه، حتى إن
بدنه وساقيه القصيرتين كانوا يبدون على نحو ملحوظ وكأنهم زائدون على
رأسه وقبعته – لا شك أنه يمكن فهم الأمر باعتباره تلميحًا إلى تصوراته
المبالغ فيها حول مواهبه وقدراته العقلية الحقيقية، وذلك بعد عدة سنوات
أمضاها في المعتقل، عاد بعدها ليعيش في المنفى – وحتى هذا لم يُوقِف بانايف٢٤ — هذا المشعوذ ذو الشارب المتهدل دائمًا إلى أسفل لسبب ما،
هو وجماعته — من التعريض به، وفي مجلة «المعاصر» ظهر مقال يتحدث عن أن
دستويفسكي طلب من نكراسوف٢٥ أن ينشر له رواية «الفقراء» في إطار ذهبي، وقد ظهر هذا
المقال على نحو هزلي، بل ومليء بالسخرية – الأمرُّ والأدهى يتلخص في
أنه في سياق الجدل الذي احتدم مع واحد من جماعة بانايف، راح يصرخ في
الواقع بشدة، فاقدًا وعيه تقريبًا من الغضب الذي دفعوه إليه، مُصرِّحًا
بشيء يتعلق بأنه بالمقارنة بما ينشرونه لديهم، فإنهم كان باستطاعتهم أن
يطبعوا عمله أيضًا في هذا الإطار؛ لكي يصبح مفهومًا للقراء الفرق بين
العمل الأدبي الأصيل والآخر المبتذل، وكذلك لا بأس لو عرف ذلك أيضًا
بعض الكُتَّاب والنقاد – كان يُلمِّح بذلك إلى تورجينيف٢٦ الشهير، الذي استمع إليه للمرة الأولى بقَسَمات تعبر عن
الدهشة والمرح، بل والدهشة الساذجة، لقد تسنَّى له للمرة الأولى على
وجه الدقة أن يصطدم بمثل هذا الحكم الأصيل – هذا التعبير عن المشاركة
الصادقة راحت تدفع به أبعد فأبعد – كان يود أن يثير الدهشة لدى هذا
الشاب الساذج بعض الشيء، أن يلفت انتباهه إلى أفكاره، وفي الوقت نفسه
أن يزداد حماسًا بأحلامه العزيزة إلى نفسه – راح شيئًا فشيئًا يكشف عن
مكنون نفسه حتى النهاية؛ لأنه كان يرى نفسه محلقًا في مكان مرتفع ما مع
تورجينيف، مع صديقه الحميم والمحترم في الوقت نفسه، وأن المجد الذي
يحظى به هذا الشاب، وإن كان كاتبًا بارزًا، سوف يصبح مجده هو أيضًا،
وأن مجده هو — دستويفسكي، الذي لا يزال في أول طريقه، وإن كان أيضًا
أديبًا معروفًا — سوف ينعكس على تورجينيف، وأن كلًّا منهما سوف يضيء
الآخر بمجده ليتبادلا معًا هذا المجد، سابحَين معًا في أنواره، محلقَين
فوق الجميع، الذين يُعجَبون بصداقتهما الفريدة، هذه الصداقة التي لا
نظير لها، وتآلُف القلوب الذي لم يَسمع به أحد حتى هذا الزمن، قبل أن
يَقلِب له تورجينيف ظَهْر المِجَن فجأة، في البداية بدا له هذا الفعل
ساذجًا، وكأنه قام به — على ما يبدو — عن غير قصد، أو عفوَ الخاطر، بل
وأيضًا عن طريق الخطأ – على أن دستويفسكي راح يدرك في كل مرة بوضوح
أكثر أنه وقع ببساطة في متاهة ماكرة متشابكة، أنه وقع في حبائل شبكة
خفية مُحكَمة ليتحطم فيها بلا رحمة، وها هو يحاول أن يتخلص منها – فجأة
رأى نفسه جالسًا على كرسي أمام هذا الشاب المتغطرس، يتحرك في كرسيه
محاولًا النهوض، مستندًا بيديه إلى ركبتيه، لكن جسده لم يطعه، واصل
جلوسه، راح وجهه يشحب تارة، وتارة يتغطى بالحمرة، بينما راح الجميع من
حوله يضحكون عليه! على صداقته! أما تورجينيف — معبوده — فقد استند
بمرفقه في غير اكتراث إلى ظهر مقعد وثير وقد وضع على عينيه نظارة لامعة
ذات مقبض طويل، كان هو أيضًا يضحك مع الآخرين، وهو يمسح بيده لحيته
الناعمة مسحًا خفيفًا – كانت إشارته إبَّان جدله مع واحد من جماعة
بانايف يتعلق أيضًا بنكراسوف وحتى ببيلينسكي٢٧ اللذين راحا يلعبان لسبب ما لعبة البريفيرانس في الأمسيات
الأدبية – على هذا النحو كان قضاء الوقت الغبي – جالسًا إلى مائدة
اللعب في مكان ما جانبي، بالقرب من تجويف في حائط، وكأنه — دستويفسكي —
غائب عن الوجود – كان يقترب منهم كل مساء عمدًا عدة مرات، هو نفسه كان
يدرك أن هذا سلوك غير مهذب، كان يسعل، لكنهم لم يرفعوا رءوسهم كأنه
غائب تمامًا – ذات يوم كان في ضيافة بيلينسكي، اندفع نحوه ونحو نكراسوف
آملًا في صحبتهما، لكنهما ما إن جلس إلى جوارهما حتى قاما وابتعدا نحو
طرف الجانب المقابل من غرفة الاستقبال، حيث يدور حديث ما هام عن الحب
الجديد للأميرة فولونسكايا، لتتشكل هناك حلقة صغيرة – جلس ضاغطًا
كفَّيه بعضهما ببعض حتى الطقطقةِ ليشعر بالألم في أصابعه، وضعهما بين
ركبتيه، مستندًا قليلًا إلى مائدة اللعب، أَمِن المعقول أن يكون هذا هو
نكراسوف، الذي كان يستقبله في الأوقات المتأخرة من الليل، أو في ساعات
الصباح الأولى؟ – كان الشارع مُضاءً، فقد كان أوان الليالي البيضاء،٢٨ – جاء إليه وهو يلهث، وكأنه قطع المسافة كلها من شقته وحتى
حارة جرافسكي، حيث يسكن دستويفسكي، جاء ممسكًا في يده بمخطوطة
«الفقراء» خلف ظهره، كأنها هدية، معقول أن هذا هو بيلينسكي، الذي ما إن
قرأ المخطوطة حتى استقبله في مكتبه في نفس هذه الشقة، دون موعد مسبق،
وبعد أن أجلسه أمامه، بالقرب من مكتب ضخم يغص بالأوراق، محاولًا أن
يحتفظ بنبرة الأستاذ، ولمَّا لم يفلح في هذا راح يمشي بخطوات سريعة في
غرفة المكتب بعد أن قفز من وراء مكتبه وهو يتحدث بحماسة بالغة ملوِّحًا
بيديه، كل هذه الحماسة والإعجاب اللذين تحولا إلى فرح وابتهاج به،
بدستويفسكي، وبروايته؟ – بعد ذلك بساعة واحدة راح يقف على ضفة النيفا
بالقرب من البيت الذي يسكن فيه بيلينسكي، عند ناصية شارع فونتانكا،
ناظرًا إلى السماء الزرقاء، إلى المارة، إلى العربات المنطلقة؛ لأنه لم
يكن ليجرؤ على مجرد أن يحلم بما حدث، كل هذا كان أقرب إلى الحلم – بعد
عدة أيام كانت بطرسبورج الأدبية وحتى غير الأدبية تتحدث عنه – قدَّمه
بيلينسكي لكل معارفه، باعتباره شخصية مشهورة، تمامًا كما يُقدِّم المرء
الطَّبق الأكثر لذة في نهاية حفل الغداء – بكل احترام انحنت أمامه رءوس
اشتعل الرأس فيها شيبًا من أعيان بطرسبورج، يضعون الأوسمة في عروات
ستراتهم، نظرات نسائية لم يكن ليجرؤ أن يحلم بها، ترمقه باهتمام ودلال،
هدأ الكلام في غرفة الاستقبال، عندما دخل إلى هناك – معقول أن يكونا
بيلينسكي ونكراسوف، الآن تسود هذه اللامبالاة تجاهه من ناحية مائدة
اللعب، عندما جلس إليها، بعد أن مال نحوهما ملتمسًا مشاركتهما، فقط
ليُذكِّرهما به، آملًا ولو بالفوز بصحبتهما، حتى ولو كانت صحبته
تزعجهما، متوسلًا أن يسمع منهما ولو بضع كلمات يُطْرون فيها على روايته
«الِمثْل» ولو تلميحًا، وحتى لو لم يكن إطراءً، ليكنْ نقدًا، ولكن ليس
هذا الصمت البارد فحسب! – وا أسفاه، بأي قدر من الاهتمام راحوا
يتناقشون الآن في هذا الركن المقابل من غرفة الاستقبال، وقد أحاط بهما
نفرٌ من عديمي الموهبة، الذين أصبحوا — الآن — موضة في صالونات
بطرسبورج، بأي قدر من الاهتمام راحوا يمارسون نمائم عِلية القوم حول
الأميرة فولكوفسكايا – هم، العقول التقدمية، إذا جاز القول، الأدباء!
جلس وحيدًا إلى مائدة اللعب، وهو مائل إلى أسفل بكل جسده، ضاغطًا بصدره
بكل قوة إلى طرفها الصلب؛ إذ أصبح من الصعب عليه التنفس، كانت كل دقة
من قلبه ترتد إلى سمعه لتكتمَ الضجيج المحموم للأصوات، التي كانت
تتعالى الآن من وسط غرفة الاستقبال، حيث اختلطت الحلقة، راح وهو يشعر
بمزيد من الألم يضغط كفيه بين ركبتيه، وعلى الرغم من أن الشموع كانت
تتلألأ في الثريات، فقد بدت له وجوه الحاضرين في هذه الأمسية شاحبة –
هبَّ واقفًا، ولكنه بدلًا من أن يتجه نحو المدخل، ارتدى البالطو
بإهمال، ليغادر هذا البيت إلى شارع نيفسكي، الذي لم يقف بالقرب منه قبل
ذلك هذه المدة الطويلة، دون أن تواتيَه الشجاعة على أن يصدق أن حلمه قد
تحقق، وبدلًا من أن يفعل ذلك، إذا به يتوجه نحو هذه الحلقة مثل سمكة
صغيرة تجذبها مواد كيميائية غير مرئية نحو مرعًى للوحوش البحرية،
اندسَّ بين الضيوف وقد راح يُمعِن النظر في عيون كلٍّ من بيلينسكي
ونكراسوف اللذين كانا — بطبيعة الحال — محطَّ أنظار الحلقة وموضع
اهتمامها، حاول أن يستظرف، متوسلًا بذلك أن يلتفتوا إليه، دخل في جدل
مع شخص ما، وقد احتدم غيظًا، راح يصرخ، وهو يعلم، في الوقت نفسه أنه
إنما يقول سخفًا، ها هو وقد وجد نفسه وقد فقد كل أمل له في أن يجد أدنى
استجابة منهم، وأن أحدًا لم يُولِه اهتمامًا – كان العملاق البحري
يسبح، دون أن تراوده الرغبة حتى في أن يبتلع هذه السمكة الصغيرة،
مشمئزًّا منها لكونها صغيرة ومُنفِّرة – راح ظِل منتصف النهار القصير —
الممدود إلى الأمام بميل تقريبًا عاكسًا قامته — يتبعه إلى جانبه
منزلقًا على الرصيف الحجري القاتم، كان الظل قصيرًا لأن الشمس كانت
مرتفعة في كَبَد السماء، في قيظ الصيف، حتى إنه كان من المدهش أن يكون
لقامة الإنسان أي ظل – كانت أنَّا جريجوريفنا تسير إلى جانبه، متأخرة
قليلًا، حتى إن ظلها كان ينزلق وراء ظله، وعلى الرغم من أنه كان ظلًّا
قصيرًا أيضًا، كظله، فإنه كان أكثر جمالًا، على الرغم أيضًا من أن ميشا
وسونيا القادمَين كانا يجب أن يُغيِّرا من هيئتها في نهاية الأمر –
أحيانًا كان ظله يطغى على ظلها، عندما كان يبطئ من خطوه أو عندما كانت
هي تزيد من سرعتها قليلًا، وأحيانًا ما كان ظِلاهما يتشابكان، على أية
حال، هذا ما يمكن أن يبدو لنا فقط لأنه أمر يخالف أبسط قواعد الطبيعة –
مرةً أو مرتين شاهَد هنا، في بادن، على نحو عابر، تورجينيف وجونتشاروف،٢٩ كان جونتشاروف يتردد أيضًا على آل بانايف، لكنهما في تلك
السنوات لم يكونا قد تعارفا كل منهما على الآخر بعد، لكنهما تعارفا بعد
عودته من المنفى، في بيت جونتشاروف، هذا الشاب الكسول المنتفخ، تمامًا
مثل بطله أوبلوموف، الذي كانوا يدفعون له ٤٠٠ روبل مقابل الملزمة
الواحدة، في الوقت الذي كانوا يدفعون له هو، دستويفسكي، الذي يعاني من
الفقر ١٠٠ روبل فقط، كانت عيناه فاسدتين، مثل عيني سمكة مسلوقة، مُشبَع
كله برائحة المكاتب، على الرغم من أنه كان بإمكانه ألا يعمل مطلقًا
اعتمادًا على دخله، على أنه كان بخيلًا، على الأرجح؛ الأمر الذي لم
يمنعه، مع ذلك، من أن ينزل للإقامة في «أوروبا» أفضل فندق في بادن –
وفي هذا الفندق كان تورجينيف يقيم أيضًا مع ليتفينوف٣٠ بطل روايته «الدخان» – هذا البطل الذي لا هيئة له، في
رواية لا هيئة لها، والتي بذل فيها باتوجين٣١ جهدًا كبيرًا، هذا الثرثار الضار، الذي دأب على توجيه
الشتائم إلى روسيا، والذي ينحني أمام آخر مواطن ألماني، باتوجين الذي
دأب على زيارة ليتفونيف في هذا الفندق الفاخر، والذي ربما لا يسمحون
فيه لا لدستويفسكي ولا لأنَّا جريجوريفنا بمجرد الدخول ولو إلى البهو؛
لأنهما يرتديان ملابس مُزْرية، وإلى هذا الفندق نفسه كانت السيدة
روتميروفا، الحسناء إيرينا، زوجة الجنرال، تأتي سرًّا لزيارة ليتفينوف
– بعد أن تُسدِل على وجهها أحيانًا خمارًا، فتدخل إليه في غرفته بخطوات
خافتة، كما يتسلل إليها هو أيضًا بعد ذلك إلى غرفتها في نفس هذا الفندق
الفاخر، الذي كانت سلالمه مفروشة بالسجاد، والذي لم يكن ليسمحوا له —
على الأرجح — بالدخول إليه هو وأنَّا جريجوريفنا، كل ذلك كان يحدث في
الوقت نفسه الذي كان باتوجين يرى فيه أن روسيا كان من المفترض أن تنهار
منذ زمن بعيد في مكان ما مجهول، وحتى لو أن ذلك حدث لما انتبه إليه أحد
ما – كانت المرة الأولى التي يرى فيها تورجينيف بالقرب من محطة السكك
الحديدية – كان تورجينيف يسير في الممشى بين صفين من الأشجار بصحبة
سيدة ما، وقد مال برأسه الضخمة قليلًا، كان يعبث بلامبالاة بمنظاره ذي
السلسلة الذهبية، وقد راح يُصغي إلى السيدة على سبيل المجاملة فقط، أما
المارة، الذين كان يلتقي بهم وهم يتنزهون، فكانوا يُبطِئون لكي
يُمعِنوا النظر إلى هذا الكاتب الكبير، كاد دستويفسكي نفسه أن يسير هو
الآخر ببطء، فعل ذلك على نحو تلقائي لم يَعِه هو نفسه، حاول بعد ذلك أن
ينتحي جانبًا، لكن بعد فوات الأوان – لقد لمحه تورجينيف – ارتسمت على
وجهه علامات الدهشة الممزوجة بالفرح المصطنع، كما لو أن لقاءه مع
دستويفسكي كان مفاجأة غير عادية له، وكأن من غير المتوقع أن يراه وسط
هذا الزحام من الناس، الذين راحوا يتسكعون في تكاسل في هذا المنتجع
الأوروبي، وقد ارتدوا أفضل ما لديهم، على الرغم من أن تورجينيف كان
يعلم جيدًا السبب الحقيقي في وجوده هنا – لقد كان ولع دستويفسكي
بالقمار أمرًا لا يخفى على أحد – كان تورجينيف يرتدي بدلة خفيفة لونها
رمادي فاتح، أما السيدة التي كانت بصحبته فكانت ترتدي ثوبًا ثمينًا
خفيفًا أيضًا، سأله تورجينيف بصوت نسائي مرتفع لا يلائم شخصيته
الرفيعة، بعد أن توقف، وقد خلع قبعته البيضاء الخفيفة، حتى بدا شعره
الشبيه بلِبْدة الأسد، الذي غزاه الشيب الآن، والذي كان معجبوه
ومعجباته يؤكدون أنه كان يضفي عليه مهابة خاصة: «ما الذي أتى بك إلى
هنا يا صديقي؟» … «دعيني أُعرِّفكِ» — قالها تورجينيف مخاطبًا المرأة
باللغة الفرنسية — «السيد أَ … أَ …» توقف قليلًا، وكأنه لم يستطع أن
يتذكر الاسم على الفور «السيد دستويفسكي، مهندس سابق، والآن هو واحد من
أدباء بطرسبورج»، مد يده في قفازه الرقيق نحوه دون مبالاة، حاول أن
يستقبل هذه اليد وأن يقول كلامًا ما عامًّا، بخصوص الجو مثلًا أو أي
شيء آخر، لكن تلك اليد التي كانت تفوح بعطر ما صباحي مميز؛ اختفت –
سَبَح تورجينيف ورفيقته إلى مكان ما، بينما ظل هو واقفًا في مكانه، في
بدلته السوداء التي لا تناسب الموسم، ممسكًا في يديه بقبعته السوداء –
تمامًا مثل تروتسوتسكي بطل قصته «الزوج الخالد» – لم يكن تورجينيف
ليُفوِّت الفرصة مطلقًا ليصفه بالمهندس أو — عند الضرورة القصوى —
بالمهندس السابق، وكأنه يؤكد بذلك على أن الْتِحاق دستويفسكي بعالم
الأدب أمر غير حقيقي، وأن السيادة على هذا العالم هي في الواقع له هو،
تورجينيف، أما دستويفسكي فلم يكن سوى شخص مستجد – بعد عودته من المنفى
التَقَيا عدة مرات وكأنهما يلتقيان للمرة الأولى – شاركا في مسرحية أو
مسرحيتين خيريتين، وتبادلا الخطابات – كان دستويفسكي يحاول أن يجذب
تورجينيف للكتابة في مجلة «الزمن» التي كان يصدرها هو وأخوه، وفي بعض
الخطابات، التي أرسلها إلى تورجينيف في الخارج، كان يطلب منه أن يرسل
إليه على وجه السرعة قصة «الأشباح» لينشرها في مجلته، الذي حدث أنه لم
يكن يطلب منه، وإنما كان يتوسل إليه، بل وحتى في لهجة مُتشنِّجة، وفي
أحد خطاباته شرح له أنه يريد أن يراه، أو أن لقاءهما السابق لم يكن
كافيًا ليتضح لكليهما الأمر، وأنه ينبغي أن يلتقيا مرة أخرى وأن
يتفاهما، كل ذلك كتبه وأعاده في نفس الخطاب، وإنما من جديد على نحو
أكثر توترًا، مُقحِمًا الأصدقاء في الأمر، مدركًا ذلك، ومن ثَم مستمرًا
أكثر في لجاجته، في بداية الأمر، بعد أن تجددت علاقاتهما، كان تورجينيف
يتعامل معه بقَدْر ما من الحذر، ربما كان مشفقًا عليه، لكنه فيما بعدُ
راح من جديد ينظر إليه من خلال هذا الحذر بدهشة مصطنعة، تدعو مُحدِّثه
إلى الصراحة التامة، وعلى الرغم من أن الفِخاخ المنصوبة والمعوقات
الموضوعة لم تكن بهذا القدر من الوضوح، كما كان يحدث أيام حلقة بانايف
فقد كان عليه أن يظل طوال الوقت يقظًا، وإن تعثَّر رغم ذلك – كان يشعر
أنه يؤدي دور البهلوان الذي من الممكن أن يسقط في أي لحظة وأن يهوي إلى
أسفل، وفي كل مرة كان الحبل الذي يسير عليه يبدو أقل أمانًا، ها هو
بالكاد يحفظ توازنه عليه، يتوازن بمساعدة أيدٍ ممدودة إليه – تتعجله
نظرة اهتمام مصطنع بالكامل ومشاركة زائفة – هيا، أسرع، أسرع – ثم
«خطوة» واحدة، فإذا هو يسقط ليهوي في القاع – ما إن يستمع إلى هذا
الضحك المخلص الكاذب، الذي يستحق بعضًا من الصراحة المتبادلة، من أجل
ذلك كان من الممكن أن يرقص رقصة الكانكان بحماس بالغ، حتى بعد أن يسقط
طائرًا إلى أسفل، مُحدِثًا دوائر في الهواء – بعد أن وضع على عينيه
نظارته المتلألئة في برود، راح تورجينيف يتابعه باهتمام وتسامح، وقد
جلس في مواجهته في غرفته الواسعة في الفندق، بأثاثها الأبيض المُطعَّم
بالذهب، وسقفها المزخرف ونوافذها الكبيرة المغطاة بالستائر القرمزية –
نجح القادم في تجنب كبير موظفي الاستقبال، الذي سدَّ عليه بالأمس طريق
الدخول بكل وقاحة، بعد أن أخبره أن السيد غير موجود – راح يتنزه بالقرب
من الباب الزجاجي للفندق كما لو كان عن غير قصد، اختار اللحظة، التي
غاب فيها كبير موظفي الاستقبال في مكان ما، بعيدًا عن البهو، ليدخل
بسرعة عبر المدخل، ومنه، دون أن يتلفت، وكأن أحدًا سيطلق الرصاص على
ظهره، انطلق يهرول تقريبًا حتى وصل إلى السلم الرخامي العريض المفروش
بالسجاد ليصعد عبره، كأن سربًا من كلاب الصيد يطارده، وبعد أن استرد
بعضًا من هدوئه، حاول أن يضفي على نفسه الوقار اللازم، سار عبر الردهة،
متجاوزًا العديد من أبواب بيضاء عُلِّقت عليها لافتات تحمل أحرفًا
مزخرفة «آه، هذا هو أنت!» – صاح تورجينيف بصوته النسائي المرتفع وهو
يلتقي بالضيف بابتسامة ساذجة، بمزيج من السعادة والدهشة – كان يرتدي
روبًا طويلًا، مما جعله يبدو أطول قامة، ذقنه داكنة كثيفة، تخللها بعض
الشعر الأبيض، رأسه مكسو بهذه اللِّبدة الشهيرة، رمقه بنظرة اهتمام
مُرحِّبة خرجت من عينين رماديتين داكنتين، تلمعان ببريق ضارب إلى
الخضرة – قال له وهو يقوده إلى غرفة رحبة بها مكتب كبير، تكدست فوقه
كتب ومخطوطات، وهناك أريكة كبيرة، رُصَّت فوقها دون عناية بعض الوسائد
والمفارش: «لقد سمعت الكثير والكثير عنك وعن روايتك، على الرغم من أنني
لم أحظَ بعدُ بالاستمتاع بقراءتها – ومع ذلك، اسمح لي أن أتطلع إليك
جيدًا» – ابتعد تورجينيف عن ضيفه بضع خطوات، كأنه رسَّام يُقيِّم
لوحته، ثم إذا به يضع نظارته ذات السلسلة الذهبية على عينيه للحظة –
«إذن، أنت الآن أديب بحق بهذا الصديري»، اندلعت اللمعة الضاربة للخضرة
المختبئة في قاع عينيه، بوضوح، لتنطفئ فجأة – اكتسب وجهه مرة أخرى
تعبير السرور والاهتمام – «على كل حال، اجلس على النحو الذي يريحك»،
قدَّم للضيف كرسيًّا، بينما جلس هو على مقعد وثير، واضعًا ساقًا على
ساق، وهو يهز خُفَّه الضيق الطويل هزًّا خفيفًا، كان الخُف مُطرَّزًا
على نفس الطريقة المُطرَّز بها روبه التركي – كان قد اختار هذا الصديري
هو وأنَّا جريجوريفنا في درزدن، بدا لهما مميزًا على نحو ما؛ لأن زوايا
ياقته كانتا مستديرتين قليلًا، ومن ثم قررا أنه على الموضة، وقد قامت
أنَّا جريجوريفنا بكَيِّه – جلس، ثم راح يجول بنظره بقلق هنا وهناك، لا
يعرف أين يضع قبعته – معقول أنه جاء إلى هنا ليستمع إلى هذا الكلام؟
وهل تعرَّض للإهانة من كبير الموظفين لكي يجلس هنا زائرًا حقيرًا، بل
شحاذًا بالأحرى، على الرغم من أنه لم يطلب منه شيئًا؟ لحظة أخرى، ربما،
ليبدأ بعدها رقصة الكانكان – إنه يقف الآن على حافة الهاوية، خطوة
واحدة فقط تكفي ليسقط ويهوي إلى القاع، ثم راح ينظر حوله مرة أخرى بقلق
– قال له تورجينيف، بعد أن صوَّب نحو ضيفه نظرة خاطفة: «أعتذر عن بعض
الفوضى»، أو كما يقول الألمان
Unordnung٣٢ – «أظن أنك أصبحت ألمانيًّا منذ زمن بعيد، ومن ثَم فليس
عليك أن تعتذر»، هكذا جاء الرد في غير موضعه، كعهده دائمًا عندما يريد
أن يضرب بشدة، لكن ذلك لم يؤدِّ إلا لأن يزيد مُحدِّثه حنقًا، لقد اتخذ
خطوة نحو حافة الهاوية «وروايتك كلها ألمانية …» – الآن ها هو يطير إلى
أسفل، أما العودة فباتت مستحيلة – تشنَّج وجه تورجينيف على نحو غريب،
استلقى إلى الوراء في مقعده الوثير، وضع نظارته على عينيه كأنها درع،
أما القادم، فقد وضع قبعته على مائدة اللعب البيضاء المطعَّمة بالذهب
الموضوعة بينهما، تقدم كله للأمام، مثل مبارز، يستلُّ سيفه من غِمده –
«أعتبر كلماتك من قبيل المديح» – ردَّ تورجينيف: «إنه الأدب الذي أعطى
العالم جوته وشيللر …» لكن الضيف قام بهجوم مضاد: «أنت لم تعرف روسيا
مطلقًا ولم تفهمها، إن بطلك باتوجين، هذا الطالب البائس …» هنا تقدم
تورجينيف إلى الأمام بكل كيانه «على أي حال، روسيا كانت تملك — على ما
يبدو — كل الثروات الطبيعية من أجل تربية العنجهية الوطنية» – بهذه
الكلمات كان تورجينيف يُلمِّح — بطبيعة الحال — إلى سنوات المعتقل –
كانت هذه ضربة تحت الحزام «اذهب إلى باريس، واشترِ تليسكوب، وانظر من
خلاله إلى روسيا»، كان قد قرأ في مكان ما منذ فترة غير بعيدة عن هذا
التليسكوب، الذي أُقيم في باريس، والآن قالها دفعة واحدة – مرة أخرى
مال تورجينيف على ظهر مقعده، بعد أن أغلق نظارته الدرع – لقد تبارزا
بالسيوف، وهما جالسان على جانبَي مائدة اللعب المستديرة المطعَّمة،
ليطعن كلٌّ منهما الآخر – لقد دخلت هذه المبارزة تاريخ الأدب الروسي
باعتبارها معركة بين دستويفسكي وتورجينيف على ساحة الخلافات الفكرية،
المتعلقة بالعلاقات بين روسيا والغرب – وبعد مرور ما يزيد على مائة عام
لا تزال مشتعلة، بعد وصول العمال والفلاحين إلى السلطة، لتَتجدَّد
مُكتسِبةً قوةً جديدة – الرجل صاحب النظرة الحادَّة الثاقبة، ذو
التجعيدتين الحزينتين، الغائرتين على جبهته، الذي تم تسليمه برفقة نفر
من الحراس إلى مطار فرانكفورت أم ماين، المدينة التي تجوَّل في شوارعها
الزوجان دستويفسكي وهما في طريقهما إلى بادن – هذا الرجل الذي سافر إلى
الخارج ليكون ضيفًا دائمًا، الذي أقام خلف المحيط في إحدى ولايات
الشمال، حيث الطبيعة فيها تبدو عن بُعد فقط وكأنما لِتُذكِّره بالثلوج
والغابات في بلاده، وهو ما جعل وطنه يبدو له أكثر جمالًا مما هو عليه
في واقع الأمر، أو ما كان من الممكن أن يكون عليه – هذا الرجل كان كمن
يمسك في يده بعصا سباق التتابع، قبضة السيف، الذي حارب به ضيف تورجينيف
منذ ما يزيد على مائة عام، وها هو يلوِّح به بشدة ذات اليمين وذات
اليسار ليشقَّ به الهواء لا أكثر – وقف على كُثيب ثلجي عالٍ، بالقرب من
قطعة الأرض الملحقة بالبيت الصغير المحاط بحاجز من السلك الشائك – كان
يقف لسبب ما دونما غطاء رأس، كما لو كان يقف على قبر، بينما راحت الريح
تضرب شعره الناعم المستوي الخفيف، أما ذقنه، فقد خالطها المشيب أيضًا
وغطَّاها الصقيع وراحت قطرات من الماء المتجمد تتساقط منها – ومع ذلك
يبدو أنه كان يحارب الفضاء بسيفه فقط – كان مواطنوه ينامون في سلام أو
يشاهدون مباريات الهوكي العالمية على شاشة التليفزيون، مشجعين فريقهم،
وهم يشدون من أزر نزعتهم الوطنية بقرع الكئوس والأكواب، وهم يصيحون:
«هيا يا ساشا!» – كانوا يضربون بأكفهم المفتوحة رُكَبهم تارةً، ورُكَب
جيرانهم تارة أخرى، وقد احمرَّت وجوههم من الفرح أو من الضجر، ثم، وبعد
أن يترنحوا من السُّكْر، يبدءون في مشاهدة برنامج «فريميا»،٣٣ الذي يصفون فيه، بالمناسبة، هذا الرجل، الذي يقف فوق كثيب
الثلج، ملوِّحًا بسيفه، بالطريد أو الحثالة – ها هم يسألون بعضهم بعضًا
وهم يخبطون أكتافهم بأكتاف جيرانهم: «كوليا، يا كوليا، ألا تعرف لماذا
لم يطلقوا عليه الرصاص، هه؟!» – كل صباح، وبعد أن يحصلوا على زجاجات
البيرة من الكشك، كانوا يحرصون على شراء «زفيوزدا» و«كومسومولكا»،٣٤ هكذا كانوا يسمونها تدليلًا، ثم يروحون يتصفحون الجرائد
على مهل وهم في المواصلات، وقد بسطوها على رُكَبهم، في طريقهم إلى
العمل – إلى موقع بناء أو إلى أحد المصانع، وهم يتحدثون عن أحداث معركة
الهوكي التي دارت بالأمس، ثم يعودون من جديد للشرب، حتى قبل أن يحل وقت
الراحة – الرجل الذي أخذ سيف التتابع من دستويفسكي، لا يزال يُطوح به
بشدة، متهمًا الغرب بعدم فهم روسيا وطرق تطورها في المستقبل، هذا
التطور الذي ينبغي أن يقوم بشكل كامل على أساس الروح القومية، الرجل،
هو ورفاقه في الفكر أيضًا، اشتبكوا بأسلحتهم مع هؤلاء، الذين اعتنقوا
وجهة نظر مخالفة تجاه روسيا ومستقبلها – من بينهم بشكل خاص برز رجل ذو
شعر خفيف ضارب إلى اللون الرمادي ونظرة غير مفهومة تصدر عن عيون شهباء،
رجل له قَسَمات ناعمة – التعبيرات المباشرة لوجهه وعينيه كان يعوضها
هذا الوجه الممتلئ بالحيوية لزوجه، امرأة لها شعر داكن وعيون شديدة
السواد وذقن ذات خطوط حادَّة يوحي مظهرها بالثقة الشديدة – وهي التي
كانت تضع السيف في يده، وعندما كان يسقط من يده كانت تعطيه له من جديد،
بل وتشد بيدها على يده حتى لا يسقط منه، وهي التي كانت توجه حركة يده،
كما يفعل الناس مع الأطفال، عندما يعلمونهم الكتابة – كلاهما وقف فوق
متراس قلعة لمدينة روسية قديمة؛ حيث كانا مضطرين للعيش فيها، وقد ظهرت
خلفهما قِباب مُذهبة ولاحت هناك أبراج الكنائس والكاتدرائيات القديمة،
التي تم ترميمها حديثًا بقِبابها وأدوارها السامقة، لكن عينيهما كانتا
تنظران نحو الغرب، أما نظرة الرجل الواقف فوق كثيب الثلج في الطرف
الآخر من الكرة الأرضية، فكانت تتطلع نحو الشرق، نحو وطنه – إنها واحدة
من مفارقات التاريخ، الذي لم يكن مفارقًا على أية حال؛ لأنها كانت
محسوبة مسبقًا – كان الرجل والمرأة الواقفان على متراس القلعة يمسكان
لا بسيف، وإنما بصاري عَلَم، كانت قماشته البيضاء الضخمة، التي تصل إلى
الأرض، ترفرف إلى الهواء، لتظهر عليها كتابات، واحدة وراء الأخرى، تارة
باللون الأسود وتارة باللون الأحمر وتارة بالأصفر – كلمات تنادي،
تحذِّر، تطالب، كانا يقفان وصدراهما ممدودان للأمام وفوق أيديهما،
الممسكة بصاري العلم، شيء ما، يشبه المجموعة النحتية المقامة أمام مدخل
«معرض منجزات الاقتصاد الوطني»، والتي ترمز إلى دكتاتورية الطبقة
العاملة والفلاحين، وفي الوقت نفسه هي علامة إنتاج أفلام ستوديو
«موسفيلم» – العامل البرونزي بعضلاته البارزة وكأنها مأخوذة من أطلس
التشريح، وفلاحة المزرعة الجماعية ذات الضفيرة، وهما يرفعان معًا إلى
الأمام وإلى أعلى يديهما المتشابهتين، ممسكتين بالمنجل والمطرقة
الثقيلين، يدان ما، غير مرئيتين، فظيعتان شديدتا القسوة، كانتا تحاولان
أن تنزعا من فوق متراس القلعة الرجل ذا الوجه الخالي من التعبير
والمرأة السمراء النشيطة، لكنهما استمرا يلوحان بالعَلم، الذي يشبه
تمامًا إعلانًا مضيئًا، تومض عليه كتابات متنوعة الألوان على نحو
متتالٍ، كانت يد الرجل شاحبة، أَورِدَتها منتفخة عند ثنية الكوع، بينما
راح قلبه يعمل على نحو متقطع، وأحيانًا ما كانوا يحقنونه – كان مواطنوه
يكرهونه أكثر مما كانوا يكرهون الرجل الآخر المتخندق — الآن — في الطرف
الآخر من العالم، بل واعتبروه يهوديًّا – لقد طاف بالبلد كلها إلى أن
رحل مضطرًا إلى مدينته الروسية القديمة، كان يطالب بشيء ما مُخترِقًا
كردونات الشرطة، كانت زوجته تدفعه وهو يبسط بمساعدتها هذا العَلَم
الأبيض الضخم في أكثر الأماكن غير المتوقعة وفي أكثر الأوقات المفاجئة،
رافعًا عقيرته بالنداءات المتغيرة المتناوبة، جامعًا حوله عددًا غفيرًا
من الأجانب يتحدثون بلغة مشبوهة غير مفهومة يحملون كاميرات تصوير
فوتوغرافية وسينمائية، تمكنوا بمساعدتها — على الأرجح — من تصوير كل
أهوسة قناة موسكو-الفولجا، وكذلك كافة محطات السكك الحديدية والطوابير
التي اصطفت من أجل الحصول على البرتقال أو اللحم، من أجل استخدام كل
ذلك لأغراض عسكرية أو لنشر الأساطير والترهات عن بلادنا – «ارفعوا
أيديكم» – بهذا أراد مواطنوهم أن يصرخوا، بينما كانوا يقفون في
الطوابير أو في الورديات بالقرب من شبابيك التذاكر، في انتظار أن تفتح،
ولكنهم لم يكونوا يعرفون إن كان من الممكن أن يحدث ذلك؛ إذ لم تكن هناك
تعليمات في هذا الشأن، وها هم يلتزمون الصمت، هذا الصمت العدواني
المليء بالبغض قدَّمه هذا الرجل – الذي يُلوِّح بالعَلَم ويخترق
الكردونات، صمت مثل صمت المستعبَدين، وعن هذا الأمر نفسه صرخ بضع عشرات
آخرين، كانوا يلوحون بالأعلام، إنما على نحو أسرع – هؤلاء ظهروا أيضًا
فجأة، وفي أكثر الأماكن غير المتوقعة، حيث راحوا يلوحون بأعلامهم الرثة
الصغيرة، جامعين حولهم الأجانب الذين نقلوا لهم الأسرار الحكومية – كان
هؤلاء يتاجرون بالوطن – الأرجح أنهم كانوا جميعًا شُعثًا بأنوف طويلة –
لو أنهم عادوا إلى بلادهم لراحوا يلوِّحون بأعلامهم بقيادة هذا الرجل
الأهم نفسه، الذي كانت زوجته تحمل كنية غير روسية، كما كان هو نفسه
أيضًا يحمل كنية أجنبية، ولَأَرسل بهم عمومًا إلى أبعد مكان في العالم،
أو يُطلِق عليهم الرصاص، وذلك أفضل، هذا الحقير ذو الأنف الطويل، ومعه
في الوقت نفسه كل أبناء قبيلته، وهكذا فإن هذا الرجل الذي تخندق في
الطرف الآخر في العالم؛ قد راح — عبثًا — يلوِّح في هياج بسيفه – لقد
أحرزت بلاده تطورًا في الاتجاه الضروري لها دون مساعدة أو تلقين منه،
وذلك انطلاقًا من روحها القومية – كانت ظلال الزوجين دستويفسكي تنزلق
عبر أحجار الطريق مُكتسِبةً طولًا وهما يقتربان من المنزل؛ لأن المسافة
بين ممشى أشجار الكستناء، حيث كان فيديا يجلس على الأريكة في انتظار
أنَّا جريجوريفنا، وبينهما كانت مسافة لا يُستهان بها، وكانت الشمس
تُلهِب ظهره من خلال سترته البرلينية التي يرتديها – في اليوم التالي
بعد زيارة الفندق، وفي الصباح عندما كانا يتأهبان لتوِّهما لاحتساء
الشاي، أحضرت ماري لهما بطاقة زيارة من الورق المقوَّى المصقول كُتب
عليها بخطٍّ حسنٍ اسمُ شخص معروف للغاية – بالطبع، فقد اختار تورجينيف
هذا الوقت المبكر للغاية عن قصد، فقط ليكون بمثابة ازدراء مهذب، إذ من
ذا الذي يقوم بزيارة في مثل هذا الوقت؟! – أليس هو الذي رقص أمامه
آنذاك في الفندق رقصة الكانكان؟! – ما هي إلا برهة حتى رأى أمامه وجه
تورجينيف وقد ارتسم عليه هذا التعبير الذي يعكس دهشة مصطنعة مميزة له –
كلا، آنذاك في الفندق حاول أن يمنع هذا الوجه من أن يغيِّر من تعبيره
المعتاد – كانت عينا تورجينيف تتابعانه من خلال نظارته وقد ارتسمت على
وجهه سمات الاهتمام الشديد، والحذر وحتى الخوف المكتوم، وكأن صاحب هذه
النظارة خائف من أن يعقره كلب غاضب – أعجبته هذه الفكرة إلى حد أنه ضحك
– كانت الغُرف مظلمة يُخيِّم عليها الصمت أيضًا – عمال وِرَش الحدادة
كانوا يتناولون على الأرجح طعام الغداء، أما الأطفال، الذين لم يتوقفوا
عن الصياح الحاد طوال الليل والصباح فقد أخلدوا إلى النوم – ودَّ لو
نزع عنه سترته الثقيلة ولو لبرهة وأن يأوي إلى فراشه، لكن أنَّا
جريجوريفنا فتحت النوافذ والدرفات الخشبية، التي كانت تغلقها دائمًا،
بحرص وإتقان، عندما يغادران البيت؛ لأنها كانت تخاف اللصوص والحرائق
والعواصف، سرعان ما تسلَّلت إلى الغُرف أصواتُ الشارع ومعها رائحة
أزهار الأكاسيا وأشعة الشمس الساطعة – وَقْع الحوافر على أحجار الشارع،
العبارات العالية المتقطعة التي راحت النساء يتبادلنها في الفناء،
صلصلة العربات، التي توزع المياه أو البيرة – كلا، الآن لم يَعُد
بمقدوره أن يتحمل ذلك، إن عليه مغادرة المكان، كانت نظرته صارمة
مقهورة، نَدَّت عن أنَّا جريجوريفنا تنهيدةٌ، وتناولت كيس النقود وسحبت
منه بضع عملات ذهبية – دسَّها في جيب صديريته وقد راحت يداه ترتعشان من
جرَّاء نفاد صبره، وعلى الرغم من أنه كان لديه كيس، فإنه كان متعجلًا،
فهذا الجيب بات ملائمًا أكثر له أثناء المقامرة، فهو لم يكن يعرف
مطلقًا كم تبقى معه من المال، ولهذا فقد كان باستطاعته أن يحسب ما معه
على نحو أكثر يسرًا، دون أن يشغل باله دائمًا بسؤال كم تبقى لديه، ومن
ثم يبتعد عن كل ما يعوقه عن اللعب – بعد أن تقدم إلى الأمام راح ظله
يزحف خلفه؛ لأن الشمس — الآن — كانت تسطع من أمامه – كان يتردد بانتظام
بين محطة القطار والبيت، لا ينحرف عن خط سيره قيد أُنمُلة، اللهم إلا
ليمرَّ على مكتب البريد، لكن الناشر كاتكوف لم يرسل له نقودًا، أو
ليذهب إلى أحد المحالِّ أو إلى السوق ليشتري فاكهة وزهورًا من أجل
أنَّا جريجوريفنا، وهو في طريق عودته من محطة القطار عندما يكون رابحًا
– عمومًا فقد كان يذهب إلى ذلك التل، على الرغم من رائحة العطور التي
تفوح من بعض السيدات، الزائرات العابرات، اللائي كُن يقامرن بقطعة
نقدية واحدة، وكذلك على الرغم من وجود يهود وبولنديين يظهرون على نحو
مملٍّ أمام الأنظار، كان يصعد إلى التل، على الرغم من أنه كان يمشي
متعثرًا أو ينحدر متراجعًا إلى الوراء فجأة، وهو يفكر في كل مرة أنه قد
بلغ النهاية، ولكنه كان يكتشف أنه صعد مجرد تلة صغيرة في طريقه إلى
القمة، التي تقترب ببطء وعلى نحو مُطَّرد – أحيانًا كان يراها من خلال
ثغرات بين السحب – مغطاة بالثلوج التي لم تُمَس، كانت تلألأ تحت أشعة
الشمس وأحيانًا تومض بلون الذهب – ظلوا جميعهم أسفل – تورجينيف،
جونتشاروف، بانايف، نكراسوف – تشابكت أيديهم مُكوِّنين جوقة بائسة ما
عند سفح التل المغطَّى بوِهادٍ تفوح بضباب يفوح برائحة كريهة،
متململين، مملوئين بالزهو الفارغ – نظروا إليه في حسد وقد رفعوا رءوسهم
إليه، وقد ارتقى إلى قمة يصعب الوصول إليها – لم يعرفوا أبدًا هذا
الشعور الجارف بالتحرر والانعتاق الذي كان يشعر به، رغبة مجهولة تمامًا
بالنسبة إليه هي التي تدفعه للصعود – كان مضطرًا – كان عليه أن يتصرف
على هذا النحو – راح يخطو خطوات أصغر، وهو يقترب من مبنى محطة السكك
الحديدية؛ لكي يبلغ عدد الخطوات التي قطعها من البيت إلى هنا ١٤٥٧ خطوة
– هذا الرقم، وفقًا لحساباته السابقة، كان أكثرها توفيقًا – في تلك
المرات كان دائمًا يربح في القمار – عمومًا لم يكن هناك شيء مدهش في
هذا الأمر – كان رقم ٧ هو الرقم الأخير، بينما يبلغ مجموع الأعداد ١٧ –
مرة أخرى العدد ٧ – كان هناك شيء ما مميز في هذا العدد – عدد فردي
بامتياز، لا يقبل القسمة إلا على نفسه، ليس فقط وهو مفرد، ولكن في غالب
الأعداد الزوجية – ١٧، ٣٧، ٤٧، ٥٧، ٦٧ وهلمَّ جرًّا – كان رقمًا ذا
خصوصية – الخطوة الأخيرة قُبيل درجات السُّلم المؤدية إلى بوابة
المحطة، كان عليه أن يخطو خطوة صغيرة للغاية، هي ليست حتى بخطوة، وإنما
أصغر من خطوة، على أنه في النهاية استطاع أن يُبقي على عدد الخطوات
المطلوبة بحيث تصبح ١٤٥٧! – بعد أن عبر المدخل الفسيح بنافورته، التي
التفَّ حولها عدد من الفرنسيين، الذين راحوا يتبادلون الحديث في حيوية؛
صعد سُلمًا عريضًا على جانبيه تماثيل من الطراز القديم تفتقد إلى
الذوق، متجهًا إلى الطابق الثاني – كان يبدأ دائمًا بالقاعة الكبرى
الوسطى – راح قلبه يخفق، كأنه على موعد، أخذ يتحسس العملات النقدية عبر
قماش صديريته؛ لكي يتأكد أنه لم يفقدها – بعد أن تدافع عبر زحام
الفضوليين الذين أحاطوا بالمائدة، أعلن أنه يضع ثلاث قطع على الرقم
الفردي؛ لأنه عدد فردي – الآن شعر بالهدوء – كان الأمر الأهم بالنسبة
إليه هو أن يشق طريقه عبر زحام هؤلاء الغرباء العدوانيين، بدأ يشق
طريقه بحيث لا يسمح لأحد بأن يُوجِّه له إهانة، أو لكيلا يبدو أنه هو
الذي يوجه الإهانة – الأمر الآخر الذي لا يقل أهمية كان هو القمار، أي
أن يعلن عن نفسه – حاول أن يصيح معلنًا عن رهانه وشروطه – بدا له أن
نظرات كافة الجالسين والواقفين الآن حول المائدة مسدَّدة نحوه، وأنهم
جميعًا يظنون أنه جاء ليقامر من أجل المال؛ أي لحاجته الماسة إلى هذا
المال، ولهذا كان يحاول أن يصرخ قدر استطاعته بأعلى صوت وأكثر استهانة،
ولكن ما حدث أن الأمر قوبل بالتهليل، أو على العكس، أثار حفيظتهم، مما
دفعهم إلى التفكير بأن هذا الرجل لديه ظروف خاصة قاهرة دفعته إلى
المقامرة – الآن أصبح كل ذلك ماضيًا – وضع رهانه مرة أخرى على الرقم ٧
– حظ مضاعف ومبادرة مباشرة، ربح ثلاثًا ذهبية ليضع بعدها ستًّا أخرى
على الرقم الفردي، وإذا به يربح مرة أخرى، الآن، في الحقيقة، ها هو
يلعب على الرقم ٩ – كان حتمًا يتحول إلى الخسارة عندما يلعب على المانك
manqué؛٣٥ إذ إنه خرج إلى «باص»
(passé)٣٦ ثلاث مرات على التوالي – وضع خمس قطع من التسع التي ربحها،
فانهالت عليه الأرباح الواحد تلو الآخر – في
passé، وفي
manqué، على الأحمر أو على الأسود،
وحتى على الصفر، مرتين – ارتفعت كومة من العملات أمامه – تفضل شخص ما
بتقديم كرسي له، لكنه لم يجلس؛ حتى لا يغير سياق اللعب، لعله أيضًا لم
يكن يعي أن هذا الشيء هو كرسي ولا يعرف ماذا عليه أن يفعل به – كل شيء
كان يدور حوله مثل إعصار عنيف، لم يكن يرى ماذا يدور حوله، سوى كومة
العملات الموضوعة أمامه، وكذلك هذه الكرة الصغيرة التي تظل تدور حتى
تستقر في تلك الحفرة الغامضة، راح يأخذ ويأخذ وهو يجرف أرباحه من
العملات بيديه ليضمها إلى صدره، الذي انعكس عليه ضوء أحمر ذهبي –
انفتحت قمة التل أمامه فجأة من وراء السحب، التي ظلت في مكان ما في
الأسفل – إنه، الآن، في مكان شاق للغاية، حتى إنه لم يَعُد يرى الأرض –
كل شيء مغطًّى بالسحب البيضاء وها هو يمشي خلالها، ومن العجيب أنها
كانت تسانده، بل وتصعد به نحو قمة حمراء ذهبية لم يمسسها أحد، قمة كانت
تبدو له منذ زمن غير بعيد عصية المنال – وإذا به يسمع صوتًا ما، حادًّا
ومنفِّرًا، يقول له: «أيها السيد لقد أخذتَ عملتي، برجاء أن تعيدها!» –
المقامرون والفضوليون الذين تحلقوا حول المائدة التفُّوا حوله، كأنهم
يركبون أرجوحة الخيل الدوارة – أحدهم جذبه من كُمِّه – كان سيدًا حليق
الذقن، وجهه مسطح وشواربه مصبوغة، حدَّق فيه بعينين منتفختين لا لون
لهما – كان يتحدث الفرنسية، وإنما بلكنة رديئة ما، فلا هي بالبولندية
ولا هي بالألمانية – توقفت الأرجوحة فجأة، على الرغم من أن رُكابها
ظلوا يتمايلون بفعل القصور الذاتي – تجمدوا مثل لوحة حية، لكن نظراتهم
ظلت مُصوَّبة نحوه – وحتى المشرفون على مائدة القمار، الجالسون على
جانبيها؛ رفعوا وجوههم اللامبالية – عندئذٍ أدرك فجأة أن هذا السيد
يخاطبه هو، وأنه قد ضم بطريقة ما عملة هذا السيد المجهول، لكن ماذا
يعني كل ذلك له بالمقارنة بتحليقه نحو القمة التي فُتحت أمامه – غمغم
معتذرًا بكلمات ما، قائلًا إن ذلك حدث من قبيل السهو، ثم عاد مرة أخرى
يواصل سباحته في السحب بفعل القصور الذاتي، ودون أن يدرك ما يحدث –
«أظن أن ذلك لم يحدث من قبيل السهو»، قالها الشخص المجهول بصوته الحاد
الجلي، ناظرًا نظرة تحرش، مطلقًا في وجهه أنفاسًا تفوح برائحة البفتيك
والنبيذ الأحمر، للحظة من الزمن خُيِّل إليه أنه توقع كل ذلك منذ فترة
بعيدة، اندفع بخفة غير عادية هابطًا من التل كالسهم، إلى أسفل، إلى
هناك، حيث لاحت له عبر ضباب المستنقعات وجوه أشخاص معروفين راحت تقترب
منه بسرعة – كانوا جميعًا يكونون جوقة غريبة، لكنه الآن لم يَعُد
بائسًا، كانوا يمسكون أيديهم بأيدي بعض، يُغَنون كوبليهات ما، وفي
الفواصل بينها يصرخون بكلمات ما، هذه الكلمات كانت تمسه هو، لكنه لم
يكن قادرًا على فهم مغزاها، على الرغم من أنها، استنادًا إلى كل ما
يحيط به، تضمنت سخرية منه – وإذا بأشخاص آخرين ينضمون إلى الجوقة، لم
يستطع أن يتبينهم، لكن واحدًا منهم — على ما يبدو — لاح وجهه واضحًا؛
وجه قرمزي بعيون متنمرة، وكذلك لاحت وجوه عدد من النسوة – ألَسْن هن
النسوة اللائي كُن يختلسن النظر عبر نافذة بوابة الحرس ذات القضبان
الحديدية؟ عاد من جديد يغمغم بشيء ما مبهم، حتى إنه — على ما يبدو —
همَّ بأن يعيد للرجل المجهول قطعة من النقود، لكن هذا كان قد اختفى –
لم يعد يرى منه سوى ظهره وهو يبتعد، هناك بعيدًا، خلف حدود حلقة
المقامرين والفضوليين، الذين كانوا يحيطون بالمائدة – «سافل»، قالها
لأنه رأى أن من الضروري — على الأرجح — أن تُقال هذه الكلمة في مثل هذه
الظروف، لكنه قالها بالروسية، بل وبصوت منخفض مبهم، وكأنه يقولها لنفسه
– ابتعد الرجل المجهول منتصرًا، وقد شبك يديه خلف ظهره، وها هو يخطو
خطًى واثقة كأنه قائد عسكري ينصرف مزهوًّا بانتصاره – خيَّم صمت غريب
على صالة القمار، كان ذلك على أية حال إيذانًا بالنهاية، راح الضوء
الأصفر للثريا البلَّورية يتسلل بصعوبة عبر دخان السجائر، بينما غرقت
أركان الصالة في عتمة شديدة – وفجأة إذا به يستمع إلى الأصوات والسعال
وكأنه انتزع من أذنيه قطنًا – بدا له أن الناس راحوا يتحركون ويتحدثون،
كان المشرفون على مائدة القمار يعلنون النتائج بصوت مرتفع، المقامرون –
المراهنات والشروط – تخلَّى عن دوره في اللعب، كان ذلك بالنسبة إليه
كأن إنسانًا راح يعدو وقد أُصيب بجرح قاتل – خسر في الضربة التالية، ثم
إذا بخسارة أخرى، عاد ليراهن على صفر وإذا بكوم العملات ينخفض أمامه
على الفور، إلى النصف تقريبًا – واصل سقوطه، وَجْه تورجينيف يتعاظم —
الآن — حتى يصل إلى مقياس غير طبيعي، وقد كساه تعبير ينم عن دهشة
وتعاطف مصطنعَين، وانفصلت صورته الضخمة عن باقي الجوقة البارزة، وهو
يصاحبها غناء المقاطع الساخرة، راح الباقون أيضًا يرقصون ويرددون
الغناء – عندما خرج إلى الشارع أصابه ضوء النهار بالدهشة، كان يظن أن
الليل لا يزال يخيم منذ فترة طويلة، آباء مع زوجاتهم عائدون من
الكنيسة، وآخرون يقودون أطفالهم بعد انتهائهم من التنزه، العربات
والمركبات تنطلق في الشارع، عَبَرت الطريقَ أمامه قطةٌ سوداء، وبحكم
العادة، وبتأثير الخرافات، توقف، لكنه أمعن النظر بعدها ليتضح له أنها
كانت كلبًا من الأنواع الضئيلة، على أية حال فالقادم لن يكون أسوأ مما
مضى – «سافل!» قالها لذلك المجهول بالفرنسية ثم لطمه على خده المسطح،
مثل طست، كانت أذناه مفلطحتين بارزتين، آلمته يده من الضربة – ترنح
المجهول ثم سقط على الأرض ببطء، وانشقَّ المقامرون والفضوليون ليفسحوا
له مكانًا على الأرض، ثم تجمعوا بعدها حوله – أما الباقون فقد اندفعوا
نحو الضارب ليخرجوه من صالة القمار، ولكنه وقد تملَّكته نشوة روحية
أطاح بهم جميعًا، ليفلس البنك كله إلى الصفر – وقف عند قمة التل ومن
هناك، بقدر ما رأت عيناه، تراءى له فراغ رحب، تناثرت فيه المدن
كاللُّعب، وامتدت الغابات خضراء داكنة، وقد بدت من هذا الارتفاع مثل
أدغال من شجر قصير، وبعيدًا وراءها تراءى له بحر أزرق لا شُطآن له، وقد
الْتَحم بسماء لها نفس الزرقة – كان من الأفضل له أن يلطم هذا الرجل
على وجهه بقفازه، لقد واصل القمار على نحو لم يحدث من قبل، معلنًا
رهانه بكل هدوء، وكأن شيئًا لم يحدث، أو كأنه لم يدعُ الرجل إلى
المبارزة – في صباح باكر في ضواحي بادن، وفي مكان ما في أحد الشِّعاب
يقع خلف القلعة القديمة، هبطا من ارتفاع عشرين خطوة – كان قد صوَّب
ضربته إلى صدر المجهول مباشرة، وفي اللحظة الأخيرة، وقبل أن يطلق عليه
الرصاص، عفا عنه – وعندها ركع المجهول على ركبتيه وقبَّل قدميه، أما هو
فقد رفعه عن الأرض – وإذا به أمام رجل يرتدي بدلة سوداء، دون قبعة،
نسيها في حجرة خلع الملابس، سار في ممشى Lichtentaler
Allee دون أن يُلقِي بالًا إلى المارة، الذين راحوا
يُبْدون بعض الإشارات، أو ينطقون أحيانًا كلمات بصوت مسموع – كان نسيم
صيفي دافئ يهبُّ قادمًا من مكان ما من شفارتسفالد، أو تيوينجين، راح
شعره الخفيف يهتز قليلًا؛ الأمر الذي جعل نُتوءَيْ وجهه الشهيرَين
يبدوان أكثر بروزًا – كان القطار متوقفًا عند محطة بولوجوي، هذا هو
التوقف الثاني والأخير للقطار الواقف على خط سير موسكو-ليننجراد – باب
مدخل العربة يصفق، وتسبب فتيان وجنود في دخول عمود من البخار البارد
إلى داخل القطار، بعد أن قفزوا من العربة، دون معاطف، ليركضوا على
الرصيف المغطى بالثلج نحو كشك البيع الوحيد، الذي أضاءته لمبة كيروسين
وحيدة، حيث اشتروا بعضًا من الفطائر المحلية وزجاجات بيرة، يُذكِّرك
لونها بالبول المركَّز الذي تعلوه رغوة طفيفة، في الطريق تغطت النوافذ
بطبقة كثيفة لا هي ثلج ولا هي جليد، على أنه وعبر هذه الستارة البيضاء
الضاربة إلى اللون الرمادي، نفذت أضواء المحطة وظلال المارة المهرولين،
وكأنها تنفذ من خلال جفون متثاقلة – وفي مكان ما إلى الشمال الغربي، أي
على بعد ما يزيد على مائة كيلومتر من هنا، وتحت غطاءين؛ الليل والجليد،
ترقد بحيرة إيلمين، تلك البحيرة ثلاثية الزوايا، أو متعددة الزوايا،
مثل كل البحيرات، وفي كل زاوية يصب نهر من الأنهار، وقد امتدت على
التل، عند شاطئها الشمالي مدينة نوفجورود بأجراسها وكنائسها، التي تعود
إلى القرنين العاشر أو الحادي عشر، المبنية على نحو صارم وراسخ، وهي
ذات نوافذ ضيقة تقع على ارتفاع شاهق، تشبه المزاغل، ولها قِباب
مُذهَّبة تُتوِّجها صُلبان ثمانية مُخرَّمة، ترمز إلى المذهب
الأرثوذوكسي – على سطح البحيرة الزرقاء انعكست سحب بيضاء خفيفة، بينما
راحت سفينة ذات عجلات تسبح فوقها على مهل، وقد راح ريش العجلة يخفق
يحرك المياه، ليتطاير رذاذه على سطح السفينة، إلى حيث صعد الزوجان
دستويفسكي مع طفليهما ليشاهدا الصباح الصيفي الرائع – ناظرَين إلى
قِباب كنائس نوفجورود وهي تتلاشى بعيدًا، انحنى فيودور ميخايلوفيتش
أمامها ورسم علامة الصليب، وقد ضم أصابعه الثلاثة بجدية، حتى إنها تركت
على بدلته المتهدلة بعض الشيء على كتفيه اللذين ازدادا نحولًا في
الآونة الأخيرة؛ بعضًا من الانبعاجات، وعلى إثره رسمت أنَّا جريجوريفنا
بدقة أيضًا علامة الصليب مع انحناءة، وكانت ترتدي شالًا أسود، ثم قاما
كلاهما برسم علامة الصليب على طفليهما ليوبوتشكا وفيدينكا؛ طفليهما
العزيزين، كما دأبا على تسميتهما في خطاباتهما، كانت سونيتشكا، التي
وُلدت في جينيف قد تُوفِّيت سريعًا وهي لا تزال رضيعة – كانت السفينة
التي أقلَّتهما تحمل اسم «فيتياز» (الفارس) وقد نُقش الاسم بزخرفة
مُذهبة على لوحة تغطي العجلة، وقد راحت السفينة تقطع بحيرة إيليمين
متجهة نحو الشاطئ الجنوبي لها، كانت تسير ببطء مع التيار، في البداية
إلى لوفاتي، ثم إلى نهر بوليستي، الذي يصب فيها، وأخيرًا، إلى
بيريريتسي، متابعة سيرها عبر مجرى الأَنهُر المتعرجة، متجنبة بحذر
الأماكن الضحلة، مُطلِقة صافرتها لتحذر الزوارق المقابلة – لاحت من
بعيد أجراس وكنائس ستاريا روسا، ليعود الزوجان دستويفسكي مرة أخرى
ليرسما علامة الصليب عدة مرات، وينحنيان، ثم يرسمان علامة الصليب على
طفليهما – في ساحة الكاتدرائية غير بعيد عن كنيسة البعث كان يقع بيت
جروشينكا مينيشوفا٣٧ امرأة ذات أصابع جميلة في أقدامها وصوت عذب، إنها جروشينكا
التي هجرها خطيبها الملازم، والتي أصبحت صديقة مقربة إلى أنَّا
جريجوريفنا، التي شاركت في مسائلها العاطفية، حتى إن فيودور
ميخايلوفيتش كان يحسدها أحيانًا على ذلك – وجروشينكا هذه هي نفسها التي
وصفها في روايته بأنها الفتاة التي وصمها هذا الضابط بالعار منذ شبابها
المبكر، والتي عاشت بعد ذلك في كنف تاجر شهواني ثري، وفي ليلة وقوع
الجريمة البشعة تسلل ديمتري كارامازوف إلى منزل والده، فيودور
كارامازوف، مخترقًا السِّياج والحديقة الخلفية – وفي هذا البيت – الذي
كان قائمًا عند ناصية شارعين – ذي الحديقة الكبيرة والمحاط بسياج مرتفع
وحمَّام، عاش الزوجان دستويفسكي، كانا يأتيان إلى هنا قادمَين من
بطرسبورج، وأحيانًا كانا يأتيان في الشتاء أيضًا – خلف البيت حارة
مسدودة، نَمَت فيها نباتات شائكة، عثر دستويفسكي تحتها على يرقة فراشة،
أو إن شئت الدقة، على شرنقة، قلبها غامض، تفوح برائحة زكية للغاية وقد
بدأت في التحلل – من المحتمل أن يكون قد أخذ معه هذه الغنيمة إلى البيت
– كانت غُرف البيت مجهَّزة بحواجز وفواصل، فقد كان في بيته العديد من
الزوايا والأدوار العليا والسلالم، وكافة أنواع الأماكن المعزولة
والخفية – وعند تلك النباتات الشائكة عثر فيودور بافلوفيتش كارامازوف
على ليزافيتا سميردياشايا في ثوب من القِنَّب فقط – كان هناك شيء ما
مهين وشَبَقي في أن يطلق دستويفسكي اسمه، فيودور، على بطله – في غرفة
العجوز كارامازوف، التي تفصلها عن بعضها البعض الحواجز والمصاريع، وعند
السلم المؤدي إلى أعلى دارت المعركة بين الأب والابن بسبب جروشنكا –
بينما راح أليوشا وإيفان والخادم جريجوري يمنعان بالتناوب تارة ديمتري،
وتارة أخرى فيودور بافلوفيتش، الذي راح يجأر في ذروة غضبه: «أوقفوه،
أوقفوه!» – انقضَّ ديمتري، الذي تخلص من بين يدي أخويه اللذين أمسكا
به، على أبيه، بعد أن بعثر وحطَّم في طريقه الحواجز والأثاث والفازات،
ثم وجَّه لأبيه لكمة شديدة أطاحت به أرضًا، ثم راح يركله بقدمه في رأسه
– دوَّى من خلفي صوت ما يقول: «لقد أشبعه ضربًا!» توقفتُ عن متابعة
الشاشة – التفتُّ للخلف، كان الجالسان ورائي يتناوبان شرب الخمر من
زجاجة، واستمرت البقبقة حتى نهاية العرض، صوت يشبه رشاش مياه راكدة ساد
قاعة العرض، تارة مثل قهقهة، وتارة زعيقًا، وخاصة أثناء حديث إيفان مع
الشيطان عن الإيمان وخلود الروح، وبنفس الطريقة تمامًا كان السائحون،
الذين يقومون بالجولات التي تنظمها النقابات المهنية لرحلة موضوعها
«عبر أماكن دستويفسكي في ستاريا روسا» يشربون البيرة والفودكا، وبعد أن
يصلوا إلى المكان المنشود، يشرعون في السباحة في نهر بيريريتيس، ثم
وبضربات قوية، يقتربون سباحةً من رفَّاص السفينة نفسها لكي يتأرجحوا مع
الأمواج – كان دستويفسكي يتمشى في غرفة مكتبه في ستاريا روسا، حيث يظهر
أمام عينيه جانب من الكاتدرائية، والكورنيش، والشارع الملاصق له؛ لأن
البيت الذي كان يسكنه كان يقع — دائمًا — على الناصية، فكانت نوافذ
الغرفة تطل على ناصية البيت نفسه، كان يقطع الغرفة جيئة وذهابًا ناظرًا
من النافذة على قبة كاتدرائية أوسبينسكي، التي لمعت بلون الذهب تحت
أشعة الشمس الغاربة، وهو يملي على أنَّا جريجوريفنا «المفتش الأعظم» –
فتح القاضي الرهيب الباب الحديدي، فصلصلت أصفاده، وخلف الباب كان هناك
هذا الأسير في ملابسه التي لم تَبلَ على مدى ألفَي عام،٣٨ وعلى رأسه إكليل من الشوك، بعد أن عاد إلى هذه الأرض
الخاطئة نفسها، والتي لا تزال على عهدها في تلك الأزمان، يعود ليعاني
مرة أخرى نفس الحزن الناتج عن عدم الفهم والاغتراب، ومن جديد يبيت
محكومًا عليه بالعذاب، وعليه أن يكفِّر عن خطايا الآخرين (أم تُراها
خطاياه هو؟!) سائلًا الناس أن يجترحوا تلك المآثر وأن يعانوا تلك
الآلام، التي لم يكن هناك أحد ندًّا لها سواه – على أية حال فقد قام روزانوف٣٩ بعد ذلك بتفسير المغزى الفلسفي والديني العميق ﻟ «المفتش
الأعظم»، وروزانوف هو كما وصفه أحد معاصريه هو شخص على شاكلة مؤلف
«الإخوة كارامازوف» – لعل هذا التشابه قد تجلى في البنية غير العادية
لجمجمته ذات الشكل المخروطي (تشابه آخر بينهما) المكونة، بدورها، من
العديد من الزوايا، وربما في مصيره الغريب المشهور، فهو نفسه الذي أصبح
زوجًا لهذه المرأة التي رافقت دستويفسكي يومًا ما في رحلته إلى
إيطاليا، ثم على ظهر سفينة في قَمَرة واحدة، بعد أن توسل إليها أن يكون
صديقها، صديقها فحسب، ونَجيُّها في علاقتها العاطفية مع هذا الإسباني
التافه، الذي راح يدَّعي تارة أنه بارون، وتارة أخرى أنه فيكونت، والذي
هجرها كشيء لا قيمة له، مثل ثوب بالٍ، بعد أن داس على مشاعرها وأذل
كبرياءها، وهو ما جعله يزداد رغبة في امتلاكها، وفي الوقت نفسه، كان
لديه من الأسباب أن يعتبر أنها في النهاية قد ندمت على ذلك، ألم تأتِ
إليه قبل عام من هذه الرحلة المشئومة، وكانا لا يزالان في بطرسبورج،
إلى شقته في هذا البيت القائم على الناصية، على القناة، في غَبَش
السَّحَر الخريفي، وقد راح جسدها كله يرتعش، وقد نفذ البرد إلى عظامها،
وقد أنزلت خمارها؟ – تمامًا مثل بطلة عادية من روايات بلزاك – أم أن
ذلك كان محض خيالات متأخرة، أم — ربما — كان ذلك من بنات أفكار كُتَّاب
سيرته، بل وربما كانت أكاذيب افترتها عليه هي نفسها؟ – لا يزال القطار
يسير منذ فترة طويلة، بعد أن ترك خلفه في مكان ما محطة بولوجوي بكشكها
الخيالي على الرصيف، وقد أضاءته لمبة كيروسين – كانت العربة تتأرجح من
هذا الجانب إلى الجانب الآخر بكل الركاب الجالسين بداخلها، ومعهم
المصابيح المعتمة والحقائب، التي انعكست صورتها على نحو متكرر على زجاج
النوافذ السوداء، والتي كانت مساحات شاسعة لا تُرى من الثلج تجري
خلفها، حتى إن أنَّا جريجوريفنا اضطُرت للتوقف عن كتابة «اليوميات»،
حتى لا تسقط أوراقها على الأرض من فوق الطاولة الصغيرة المهتزة، ولكيلا
تتقافز الأسطر أمام عينيها – ما إن وصلا إلى البيت، حتى جثا فيديا على
ركبتيه أمام أنَّا جريجوريفنا، حتى إنها ذُهلت وأخذت تتراجع إلى مكان
ما في زاوية الغرفة، لكنه زحف على ركبتيه خلفها مكررًا: «سامحيني،
سامحيني» و«أنتِ ملاكي»، لكنها استمرت في التراجع جانبًا، أما هو، فبعد
أن هبَّ واقفًا على قدميه راح يضرب الحائط بقبضتيه، ثم عاد ليضرب بهما
رأسه، وقد بدا الأمر وكأنه يفعل ذلك عن قصد، كأنما يؤدي دورًا هزليًّا،
حتى إنها للحظة من الزمن غلبها الضحك، لكنها خافت أن تسمع صاحبة المنزل
ما يدور، فضلًا عن أن ذلك قد ينتهي بوقوعه في نوبة صرع – هرولت نحوه
وحاولت أن تسنده – كان وجهه شاحبًا، راحت شفتاه ترتعشان، مالت ذقنه نحو
كتفه – اعترف لها، وهو واقف على ركبتيه، بندمه على خسارته، وأنه كان
سببًا في تعاستها، لكنها لم تستطع أن تُقدِّر أو تدرك عمق آلامه
وإحساسه بالمهانة، وإنما نظرت إليه وهي واقفة في مكانها عند زاوية
الغرفة، في دهشة، بل وأيضًا بابتسامة خبيثة – تُرى ألم تكن تسخر منه؟ –
عندها هبَّ واقفًا على قدميه، وراح يضرب الحائط بقبضتيه كمن يقرع
طبلًا، لعلها تفهم في النهاية، لعل الجميع يفهم، لعل صاحبة البيت تفهم،
لعل الكل يفهم! لقد راح يضرب الحائط وقد بلغ غضبه ذروته، لكن ذلك لم
يكن كافيًا، ربما لأن خلف هذا الحائط لم يكن هناك أحد يتحرك، استمرت
أنَّا جريجوريفنا مُسمَّرة في زاوية الغرفة، راح يجري في أنحاء الغرفة،
مصطدمًا بالكراسي، مطيحًا بها جانبًا، ضاربًا رأسه بقبضتيه، حتى أصاب
الألم كفيه، وبعد أن هرولت نحوه حاولت الإمساك به – الآن لا شيء سوى
الرعب يكسو وجهها – نعم، كانت تخشى الضجيج، الفضيحة ولا شيء أكثر! كانت
تشعر بالخزي بسببه! – لم يذهب خجلها هدرًا! – دفعها صارخًا أنه سيلقي
بها الآن من النافذة، وهو يدرك تمامًا أنه لن يفعل ذلك – راحا يتنفسان
بصعوبة وهما ينظران كلٌّ للآخر، هي بشعور الخوف والتوسل، وهو بالكراهية
وشراسة الوحش الجريح – راحت شفتاه ترتعشان مرة أخرى، وقد شوَّه الألم
وجهه، «فيديا، يا عزيزي!» – مالت عليه، وبعد أن أحاطت رأسه بذراعيها،
التصقت به – كل الضيم والأذى، كل الحزن وإهانات اليوم التي تجمعت
بداخله تصاعدت إلى حَلْقه كتلة واحدة، كتلة من المرارة واللذة، مثلما
كان يحدث في طفولته بعد كل فضيحة يثيرها والده، آنذاك كانت أمه تتسلل
إلى غرفته خلسة، وبخطوات خافتة كانت تقترب من فراشه، تنحني فوقه،
معتقدة أنه نائم، تمسح بهدوء وجهه وتُقبِّله – تتوقف الكتلة في حَلْقه،
تنفجر إلى نحيب مكتوم في البداية، متحفظ، ثم يرتفع، يُفرِّج به كربه،
نشيج مرير عذب، لُهاث – تشد من أزره، تمسح دموعه بمنديلها، أنَّا
جريجوريفنا تقود فيديا إلى فراشه، تخلع عنه سترته وصديريته، تساعده في
الرقود، تغطيه، كانت مندهشة أن يكون رجلًا ذكيًّا، مثل زوجها، يمكنه أن
يبكي – كان شيئًا أشبه بنوبة الصرع، نفس المرض، غمرها شعور حاد بالشفقة
تجاهه، وفي الوقت نفسه إحساس بالمسئولية (تجاه من؟) كما لو كان طفلها –
كان جسده لا يزال يخفق، لكنه كان خفقانًا يشبه رشاش المياه عند الشاطئ
نتيجة سقوطها على جلمود صخر في البحيرة، راحت تعتني به، ربطت رأسه
بفوطة مبللة، قبَّل يديها وناداها بالملاك، ثم راح يحكي لها في حيرة
وتشوش ما حدث له في صالة القمار، لكنها قالت له إن كل ذلك أمر تافه،
وإن ذلك الرجل قد سمع بطبيعة الحال أن فيديا وصفه بالسافل؛ لأن هذه
الكلمة، رغم أنها قيلت بالروسية، لكن الجميع يعرفونها، وإذا لم يكن قد
فهمها فإن آخرين قد فهموها، وإنه على العموم ما كان ينبغي له أن يتعامل
مع ذلك السافل، ها هو يُقبِّل يديها مرة أخرى، لأنه أصبح، الآن، مدينًا
لها مرتين – لكنهما بعد الغداء، عندما ذهبا للتنزه في ممشى
Lichtentaler Allee، حيث يتنزه كثير من
الناس في هذه الساعة، إذا بفيديا يروح يصطدم بكتفه بالمارة، سواء من
كان منهم يسير منفردًا أو بصحبة سيدات، ومرة أخرى يتراءى أمامه ذلك
الوجه المسطح للسيد ذي الأذنين المفلطحتين، الذي أهانه – في هذه اللحظة
كان يعرف ما الذي عليه أن يفعله؛ إن عليه أن يدفعه كما لو كان الأمر عن
غير قصد، وإنما بقوة تكفي لإسقاطه، أو حتى تجعله يتمايل، أو — على أقل
تقدير — تجعله يشعر أن نزوته التي اقترفها لم تمر هباءً – كان المجهول
ذو الوجه المسطح والعينين الزائغتين المبتذلتين موجودًا بالنسبة إليه
في كل مكان – فتارةً يخرج من أي ممشًى جانبي، وعندها يسرع فيديا نحوه
قاطعًا عليه الطريق، معترضًا سيره، كان الرجل يخطو خطوات لملاقاته
مليئة بالثقة، بمشية أنيقة، كان على فيديا أن يُشوِّش هذه المشية، أن
يرغمه على تذكره، تخطَّى الرجل كلًّا من فيديا وأنَّا جريجوريفنا،
عندئذٍ كان عليه أن يلحق به وأن يلقِّنه درسًا – حاولت أنَّا
جريجوريفنا أن تمسك فيديا، لكنه راح يصطدم بالمارة في طريقه من الألمان
الأفاضل، ثم راح فجأة يلاحق بعض السادة المجهولين، حتى إن الأمر وصل
بها إلى أنه بعد عدة دقائق وجدت نفسها وحيدة وسط هذا الجمهور المتباين،
الذي كان يتنزه، ممسكة بالمظلة وفي يدها طرحة مطرزة، أهدتها لها أمها،
ليأخذها فيديا بعد بضعة أيام ليرهنها بعد عدة خسائر متوالية – أخيرًا
تمكنت أن تجذبه إلى أحد الطرقات الجانبية، خالٍ من الناس، ومن هناك
انطلقا لسماع الموسيقى – مساء من أمسيات شهر يوليو هبط على المنتجع
الألماني في مدينة بادن، وهناك بعيدًا، أعلى جبال شفارتسفالد
وتيورينجين، خيمت غيوم بنفسجية في مكان ما، وخلفها تمامًا في مكان ما
بعيد اشتعل وميض خفيف، وبالقرب من المدينة، وفوق التلال المحيطة بها،
المغطاة بالنباتات الداكنة، تراءت القلعتان القديمة والجديدة،
المبنيتان بالقرميد الأحمر، بأبراجهما المسننة، وعلى جانبيهما قلاع
الفرسان القديمة – بعد مرور عدة أيام تذهب أنَّا جريجوريفنا لتتسلق
التل صاعدة إلى أعلى عبر الدرجات الحجرية إلى القلعة، تارة القديمة،
وتارة الجديدة – كانت تهرب من فيديا، الذي راح يطلب منها، بعد أن مُنِي
بالخسارة، ما تبقَّى لديها من نقود، كان عليها أن تدفعها لصاحبة البيت،
فقد كان من الممكن ببساطة أن يُطردا من الشقة التي يسكنانها – كانت
تركض عبر السلم على نحو ما من الخفة والرشاقة غير المعتادة، كأنها لم
تلد لاسونيتشكا ولا ميشا، ولكنها عندما بلغت البسطة الثالثة أحست
بالإرهاق، آلمتها معدتها بشدة ثم تقيأت، حتى إنها اضطُرت للجلوس على
إحدى الأرائك، عندها راح كل مار بالقرب منها يرمقها بنظرة؛ لأنهم رأوا
أنها تعاني من الإغماء تقريبًا، وعندما عثر عليها فيديا عاد من جديد
ليجثو أمامها على ركبتيه، هنا مباشرة، أمام أنظار الجميع، أما هي فقد
غطت وجهها بيديها حتى لا يراها أحد من الغرباء، ولأن القيء كان قد بلغ
حلقها – ضرب نفسه بقبضتيه على صدره، وقال لها إنه هو سبب شقائها، لكن
ذلك لم يعد يخيفها كما كان الأمر من قبل؛ لأنها تعودت سماعه، أعطته
النقود، على الرغم من أنها كانت تعلم أنه سيخسرها، ظلَّا جالسَين على
المرج بالقرب من مبنى السكك الحديدية يستمعان إلى الموسيقى النمساوية –
كانوا يعزفون «إيجمونت»، كان هناك شيء ما في هذه الموسيقى يتماشى مع
التلال المتراكمة البعيدة وقد غطتها الغيوم البنفسجية، وقد لمعت بوميض
خفيف – تسلَّقا الجرف معًا، هي بسهولة وسرعة متتبِّعةً النتوءات
الغريبة الشكل للممرات الضيقة، متسلقةً الطريق الصاعد وسط غابة من
الشُّجَيرات والصخور وأطلال قلاع الفرسان، أما هو فقد اتخذ طريقًا
عموديًّا، منحدرًا قليلًا – يكسوه الثلج، لم تمسَّه من قبلُ أقدام
بشرية، راح ينزلق، يسقط، لينهض من جديد، مثيرًا في مكان ما وراءه
وأسفله موجة من الضحك، وأناس يتمايلون وقد راحوا يشيرون إليه بأصابعهم
– أحيانًا ما كان الممر الذي تتسلقه يؤدي إلى سُلم ذي درجات حجرية أو
حتى خشبية، تشبه تمامًا تلك الدرجات المؤدية إلى القلعة القديمة – كانت
تركض إلى أعلى عبر الدرجات دون أن تأخذ قسطًا من الراحة على البسطات،
وإنما كانت تكتفي بإلقاء نظرة لترى هذا المشهد الهائل المنفتح أسفلها،
بعد ذلك كانت تواصل صعودها مرة أخرى عبر الممر المطروق وسط مروج الألب
وقد كستها الزهور البيضاء التي لم تكن تعرف اسمها – كانت الصخور وقطع
الثلج الكبيرة تتدحرج تحت قدميه مُحدِثة قعقعة، سَحَب معه عند وقوعه
أحجارًا كبيرة وكُتلًا من الجليد، أحدثت انهيارًا في التلال، دوى صوته
عاليًا مدويًا، ظلت أصداؤه تتردد مرات عديدة لتصل بعيدًا إلى ما وراء
التلال، لتغطي على أصوات الجمهور الضاحك، وهو جمهور معروف، بل ومعروف
للغاية، هذا الجمهور الذي واصل القهقهة والتمادي في عناده الغبي وسوء
فهمه، رغم وقوع الرجل، وقد راح يشير إليه بإصبع ضخمة، إصبع تشكلت من
الْتِحام العديد من الأصابع الأخرى، إصبع خشنة ملطخة بالوحل، تشبه
إصبعًا واحدًا من هذا الجمهور في لوحة «تدنيس المسيح» التي شاهدها في
درزدن، لكنه لا يتذكر اسم الفنان الذي رسمها،٤٠ – تمثل اللوحة المسيح وعلى رأسه إكليل من الشوك يشبه السلك
الشائك، وقد جلس على سُلم في وضع من استغرق في التفكير منعزلًا عن
العالم، مستندًا بكوعه إلى ركبته، بينما تهدلت يده بعظمها الضيق الطويل
دون حراك، ها هو واحد من الجمهور، رجل رذيل قوي البنية، وجهه ينم عن
ضيق الأفق، خداه متوردان متهدلان على شاكلة أنفه المتهدل الشبيه بحبة
البطاطس، يشير إليه بإصبع قصيرة غزيرة الشعر – تطايرت العصيُّ والأحجار
نحو الجالس على السُّلم، أحدهم بصق في وجهه، الذي كانت عليه آثار ضرب
واضحة، وإن ظل هذا الوجه محتفظًا بتعبير التأمل العميق والعزلة عن
العالم، أما الرعاع، فقد ازدادت قهقهتهم واستعرَ غضبهم، لكن هذه
القهقهة وهذا الصياح العالي — الذي امتزج بقهقهة الجمهور، المُشكَّل من
أناس معروفين — قد خفَتَ، الآن، بفضل هدير الأحجار المتساقطة ومعها كتل
الجليد والصدى المتردد المتكرر، والذي راح يعلو أكثر فأكثر، متجاوزًا
الجرف المخيف شديد الانحدار، حتى وصل إلى قمة التل، حيث اختفى في
الغمام البنفسجي، الذي راح وميض البرق يخترقه، قصر الكريستال،٤١ – حلم البشرية وحلمه الشخصي، الذي ترعرع عليه، والذي أخفاه
عميقًا في صدره، حتى إنه كان يسخر منه هذا الحلم عن قصد، لكن هذا
الانهيار الجبلي الذي غطى صوته على هذا العويل والقهقهة لهذا الجمهور
المحتدم، وهزيم الرعد المنهمر من الغيم البنفسجي، الذي بعث فيه الإيمان
في تحقيق هذا الحلم، أما رؤيته للوحة الفنان المجهول فقد أوحت إليه
بالطريق الذي ينبغي عليه أن يسلكه، وقد كان سائرًا على هذا الطريق
حقًّا، وهو يتسلق الجرف العمودي – انسابت أصوات النفير والطبول
والأبواق التي كانت الأوركسترا تعزفها في سموٍّ ومهابة، في الوقت الذي
راحت فيه أصداء الانهيار الجبلي تصل بين الفينة والفينة إلى أسماع
أنَّا جريجوريفنا، لكن طريقها كان خاليًا وسهلًا، كما كان من قبل، سواء
في استواء الممشى أو في وجود درجات السلم، فقط في أحد الأماكن تقاطع
طريقها مع طريقه – هناك حيث كان الممشى يطل على الجرف نفسه، هذا الجرف
الذي كان يتسلَّقه، متشبثًا بالصخور الحجرية، منزلقًا تارة وساقطًا
تارة أخرى، وقد تمزقت ملابسه وسالت الدماء من يديه من جرَّاء ما بها من
خدوش – مدَّت له يدها وساعدته على التسلق إلى الممشى الذي كانت تسير
فيه، وها هما الآن يسيران معًا، يدٌ بيد – كان اللحن الذي راحت الأبواق
والنايات تؤديه لحنًا مهيبًا، على أنه كان من الممكن استشعار شيء من
التعب فيه أو — بالأحرى — انقباض النفس، جلسا على إحدى الأرائك،
يستمعان إلى الموسيقى، هو في وضعيته المحببة، بعد أن وضع ساقًا على
ساق، ضامًّا ركبته بيديه، وقد تخضَّلت عيناه، أو ربما لم تجفَّا بعدُ
من الدموع، أما هي فقد ثَنَت ساقَيها قليلًا حتى لا يظهر حذاؤها الرث
الذي يحتاج إلى إصلاح، مُتلفِّعة بشملتها طلبًا للدفء في هذا البرد
القارس – لِلَحظة الْتَقت عيناهما، أخذ يدها ومسح عليها بحنان – حول
الساحة التي وُضعت فيها منصة للموسيقيين ورُصت فيها الأرائك للجمهور،
كان المكان مُضاءً بالكامل بالمصابيح، مما ضاعف من رسم لوحة خيالية لا
تُصدَّق، كان فيها شيء ما غير مكتمل، أو ربما شيء ما لم يبدأ بعد، في
الليل، عندما جاء يُودِّعها راحا يسبحان، جَرَفه التيار المقابل
جانبًا، شعر أنه يغرق، حاولت مساعدته، تارة سابحة للأمام، ناظرة إليه،
داعية إياه أن يتبعها، وتارة مقتربة منه سِباحةً، ناظرة إلى عينيه
مباشرة، باسطة له يدها، متعلقة به تقريبًا، ثم تارة إذا بها تغوص إلى
مكان ما في عمق الموج الأخضر، محاولة إخافته باختفائها – راح الموج
يحمله، بسرعة دون هوادة – لم يحاول أن يصارع الموج تقريبًا، راحت
المياه تغمره أكثر فأكثر، ومن بين الموج الأخضر الهائل برز له الوجه
المسطح بعينيه المنتفختين المبتذلتين مبللًا متورمًا، منتفخًا مثل كرة
مليئة بالهواء، ليكتسب لونًا أرجوانيًّا، متحولًا إلى وجه معروف لديه
تمامًا، بنظرة متنمرة، وقد راحت عشرات، بل مئات الأيدي، التي وقفت —
بالأمس — عند سفح الجبل مُقهقِهة ومُحتدَّة من الغضب، تشير إليه، وتمتد
— الآن — نحوه مثل كُلَّابات عقرب – بذل بعض الجهد اليائس الأخير، لكن
جسده تراخى بلا إرادة، ثم راح يغوص بسرعة ودون مقاومة إلى القاع – رقد
مستلقيًا على الوسادة وقد خارت قواه، مغلقًا عينيه، أما هي فقد أخذت
تجفف العرق عن جبهته، مستندة إلى مرفقها، وحول رأسه الغارق في الوسادة
تكونت حول رأسه كرمشات، انتشرت في هيئة أشعة، بنفس الشكل الذي ظهرت به
في صورة كرامسكوي،٤٢ التي رسمها له وهو في سُبات الموت، لكن وجهه فيها كان
خاليًا من الصرامة ومن السكينة أيضًا.
•••
تحولت الغيوم الأرجوانية، التي خيَّمت على جبال شفارتسفالد
وتيورينجين إلى سُحب رمادية عادية، بعد أن أفرغت شحناتها الكهربية،
لتزحف ببطء نحو بادن، حيث راح مطرها الخفيف يتساقط على أَسطُحها
العالية الحادَّة، وشوارعها المكسوَّة بالأحجار، جاوز الصيف نصفه
الثاني، على الرغم من أنه بقيت هناك بضعة أيام حارة قادمة، أخذت أنَّا
جريجوريفنا، التي نعمت بهذه الراحة، في إصلاح البياضات ورتق الأثواب،
جالسة على الفراش منهمكة في شغل الإبرة بحكم العادة، وقد أخفت قدميها
في خُفِّها المهترئ، على أمل أن يُسرِّع الطقس السيئ من رحيلهما – كان
فيديا، كما كان من قبل، يتردد بشكل منتظم بين المنزل والمحطة، أحيانًا
يعود إلى المنزل ومعه المشمش والعنب والبرقوق، مبللًا بالمطر، مخبئًا
الفاكهة وراء ظهره حتى يُدهِش بها أنَّا جريجوريفنا، وكثيرًا ما كان
يجثو أمامها على ركبتيه، واصفًا إياها بالملاك، طالبًا منها الصفح عنه
لأنه هو الذي جعل منها إنسانًا تعيسًا، كانت تُنحِّي الخياطة جانبًا،
ثم تقترب صامتة بأنفاس مكتومة من دولابها الصغير ذي الأدراج لتعطيه آخر
ما تبقى لديها من عملات ذهبية أو فرنكات – في هذه اللحظات كان يكرهها
ويشعر بالحنق تجاهها، وهي تسعل أو تعطس؛ لأن النقود كانت نقود أمها،
وها هي تعطيها له بوداعة ودون تذمر لتُذِله بنُبلها، كان يعود من جديد
ليسقط أمامها على ركبتيه، وهو يقول إنه يسرق مالها، وإن عليها أن
تكرهه، لكنه في الحقيقة كان يزداد كراهية لها ولنفسه، راحت تسعل عن
قصد، وتعطس عن قصد، ثم جلست لتعود إلى الخياطة في المنزل، غير راغبة في
الخروج معه إلى الشارع، يا لها من مصيبة، هناك مطر، وإن كانت لدينا
مظلات لا تزال – نطق هذه العبارة ضاغطًا على كلمة «ما تزال»، وكأنه ليس
هو المذنب في جلوسهما دون نقود، ثم فجأة، بعد أن رأى على أي نحو من
الجد والإصرار – كادت أن تخرج له طرف لسانها – راحت تصلح ثوبها
المهترئ، تكيَّف مع شعور الرجاء والأسى من أجلها، فقبَّل يديها وطرف
تنورتها، ثم عاد من جديد ليركع على ركبتيه – الآن ومن أعماق قلبه، أخذ
ينظر بحنان إلى كتفيها ومؤخر عنقها، حيث كان شعرها مرفوعًا إلى أعلى،
ملمومًا في عقدة ثقيلة، ما جعلها تبدو أكبر سنًّا قليلًا، حتى ولو لم
تكن ستخرج من البيت، فقد كانت دائمًا تطلق ضفيرتها، خفيفة سافرة وفي
الوقت نفسه سوداء، كأنما تلبس حِدادًا على أحد ما، ضفيرة مُخرَّمة
كالدانتيلا، كان يطلب منها دائمًا أن تُزيل هذه الضفيرة، لكنها لسبب ما
كانت تفعل هذا دون رضًا، واقفًا بالقرب منها على ركبتيه، راح يمسح بلطف
على شعرها، غائصًا فيه بيديه، نظرت إليه نظرة ثقيلة، شَزرًا تقريبًا،
وصفها ﺑ «الغولة»، لكنها لم تتمكن حتى من النظر إليه، نحَّتْ خياطتها
جانبًا، أسندت ذقنها إلى كفها، تنهدت بصعوبة، وفي حالة من التأمل نظرت
إليه مائلة برأسها، كأنما كانت تعرف شيئًا مجهولًا لديه، شيئًا كانت
تحاول أن تقيه منه – الآن لم يعد يربح لا على الأعداد الزوجية ولا على
الأعداد الفردية، ولا عندما يتخلى عن دوره في المراهنة على المانك
manqué (الأرقام من ١ إلى ١٨)، على
الرغم من أنه كان ينجح في تنظيمه لتلك الألف وأربعمائة وسبع وخمسين
خطوة، رغم هطول الأمطار وهبوب الرياح، التي كانت تعوقه عن السير، دَلَف
إلى مبنى المحطة، دفع بقبعته ومظلته المبتلَّة إلى البوَّاب، ثم صعد
السلم ليدخل إلى صالة القمار بقلب يرتجف، راح يبحث عن الرجل الغريب،
لكنه لم يكن موجودًا، تنفس الصُّعَداء؛ لأنه لم يكن على يقين أنه لن
يقرر الاصطدام به بكتفه لو الْتِقاه، انساب الضوء الأصفر للثريا على
وجوه المقامرين والفضوليين، الذين تجمعوا حول المائدة، شق طريقه إلى
المائدة – ومثل لمح البصر غمره شعور، مر به ذات يوم في شبابه، وكان
جالسًا إلى مائدة عليها أَطقُم جديدة في مكان ما في مطعم دومينيك، أو
ليرخ، على ضفة نهر النيفا، حيث ذهبوا صحبة صاخبة، شعر بالخفة والشباب
بعد كأس الشمبانيا الثانية على وجه الخصوص، عندما بدا له أن الأمر لا
يزال في بدايته؛ الأنخاب المرحة، والكافيار الأسود في عُلب صغيرة من
الفضة، والضحك، وربما القيام برحلة إلى «هناك»، كان الفراك٤٣ ملائمًا له تمامًا، بينما أضفت ملابسه الداخلية المُنشَّاة
برودة مستحبة على جسده، شعر أنه في بؤرة الاهتمام وأنه محطُّ أنظار
الجميع – حاول أن يلقي نخبًا زكيًّا بصفة خاصة؛ ليأخذ بلب الحضور بصورة
كاملة، ذات يوم، وكان يخدم في الإدارة الهندسية لا يزال، قرر هو وخمسة
أو ستة موظفين، لِعلَّة ما، أن يلتقوا معًا ويذهبوا إلى أحد المطاعم،
وقد ذهب معهم رئيس الإدارة، وهو رئيسه المباشر، شخص يتسم بالبلادة
والغباء، لكنه كان ذا عيال، في حالة احتياج دائم، وكانت امرأته قد
طَوَته — فوق ذلك — تحت جناحها، دأبت على مصادرة كل ما معه من نقود حتى
آخر قرش، ما حدث أنه حضر الاتفاق على الذهاب وأعرب عن رغبته في
مشاركتهم، لكنه لم يحضر معه نقودًا، بعد أن أخبرهم أنه سيدفع لهم فيما
بعد، على أن أحدًا منهم لم يكن يصدق ذلك؛ لأنهم يعرفون من خبرتهم
السابقة أنه لن يدفع، أخذوه معهم، لعلهم فعلوا ذلك من قبيل المشاكسة،
في هذه الأمسية كان فيديا في حالة نفسية رائعة على نحو خاص – جاءه
المترودوتيل تحديدًا ليتفق معه على الطريقة التي سيقوم بها على خدمة
المجموعة، في الغرفة المجاورة تعالت وراء الحاجز أصوات مرحة وضحك
نسائي، فإذا ما نهض المرء عن مكانه لاستطاع أن يرى تسريحات الشعر
العالية للسيدات، ووجوههن وكذلك أكتافهن العارية – أعطاه كأس الشمبانيا
الذي احتساه مزيدًا من الثقة، وكان قد أعدَّ في رأسه نخبًا زكيًّا، كان
في نيته أن يُدهِش به الجميع، وما حدث أن رئيس الإدارة غلبته الرغبة
فجأة في أن يرفع هو هذا النخب – نهض، وقد كَسَت وجهَه حمرةٌ من أثر
التوتر، راح يتحدث طويلًا وعلى نحو ممل عن فائدة خدمة الوطن وعن شيء ما
من هذا القبيل، أخذ الحضور في تبادل النظرات والغمزات، وبعد أن فرغ
الجميع من كئوسهم قام فيديا، وقد خامره شعور بالاستياء؛ لأنهم قاطعوا
نخبه، لكنه كان يهتز فرحًا في داخله، ثم قال: «من السهل أن يرفع المرء
أنخابًا مجانية»، قالها وكأنها جاءت على لسانه على نحو عارض، موجِّهًا
حديثه إلى جاره، وهو شاب خامل ذو بشرة بيضاء، كان يعمل تحت رئاسة نفس
رئيس الإدارة، لم يولِ فيديا اهتمامًا خاصًّا لما قاله، إلى أن تحيَّن
جاره اللحظة المناسبة ليهمس له قائلًا: «كيف تتحدث عنه بهذه الطريقة؟»
– لكن فيديا لم يلحظ ما في نبرة جاره من عتاب، وإنما كان مقتنعًا فقط
بذكائه، الذي لا بد وأنه كان رائعًا إلى حد لم يلحظه هو نفسه من قبل،
أما الآخرون، فقد التقطوا عبارته العابرة بشكل مباشر، غدًا سوف تعيد
الإدارة وتزيد فيما قاله بحدة غير عادية، في اليوم التالي استدعاه رئيس
الإدارة إلى مكتبه، ثم راح يتحدث معه عن رسم هندسي ما، كما لو كان
يُلمِّح إلى خطأ ما قام به، أثبت له فيديا أن كل شيء في هذا الرسم
صحيح، وقد ثار غضبه أثناء ذلك، بينما جلس رئيس الإدارة خلف مكتبه
الكبير، وقد استند إليه بمرفقيه، واحمرَّ وجهه وكأنه قد شرب لتوِّه
شمبانيا، وقد أخذ ينظر في بلاهة إلى الرسم الهندسي الموضوع أمامه، ولكن
عندما أراد فيديا أن يغادر الغرفة، معتبرًا نفسه منتصرًا في هذا الجدل،
قال له الرئيس دون أن يرفع رأسه ولا تزال الحمرة تكسو وجهه، كأن أحدًا
صب فوقه ماءً مغليًّا: «انتظر لحظة»، انخفض صوته وأصبح أجشَّ، «بالأمس،
بعد عبارتك تلك، لم أعرف كيف أتصرف معك – كان عليَّ أن أصفعك على وجهك،
لكني لم أفعل ذلك» – تسمَّر فيديا أمامه وقد انعقد لسانه من الدهشة،
شاعرًا كيف راح قلبه يدق وكيف صعد الدم إلى رأسه وأذنيه، تمامًا كأن
أحدًا صفعه لتوِّه على وجهه، أما الآخر فقد جلس بهيئته الضخمة
المكتنزة، وقد خفض رأسه – مثل ثور يتأهب للتناطح، وقد برقت عيناه
الصغيرتان السوداوان مثل الجمر، هنا تذكر فيديا ما كان يحكيه هذا الرجل
بطريقة ما؛ أنه من سلالة ربما شركسية أو جورجية، ورث عنها طبعًا حادًّا
وميلًا إلى الانتقام، لكن أحدًا آنذاك لم يصدقه، معتبرين أن السمة
الوحيدة التي يمتلكها هي الغباء، ولعله الآن يُظهِر طباعه الحَرونة
للمرة الأولى في حياته – حتى إن فيديا شعر للحظة بالشفقة تجاهه، عندما
تصور على أي نحو كان شعور هذا الرجل لما حدث له بالأمس، وعلاوة على ذلك
أحس فيديا باحترام لا إرادي تجاهه، بل وحتى بخوف مُبهَم ما، غمغم ببضع
كلمات اعتذار كما فعل منذ عدة أيام خلت في المحطة أثناء حكايته التي
وقعت مع الغريب، «اذهب، أنت حر»، قالها رئيس الإدارة، وللمرة الأولى
يدرك فيديا — ربما — على مدى عمله في الإدارة أن هذا الرجل الغبي
المكتنز، الذي تخطى مرحلة الشباب هو رئيسه، ومنذ هذه اللحظة أصبحت
حياته في الإدارة لا تُطاق، كان يربح رهانَيه الأولَين، وحتى ثلاثة
رهانات أحيانًا، ومن حوله كانت عربة الخيول الدوَّارة المعروفة المكونة
من المقامرين والفضوليين تدور كالإعصار، وها هو مرة أخرى يتسلق الجرف
العمودي صاعدًا نحو القمة المنشودة حيث قصر الكريستال،٤٤ أما في الأسفل فقد وقفت تلك الشخصيات المعروفة تقود جوقتها
البائسة، لكنه بدأ بعد ذلك في الخسارة، وكلما حاول التمسك بنظام ما
ازدادت خسارته، وحتى بعد أن ألقى جانبًا بكل النُّظم عاد من جديد
ليخسر، هرع إلى المنزل ليحصل هناك على نقود ويجرب مرة أخرى، لكن كل شيء
تقريبًا انحدر على الفور، ليعود إلى المنزل من جديد طلبًا للنقود، كل
ذلك كان يشبه ما يُسمَّى في الطب ﺑ «الوهن العصبي»، عندما تؤدي كل
محاولة إلى إحباط أكبر، وفي الوقت نفسه فإنها تثير الرغبة المُلِحة في
تكرار المحاولة، وعندما توقف هطول الأمطار، الذي لم يستمر طويلًا،
وجفَّت أسطح البيوت المبنية بالقرميد الأحمر، والْتَهبت أرضية الشوارع
المكسوَّة بالأحجار بفضل أشعة الشمس القاسية، تحولت حياة الزوجين
دستويفسكي في بادن إلى ما يشبه ليلة مُسهَّدة، حتى عندما كانا يستغرقان
بشدة في النعاس تشعر كيف يمر الوقت، لكن مع ذلك لا ترى لهذا الليل من
نهاية، في البداية رَهَن فيديا خاتم زواجه، ثم قُرطَي أنَّا جريجوريفنا
الذهبيَّين، ثم دبوسها الذي كان قد أهداه لها بمناسبة الزفاف، وعندما
خرج بهذه الأشياء انخرطت أنَّا جريجوريفنا في البكاء والنحيب، ربما،
للمرة الأولى على مدى علاقتهما، حتى إنها راحت تعتصر كفيها؛ الأمر الذي
لم تكن تسمح مطلقًا لنفسها أن تفعله في حضور فيديا – هذا على الأقل ما
كتبته في «يومياتها»، وبعد أن خسر المال الذي أخذه مقابل القرطين
والدبوس، استدار ليستولي على شملتها المطرزة، لم يجدا أحدًا يقبلها على
الإطلاق – في البداية أخذاها إلى صاحب محل للمجوهرات، لكن الرجل
أخبرهما أنه لا يأخذ سوى المشغولات الذهبية، وأشار عليهما بالذهاب إلى
محل فايسمان، لكن الباب كان مغلقًا، أسرع فيديا عائدًا إلى البيت وقد
ابتلَّ تمامًا من المطر والعرق؛ لأنه على الرغم من تجدد الطقس المشمس،
فقد كان المطر يتساقط أحيانًا في زخَّات متقطعة تنظف الشوارع والأشجار،
بعد الغداء أسرع فيديا مرة أخرى إلى فايسمان، لكن الرجل قال له إنه لا
يأخذ هذه الأشياء، وأعطاه عنوان مدام إتيان – ويقع محلها في الميدان،
وعلى الرغم من أن فيديا ذهب إلى هذا الميدان من قبل، إلا أنه لم يستطع
العثور عليه، ولسبب ما وجد نفسه في حارة، بها حمَّام، على أية حال فقد
خرج أخيرًا إلى الميدان، اهترأت الورقة، التي لُفت بها الشملة بسبب
المطر، فاحتضن اللفافة تحت إبطه حتى لا تبرز منها، لم يجد مدام إتيان
في المحل، لكن امرأة ما خرجت من الباب المؤدي إلى غرفة، قالت له إنها
أخت مدام إتيان وإن عليه المرور عليها غدًا، ومن جديد يهرع فيديا
عائدًا إلى المنزل؛ لأنه كان على يقين أنه سيربح اليوم حتمًا، ومرة
أخرى يعود ليركع على ركبتيه أمام أنَّا جريجوريفنا – أعطته خاتم زواجها
ليذهب فيرهنه عند فايسمان، الذي كان — على حد قول أنَّا جريجوريفنا —
من قبيلة اليهود، كان على فيديا أن يترقب وصوله – وبالنقود التي أخذها
فيديا مقابل رهن خاتم أنَّا جريجوريفنا ربح فيديا مائة وثمانين فرنكًا
– استعاد بها الخاتمين؛ خاتمه وخاتم أنَّا جريجوريفنا، واشترى باقة
زهور، لكن ذلك كان الزفرة الأخيرة قُبيل سكرة الموت التي بدأت، كان
فيديا يذهب ويعود بين المنزل والمحطة، مارًّا في طريقه على محلات
الرهونات أو على مكتب البريد في انتظار النقود التي سيرسلها إليه
كراييفسكي، راح يسير مُحدِثًا حركات غريبة وقد ارتدى سترة سوداء على
الطراز البرليني ونفس سرواله القديم، فتارة يتحول إلى بهلوان مُغلَّف
بثوب يلتصق بجسده، وقد اعتمر قبعة عالية فوق رأسه، وارتدى قفازات بيضاء
من جلد الجَدي، فيروح يقذف بمهارة إلى أعلى بخاتمَيِ الزواج، ثم بثوب
ومعطف أنَّا جريجوريفنا المصنوع من الفراء، وبنفس المهارة يلتقطهما
بسرعة، وأحيانًا ما يضيف إلى هذه الدوامة من الأشياء قبعته العالية، ثم
تارة أخرى إذا به يتحول إلى راقص باليه يرتدي هذا الثوب الأسود الملتصق
بجسده ليؤدي به «خطوات» معقدة، مقدمًا تمثيلًا إضافيًّا على خلفية بيوت
بادن المبنية من القرميد الأحمر، متنقلًا عن طريق الدوران حول نفسه؛
فتارة يرفع يديه إلى السماء وتارة يمدها إلى أنَّا جريجوريفنا، التي
كانت تُظهِر له استجابة لدعوته، من جانب ما، آتية من الكواليس، وقد
لفَّت حول جسدها شملتها المرهونة وارتدت، مثل كارمن، تنورة طويلة،
تُخفي بها حذاءها الرث، عند ظهورها جلس على ركبة واحدة مطقطقًا بأصابعه
أو على الكاستانيت، وهو يعزف شيئًا بمثابة سرينادا،٤٥ أما هي فبعد أن نزعت عن نفسها عِقدها أتت به إليه – التقطه
بسرعة وواصل عزف سريناداه، مغطيًا بصوته على صوت الكاستانيت، ألقت إليه
بشملتها، ثم راحت تنقر بكعبَي حذائها الرث على إيقاع رفيقها، خلعت
ثوبها وأعطته له، أما هو فهبَّ واقفًا ليقذف في الهواء بالعقود
والخواتم، وبالثوب والشملة، وهو يتلاعب بها بمهارة البهلوان، وفي أثناء
ذلك كانت ترفع ذراعيها فوق رأسها، وهي تتمايل بجسدها، مثلما تفعل ذلك
عادةً الراقصاتُ الشرقيات، كل الأشياء التي قذفها في الهواء لم ترجع
إليه – لقد طوَّح إلى أعلى قبعتَه العالية، وهذه اختفت، ثم خلع ثوبه
الضيق، الذي اتضح أنه بدلته البرلينية، وهذه كان قد ألقى بها أيضًا إلى
أعلى – كانا مَدينين بإيجار أربعة أيام لصاحبة البيت، التي كان
بإمكانها ألا ترسل لهما طعامًا، أما ماري فقد قالت لأنَّا جريجوريفنا،
عندما طلبت منها في الصباح ماءً مغليًّا لإعداد الشاي، إنه لا يمكن
إشعال الحطب دون مقابل، أليست هذه هي ماري نفسها، الفتاة الغضة ذات
الصوت المرتفع، التي كانت تصيح دائمًا «نعم، نعم»، والتي كانت مستعدة
دومًا للخدمة، بل وكانت تقوم بها بغباء شديد؟ – على أية حال فالخدم
أكثر صراحة دائمًا من أربابهم، بنظرة واحدة فقط من سكرتيرة تُلقَى إليك
بشكل عابر، يمكنك أن تقول دون خطأ كيف يعاملك رئيسك، عادا إلى المنزل
بعد نزهتهما الدورية في ممشى Lichtentaler
Allee؛ إذ لم يتبقَّ لهما شيء هنا سوى أن يتنزها أو
يدَّعيا أنهما يتنزهان، لم تكن أنَّا جريجوريفنا راغبة في السير في هذا
الممشى في ثوبها المبتذل، هذا الثوب الوحيد تقريبًا الذي تبقى لديها
بعد رهن كل شيء يملكانه، لكن فيديا كان يُصر على طلبه، أما هي فكانت
تتصور أن الجميع ينظرون إليها، غابت الشمس، مُلقِية بأشعتها الأخيرة
على التل الذي تراءى هناك بقلعتَيْه القديمة والجديدة، أما فيديا فقد
توقف عن السير ليتأمل هذا المشهد، وطلب منها أن تتوقف أيضًا لتشاهد هذه
اللوحة، في هذه اللحظة النادرة الاستثنائية – عندما يسقط الضوء على
القلعتين وعلى قمة التل في آنٍ واحد، ما هي إلا دقيقة حتى تغيب
القلعتان في الظل، ويختفي هذا المثلث المُشمس، لكن أنَّا جريجوريفنا
واصلت سيرها، كأن هذا المثلث — المكوَّن من بُرجَي القلعة المُدبَّبين
وقمة التل — غير موجود، كانت تسير مسرعة، حتى إنها كانت تميل في سيرها
إلى الأمام قليلًا، لكنه عندما صرخ: «آنيا» – إذا بها تزيد من سرعتها
لِتجري تقريبًا – انطلق خلفها – كان يريد إعادتها، ولو لبضع ثوانٍ، ما
دام الوقت لم يتأخر بعد، ما دامت زاوية سقوط أشعة الشمس لم تتغير، لكن
الأرجح أن الوقت كان قد تأخر بالفعل – ضاعت اللحظة، فلم يتمكن بسببها
أن يتأمل هذا المشهد النادر – جرى خلفها على الممشى، وهو يتنفس بصعوبة،
مصطدمًا بالمتنزهين، انعطفت نحو ممشًى جانبي، وما هي إلا دقيقة حتى
اختفت عن الأنظار، لكنه رأى شبحها فجأة، يَمرُق بين الأشجار، خُيِّل
إليه أنها تغطي وجهها بيديها، كما لو كانت تبكي، عادا مسرعين إلى
المنزل معًا، ولكنهما كانا، على أية حال، يسيران كلٌّ على حدة – دلَفَت
إلى المنزل، وهي تتنفس بالكاد، بعد أن خفضت رأسها خوفًا من أن تصادف
صاحبة البيت، أو تلتقي بماري أو حتى بتيريزا، وهي خادمة أيضًا، دخل
راكضًا وقد كظم غيظه بصعوبة، هذا الغيظ الذي راح يخنقه، وما إن أصبحا
داخل الغرفة حتى أمسكها من يدها وسحبها نحو الباب، لكنها تخلصت منه
وألقت بنفسها فوق الفراش، بملابسها، ودون أن تخلع حذاءها، وقد أخفت
وجهها بيديها، دائمًا ما كانت تفسد عليه أكثر اللحظات نُدرة في حياته –
تُرى هل كان من الصعب عليها أن تتوقف، ولو للحظة، وأن تشاهد معه الشمس
الغاربة وهي تُلقي بضوئها على التل؟ – اقترب من الفراش، ثم أبعد يديها
عن وجهها – ليتبين أنها لم تكن تبكي على الإطلاق – كانت عيناها
مغلقتين، وقد اتخذ وجهها تعبيرًا غريبًا، حجريًّا تقريبًا، نعم، لم تكن
تريد مجرد أن تستجيب له! – راح يصرخ – أغلقت أذنيها بيديها وقد أخذت
تهز رأسها ذات اليمين وذات اليسار، ثم فتحت فمها قليلًا، وراحت عن قصد
تغمغم بلسانها بصوت غير مسموع، وكأنها تثير غضبه أكثر، راح يتحرك بين
الفراش والنافذة، تارة وهو يمسك يديها محاولًا نزعهما عن أذنيها، وتارة
وهو يصيح فيها قائلًا إنه سيلقي بنفسه الآن من النافذة، لكنها لم تشأ
أن تسمع واستمرت تهز رأسها، مغلقة عينيها، مستمرة في البكاء، عندئذٍ
نزع عنه سترته البرلينية، وخلع صديريته، حتى إنه مزق قماشها لتتساقط
أزرارها على الأرض – من دون الصديرية لن يقبل محل الرهونات البدلة، كان
ذلك فقط كفيلًا أن يغضبه أكثر، ازداد غضبه، حتى إنه كان يريد أن يصنع
شيئًا لا يمكن إصلاحه؛ أن يخنقها، جلس على ركبتيه بالقرب من الفراش،
وبدأ يتفحص وجهها في حقد – كانت ترقد على ظهرها، مُغلِقة عينيها وقد
سدَّت أذنيها بيديها وزمَّت شفتيها بشدة، كأنما تريد أن تنفصل عن
العالم المحيط بها، أحدهم قرع باب الغرفة المجاورة – هبَّ واقفًا على
قدميه، كأنما قُبض عليه متلبسًا بجريمة، ثم هرع عبر الغرفة المجاورة
نحو الباب – كانت ماري، لعل صاحبة البيت أرسلت بها، ولعلها جاءت من
تلقاء نفسها، ولكن، عندما رأت الساكن بذقن شعثاء وقد تقطعت أزرار
صديريته، فَغَرت فاها وفرَّت هاربة على الفور، عندما عاد كانت أنَّا
جريجوريفنا راقدة وقد تغطى رأسها، وحذاؤها الرث مُلقًى إلى جانب الفراش
– وقد مالت إحدى فردتيه جانبًا، وكان واضحًا للغاية أن نصف كعبه بالٍ
تمامًا – حتى إنها لم تستطع أن ترسله لإصلاحه، غمرته موجة حارة من
العطف، وغلبه التأثر – ومن جديد سقط على ركبتيه بالقرب من الفراش وراح
يُقبِّل حافة الملاءة التي كانت تغطي وجهها، ثم رفع الملاءة بحرص
ليشاهد كيف استغرقت في النوم وقد كسا وجهَها تعبيرٌ عن السكينة
والوداعة، وصُفرة يعرفها، تصيبها في مثل هذه الحالات، قد عَلَت جبهتها
وخديها، راح يمشي ما تبقى من المساء جيئة وذهابًا في الغرف، بعد أن
أشعل شمعة على مكتبه، أحيانًا كان يقترب من أنَّا جريجوريفنا ليصلح من
وضع الملاءة، لعله كان يفكر في هذه اللحظة في مقاله عن بيلينسكي، الذي
لم يرَ النور، الحقيقة أنه كان مشغولًا بمشاكل أخرى، لأنه في صباح
اليوم التالي خرج من الشقة، متسللًا خلسة، عملًا بنصيحة أنَّا
جريجوريفنا، حاملًا في يده ثوبها البنفسجي، موضوعًا في لفافة، نجح في
تجاوز باب صاحبة البيت؛ لأنه كان من الضروري ألا تراه، أو تراه الخادمة
وهو يحمل هذه اللفافة، خرج من باب المنزل وقد أحنى قامته قليلًا،
ضامًّا إليه اللفافة ملتزمًا السير إلى جانب البيوت، مثل غجري من لصوص
الخيول، راكضًا عبر شوارع بادن التي استيقظت لتوِّها، نحو محل فايسمان
– الطالرات الخمس التي حصل عليها مقابل ثوب أنَّا جريجوريفنا، راهن بها
على الفور، منذ الضربة الأولى، وعلى الرغم من أن ذلك كان شيئًا جديدًا؛
لأنه عادة يربح الضربتين أو الثلاث الأولى، لكن ذلك لم يدهشه، بل ولم
يحزنه – الآن ها هو يجري أسفل التل أسرع فأسرع – كان يلتقط أنفاسه دون
توقف وهو يصطدم بكل شيء يصادفه في الطريق، وحتى إنه لم يلتفت للضربات
التي كان يتلقاها، غادر مبنى المحطة، هرع إلى فندق «أوروبا»، لم يكن
يميز الشوارع أو يدرك ماذا يفعل، ببدنه المتين سدَّ المتردوتيل المعروف
الطريق عليه، قائلًا له إن السيد تورجينيف قد غادر الفندق، لم يصدقه
وحاول أن يتخطاه، متجهًا مباشرة، مستهدفًا السلم الرخامي العريض،
المفروش بالسجاد، اضطُر المتردوتيل لأن يفتح ذراعيه على اتساعهما حتى
يمنعه من الدخول، كأنه يطارد سربًا من الدجاج؛ «كيش! كيش!» – وفي هذه
اللحظة ظهر جونتشاروف، كان نازلًا السلم على مهل، حاملًا جسده المكتنز
بصعوبة، مستندًا إلى عصًا لها مقبض من الفضة، وما إن رأى دستويفسكي حتى
توقف عند الدرجة السفلى من السلم، ثم مدَّ له يده الممتلئة، من أعلى
إلى أسفل، ناظرًا إليه في فتور، بعينيه اللتين تشبهان عينَي السمكة –
تراجع المتردوتيل على مضض، مثل كلب، دفعه صاحبه نحو بيته، استمع
جونتشاروف صامتًا إلى الزائر الذي كان يقص عليه شيئًا ما بحماس بالغ
وهو يُلوِّح بيديه، أخرج جونتشاروف كيس نقوده وهو يلهث، كأنما يصعد
سلمًا، استلَّ من الكيس ثلاث قطع ذهبية وأعطاها للضيف، الذي انحنى في
وداعة لجونتشاروف، ليغادر هذا الزائر بهو الفندق مسرعًا نحو مبنى
المحطة – وعلى الفور، خسر القطع الثلاث، باستعداد ما محموم، كأنه
مهوَّس برغبة لا تشبع في الخسارة أو كأنه يلعب للتبرع، فَتَنته سرعة
السقوط أكثر فأكثر، إذا كان قد فشل في تجاوز خط ما في حركته نحو القمة
وهو الآن ينحدر إلى أسفل؛ فهل كان هناك خط ما هنا، يا تُرى، أو حافة
غير مسموح له بتخطيها؟ – إذ إنه لم تكن هناك أي ظروف خارجية هنا –
فالمطلوب فقط هو الاستسلام لهذه الحركة، لهذا المجال، وها هو وقد أغلق
عينيه، يطير إلى أسفل، كانت الوجوه المعروفة، التي كانت تشكل جوقتها —
الآن — في مكان ما أعلى – راحوا يشيرون إليه بأصابعهم مرة أخرى، وهم
يضحكون ضحكات ساخرة ويتغامزون بنظرات ذات مغزًى، هذا تورجينيف بهيئته
المهيبة ولِبْدته، ومنظاره المُصوَّب نحوه، ثم جونتشاروف، وقد راح يلهث
بعد إفطار مكون من ستة أطباق، ونكراسوف وبيلينسكي، والأخيران اندمجا في
نقاش حول موضوع غريب ما، وأخيرًا بانايف بشاربه المبلل المتهدل ونظرته
الثملة، وهناك على مسافة كان أشخاص ووجوه، بعضهم معروفون له وبعضهم غير
معروفين – راحوا جميعًا يتبادلون النظرات ويتغامزون وهم يشيرون إليه،
ولكن جوقتهم — ويا له من أمر عجيب — كانت هزيلة، لم تستطع هذه الجوقة
أن تجرب هذا السقوط المريع، الذي استسلم له، لم يكن هناك سوى شيء واحد
مهين، شيء وسط بين أمرين، مُعلَّق بين الاعتدال والحكمة، على هذا النحو
كانوا؛ فكرة وحيدة، قاهرة ومسيطرة، تفك أسر الإنسان، تجعله طليقًا
وتضعه فوق الجميع، حتى لو اعتُبِرت وسيلة تحقيق هذه الفكرة إجرامية، كل
هؤلاء السادة لم يكونوا مؤهلين للاستسلام لهذه الفكرة، ولا حتى لفهمها،
جميعهم كانوا يَزِنون دائمًا أمرًا ما، ويعوِّلون عليه، مخضعين حياتهم
لتصوراتهم ذات الروح التجارية، لمبدأ الربح والخسارة، ما إن وصل إلى
المنزل مسرعًا حتى جثا على ركبتيه أمام أنَّا جريجوريفنا، نادمًا على
خسارته للنقود بكل نكران للذات، لم يفارقه ولو للحظة واحدة، هذا الشعور
المسيطر بالسقوط، والذي خلق لديه شعورًا آخر بالتفوق على العالم المحيط
به، وحتى بشيء من الشفقة على من حوله، وبعد نصف ساعة إذا به يركض عبر
شوارع بادن الحارَّة بعد الظهيرة، حاملًا في يده لفافة كبيرة، بداخلها
هذه المرةَ بدلتُه البرلينية، التي قامت أنَّا جريجوريفنا بإصلاحها
إبان غيابه، تبين أن فايسمان غير موجود في البيت، عندئذٍ أسرع إلى
يوسل، لكن المبلغ الذي عرضه يوسل كان ببساطة مثيرًا للضحك – ومرة أخرى
يسرع إلى فايسمان، وبعد نصف ساعة، كان يصطدم بالفضوليين والمقامرين؛
لأن كل شيء كان بالنسبة له الآن على حد سواء، بل إنه ودَّ لو أنهم
دفعوه أو أهانوه، شق طريقه نحو مائدة القمار، سرعان ما خسر ثلاثة
فرنكات من الاثني عشر فرنكًا التي أخذها مقابل البدلة – سيطر على روحه
هذا الشعور الأخَّاذ المألوف لديه المصاحب للسقوط، ليرَ الجميع
ولْيعرفوا على أي نحو من السهولة يخسر، هؤلاء الذين يرتعشون عند خسارة
كل كريتسر، وهم يَحسُبون كل حركة من حركاتهم، وضع على
passé ثلاثة فرنكات أخرى ليخسرها
مجددًا – راح يراهن ببساطة غير عادية وبنفس البساطة كان يزيح جانبًا
النقود التي خسرها – راحت عربة الخيول المعروفة تدور حوله – أشخاص ذَوو
وجوه شمعية ضاربة للصفرة، كأنها خارجة من غرفة العجائب، وضع يديه في
جيوب صديريته، ملتمسًا في قاعها أي سنتيم أو كريتسر تافه، كانوا ينظرون
إليه وقد أكلتهم مشاعر الغيرة نظرًا لهذه البساطة التي كان يخسر بها
الفرنكات، في هذا الوقت كانت أنَّا جريجوريفنا تسير بخطوات جادة، بل
إنها كانت تكاد تجري تقريبًا في واحد من الممرات الجانبية، غير بعيد عن
ممشى Lichtentaler Allee المليء
بالأبخرة، وقد ارتدت ثوبها البالي، ظلت تترجم منذ الصباح عن الفرنسية،
مُسجِّلة في دفتر مخصص لذلك علامات الاختزال المعروفة لها فقط، كان
عليها أن تستعد لتكسب قوتها بنفسها، وها قد جلست إلى مائدة الطعام بجد
ومثابرة وقد أخرجت طرف لسانها، تضع ملاحظاتها، مغطية أذنيها أحيانًا
بكفيها، عندما يروح ضجيج مطارق الحدادين يرج المائدة، التي كانت تعمل
عليها، الآن ينبغي عليها اتخاذ إجراءات فورية حاسمة، نظرت إلى الخيوط
على طرف ثوبها، اعتمرت قبعتها وقد غرزت فيها زهرة، ألقت نظرة خاطفة على
المرآة الصغيرة، حيث ارتدَّت إليها نظرة عابسة مقطبة، بدت لها مناسبة
تمامًا للمشروع الذي تضمره في نفسها، وبخطوات خافتة تسللت بالقرب من
باب صاحبة البيت، أبطأت من خطوها عندما اقتربت من مبنى المحطة، محاولة
أن تضفي على نفسها مظهر الواثق اللامبالي، صعدت السلم، ثم دخلت على
الفور إلى الصالة الجانبية، وهي تعلم أن فيديا يقامر عادة في الصالة
الرئيسة في النصف الأول من النهار، استلَّت من محفظتها فرنكًا، كانت قد
أخفته للضرورة الماسة، إذا ما راحوا — فرضًا — يطردونهما من الشقة،
راهنت — دون أدنى تفكير — على الأحمر وربحت، ثم راهنت مرة أخرى – هذه
المرة على الأسود، ومرة أخرى تربح – استبد بها شعور يشبه هذا الشعور
الذي يجربه الإنسان الذي لم يحسم أمره لفترة طويلة في النزول في الماء،
ثم إذا به أخيرًا ينزل إليه ليشعر بروعة الاستحمام، ربحت عشرة فرنكات،
لكن ذلك كان قليلًا – راحت تراهن المرة تلو المرة، ثم إذا بكومة
الفرنكات، التي وُضعت بالقرب منها، راحت تقل، لقد بدأت تخسر، إلى
جوارها وقفت سيدة ترتدي ثوبًا فاتحًا وتعتمر قبعة ينسدل منها خمار –
كانت السيدة تقامر أيضًا، لكنها كانت تنجح في الرهان قبل أنَّا
جريجوريفنا؛ لأن خمارها كان يشتبك في كل مرة بالزهرة المثبتة في قبعة
أنَّا جريجوريفنا، وهو ما كان يعوقها عن التركيز – على أية حال، ربما
تكون أنَّا جريجوريفنا قد اقتبست هذا الأمر من فيديا، الذي كان لديه
هناك شخص ما يعوقه أثناء اللعب، وفي الوقت نفسه نجح فيديا، الذي كان
يقامر في الصالة الوسطى، نجح — فجأة — في المراهنة على المانك، ثم على
الأحمر وحتى على الأسود، وكلما راهن دون حسابات ودون تفكير — فقد كان
يراهن على أية حال وكأنه يتبرع — راح يربح بصورة أكثر تأكيدًا، حتى إنه
فكَّر في لحظة ما أنه، ربما، إنما يكمن النظام في ذلك، أن المقامرة هي
هكذا، دون نظام، لكنها كانت فكرة عابرة وحسب – ومن جديد عادت وجوه
المقامرين والفضوليين لتدور حوله، على الرغم من أنه لم يكن يلحظها في
هذه اللحظة، كأنما عربة خيول دوَّارة حقيقية تدور بسرعة عنيفة، لدرجة
أن كل وجوه المقامرين والفضوليين ذابت جميعها في مساحة صفراء واحدة،
كان يشعر أن فكوكهم قد تدلت من الدهشة والحسد، حسد حقيقي، وقد راحوا
ينظرون كيف يربح الرهان تلو الرهان، ثم يجرف دون اهتمام ما ربحه من
مال، كم هم بعيدون عنه الآن! – ومن جديد راح يصعد التل، بينما قبعت
الوجوه المعروفة التي كانت تقود الجوقة في مكان ما في الأسفل، أما فوق
قمة التل المغطاة بالسحب، فقد لاح له قصر الكريستال المعروف – راهن على
الصفر وعلى الفور خسر نصف ما ربحه، راهن على الأحمر وها هو مرة أخرى
يخسر – وعلى الفور تكدرت وجوه جميع من حوله على نحو ما، بينما ظهرت على
وجوه بعض ممن يحيطونه سعادة مكتومة، الآن راحت عربة الخيول الدَّوارة
تدور، وإنما بفعل القصور الذاتي – من جديد يسقط من التل ليصاب برضوض
مؤلمة، وليشعر أنه لم يعد هناك شيء يتشبث به، كل نظريته عن السقوط باتت
لا تساوي شيئًا – لقد اخترعها، لا أكثر؛ حتى لا تصبح رضوضه موجعة، على
هذا النحو، وبعد أن يقدمها لنفسه وللآخرين في هالة فكرة عظيمة ما
وباعتبارها تضحية، على أية حال، أَلَسنا نتصرف نحن أيضًا بنفس الطريقة،
خادعين أنفسنا، مخترعين نظريات ملائمة تستهدف تخفيف الضربات التي
يكيلها لنا القدر، أو لنبرر خيباتنا وضعفنا؟ – أليس في ذلك يكمن السر
فيما يُعرَف بالانعطافة التي حدثت لدستويفسكي في المعتقل؟ – إن عزة
النفس المُوجعة لديه لم تستطع التصالح مع تلك الإهانات التي تعرَّض لها
هناك، مطلقًا، لم يكن أمامه سوى مخرج واحد؛ اعتبار هذه الإهانة مستحقة
– في أحد خطاباته كتب يقول: «أحمل صليبي وأستحقه»، ولكن من أجل ذلك كان
عليه أن يتصور أن جميع وجهات نظره السابقة، التي عانى من أجلها، هي
وجهات نظر خاطئة أو إجرامية، وقد فعل ذلك دون وعي منه، بطبيعة الحال،
لكن الطبيعة الراعية للنفس البشرية ذاتها — خاصة النفس البشرية التي لا
تتميز بعزيمة قوية — غير قادرة على أن تصفع الضابط كريفتسوف الذي
عذَّبه، كما فعل ذلك واحد من المساجين، أو تنتقم ممن آذوه، لقد راحت
نفسية هذا السجين تعمل فقام بهذا الفعل نيابة عنه، غير مبالٍ لأحكام
العقل، وإنما بعد أن غيَّر نفسه تغييرًا أساسيًّا، واستطاع أن
يُطوِّعها في بعض الأحيان فقط، في اللحظات الاستثنائية من حياته، كانت
الرؤى والنماذج التي أُهينت تومض وتخمد مثل قوس كهربي في الظلام، مضيئة
بنورها الخافت صورًا ومشاهد من حياته في المعتقل والمنفى، عندئذٍ كانت
تأخذه رجفة فيدخل في صراع فكري مع الذين آذوه، وحتى هنا كان يبدو
مهزومًا، يعاني من نفس الشعور بالذنب، المنقذ لروحه، أثناء ذلك التاريخ
الذي عاشه في لعبة الروليت مع السيد الغريب – مسَّ ذلك علاقاته بآل
بانايف بدرجة أقل، وهنا أيضًا في بعض الأحيان يفعل ذلك دون قصد،
بإخلاص، مُقلدًا تورجينيف، بل ومعجبًا به، محافظًا في وجدانه على عزة
نفسه وكرامته، لكن الأمر هنا أكثر يسرًا؛ لأن الصراع من الممكن أن يحدث
في مجال ثقافي وروحي، أي في مجاله، بل إن رُؤى وصُور عزة النفس المباحة
لم توقفه – خلف النافذة، المغطاة بغشاء من الثلج الرمادي المتسخ، مرقت
لافتة كُتب عليها بالنيون الأحمر المتعرج الثعباني: «مصنع إيجورسكي»،
الإيجور – إنها ليننجراد تقريبًا، ضواحيها، بيوتها الصيفية، أطرافها
المأهولة بسكان فنلنديين لهم شعر أشقر ووجوه شاحبة خالية من التعبير –
على أية حال، هذا ما أردت أن أفكر فيه أكثر – «ما إن اقتربت من الإيجور
…» هكذا دون إرادة مني تذكرتُ هذا البيت من قصيدة بوشكين، الذي كنت
أتذكره دائمًا لسبب ما في هذا المكان – فكرة مسيطرة لا تملك حيالها
أمرًا، ولسبب ما تَلَت ذلك فكرةٌ؛ أن بوشكين أكل هنا كُرات من اللحم
المشوي، لعل ذلك كان مرتبطًا لديَّ بقرب الكلمتين في النطق بين «إيجور»
و«بوجارسكويه» (مشوي)، وربما يكون قد أكل هناك كُرات من اللحم المشوي
بالفعل، منتظرًا عربة تجرها الخيول، وقد راح يغازل ابنة ناظر المحطة
دون اكتراث، وعبر الطريق المؤدي إلى بطرسبورج، في الضباب الكثيف هبَّت
ريح ثلجية، وها هي عربة الترويكا٤٦ الزحَّافة تصلصل أجراسها، وقد اعتلى الحوذي مقعده فوقها،
وقد راح في همة ونشاط يُحفِّز الخيول المسرعة، وقد أخذ الجليد يصرصر
أسفل الزحَّافات، وفي داخل الزحافة، المغطاة بستار من الفرو، انطلق
ألكسندر سيرجييفيتش بوشكين نفسه إلى بطرسبورج، تغمره مشاعر السرور وقد
أثاره مشروب النبيذ وجمال ابنة ناظر المحطة، منتظرًا في شوق الاستمتاع
بحفلات بطرسبورج واللقاء الموعود مع حسناء جديدة من حسناوات المجتمع
الراقي، التي عقد معها للتو علاقة غرامية، وفي رأسه اكتملت — بطبيعة
الحال — أبيات شعرية وقوافٍ، سوف يُعاد طبعها في ديوان، ثم في دواوين
أخرى، ويروح عشرات المتخصصين في بوشكين في تحليل إيقاعات وأوزان هذه
الأبيات القليلة ويشرحونها، وهم يتجادلون إلى درجة الغضب والإعياء في
الندوات الأدبية، التاريخ الصحيح، الموضوعات المثيرة، ولمن كُرِّست هذه
الأشعار، آه، بوشكين! بوشكين! إلى أي مدًى استقر بك المُقام في القلوب
والعقول، هذا الفتى الأسمر ذو الشعر الأجعد، سليل عائلة أراب بعينيه
الزرقاوين الجاحظتين قليلًا (لا يزال الجدل محتدمًا عن لون شعر بوشكين
لم يهدأ حتى الآن بين دارسيه)، ثم بوشكين الناضج بشعره الأجعد ووجهه
المسحوب لأسفل، وقد تغطى بسالفَين غير كثيفين خفيفين قليلًا، وهو ما
أفقدَ الوجهَ أناقته بعض الشيء، وأخيرًا، فإن صورة بوشكين المعلَّقة في
بيته في مويكا، بوجهه الشاحب النحيل وشعره ذو الخُصل، الملتصق بجبهته
المبللة، الشبيه بوحش جريح، لعله كان يبدو على هذا النحو في الأشهر
الأخيرة من حياته، وربما في الأيام الأخيرة عشية المبارزة – وا حسرتاه
على بوشكين هذا، الذي لقي مصرعه بسبب زوجته المدبِّرة على نحو مبالَغ
فيه، التي لم تكن تخجل من ضبط مِشدِّها في حضور الخدم، بل وحتى في حضور
صاحب دكان الكتب، الذي استدعته إليها في مخدعها لكي تساومه على دفع
خمسين قطعة ذهبية زيادة مقابل أشعار زوجها! – وا حسرتاه، بوشكين!
بوشكين! دون جوان، الساخر، المتحمس، المبارز تقريبًا، الذي أطلق النار
من مسدسه وهو عارٍ في غرفة في أحد الفنادق في مدينة كيشينيوف، ثم راح
بعدها يُعربد في المدينة وقد اعتمر قلنسوة حمراء، بوشكين، الذي أطال
ظفر خِنصَره، مثل أي فتًى مستهتر تافه، أو موظف في أحد المكاتب،
بوشكين، الذي كان طوله يصل بالكاد إلى منتصف أذن زوجته الممشوقة
القوام، وفي الوقت نفسه كان يسعى أن تكون حاملًا كل عام حتى لا تضايقه
بقسوة، وأن تشعر تجاهه بالغيرة دون مبرر، لو كنت فنانًا لرسمت لوحة
ولأسميتها: «زفاف بوشكين على الموت»؛ حيث أصور فيها بوشكين على سجيته،
أما جونتشاروفا – فكنت سأصورها على هيئة خطوط متعرجة على نحو مبتكر، كل
خط من هذه الخطوط يرمز إلى جزء محدد من جسدها؛ اليدين والقدمين والبدن،
هذه العقدة التي تشوه تمامًا تصورنا عن نِسَب الجسد البشري – منذ فترة
شاهدت لوحات مشابهة في شقة إحدى الفنَّانات الحداثيات، وكانت مولعة
برسم تلك الأجساد النسائية، التي تشبه إحداها الأخرى إلى حد مدهش، وعلى
ما يبدو، كان الرسم يرسل برسالة شيطانية جهنمية – وعلى نحو متكرر
تلتفُّ اليدان والقدمان حول هذا الجسد والرأس المجازيين والمنتهيين
بقرون استشعار، أو يتشابكان بعضهما ببعض ببساطة، ربما لا يمكن تتبعهم
إلا بمساعدة مبدعة هذه اللوحات نفسها، التي كانت تمسك في يدها بمؤشر،
مثل مدرس الجغرافيا، الذي يعرض مسار الخطوط المتشابهة والأخرى
المتساوية، على أية حال سيكون من المستحسن أن تقوم الفنانة، أثناء زفاف
جونتشاروفا، زوجته، بلفِّ رقبة بوشكين الحقيقية بواحد من هذه الخطوط
البشعة – عندما يكون بوشكين في أحضانها تقريبًا، على أية حال، ربما كان
كل ذلك شيئًا ساذجًا للغاية، على أنني بعد زيارة شقة هذه الفنانة
استحوذت عليَّ أكثر من مرة فكرة هذه اللوحة، وعند زيارتي التالية
للاستوديو الخاص بها، رحت أحاول أن أُوحي إليها بهذا الموضوع، لكنها
قالت لي إن بوشكين لا يثير اهتمامها على الإطلاق، مثلما، بالمناسبة،
أثير أنا اهتمامها، الحقيقة أن ذلك جعلني أشعر بالارتياح؛ لأنني لم أجد
حتى الآن أناسًا لا يرون في بوشكين معبودهم – خاصة من النساء، وعلى
رأسهن الشاعرات، بدءًا من مارينا تسفيتايفا، التي كتبت عنه قائلة: «خوف
الأزواج، متعة الزوجات»، وقد كرَّست له ديوانًا كاملًا معلنة عن غرامها
به سرًّا وعلانية، وانتهاءً بأخمدولينا، التي تغنت به في الحالة
الضبابية التي تشبه السير أثناء النوم، لكن الأرجح أن من المستحيل أن
نجد شخصًا مولعًا ببوشكين إلى درجة العبادة مثل دستويفسكي، ربما كان
هناك هذا الحلم النقيض المستحيل، الذي مثَّله ستافروجين، الذي جسَّد
انسجام الروح (ربما كان انسجامًا ظاهريًّا)، والفهم الرفيع للشرف (هل
كان دستويفسكي يعلم على أي نحو راح بوشكين يتضرع بكل إخلاص للأمير
أرلوف في ماريينكا؟) ثم القوة وثبات الشخصية (هل كان دستويفسكي يعلم أن الديسمبريين٤٧ لم يكونوا يولون بوشكين ثقتهم، معتبرين إياه شخصًا ثرثارًا
متقلب الأهواء؟) وأخيرًا، رباطة جأش القائم بالإغواء، والذي دائمًا ما
يكون النجاح حليفه (ليس هناك ما أضيفه هنا بين القوسين)، وحيث إن كمال
بوشكين في هذا المجال غير قابل للجدل، فربما كان التناقض، على أية حال،
كامنًا أيضًا في أمر آخر؛ أن دستويفسكي الأديب، ربما كان، هو الشاعر
الولهان ورومانسي زمانه، في الوقت الذي كان فيه بوشكين الشاعر، ربما،
هو الواقعي الأكثر توقدًا للذهن، الأمر الأهم — على الأرجح — يتلخص في
أن كلًّا منهما عاش في زمن مختلف عن الآخر، الأمر الذي بفضله نجح
دستويفسكي في تجنب أي نوع من الهجاء اللاذع من قِبل الشاعر، الذي كان
من الممكن أن يضع بوشكين في صفٍّ واحد مع أعداء دستويفسكي الأدبيين،
وربما استطاع هذا الهجاء أن يدفع به إلى منزلة خاصة – بعد أن خسر كل ما
تبقى لديه من فرنكات قليلة غادر فيديا صالة القمار الكبرى متوجهًا إلى
الصالة الجانبية، حيث شاهد أمرًا أدهشه بشدة؛ أنَّا جريجوريفنا تقامر –
حتى إنه قدَّر في بداية الأمر أنه أخطأ في التعرف عليها، لكنها كانت
هي، في قبعتها البنفسجية ذات الزهرة، وإلى جانبها وقف رجال ما غرباء
يرتدون الفراك وبعض السيدات – شق طريقه نحو مائدة القمار، ثم اقترب
منها، لكنها كانت، على ما يبدو، قد راهنت لتوِّها؛ لأنها كانت قد ثبتت
عينيها بتوتر وهي تتابع كرة الروليت وهي تدور في حركة سريعة – كانت
يدها باردة – أخذتها رجفة، وعندما رأته كسا وجهَها الشحوبُ، لكنه فجأة
لسبب ما انتابه شعور مدهش بالمرح جعله يضحك، هنا خطرت بباله عبارة
«الزوجة المقامرة»، وفي الوقت نفسه غمره إحساس بالشفقة والأسى نحوها –
لقد قررت أن تفعل ذلك لكي تصلح من أمرهما على نحو ما، لكي تنقذ الموقف،
أمسك بيدها وأخذها بعيدًا عن المائدة – لمعت في عينيها دموع الخجل
والأسف، لكنها راحت تنظر إليه مقطبة، كما كانت تفعل دائمًا، «هذه
الغولة» – مسح على يدها بحنان – غادرا مبنى المحطة، ودون أن يتبادلا أي
حديث سارا في ممشًى جانبي باتجاه التلال – هي مستندة على يده، وهو وقد
أخذ ينظر في عينيها، وقد جفت فيهما الدموع، ولمعت مكانهما ابتسامة –
راح يكرر عبارة «الزوجة المقامرة، إيه، إيه!» أما هي فراحت تضحك في
سعادة – خرجا إلى سفح تنمو عليه شجيرات، ثم راحا يتسلقان التل على مهل
في اتجاه القلعة القديمة، عندما وصلا إلى السلم المؤدي إلى أعلى، بلغ
فيديا مبلغًا كبيرًا من السعادة، حتى إنه دخل في موجة من الرقص وبأسلوب
خاص، إذ راح يدق الأرض بقدميه قائلًا لها إنه بهذه الطريقة إنما يُصلح
من كعبَي حذائه اللذين بَليا على الأرجح، وأنه من الضروري أن يكونا
متماثلين، ثم أخذ يعد الخطوات من أريكة إلى أخرى، من تلك التي كانت تقع
في طريقه وهما يسيران باتجاه القلعة، كان يقترب من الأريكة المختارة،
فتارة يطيل خطواته، وتارة يقصِّرها، حتى إنها لم تكن في واقع الأمر
مجرد خطوات، وإنما خطوات صغيرة للغاية – كان عليه أن يتوصل إلى عدد
محدد منها، لكنه لم ينجح في الوصول إلى العدد المطلوب، وهو ما كان نذير
سوء بالنسبة إليه، لكن أنَّا جريجوريفنا لم تكن تعرف السر وراء ذلك،
وظنت أنه يتغابى – بعد أن أنهى لهوه مع الأرائك، وقف فجأة في وضعية
مسرحية، وبعد أن هبط على ركبة واحدة، أخذ يلوِّح بيده كأنما يرسل
بالتحية إلى أحد ما، لقد اتخذ هذه الوضعية بعد أن سمع ضجيج عربة تقترب،
الأرجح أنه خمَّن شيئًا أو قرر أن يتماسك، لكن اتضح أن العربة مجرد وهم
– فقط حوذي واحد يجلس على المقعد الأمامي وقد غطَّ في النوم تمامًا،
راح فيديا وأنَّا جريجوريفنا يضحكان طويلًا على هذه الحادثة، ثم واصلا
تسلق السلم الحلزوني الضيق، حتى وصلا إلى الساحة العليا للقلعة، أحست
أنَّا جريجوريفنا بالتعب فجلست على الأريكة، حيث انكشف أمامها نهر
الراين ومدينة بادن في منظر رائع، أما فيديا فقد مشى حتى بلغ حافة
الساحة ثم صاح قائلًا: «وداعًا يا آنيا، سوف أُلقي بنفسي الآن!» – في
مكان ما في الأسفل كان المشهد خلَّابًا، حيث راح نهر الراين الأزرق
يسير متعرجًا، وقد ترامت بادن بكنائسها القوطية، وأسطحها القرميدية
الحادَّة وحدائقها ومتنزهاتها الخضراء الكثيفة، وإلى يسارها قامت
الكنائس اللوثرية المبنية من القرميد الأحمر، ووسط الخضرة تراءى مبنى
المحطة الأبيض كأنه لعبة، هناك، حيث على ضوء الثريات الأصفر، ودخان
التبغ المتصاعد، تجرى المراهنات ويُهدَر المال وتمتد الأيدي لتجرفه في
جشع، لكن هؤلاء المقامرين هم أشبه بالدُّمى في مسرح العرائس وقد ارتدوا
الفراء وعَلَت الصفرةُ وجوهَهم المنتفخة، التي أخذت ترتجف على نحو
عجيب، مُحدِثين حركات غير طبيعية، كما كان مدهشًا كل هذا البراح الهائل
الذي انفتح أمام نظره من جهة الساحة! – راحت أوراق الشجر تتطاير على
نفس المستوى الذي يقف فيه، وهناك في مكان أعلى، على مستوى الصخور
البارزة فوق القلعة، كانت بعض الطيور الكبيرة تحوم – لعلها نسور جبلية،
أو صقور، وأعلى من كل ذلك كانت السماء الزرقاء تنتقل نحو سواد كوني ما،
حتى إنه بدا أن النجوم ستظهر الآن، أما هو فقد أحس برغبة عجيبة في أن
ينفصل عن الساحة التي وقف عليها، وأن يُحلِّق إلى مكان أعلى، نحو هذه
السماء الزرقاء الضاربة إلى السواد، أن يذوب فيها، أن يذوب في أي عوالم
أخرى، ربما في سبيلها لأن تُخلَق الآن، أو تكون قد وُلدت لتوها، عوالم
مسكونة بالبشر، الذين يعيشون عصرهم الذهبي،٤٨ في هذه اللحظة وقفت أنَّا جريجوريفنا إلى جانبه، وقد أمسكت
بذراعه بقوة، كان وجهها شاحبًا وقد جثا فيديا أمامها على ركبتيه وراح
يُقبِّل يديها، كيف تسنى له أن ينساها وأن ينسى ميشا أو سونيا، وقد
حملها أن تقف عاليًا على هذا النحو، مُخيفًا إياها بصراخه السخيف؟ – في
طريق العودة مرَّا بمكتب البريد واستفسرا عن وجود خطابات لهما – وجدا
خطابًا باسم أنَّا جريجوريفنا، وبداخله مائة روبل، أرسلها فانيا،
أخوها، الآن أصبح باستطاعتهما أن يَرُدا دَين صاحبة البيت، وأن يتوقفا
عن الاختفاء عنها، وأن يستعيدا الدبوس والقرطين وخاتمَي الزواج وباقي
الأشياء، وأخيرًا أن يرحلا عن هذا المكان الملعون، أما فيديا فذهب
ليستبدل النقود ليفكَّ رهن الدبوس والقرطين والخاتمين، على أنه وبعد أن
تم حزم الحقائب تمامًا وقررت أنَّا جريجوريفنا الخروج للنزهة لكي تقابل
فيديا، اكتشفت فجأة ضياع شعرها المستعار، لقد كانت ترتديه بالأمس،
واليوم فقط قررت ألا ترتديه وهي ذاهبة إلى المحطة – الأرجح أن ماري
الخبيثة سرقته أو أخفته عمدًا، الواقع أن نفس القصة وقعت لها مع
سروالها – لقد بَحَثت عنه في كل مكان، لكنها اكتشفت فجأة، فيما بعد،
وجوده في الدرج الأسفل لدولابها الصغير، حيث دسَّته ماري دون شك، الآن
هذه السافلة ماري أخفت شعرها المستعار انتقامًا منها ومن فيديا اللذين
لم يعطياها من ثمار الكمثرى، بينما أعطيا تيريزا، وقد حدث ذلك مرتين
استدعت إليها ماري، لكن ماري قالت إنها رأت الشعر المستعار بالأمس وإن
أنَّا جريجوريفنا، على الأرجح، قد فقدته، وعندما طلبت منها أنَّا
جريجوريفنا المكواة قالت ماري إن عليها أن تقوم هي بنفسها بالكي، كان
على أنَّا أن تتحمل هذه الإهانة في صمت، وفي هذا الوقت تمامًا ظهر
فيديا – كان وجهه شاحبًا، وكعادته جثا على ركبتيه قائلًا إنه خسر
النقود التي أعطته إياها أنَّا جريجوريفنا لفك رهن الدبوس والقرطين
والخاتمين، كان من الضروري إنقاذ ما تبقى من نقود، رفعت أنَّا
جريجوريفنا فيديا من الأرض بقوة لا يعرف أحد من أين جاءت بها، وقالت له
إنهما سيذهبان الآن معًا إلى فايسمان؛ لأنها لم تعد تثق فيه، وقد قبل
فيديا ذلك باعتباره واجبًا – أسرعا يركضان عبر شوارع بادن نحو فايسمان
وقد حلَّ عليهما المساء، وراحا يشعران بالخوف من ألا يلحقا به، لكنه
كان موجودًا في دكانه لا يزال – فكَّا رهن البدلة والقرطين والدبوس
والخاتمين، ثم عادا على مهل إلى المنزل، وعلى الرغم من ذلك فإن أنَّا
جريجوريفنا لم تتوقف عن التفكير في الشعر المستعار، ما إن وصلا إلى
المنزل حتى سقط فيديا من جديد على ركبتيه طالبًا منها عشرة فرنكات،
عشرة فقط؛ لكي يُجرِّب مرة أخرى، على أن تكون المرة الوحيدة، والأخيرة،
ما داما سيسافران، وفي هذه المرة الأخيرة لا بد أن يربح، ولو مبلغًا
صغيرًا – لتكن عشرة فرنكات لا أكثر، تساوي كل ما أخذه من أنَّا
جريجوريفنا، ولكن الأهم أن يربح دون خسارة، دون أن يُضيِّع فرنكًا
واحدًا – ولعله عندئذٍ يسافر بنفس هادئة من هنا؛ لأن الكلمة الأخيرة
ربما ستكون لصالحه، لعل الضربة الأخيرة تكون له، لعل كل شيء يتخذ شكل
المثلث المتساوي الساقين، وليكن ذا زاويتين جانبيتين حادتين وبنفس
الرأس المنفرج، ليكن رأسًا، أيًّا كان شكله، وإلا أصبح كل ذلك أشبه
بأفق عادي لا نهاية له، بعد أن حصل على الفرنكات العشرة، وبعدما كاد
يتعثر عند عتبة الباب الصغير راح يجري عبر الشوارع المظلمة، وبعدها
أسرع نحو ممشى Lichtentaler Allee
الخالي في طريقه إلى مبنى المحطة، وهو لا يزال يلهث من السرعة
والاضطراب، أثناء ذلك كانت أنَّا جريجوريفنا تواصل بحثها عن الشعر
المستعار وتعيد حزم إحدى الحقائب؛ إذ كان عليها أن تحشر فيها ثلاثة
أطباق وكوبًا وفنجانًا، عاد فيديا متصنعًا مظهرًا سيئًا وهو يحمل كيسًا
كبيرًا من المشمش كان يمسك به وراء ظهره، لقد ربح من أول ضربة، ثم راهن
على passé ليربح مرة أخرى – ثم توقف عن
اللعب، لقد وضع خاتمة للأمر برمته – كانت عيناه تتألقان بالسرور
والسكينة، حتى إنه لم يُعِر اهتمامًا بحكاية أنَّا جريجوريفنا بشأن
الشعر المستعار الضائع، وعن شكوكها التي انصرفت نحو ماري، عن وقاحة
ماري، ولكنه عندما أخذ يُغري أنَّا جريجوريفنا لتأكل من المشمش، وكان
قد غسله بعناية ووضعه في طبق إذا بها ترفض لسبب ما لتنشغل من جديد
بالبحث عن هذا الشعر المستعار المشئوم، ساحبة أدراج الدولاب الصغير،
وإذا به فجأة يشعر بتدفق هذا الاضطراب البشع بداخله، بشيء ما يشبه
حُرقة مُعذِّبة، أكان عليها — حتمًا — أن تفسد عليه هذه اللحظة السعيدة
في حياته، هذا الانتصار؟! ليكن انتصارًا صغيرًا تافهًا، لكنه انتصار
على أية حال، كل ذلك بسبب هذا الشعر المستعار البائس، الآن لم يعد
باستطاعته أن يشعر تمامًا بالسعادة في الوجود – لقد ركض خصوصًا إلى
أطراف بادن من أجل هذا المشمش؛ لأن كل الدكاكين كانت قد أغلقت أبوابها،
حتى استطاع بالكاد أن يقنع ألمانيًّا ما، كان قد أغلق دكانه، أن يبيع
له هذا المشمش من أجل زوجته المريضة: Fur meine liebe
kranke Frau – هذا ما قاله له آملًا أن يستميل عطف
الألماني، بعد أن تضرع له، أما هي فلم تسأله حتى كيف عثر عليه في هذا
الوقت المتأخر، لتستمر في بحثها عن هذا الشعر المستعار الملعون، أخذ
يصرخ فيها لأنها تهتم بالتوافه ولأنها دائمًا ما تفسد عليه كل شيء، وأن
العوانس فقط هن اللائي يضعن على رءوسهن شعرًا مستعارًا، توقفت عن
البحث، اعتدلت في جلستها وراحت تنظر إليه – كانت نظرة ثابتة مُقطِّبة،
كانت عيناها مغرورقتين بالدموع، فضلًا عما فيهما من العتاب والتحدي
واليأس البارد لدى إنسان، اتخذ في هذه اللحظة قرارًا ما، قالت له وقد
انقلب صوتها إلى صوت غريب: «سأسافر غدًا وحدي في الصباح الباكر، ولتفعل
أنت ما تشاء»، اقتربت بعد ذلك من الحقائب، انحنت عليها، وأخذت تُخرِج
منها أشياءه؛ بدلته، وملابسه الداخلية، ومناديله، ووضعتها على فراشه،
فعلت كل ذلك على نحو لا يترك مجالًا للشك في عزمها الأكيد على قرارها –
الأمر الذي لم يره من قبل مطلقًا – إنه الآن أمام شخص غريب، شخص لا
يعرفه – امرأة شابة، لها وجه نحيل شاحب كساه التعب، موجودة معه في غرفة
واحدة على نحو غير مفهوم، كلا، الأرجح أن كل ذلك مجرد وهم تراءى له –
هذه المرأة ينبغي أن تكون أم أطفاله، أطفالها، واليوم فقط، منذ بضع
ساعات قليلة مضت، جاءت إليه، عندما كان على حافة الهاوية، أخذته من
يده، بإصرار وحنان، لتذهب به بعيدًا عن هذا المكان، كأنه كان عازمًا
على أن يلقي بنفسه إلى أسفل، هذا يعني أنها تحبه، استمرت في إعادة حزم
الحقيبة في هدوء، وهي تُخرِج منها أشياءه، تخيل نفسه للحظة وقد سافرت،
ليبقى وحيدًا بين جدران هاتين الغرفتين اللتين تديرهما صاحبة بيت وأثاث
بخيلة، ناهيك عن بكاء أطفال يصم الآذان، قادم من مكان ما من أعلى، وهذا
الطَّرْق المدوِّي الصادر من مطارق ورشة الحدادة الموجودة في الفناء،
كيف سيعود من مكان ما ليدخل إلى الغرف الخالية، لن يجد هناك واحدة تسعد
لعودته وتسرع لتسقيه شايًا، وفي الليل يروح يقترب من فراشها لكي يلقي
عليها تحية المساء، يتلمس الملاءة والفراش، بعدها يخلدان للنوم، ولكن،
ماذا لو أصبح الفراش شاغرًا – كانت تواصل ترتيب بعض الأشياء، ثم اقتربت
من الدولاب الصغير، حتى دون أن تلقي عليه مجرد نظرة، «آنيا، هل
جُننت؟!» – جثا على ركبتيه وأخذ يزحف نحوها، أمسك بيدها، وضمها إلى
شفتيه، لكنها سحبت يدها بهدوء من بين يديه، كان هذا الهدوء أكثر ما
أخافه، هبَّ واقفًا على قدميه، كان يريد أن يدير وجهها ناحيته، وبدلًا
من وجهها، الذي توقع أن يراه لأنه كان يتذكر جيدًا أنه أخذ رأسها بين
يديه، إذا به يرى بقعة بيضاءَ غريبةً مبهمة، راحت هذه البقعة تفقد
بياضها لتتضخم بسرعة لتمتلئ بزرقة، ثم لتتحول بعد ذلك إلى اللون
الأزرق، بل حتى إلى لون كحلي قاتم – مثل تلك السماء التي شاهدها اليوم
وهو يقف عند حافة القلعة، نعم كانت سماء، سماء ليلية تمامًا مليئة
بالنجوم، لكنها نجوم هائلة لسبب ما، أشبه بالشمس، على الرغم من أن
باستطاعته أن ينظر إليها؛ لأنها لم تكن تُغشِي البصر، لكن كل نجم فيها
كان يرسل بأشعته حول نفسه في هالة مُذهَّبة – الآن وقد انفصل عن الأرض
إذا به يُحلِّق بينها، ولكنه بمجرد أن اقترب من واحدة من هذه النجوم
الضخمة، إذ بالهالة المذهبة التي تحيطه تنطفئ، لتتراءى أمام ناظريه
صحراء صخرية، خالية تمامًا، حتى إنها لم تنتهِ بأي شيء يشبه الأفق،
وعلى المدى كومة من الأحجار والصخور، التي اكتسبت هيئة خطوط مزعزعة
لمدن قديمة، حيث انتشرت جماجم بشرية وعظام، لتخرج على نحو مفاجئ رائحة
غريبة من هذه الصحراء الصخرية المُوحِشة؛ رائحة الأوزون الذي يفوح عادة
بعد الرعد، كان يحلق أبعد، بسهولة، دون جهد، مثل الطيور التي رآها
اليوم، وهو يقف عند ساحة القلعة، كان يرى على جميع النجوم، التي ظل
ينظر إليها وهو يحلق، نفس الشيء؛ بقايا حياة غابرة، حضارة بائدة، كل
شيء كان ميتًا، راحت النجوم العملاقة تتضاءل فجأة ليتراءى عندئذٍ على
خلفية السماء السوداء قمر مكتمل لونه أصفر فاتح – ومن هذا القمر خرج
دِرع كُتب عليه بأحرف كنسية قديمة مرتان: «نعم، نعم»، كان الدرع
لامعًا، وكذلك راحت الحروف المكتوبة عليه أيضًا تلمع، قطع الدرع السماء
كلها محلقًا قادمًا من الشرق باتجاه الغرب؛ الأمر الذي يشير دون شك إلى
الرسالة المنوطة روسيا بها، راح هو أيضًا يطير بسهولة بالغة خلف هذا
الدرع، حتى إنه فقد الإحساس تمامًا بجسده، الذي انصهر في شيء لا يمكن
الوصول إليه، الآن ما تبقى منه هو جزء يسير من بدنه – كان مضَّجعًا على
مرفقه على السجادة بين فراشها والحائط، حيث سحبته أنَّا جريجوريفنا،
وهي تلهث من فرط ثقل جسده – وضعت وسادة تحت رأسه – كانت تشنجاته قد
انتهت، لكن شفتيه كان عليهما آثار زَبَد، راحت تمسحه – نظر إليها، بعد
أن فتح عينيه ببطء، نظرة تشي بأنه لم يتعرف عليها بعد،
Comme ça، (هكذا)، لا يعرف لماذا قالها
بالفرنسية، «أنا هنا يا فيديا، أنا معك»، جلس على ركبتيه إلى جوارها،
ألصقت خدها بقوة بجبهته الباردة المبللة بالعَرق، «أنا معك، أنا هنا»،
كررتها، ليسري هذا التكرار في زفرة مفعمة بالألم والحنان.
القطار يغادر بادن في الثانية بعد الظهر، لكن السفر دون الشعر
المستعار كان أمرًا مستحيلًا، ومن ثم تجددت حكاية البحث عنه منذ الصباح
الباكر بقوة جديدة؛ بالتناوب تم استدعاء ماري تارة، وتيريزا تارة أخرى،
لتقوم أنَّا جريجوريفنا وفيديا بإجراء استجواب حضوري لهما – كان فيديا
مهتاجًا منحرف المزاج بعد نوبة الصرع، راح يصرخ بعد أن استيقظ في
الصباح، وقبل أن يفتح عينيه انتابَهُ شعور كريه، رأى أمامه مثلثًا ما
متآكلًا – أخذ يُجهز فكره محاولًا أن يتذكر، ما الذي ينبغي أن يعنيه كل
ذلك ليتذكر فجأة الشعر المستعار – نعم، هذا بالضبط ما جعل المثلث غير
مكتمل – لم يكن باستطاعتهما أن يسافرا من هنا قبل أن يجدا هذا الشعر
المختفي، راحت ماري وتيريزا تبحثان في كل الأركان، بعدها غادرت تيريزا
الغرفة، بينما استمرت ماري في البحث في فراشَيْ أنَّا جريجوريفنا
وفيديا، وفي نهاية الأمر عثرت عليه خلف سرير فيديا، راح فيديا يؤكد أنه
بحث اليوم صباحًا، وأن الشعر المستعار لم يكن موجودًا هناك، وها هو
يظهر الآن، إذن فإن ماري هي التي دسَّته هنا، هرعت ماري باكية نحو
صاحبة البيت، التي اندفعت داخلة إلى الغرفة وهي تصيح قائلة إنها لا
تأوي في بيتها لصوصًا وإن لديها أناسًا شرفاء، كانت تصرخ وقد أخذت تضرب
نفسها في صدرها المستوي، كانت أنَّا جريجوريفنا تُسميها مدام
ثيناردييه، على اسم بطلة رواية هوجو، تلك المرأة الفظة التي كانت تضحك
بصوت مرتفع، وكانت ذات خصال ذكورية، لكنها عندما كانت تضرب نفسها بقبضة
يدها في غضب شديد كانت تُذكِّر فيديا الآن لسبب ما بشخصية يعرفها جيدًا
– نعم، لقد تذكر – إنها كاتيرينا إيفانوفنا من رواية «الجريمة
والعقاب»، عندما كانت تصرخ في وليمة العزاء، وقد طفح وجهها ورقبتها
ببُقع حمراء، وراح صدرها المصاب بالسل الرئوي يهتز في جنون وهي تثبت
للناس أصلها النبيل، بينما أخذ الحضور كلهم في الضحك، وخاصة آماليا
إيفانوفنا، تلك الألمانية الغبية المتعجرفة، التي راحت تصدر نخيرًا
معبرة عن الاحتقار، لكن المشهد الجاري الآن كان كله مقلوبًا، والمؤكد
أن الأجواء كلها كانت تنذر بوقوع فضيحة! – منذ نوفمبر الماضي لم يخطَّ
حرفًا واحدًا على الإطلاق – بدأ الأمر بالزواج، ثم تلاه هذا الروليت،
الذي أزاح جانبًا كل ما في رأسه، حتى إنه لم يستطع أن يكتب مقالًا ذا
مغزًى عن بيلينسكي، لكن هذه الأفكار جالت برأسه وإن على نحو عابر، الآن
راح صوت صاحبة البيت يُسمع في مكان ما خلف الأبواب – لقد وصلت حكاية
الشعر المستعار إلى نهايتها، جلس إلى المكتب، مستندًا بذقنه إلى راحة
يده، ليلوح أمام نظره الداخلي هذا المثلث بقمته البالية المثلومة – ما
ربحه بالأمس ضاع في ضربتين، كان عليه أن يراهن مرة أخرى على الضربة
الثالثة، على ألا يكون الرهان على رقم فردي، وخاصة الرقم «٣»، لعلها
تكون الضربة القاضية، لم يتبقَّ على رحيل القطار سوى ما يزيد قليلًا
على ساعتين – يمكنه خلال هذا الزمن أن يربح ثروة طائلة – لقد فقد فرصته
الأخيرة، والآن ها هو يجلس متململًا إلى المائدة دون معنًى، بينما تلمع
بلون ذهب، غير بعيد منه، هناك، عند نهاية ممشى
Lichtentaler Allee، في هذا المبنى ذي
الطابقين والأبراج، خلف النوافذ العالية، المغطاة من الداخل بستائر
ثقيلة خضراء، على الموائد، المغطاة بالجوخ الأخضر، في ضوء الثريات،
الذي راح ينفذ من خلال سحابة من دخان التبغ، أكوام من العملات، تمامًا
مثلما تلمع أُطر الأيقونات في الكنائس في ضوء الشموع المتلألئة، وقد
خيمت عليها سحب البخور – بعد أن أقسم لأنَّا جريجوريفنا أن تكون هذه هي
المرة الأخيرة، وأنه سوف يذهب ليشاهد فقط، ولكنه طلب منها على كل حال
قطعة ذهبية واحدة، ليمضي بعدها في طريقه إلى المحطة، بينما راحت أنَّا
جريجوريفنا تلفُّ الكتب كلها في ثوبها الأسود، ثم في بالطو فيديا
أيضًا، حتى تُدخِل كل ذلك في عربة القطار باعتباره أمتعة صغيرة؛ لكيلا
تدفع نقودًا كثيرة عليها، بالإضافة إلى ذلك كان عليها أن تراجع مرة
أخرى كافة أدراج الدولاب والأَسرَّة؛ كي تتأكد أنها لم تنسَ شيئًا –
نجح فيديا في العودة سريعًا، وبعد أن جثا على ركبتيه، قال لها إنه خسر
كل شيء وإنه وغد؛ لأنه رهن خاتم الزواج، والآن لم يعد هناك ما يكفي
لديهما من المال لكي يسافرا، وهنا انطلقا معًا نحو موبرت، الذي كان
يسكن غير بعيد عن ناصية الشارع؛ لكي يرهنا لديه القرط، وعندما لم
يتبقَّ سوى ساعة ونصف على مغادرة القطار، انطلق فيديا ومعه خمسة فرنكات
في جيبه مرة أخرى إلى المحطة، قبل ذلك بفترة صغيرة، عندما خسر ورهن
الخاتم، أخذه الحماس بشدة، فإذا به يراهن رهانه السابع (الفردي) على
صفر، عاقدًا الأمل على رقم «٧» السعيد – خسر كل شيء، وبعد أن أخذ
المشرف على القمار ماله، وضعه في كومة كبيرة، ثم ساوى هذه الكومة من
العملات بكفه، بعد أن دمَّر القمة، الآن كان بوده ببساطة أن يلقي نظرة
مرة أخرى على كومة العملات، والتي كانت موضوعة دائمًا بالقرب من
المشرف، أن ينظر في هذه اللحظة متى سوف تكتمل القمة، وقف خلف المقامرين
والفضوليين على أصابع قدميه، محاولًا أن ينظر من بين الرءوس إلى كومة
العملات الموضوعة بالقرب من المشرف، التي راحت تقل تارة، وتارة تزداد
تبعًا لسير اللعب، وقد أمسك بكفه بعملة من فئة الفرنكات الخمسة، كان
ينظر وقد تجمد قلبه من الخوف، اللحظة التي تتخذ فيها الكومة قمة
منتظمة، كان يشعر أن هذه اللحظة هي التي ستكون اللحظة الحاسمة في
حياته، وعندما أضاف المشرف على القمار الحصص الإضافية، التي خسرها
أصحابها إلى كومة العملات، تكونت أمامه كومة هائلة، حتى إنها كادت، على
ما بدا، أن تنهار، وعند قمة هذه الكومة تشكَّل ما يشبه المخروط، ودون
أن يعي ماذا يفعل، وبحركة واحدة شقَّ طريقه نحو المائدة، وما إن دعاه
المشرف للرهان حتى وضع الفرنكات الخمسة، ليراهن مرة أخرى على رقم فردي
– انطلقت الكرة بسرعة شديدة لتقفز على الفور ولتستقر عند الصفر – دوَّت
صرخات الفرح واليأس من مختلف الأنحاء في وقت واحد، بعض الذين قامروا
جَنَوا أرباحًا ضخمة، بينما خسر الباقون، ربما، كل ثروتهم، سار مخترقًا
زحام زوار المحطة، وقد دسَّ رأسه بين كتفيه، لقد خسر آخر قطعة نقدية
لديه، ومعها تهاوى أمله الأخير – انحدر هابطًا التل إلى أسفل، للمرة
الأخيرة إلى غير رجعة، لم يعد لديه الآن ما يتشبث به، ركض عائدًا إلى
المنزل وهو يلهث وقد شحب وجهه، كانت أنَّا جريجوريفنا تتفاهم مع صاحبة
البيت، التي طلبت منها إحدى عشرة قطعة ذهبية، احتدم الجدل بينهما،
لتعود صاحبة البيت من جديد لتضرب على صدرها وهي تصرخ قائلة إنه كان
لديها قطع ذهبية أكثر مما كان لدى أنَّا جريجوريفنا وفيديا، ثم راحت
تطلب نقودًا مقابل الخدمة والحطب – ناولتها أنَّا جريجوريفنا قطعتين
ذهبيتين، لكن صاحبة البيت قالت إن هذا قليل، وعندما أضافت لها أنَّا
جريجوريفنا قطعة أخرى، عادت من جديد لتضرب على صدرها بقبضة يدها وهي
تصيح إنه ليس لديها أناسٌ غير أمناء، وعندما ابتعدت أخيرًا أسرع فيديا
ليحضر حوذيًّا، ولكنه وما إن غادر المكان حتى عادت صاحبة البيت لتطلب
ثمانية عشر كريتسر تعويضًا عن الإناء الخزفي المكسور، في هذه الأثناء
عاد فيديا ومعه عربة لنقل الأمتعة وقد تصبب عرقًا، حتى إن أنَّا
جريجوريفنا خشيت أن يصاب بنزلة برد، كانت صاحبة البيت تهرع إلى الغرفة،
ثم ما تلبث أن تغادرها، فعلت ذلك أكثر من مرة؛ فتارة تطلب شيئًا، وتارة
تضرب على صدرها بقبضة يدها، أثناء بحثه عن الحوذي اشترى فيديا قطعة
خنزير مملَّح أكلها مع قطعة من الخبز، الآن غادرا الغرف وأخذا ينزلان
الدَّرَج، خرجت صاحبة البيت لترافقهما، أما ماري، التي وقفت على بسطة
السلم، فلم تُدِر حتى رأسها ناحيتهما – يا لها من فتاة ناكرة للجميل،
كم أعطياها من الفاكهة والأشياء الصغيرة، الآن هي لا ترغب في أن
تودعهما! – وفي الشارع بالقرب من عربة النقل، التي كانت بانتظارهما لم
يقابلهما سوى أطفال الحدادين البشعين، الذين حرموهما من النوم، صعدا
إلى العربة بشق الأنفس، بينما لاح في النافذة صاحبة البيت وماري – صاحت
فيهما صاحبة المنزل مهددة إياهما بشيء ما، حتى تصورا للحظة أنهما
ستلقيان عليهما بالحجارة، بدأت العربة في التحرك، وراحت حوافر الخيل
تدق أحجار الشارع – كانا يسيران عبر شوارع بادن المألوفة لهما،
المزروعة بأشجار الأكاسيا البيضاء، بالقرب من البيوت المعروفة ذات
الأسطح القرميدية ودرفات الشبابيك المغلقة في هذا الجو الحار، على
الرغم من نهاية الصيف، بعد الظهيرة – كان فيديا جالسًا، منحنيًا،
مرتديًا بدلته البرلينية السوداء الرثة تمامًا، التي استردها بعد
رهنها، وقد أمسك في يده بصُرَّة، بداخلها كتب، أما أنَّا جريجوريفنا
فكانت ترتدي ثوبها البنفسجي وشملتها، التي نجحت على أية حال في فك
رهنها، والآن فإن الشملة كانت تخفي بالمناسبة المواضع المُرتَّقة في
ثوبها البالي، وقد اعتمرت قبعة انسدل منها خمار، بينما اعتمر فيديا
قبعته السوداء وقد خلعها ليجفف عرقه – في هذه اللحظة كان ممسكًا
بالصُّرَّة بين قدميه وهو ينظر إلى البيوت والشوارع التي يعرفها جيدًا،
وإلى أشجار الكستناء في ممشى Lichtentaler
Allee، حيث كانا يمران الآن بالقرب منه، كانت أنَّا
جريجوريفنا تشعر أنهما عاشا هنا ردحًا من الزمن، دهرًا كاملًا، وأنه
ربما فوق كل ذلك لم يكن هناك في حياتهما سوى هذا المكان، وأنها كانت
تشعر بالخوف طوال الوقت أن يقع لهما مكروه، يحول بينهما وبين الرحيل من
هنا، في هذه الأثناء كانت تنظر إلى الساعة الموجودة في برج بلدية
المدينة، الحمد للَّه، لقد وصلا في الموعد، وما إن راح الحمَّال ينقل
حقائبهما إلى مستودع الأمتعة حتى أسرع فيديا لشراء التذاكر – كان
القطار على أهبة الاستعداد للانطلاق – كانت أنَّا جريجوريفنا تضع الصرة
المليئة بالكتب، والمخصصة لوضعها في عربة القطار، بالقرب منها على
الأريكة، وفي هذه اللحظة ظهرت تيريزا – كانت تجري على رصيف المحطة وهي
تتلفت هنا وهناك، انخلع قلب أنَّا جريجوريفنا – كانت قد تنبأت بأنهما
لن يرحلا من هنا، وأن شيئًا ما سيحول بينهما وبين ذلك، توقفت تيريزا،
بعد أن رأت أنَّا جريجوريفنا، وأخذت تقول شيئًا ما على عجل وهي تلهث –
لقد تبين أن أنَّا جريجوريفنا قد أخذت معها مفتاح الشقة، تنفست الصعداء
وأسرعت تفتش في حقيبة يدها حتى وجدت المفتاح – كان لديها بالفعل هذه
العادة السيئة؛ أن تحتفظ معها بمفاتيح الشقق – شكرتها تيريزا وتمنت لها
رحلة سعيدة – كانت أفضل إنسان في بادن، هذه المرأة المطحونة، مهيضة
الجناح، وقد كان من المحرج لها — بطبيعة الحال — أن يتعامل الناس معها
على هذا النحو، كان الجو في العربة حارًّا، ولكن ما إن بدأ القطار في
التحرك أخيرًا حتى ازدادت البرودة قليلًا – بالقرب من النوافذ كانت
البيوت المبنية من القرميد الأحمر وكذلك الأسطح القرميدية تسبح، ومن
بعيد لاحت التلال المكسوة بالخضرة والصخور المرتفعة البارزة — الآن —
وهما يرحلان من هنا بلا رجعة، ترى، كما رأت أول مرة، عندما اقتربا من
هذا المكان، جمال هذه المدينة الصغيرة والتلال التي تحيطها، وفي مكان
بعيد ما راح نهر الراين يترقرق بزرقة، للحظة انتابها شعور بالحزن، كتبت
تسفيتايفا تقول: «الفراق هو الموت»، إنني — على سبيل المثال — أشعر
دائمًا بالحزن عندما أغادر حتى أكثر الأماكن سوءًا بالنسبة إليَّ، لعل
ذلك يرجع إلى أنني أعرف أنني لن أعود مطلقًا إليها، استطاع فيديا أن
يحصل من مكان ما على عنب أحمر، لذيذ الطعم، أخذت أنَّا جريجوريفنا
وفيديا يأكلانه في القطار، ولكن، للأسف، فقد اشترى فيديا كمية قليلة
جدًّا، خلف النوافذ امتدت تلال شفارتسفالد وتيورينجين، ثم بدأ تبديل
القطارات الذي لا ينتهي، بعد ذلك – وراح رفاق السفر يتغيرون – امرأتان
عجوزان وسيدة أخرى تحمل عصًا حديدية، كانت في طريقها إلى بازل، ثم عجوز
أخرى لها وجه قاسٍ، كانت ترغب، كما قررت ذلك أنَّا جريجوريفنا لسبب ما،
في الزواج، وألماني شاب ثرثار داس على قدم أنَّا جريجوريفنا ثم اعتذر
لها بلطف، بسبب ذلك انزوى فيديا على الفور في زاوية العربة وراح يرقب
أنَّا جريجوريفنا وهي تتابع في صمت وبنظرة غاضبة تنذر بالسوء، سيدة في
ملابس الحداد، مهتمة بمعرفة ما إذا كانت في روسيا جوازات سفر لا تزال،
وقد اشتبه عليها الأمر في أن تكون أنَّا ألمانية، وهو ما اعتبرته أنَّا
جريجوريفنا إهانة، بل وجلافة أيضًا، ثم زوج وزوجة شابان ألمانيان، نزل
فيديا في إحدى المحطات ليشتري شطائر، لكنه اكتشف عدم وجود عملات صغيرة
معه، فأعطى البائع عشرة فرنكات، لكن البائع أعاد له الباقي إلا فرنكًا
واحدًا – نبَّهه فيديا إلى الفرنك الناقص، لكن البائع تصنع أنه لم
يسمعه وانشغل بالمشترين الآخرين – في هذه اللحظة دقَّ الجرس الثالث،
كانت أنَّا جريجوريفنا تجلس في القطار وراء الباب المغلق، في الوقت
الذي كانت فيه التذاكر مع فيديا – ما إن استمع إلى الجرس الثالث حتى
صاح فيديا بكل ما لديه من قوة لكي يرد له البائع الفرنك الباقي، كان
صراخه عاليًا حتى إنه فاق صفير القطار، اندفع فيديا إلى العربة أشعث
وقد احمرَّ وجهه، وانتابته حالة رهيبة من الاضطراب وراح يحكي كل ما حدث
له لهذا الشاب الألماني الثرثار، وفي سياق حديثه أضاف بصوت مرتفع أنه
لا يوجد هذا القدر من المحتالين مثلما هو في ألمانيا، غير معلوم لماذا
بقيت المرأتان العجوزان هنا، قالتا لبعضهما البعض إن ذلك غير صحيح، أما
الألماني فقد وافق على سبيل المجاملة، حتى إن فيديا أحس، بشكل بديهي
لدرجة ما، أنه قد انتقم للحادثة السيئة بشأن الشطائر، وللغزل المكشوف
من جانب هذا الألماني لأنَّا جريجوريفنا – ظهر نهر الراين من وراء
النافذة مرة أخرى، متسعًا، بمياهه الضاربة للخضرة والأحجار في منتصفه،
وقد سُرَّت أنَّا جريجوريفنا لرؤيته باعتباره صديقًا قديمًا.
وصلا في اليوم التالي إلى بازل، وقد تجمع في المحطة زحام كبير، لم
تستطع أنَّا جريجوريفنا ومعها فيديا بأي طريقة أن يفهما ما إذا كان
عليهما أن ينتظرا حقائبهما، وإذا بالألماني الثرثار يظهر من جديد لسبب
ما ليشرح لهما أن الحقائب سوف تُرسَل مباشرة إلى جينيف، سارت أنَّا
جريجوريفنا إلى جوار فيديا، وقد أمسك بصُرَّة الكتب، تمامًا مثل الأمير
ميشكين، عندما وصل في المرة الأولى إلى بيت يبانشين، صعدا إلى عربة
صغيرة، وأثناء ذلك داس فيديا على أقدام السيدتين الإنجليزيتين، وبعدها
هرع من جديد إلى المحطة، بعد أن ترك لأنَّا جريجوريفنا الصرة؛ لكي
يستعلم على أية حال عن مصير الحقائب، وبعد عدة دقائق عاد من جديد إلى
العربة ليدوس من جديد على أقدام السيدتين الإنجليزيتين – انطلقت العربة
عبر شوارع المدينة الكبيرة، ثم عبرت الجسر المقام على نهر عريض –
شَعَرت أنَّا جريجوريفنا بارتياح مشوب بالدهشة، عندما علمت أن هذا
النهر هو نفسه نهر الراين، وعلى الجسر بالقرب من السور وقف شخصان أو
ثلاثة مسنون يترنحون من السكْر، وقد دخلوا في جِدال حول أمر ما وهم
يلوحون بأيديهم، وقد أوحى ذلك لأنَّا جريجوريفنا بفكرة وَهْم الحرية في
سويسرا، بعد ذلك وصل الزوجان دستويفسكي إلى Hotel
Goldenes Kopf، حيث اتضح أن النادل والحمَّال مخموران
أيضًا، مما جعلهما يظنان أن أنَّا جريجوريفنا وفيديا والسيدتين
الإنجليزيتين أسرة واحدة، وأرادوا أن يُنزِلوهم جميعًا في غرفة واحدة –
ما إن استقر الحال بالزوجين دستويفسكي حتى ذهبا لمشاهدة المدينة، كانت
وجهتهما الرئيسة هي الكاتدرائية والمتحف المحلي – كان النهار معتمًا،
ولهذا كانت إضاءة اللوحات سيئة، وخاصة في الكاتدرائية – أما في المتحف،
فعلى الرغم من أن الإضاءة كانت أفضل، فإن اللوحات جميعها لم تحظَ بأي
اهتمام من جانب الزوجين دستويفسكي، اللهم إلا لوحة واحدة، هي تلك
اللوحة الوحيدة هنا التي رسمها هولباين الصغير، والتي أطلقت عليها
أنَّا جريجوريفنا اسم «موت المسيح عيسى»، على الرغم من أن اسمها
الحقيقي كان «المسيح الميت»، وهي لوحة على شكل مستطيل طويل ممتد،
وخلافًا للَّوحات المعتادة، التي صوَّرت المسيح مُعذَّبًا أو ميتًا،
فقد أظهرته هذه اللوحة مُمدَّدًا على ملاءة بيضاء كأنه في قاعة للموتى،
بأنف مُدبَّب، وجسد معذَّب مُثخَن بالجراح، وقد ظهرت عليه البوادر
الأولى للتحلل واضحة بشدة على وجهه وعلى قدميه المتضخمتين غير
المتماثلتين من حيث الحجم، حتى إن أنَّا جريجوريفنا راحت تنظر إلى
اللوحة وقد تملكها إحساس بالفزع، أما فيديا فكان غارقًا في الإعجاب
بهذه اللوحة، وما إن لاحظ كرسيًّا موجودًا بالقرب من الحائط حتى اقترب
منه بخطوات سريعة حاسمة، ليضعه في منتصف القاعة تقريبًا، ثم ليقف فوقه
ويروح ينظر مليًّا في هذه اللوحة – لوحة طويلة، ممتدة أفقيًّا معلَّقة
فوق الباب في بيت روجوجين في شارع جوروخوفايا – نعم، هنا بالضبط كان من
الضروري أن تُعلَّق هذه اللوحة، كان على الأمير ميشكين، الذي شاهد
اللوحة في سويسرا أيضًا، أن يقول نفس ما كان يفكر فيه هذا الرجل، الذي
يقف الآن فوق هذا الكرسي: «إن هذه اللوحة كفيلة بأن تفقد المرء
إيمانه»، على الرغم من أنه لم يكن حتى ذلك الحين قد رأى وجه ذلك التاجر٤٩ ذي العينين الصغيرتين الناريتين، المُتَّقدتين بالشهوة
تجاه تلك المرأة الساقطة، المليئة، مع ذلك، بالكبرياء – إنها بطلة
دستويفسكي الخالدة، المرأة التي أشعلت مشاعره على نحو مَرَض، ولم تكن
من ثم قادرة على إطفاء هذه المشاعر، كما لم يكن آنذاك قد رأى أيضًا
صورة هذا الأسير، هذا الفارس الحزين، نصف المسيح، نصف دون كيخوت، الذي
عانى من نفس المرض الذي يعاني منه هذا الرجل الواقف في هذه اللحظة
ذاتها على الكرسي، كما لم يكن قد رأى صور العديد من وجوه الشخصيات
الأخرى، ولم يكن يعرف أسماء هؤلاء الناس الذين خلق منهم أبطال روايته
القادمة، والذين ربما لم تكن لديه فكرة حتى، سواء عنهم أو عن الأحداث
والمشاهد التي كان يجب أن تجري، ولكن هذه اللوحة ظلت، لسبب ما، واضحة
جليَّة أمامه بكل تفاصيلها، باعتبارها البِلَّورة الأولى التي سقطت من
محلول شديد التشبع، أما باقي التفاصيل فكانت مكنونة، يلفها ضباب كثيف،
كان عليها أن تأتي إليه بنفسها طوعًا – وبقوة جديدة ازدادت عيناه
تعلقًا باللوحة – اغرَورقَت عيناه بالدمع لثوانٍ معدودة، لعلهما قد
ذابتا حتى، لتظهر له وجوه يعرفها حق المعرفة؛ ذلك الوجه الأحمر ذو
النظرة المتنمرة، المُسطَّح بعينين منتفختين، ثم وجوه أصحاب الجوقة،
ومن بعدهم هؤلاء الذين انتشروا على قمة الجبل المُدرَّج، وقد راحوا
يشيرون إليه بأصابعهم وقد تعالت ضحكاتهم وهم يتغامزون، هنا أراد أن
ينزل عن الكرسي، لكنهم في اللحظة الخاطفة التالية اختفوا، أما هو فعاد
من جديد ليرى وجه وجسد المسيح الميت على نحو كامل الوضوح، وتتردد في
أذنه تلك العبارة عن فقدان الإيمان التي قالها شخص آخر ما، هذه هي
الفكرة التي ينبغي أن تصبح لُب الرواية، وعندئذٍ راحت تنفذ عبر الضباب
أشياء ومشاهد وشخصيات لم تتضح سماتها له بعد؛ نصل السكين اللامع – دعاء
أحد الفلاحين وهو يذبح فلاحًا آخر، وهو يرفع عينيه إلى السماء: «يا
إلهي، سامحني لأجل المسيح»، ثم الجندي الذي باعه صليبه القصديري،
مدَّعيًا أنه من الفضة، وكلمات الفلاحة البسيطة عن الله عندما رأت
الابتسامة الأولى على وجه رضيعها، ثم مشهد تبادل الصلبان بين بطلَيِ
الرواية الرئيسين؛ ها هي الحديقة الصيفية خاوية على غير المعتاد وقد
غطت السحب الرعدية سماء بطرسبورج، مرة أخرى، يلمع نصل السكين في مكان
ما في إحدى الردهات المظلمة في واحد من فنادق بطرسبورج الرخيصة بالقرب
من الحديقة الصيفية، نظرة خاطفة من عينين مُتَّقدتين، تتطلعان إلى
القتل، ثم مرة أخرى يلمع النصل في الظلام، عندما أُغمِد تحت نهد أبيض
لامرأة ساقطة ذات كبرياء، في هذه اللحظة اقترب أحد الموظفين ومد يده
إلى الرجل الواقف على الكرسي، هنا كانت تقف أنَّا جريجوريفنا إلى
جواره، اعتذرت عن نزوة زوجها الغريبة – كانت خائفة أن يفرضوا عليه
غرامة – نزل عن الكرسي صاغرًا، كمن أصابه مس، حتى إنه فعل ذلك وكأنه
غير مهتم بأنهم أرغموه على النزول، سار إلى جنب أنَّا جريجوريفنا،
ليطوفا بأرجاء المتحف في البداية، ثم ليخرجا منه إلى الشوارع الغاصَّة
بالحناطير والمركبات المسرعة بالقرب من البيوت الكبيرة، ذات واجهات
العرض الزجاجية، في مواجهة أناسٍ مسرعين في اتجاه ما، دون أن يلحظا
شيئًا مما حولهما، وجد نفسه عند قمة التل، نفس القمة التي بدت له قبل
ذلك صعبة المنال، وهناك عند هذه القمة انفتح أمامه كوكب الأرض على
اتساعه تقريبًا، بكل ما فيه من مدن وأنهار، بقُراه ومحيطاته وكنائسه،
بحركته الصاخبة المليئة بتناقضات الحياة المأساوية الجارية، المفعمة
بالضجيج، لعله — الآن — موجود في قصر البِلَّور، راح ينظر إليه في
عناء، محاولًا الصعود إلى القمة، عادا إلى Hotel
Goldenes Kopf وتناولا طعام الغداء، ثم عادا مرة أخرى
للتنزه في المدينة مساءً، أما في الليل فراحا يسبحان بعيدًا خلف خط
الأفق – كانت حركتهما ذات إيقاع ثابت، كما كانا يتنفسان بنفس الإيقاع،
تارة يغرقان في المياه، وتارة يندفعان خارجَيْن منها بحركة قوية، لم
يأخذه التيار المقابل بعيدًا ولو مرة واحدة، خلف النوافذ المغطاة بطبقة
من الثلج راحت بُقع ضبابية تسبح ببطء – إنها أضواء رصيف محطة موسكو،
كان المسافرون يقفون عند مدخل العربة وقد نفد صبرهم، حاملين أمتعتهم
وحقائب يدهم، كان الباب المؤدي إلى مدخل عربة القطار مفتوحًا، حيث راح
البخار القارس البرودة ينفذ إلى العربة – توقف القطار تمامًا، نزلتُ
ممسكًا بحقيبتي في يدي، سرت في إثر الآخرين على الرصيف وسط الزحام
الصاخب من الواصلين أو المغادرين في اتجاه مبنى المحطة المضيء الغارق
في الضباب، في الدخان الصقيعي – وبالقرب من الرصيف المجاور وقفت عربة
نقل، مُحمَّلة بحقائب رياضية زرقاء كبيرة، برزت منها مضارب الهوكي –
كان ذلك فريق نادي دينامو موسكو، الذي كان يلعب اليوم ضد فريق «زينيت»
ليننجراد، بعد أن عاد إلى موسكو بقطار «كراسنايا ستريلا» (السهم
الأحمر).
•••
كان الميدان المواجه لمحطة موسكو٥٠ خاليًا تقريبًا – الجزء الأكبر من الذين وصلوا اختفوا في
المترو، أما الآخرون فقد ساروا باتجاه محطة الترام، الموجودة شمال
الميدان، أي إلى شارع ليجوفكا في الحقيقة، كان عدد قليل للغاية، أكثر
شجاعة ويأسًا، يحاول أن يلاحق سيارات الأجرة التي تمر أحيانًا بالقرب
من مبنى المحطة، وحول كل سيارة عليها لمبة خضراء يشتعل العراك – كان
الليل يقترب من منتصفه – ومن الممكن في ضوء المصابيح والكشافات التي
تضيء الميدان رؤية نُدَف الثلج وهي تهبط ببطء، كانت الأنوف تنغلق بسبب
الهواء القارس، والثلج يَصِر تحت الأقدام، وأمام الميدان مباشرة تراءى
شارع نيفسكي خاليًا تمامًا إلا من صفين من المصابيح راحا يغيبان معًا
تدريجيًّا، غارقين في مكان ما في ظلام الليل القارس البرودة – كانت
عربات التروللي باص الأخيرة القليلة تسير وقد خفتت أضواؤها – قطعت شارع
ليجوفكا أولًا ملتفًّا حول الميدان وفي مكان ما هناك، خلف محطة الترام،
في الظلام الدامس، حيث ظهر بالكاد صف من المصابيح، إلى جانب ليجوفكا
تقريبًا، بجوار سوق كوزنيتشني، كان هناك بيت رمادي عادي من بيوت
بطرسبورج، أقام فيه فيديا في السنوات الأخيرة من حياته، حيث مات على
أريكته الجلدية، أسفل صورة فوتوغرافية للمادونا الستينية، أهداها له
شخص من أصدقائه يوم عيد ميلاده، وإلى مكان ما هنا، في جنح الظلام، جاء
إلى هذا الحي الشهير بطل قصة بونين «الآذان المثقوبة» بصحبة امرأة طُلي
وجهها باللون الأحمر، يرى النقاد — لسبب ما — أن هذه القصة تمثل معارضة
لفكرة «الجريمة والعقاب» – عبرتُ بعد ذلك شارع نيفسكي، حيث يصب في
الميدان، ثم عرَّجتُ على شارع فوستانيا، شارع زنامينسكايا سابقًا – عبر
هذا الشارع كان فيديا يتجول أيضًا ليزور صديقه مايكوف، الذي كان يسكن
غير بعيد، عائدًا من هيئة التحرير أو من المطبعة، التي كانت تقع في
شارع نيفسكي، أو متجهًا إلى بيت سليفتشانسكي، حيث أقام هو نفسه فيه بعض
الوقت، أو إلى بيت ستروبينسكي القريب من الكنيسة اليونانية – عندما
أَصِل إلى ليننجراد أنزل دائمًا في ضيافة صديقتنا، التي كانت تسكن في
شارع زنامينكا قبل اندلاع الحرب – كان الثلج يَصِر تحت الأقدام، لم
يسبب لي حمل حقيبتي أي إرهاق، سرت على مهل، أتنفس في سعادة هواء الليل
البارد، وقد رحت أتأمل صف المصابيح المستقيمة المتساوية، سواء في شارع
نيفسكي، أو تلك التي تقاربت ثم اختفت في مكان ما، بعيدًا، توقفت عند
مفترق الطرق، عبرت طريق الترام الذي أخذ في التحرك وهو يصلصل – عربتان
أو حتى ثلاث عربات متشابكة وقد كسا الجليد نوافذها، حيث لاحت من خلالها
بالكاد بضعة ظلال لركَّاب الليل، يقع البيت، الذي تسكنه صديقتنا خلف
التقاطع مباشرة، دلفت عبر مدخل البيت المألوف المتهدم، حيث تفوح دائمًا
رائحة القطط، وشظايا زجاجات اقتسم شرابَها ثلاثةُ أشخاص أو ربما شخص
بمفرده، رحت أصعد إلى الدور الثالث عبر دَرَج حجري ضيق بالٍ مُهشَّم،
في ضوء شاحب لِلَمبة أو اثنتين، وبالقرب من باب مرتفع كالح من أثر
القِدَم، جذبت مقبض جرس قديم، لكنني عندما لم أسمع حركة خلف الباب،
أدرت مقبض الجرس مرة أخرى – في الفترة الأخيرة لم تعد جيلدا ياكوفليفنا
تسمع جيدًا – أخيرًا استمعت إلى صوت خطوات هادئة خلف الباب، وإلى صوت
القفل وهو يُفتح عند مزغل الباب المرتفع وقفت عجوز ضئيلة الجسم، إنها
جيلدا ياكوفليفنا في ردائها المنزلي، وجه متغضن ذو غمازة في الذقن وشعر
أسود داكن، كانت حريصة على صبغه بانتظام، ما زلت أذكرها دائمًا على هذا
النحو منذ عرفتها، ولهذا لم تكن عجوزًا في عيني قط، وإنما كانت جيليا،
هكذا كنت أناديها في الطفولة، عندما كنا نسكن مدينة واحدة، آنذاك كانت
أقرب صديقة لأمي، انحنيت عليها أقبِّلها في خدها الطري المتغضن، فأسرعت
تقبِّلني ردًّا على قُبلتي، «هل جئت بالترام؟ فكرت أن القطار قد يتأخر
فاتصلت بالمحطة، كيف كان الجو في موسكو؟» – كانت تتحدث بسرعة، وهي تغلق
الباب من الداخل بالمزلاج، دون أن تسمع إجابتي مُقبِلةً خلفي نحو
الغرفة؛ حيث دخلتُ باعتباري صاحب بيت، «لقد أعددت لك الفراش – هل
أُسخِّن لك الفطائر أم تفضِّلها باردة؟ يوجد كعك من يليسيفسكي – هل ما
زالت أمك تتبع الحمية في الغذاء؟ ذق من هذه الدجاجة – لقد أعدَّتْها
أنَّا ديمترييفنا – غدًا سيكون لدينا على الغداء حساء بالعجين المسلوق
الذي تحبه، أما الطبق الرئيس فسيكون كستليتة من لحم العجل، طبقك
المفضل، لقد ذهبت أمس إلى السوق – وأنتم هل تذهبون في موسكو إلى
السوق؟» – كانت المائدة الصغيرة المستديرة مغطاة بمفرش وقد صُف عليها
الطعام، على الفراش وضعتْ جيلدا مسندًا قديمًا ثقيلًا بعناية، وعلى
وسادة ناصعة البياض كالثلج وضعت وسادة أخرى صغيرة، «جيليتشكا، لماذا
ذهبت إلى السوق في هذا البرد الشديد، كان بإمكانك أن تنتظريني لأقوم
أنا بإعداد الفراش – هل كان من الضروري أن ترفعي هذه المرتبة الضخمة؟»
– كنت أعاتبها بشيء من المداهنة، أما هي فكانت ترد بنبرة حادَّة
مبالغة: «اسكت!»، رافضةً الحديث في هذا الشأن، كان الأمر برمته يبعث في
كلينا قدرًا كبيرًا من السرور، كان هذا المشهد يتكرر في كل مرة آتي
فيها إليها، فتحتُ حقيبتي، أخرجت منها تشكيلة من الشوكولاتة والموز،
التي كانت جيليا تحبه، «هل جُننت!» – قالت ذلك دون أن تنسى أن تلاحظ أن
الموز لم ينضج بعد – كانت أمي تعرف جيليا «مثل أصابع يدها الخمسة»، كما
كانت تحب أن تُعبِّر، تؤكد لي في كل مرة أنهم كانوا يرسلون سواء
بالشوكولاتة أو الموز إلى «الصغيرة تانيا» حفيدة صديقة جيليا السابقة
الحميمة التي — على حد قول جيليا — فعلت الكثير جدًّا من أجلها، ثم
ماتت بالسرطان، أو تذهب إلى «تانيا الكبرى»، ابنة ابن أخ جيليا، الذي
طلَّق زوجته، وقد شعرت جيليا بأنها المذنبة؛ لأن زوجة ابن أخيها كانت
ابنة أخ رئيسها الأكاديمي السابق، آنذاك كانت جيليا نفسها قد سعت بحماس
كبير لإنجاح هذا الزواج، أو كانت تذهب إلى أحد الأقارب أو المعارف،
الذين تتبناهم جيليا، على الرغم من أنه ينبغي — إحقاقًا للحق — أن نقول
إن جيليا كانت تحتفظ لنفسها بجزء من الموز، أما الشوكولاتة فكانت تبعث
بها هدية للطبيب الذي يتولى علاجها، تناولتُ بعد ذلك منشفة، سرت على
أطراف أصابعي حتى لا أوقظ الجيران، ذهبت إلى الحمَّام؛ غرفة كبيرة تشبه
الكشك، مليئة بأثاث قديم وطسوت، حيث يشغل الحمَّام نفسه جزءًا من
المبنى وقد أُحيط بستائر تُعلَّق عليها دائمًا البياضات لتجفيفها على
العديد أيضًا من الحبال الممتدة عبر الغرفة، تُذكِّرك على الفور بخشبة
المسرح الخلفية – بجوار جيليا تسكن بعض النسوة العجائز؛ أختان؛ خايا
وتسيليا ماكروفنا، ممتلئتان، تصبغان شعرهما بلون ضارب إلى الحمرة، لم
يكن بمقدوري أن أُميِّز بينهن، وخاصة أن لهن أختًا ثالثة تعيش في مكان
ما في الضواحي، ثلاثتهن كن يجدن طبخ كافة أنواع الطعام التسمييز،٥١ لحم الخنزير، والسمك المحشو، الفطائر برائحة القرفة، الخبز
وكعكة التفاح، كانت ابنة إحدى الأختين، ليست خايا وليست تسيليا
ماكروفنا، واسمها ليرا، وهي فتاة سمينة ناضجة للغاية، تهيم حبًّا
بخطيبها، وإن كانت تخفي ذلك بحرص وكبرياء – في انتظار نصيبها السعيد،
كانت ليرا تعمل ممرضة في الإسعاف، كانت تقضي يومها إما نائمة، وإما
خارج المنزل، وعبر الباب المفتوح كان من الممكن رؤية سريرها، غير
المُرتَّب دائمًا لسبب ما، عليه وسادة منفوشة، وأخيرًا، رؤية أنَّا
ديمترييفنا، وهي عجوز نحيفة، كانت ذات يوم — على ما يبدو — فتاة هيفاء،
على قدر كبير من الجمال، كان رأسها يهتز ويداها ترتعشان، كانت تساعد
جيليا في الأعمال المنزلية، يومًا ما كانت هذه الشقة كلها ملكًا لها مع
زوجها، الضابط السابق في الحرس الأبيض، وقد أُعدم رميًا بالرصاص منذ
زمن بعيد، كانت تظل تدخن أيامًا طويلة سجائر «بيلامور»، في غرفتها
الشبيهة بالزنزانة، لا تمانع إطلاقًا في احتساء كأس من الفودكا، مخلصة
للغاية للسلطة السوفيتية؛ الأمر الذي كان من شأنه دائمًا أن يثير غضب
جيليا، التي كانت تعتبر أنَّا ديمترييفنا حمقاء مطبقة، ما إن رأتني
جيليا ذاهبًا إلى الحمَّام، وكانت تعلم أنني مغرم بأخذ دش يوميًّا، حتى
اقترحت عليَّ أن توقد سخان المياه؛ لأن أنَّا ديمترييفنا أعدَّت الحطب
نهارًا، بعد أن أحضرته من السقيفة إلى الفناء، لكنني رفضت بشدة؛ لأن
الوقت كان قد تأخر للغاية، وكان عليَّ أن أكون لبقًا، رقدت بعد العشاء
على الأريكة، التي كانت أقصر مني قليلًا، حتى إن قدميَّ كانتا تتدليان
خارجها، وضعت رأسي فوق مسند الأريكة، فإذا أبعدته لوجدت رأسي في مستوًى
أدنى على نحو غير طبيعي، رقدتُ وقد تغطيت بلحاف أعدته جيليا بعناية،
ورحت أقرأ جزءًا من أعمال دستويفسكي القديمة الصادرة قبل الثورة، كنت
قد اخترته على نحو عشوائي، كانت هذه الطبعة مع طبعات أخرى قديمة أيضًا
ذات أغلفة رمادية أو زرقاء داكنة مختومة بخاتم مُذهب، مصفوفة على أرفف
الكتب – ظلت بقايا كتب محفوظة إبان الحصار، بل كانت هناك مكتبة كاملة
هنا من كتب لا تهم أحدًا في علم المسالك البولية على الأرفف السوداء
بامتداد الحائط في الغرفة المجاورة، حيث كانت جيليا تنام في هذا الوقت
– تحتفظ جيليا بكتب موزيا، على نحو يصل إلى حد التقديس، كما كانت تذهب
إلى قبره بنفس المشاعر يوم ذكرى ميلاده أو وفاته أو لمجرد الزيارة، لقد
لفظ أنفاسه الأخيرة على فراش جيليا منذ ما يزيد على عشرين عامًا، بعد
أن عاد ذات يوم إلى البيت بصحبة تلك المرأة، التي كانت جيليا تطلق
عليها «هي»، حتى إنني لم أعرف لها اسمًا إلى يومنا هذا، لم تترك «هي»
البيت، وظلت تبيت على أريكة موزيا الموجودة في مواجهة سرير جيليا، هذه
الغرفة المجاورة كان لها مخرج آخر إلى الردهة، حتى إن هذه المرأة كان
باستطاعتها أن تأتي إلى هنا دون أن تزعج جيليا، التي تنازلت تمامًا عن
هذه الغرفة، لتعيش في غرفة المائدة، وهي غرفة صغيرة ضيقة، وهي الغرفة
نفسها التي كنت أنزل بها عادة، لتنام جيليا على هذه الأريكة الثقيلة،
كانوا عندنا في العائلة يطلقون على موسى إرنستوفيتش اسم موزيا؛ لأن
جيليا كانت تناديه به، هنا جرى تغيير في وضع الكلمة؛ موسى – موزيس –
موزيا، وقد درس في مكان ما في ألمانيا، قبل الثورة، مثل كل اليهود،
الذين كانت لديهم الرغبة في تلقِّي تعليم عالٍ، وربما أيضًا لأن والده
جرَّب التأثير الألماني على نحو ما؛ لأن اسم «إرنست» كان اسمًا
ألمانيًّا واضحًا، كان موزيا رجلًا طويل القامة على نحو ملحوظ، مشدود
القوام، منضبطًا على الطريقة الألمانية، أصلع تمامًا، له شاربان صغيران
وعينان سوداوان ساخرتان، يعلوهما حاجبان كثيفا الشعر، كان أستاذًا في
علم المسالك البولية، يعمل حرًّا، كان في شبابه يلعب الشطرنج ببراعة،
حتى إنه حصل على لقب أستاذ، عمومًا كان يُعد رجلًا شديد الحرص إلى حد
البخل، كان يخون جيليا منذ زمن بعيد، على ما يبدو، بل كان يخونها حتى
مع خالتي، التي جئت على ذكرها في البداية، والتي استعرت منها «يوميات
أنَّا جريجوريفنا»، على أية حال، كانوا دائمًا ما يَحْكون في عائلتنا
حكاية مفادها أنه في زمن الشباب سافروا ثلاثتهم للاستجمام — موزيا
وجيليا وخالتي — وأنهم أقاموا جميعًا في غرفة واحدة – وفي هذا السياق
كانت أمي تسمي جيليا بالمازوخية، وفي عام ١٩٣٧م أُودِع موزيا السجن،
ولكن بفضل بعض الجمهور أُطلِق سراحه، كانت جيليا أحيانًا ما تحكي هذا
التاريخ بتفاصيل تأخذ بالألباب – كيف اعتقلوه؟ كيف سُجن؟ ثم كيف عاد؟ –
كيف طُرِق الباب فجأة في ساعة متأخرة من الليل؟ وكيف هرعت لتفتحه، وهي
تظن أنهم جاءوا ليقبضوا عليها؟ اندفعت نحوه غير مصدقة عينيها، وإلى
جوارها كانت تقف صديقته الحميمة إلزا التي فعلت الكثير من أجلها، والتي
عاشت معها طوال فترة حبسه، ثم كيف أطلقت هذه المرأة بعد ذلك اسم جيليا
على ابنتها تكريمًا لها، كانت إلزا صديقة وفيَّة للبيت، وكان موزيا أول
من اكتشف إصابتها بسرطان الثدي، على الرغم من أنه كان اختصاصيًّا في
أمراض المسالك البولية – كانت هذه المرأة التي جاء بها موزيا إلى
المنزل، والتي كانت جيليا تسميها «هي»، تعمل مساعدة له في القسم – على
أنها لم تكن مساعدة بالمعنى العلمي، ولا عاملة بالمُختبَر، ذهب إليها
عدة مرات لفترة طويلة من الزمن، آنذاك سافرت جيليا إلينا من ليننجراد،
وراحت هي وأمي تدرسان الوضع القائم طويلًا، بعد ذلك جاء إلينا موزيا
على نحو ما وراحت أمي تستفسر منه عن كل شيء، حتى قال لها موزيا: «أنتِ
ما زلتِ لا تعرفين جيليا» – ظلت هذه العبارة التي قالها موزيا تتردد
كثيرًا في عائلتنا، تقولها أمي بامتعاض، وتذكرها خالتي على نحو فلسفي؛
لأنها كانت تنظر إلى الحياة عمومًا نظرة واسعة، وكثيرًا ما كانت تحب أن
تردد قول تولستوي: «الناس كالأنهار»، في الفترة التي غاب فيها موزيا عن
جيليا لدى هذه المرأة كان يعود بعد أن أُصيب بنوبتين قلبيتين، وبعد
الثالثة عاد إلى البيت ليموت فيه، لكن هذه المرأة لم تتركه، وكانت
جيليا تُعِد الطعام لهما، في يوم وفاته فقط غابت المرأة ولم تَعُد في
المساء، وعندما أوغل الليل ساءت حالته، ولم يكن قادرًا على التنفس،
وعندها طلب من جيليا أن تساعده في القيام ليمشي بضع خطوات في الغرفة،
كان يظن أن حالته ستتحسن، وقد ساعدته جيليا في الوقوف، ومُستنِدًا
إليها سار بضع خطوات في اتجاه مكتبه، حيث كانت كتبه لا تزال مصفوفة
فوقه إلى جانب صورته الفوتوغرافية، وقد ظهر فيها بشاربه المنمق ونظرته
الثاقبة، في هذه الدقائق الأخيرة من حياته كان هو وجيليا وحدهما في
غرفتها، كما كانا في الزمن القديم، ولِلَحظة خُيِّل لجيليا أنه لم تكن
هناك امرأة أخرى، وأن تلك الفترة الأخيرة من حياتها لم تكن ببساطة سوى
حلم مزعج، أما الآن فإنها تساعد زوجها المريض في التنزه في الغرفة، وأن
كل ذلك هو الأمر الطبيعي، وكيف عساه أن يكون أمرًا آخر، لكن أحواله
ساءت أكثر، فطلب منها أن تعود به إلى فراشها – ساعدته جيليا على
الرقاد، كان عرق بارد يتصبب من جبهته، توقف التنفس، وأغلقت جيليا عينيه
بنفسها في غرفتها الخاصة، على فراشها، في غياب تلك المرأة، التي من غير
المفهوم بأي حق عاشت هنا واستغلت خدمات جيليا، التي لم تطردها حتى لا
تُكدِّر صفو موزيا، عمومًا، فقد مات على يديها، كما ينبغي أن يموت زوج
شرعي، وقد جعلها ذلك تشعر بشيء من السلوى خلال كل سنوات ترمُّلها
التالية، لدرجة أنها كانت تحب أن تحكي كيف مات على يديها، كان ضوء
مصباح المكتب القديم بغطائه الأخضر، الذي كان مِلكًا لموزيا، والذي ظل
موضوعًا على مكتبه يُلقي بضوئه على صفحات الكتاب الذي كنت أقرؤه، لقد
أحضرت لي جيليا هذا المصباح ووضعته على طرف مائدة الطعام، ولكن الضوء
لم يكن ليبلغ الكتاب، ولهذا فقد أعدتُ وضعه على كرسي قريب من رأس
الأريكة، بعد أن وضعت أسفله بعضًا من الكتب، كان المصباح غير مستقر
تمامًا، وكنت خائفًا أن يسقط على الأرض فينكسر، على الرغم من أنني كنت
على ثقة أن جيليا لم تكن لتعاتبني إذا حدث ذلك، راحت دائرة الضوء
الساقطة على الكتاب تهتز – كان الترام يسير في الشارع فيهتز المنزل
اهتزازًا خفيفًا، على الرغم من أنه كان بناءً قديمًا وراسخًا – كانت
جيليا في الغرفة المجاورة تبتلع أقراصًا منومة بصوت مسموع، أطفأت الضوء
فوق فراشها، سألتني: «هل ما زلت مغرمًا بدستويفسكي؟» ودون أن تنتظر مني
جوابًا أضافت قائلة: «لا تتحدث عن ذلك في حضور آل برودسكي»، كان
برودسكي رئيسها، وعلى الرغم من أنها لم تعد تعمل منذ فترة بعيدة، فإنها
ظلت تواصل دعم علاقات الصداقة معه ومع عائلته، وخاصة مع زوجته دورا
أبراموفنا، امرأة عجفاء نشيطة، كانت تتولى أمر عائلة كبيرة العدد،
فضلًا عن الأعمال العلمية التنظيمية للقسم الذي كان يرأسه برودسكي، كان
آل برودسكي يحتفلون بجميع الأعياد اليهودية، ويمتنعون عن أكل اللحوم
المُحرمة، ومنذ عدة سنوات وهم يعتزمون السفر إلى إسرائيل، لكن أبناء
برودسكي كانوا يعملون في واحدة من مؤسسات الدولة السرية، هو نفسه كان
يخشى، باعتباره أكاديميًّا، أن يُثار أي لغط زائد من شأنه أن يمس اسمه،
في هذا المساء، وأنا راقد على هذه الأريكة الثقيلة القصيرة، وقد تناهى
إلى سمعي صليل عربات الترام الليلية، وهي تدور عند الناصية بالقرب من
بيت جيليا كأنه هدهدة، ثم ينطلق كالإعصار عبر الشارع الليلي الغارق في
الثلوج، وقد راح يتأرجح ذات اليمين وذات اليسار، كما يحدث ذلك دائمًا
عندما تكون العربات المسرعة خالية من الركاب، متجهًا إلى مكان بعيد،
حيث تراصت أعمدة الإضاءة واحدًا تلو الآخر في سديم هذا الليل البارد،
كنت أُقلِّب الصفحات في دائرة هذا الضوء المرتعش، الذي يسقط بالكاد من
اللمبة الموجودة أسفل الغطاء الأخضر للمصباح، كانت صفحات من المجلد قبل
الأخير من «مذكرة الكاتب» عن العام السابع والسبعين أو الثامن
والسبعين، أخيرًا عثرت على المقال المُكرَّس خصوصًا لليهود، واسمه
«المسألة اليهودية»، حتى إنني لم أتعجب بعد أن اكتشفته؛ إذ كان من
المفترض أن يحشد دستويفسكي في مكان ما واحد كافة أشكال اليهود الذين
راح بكرم بالغ يملأ بهم صفحات رواياته؛ تارة في شخصية ليامشين من رواية
«الشياطين»، المُشعوذ الذي يولول من الرعب، وتارة في صورة أشعيا فوميتش
من رواية «مذكرات من البيت الميت»، المتغطرس والجبان في الوقت نفسه،
والذي لم يكن يضيِّع فرصة لإقراض المساجين بالربا الباهظ مقابل رهن،
وتارة أخرى في صورة جندي الإطفاء من رواية «الجريمة والعقاب» «بوجهه
الذي عَلَته تلك الكآبة الحاقدة الساخطة، التي عمرها مئات السنين، تلك
الكآبة التي تَطبَع في كثير من المرارة قَسَمات وجوه جميع الذين ينتمون
إلى قبيلة اليهود بلا استثناء»، وبطريقة نطقه المثيرة للضحك التي
صُوِّرت في الرواية على نحوٍ ممتع شديد الرهافة، أو في شخصية هذا
اليهودي الذي قام بصلب الطفل المسيحي، ليقطع أصابعه بعد ذلك، مستمتعًا
بعذابات هذا الطفل (حكاية ليزا خوخلاكوفا من رواية «الإخوة
كارامازوف»)، وأكثر من ذلك كله في تصويره للمُرابين، الذين لا يُسميهم،
من التجار أو صغار المحتالين، لم يكشف عنهم، وإنما اكتفى بتسميتهم
باليهود، ناهيك عن وصفهم بأحط وأحقر سمات الشخصية الإنسانية، لم يكن
هناك ما يثير الدهشة في أن مؤلف هذه الروايات قد أدلى برأيه في نهاية
الأمر في هذا الموضوع، بعد أن قدَّم لنا نظريته أخيرًا، الحقيقة أنه لم
تكن هناك أي نظرية على وجه الخصوص – لم تكن هناك سوى أساطير وحُجج
واهية معادية للسامية (لم تندثر، بالمناسبة، حتى يومنا هذا) عن قيام
اليهود بنقل الذهب والألماس إلى فلسطين، وعن اليهودية العالمية، التي
قَبَضت بواسطة قرون استشعارها الجشعة على العالم بأسره تقريبًا، وعن
الاستغلال البشع وتعليمِ اليهودِ الشعبَ الروسي آفةَ السكْر، وهو ما
يجعل من المستحيل إعطاءهم حقوقًا متساوية، وإلا لَالْتَهموا الإنسان
الروسي تمامًا، وهلُمَّ جرًّا – كنت أقرأ وقد راح قلبي يخفق، آملًا أن
أجد ولو بصيصًا من ضوء ينفي هذه الأحكام، التي كان من الممكن للمرء أن
يسمعها من أي رجعي متطرف، أن أجد ولو منعطفًا واحدًا نحو اتجاه آخر، أو
مجرد محاولة ما للنظر للمشكلة برُمَّتها بنظرة جديدة، لم يعد مسموحًا
لليهود سوى بالإيمان بدينهم ولا شيء أكثر، وقد بدا لي إلى حد الغرابة
أن إنسانًا بهذا القدر من الحساسية في رواياته تجاه معاناة البشر، هذا
المدافع الغيور عن المُذَلين والمُهانين، ظل يُبشِّر بحماس بالغ، بل
وإلى حد الجنون، بحق وجود كل مخلوق على الأرض، هذا الذي غنَّى نشيد
الفرح لكل ورقة شجر، لكل عشبة، لم يجد كلمة واحدة دفاعًا عن هؤلاء
الناس أو تزكية لهم، وهم الذين جرى اضطهادهم على مدى عدة آلاف من
السنين، هل كان أعمى إلى هذه الدرجة؟ أو ربما أعمته الكراهية؟ – إنه
حتى لم يُسمِّ اليهود شعبًا، وإنما كان يدعوهم بالقبيلة، وكأنهم
مخلوقات ما متوحشة من جزر البولونيز، وأنا أنتمي إلى هذه «القبيلة»
ومعي العديد من معارفي وأصدقائي، وقد ناقشنا معًا أدق مشكلات الأدب
الروسي، وإلى هذه القبيلة ينتمي ليونيد جروسمان، دولينين (وهو نفسه
إيسكوز)، وزيلبرشتاين، وروزينبلوم، وكيربوتين، وكوجان، وفريدلندر،
وبريجوفا، وبورشيفسكي، وجوزينبود، وميلكينا، وجووس، وزونديلوفيتش،
وشكلوفسكي، وبيلكين، وبيرجمان، وسوركينا دفوسيا لفوفنا، والعديد من
علماء الأدب اليهود، الذين احتكروا تمامًا دراسة التراث الإبداعي
لدستويفسكي، ثمة أمر مخالف للطبيعة، بل وغامض عند النظرة الأولى في هذا
الولع والإجلال المُفعَم بالغيرة والحماس، الذي جعل هؤلاء، حتى اليوم،
يقتلون بحثًا — ولا يزالون — اليوميات والمُسوَّدات والخطابات، وحتى
أقل الحقائق قيمة التي تخص هذا الإنسان، الذي كان يحتقر ويكره هذا
الشعب الذي ينتمون جميعهم إليه – شيء ما هنا يُذكِّرنا بطقس أكل لحوم
البشر الذي يتم تجاه زعيم القبيلة المعادية، من المحتمل — ربما — أنه
يمكننا أن نرى في هذا الانجذاب الخاص لليهود تجاه دستويفسكي شيئًا آخر
أيضًا؛ الرغبة في الاختفاء خلف ظهره باعتباره صكًّا للأمان، شيئًا
بمثابة اعتناق للمسيحية، ورسمًا رديئًا لصليب على باب شقة يهودي في زمن
المذبحة، على أية حال لا يمكن استثناء نشاط اليهود أيضًا، وهو نشاط
عظيم على وجه الخصوص في القضايا التي تتعلق بالثقافة الروسية والحفاظ
على الروح الروسية القومية، والتي ترتبط — علاوة على ذلك — بالفرضية
السابقة، اختفى صوت الترام خلف النافذة، أطفأتُ الضوء منذ فترة طويلة،
بعد أن وضعت مصباحًا موازيًا بكل حرص فوق مائدة الطعام – كانت جيليا في
الغرفة المجاورة تغط غطيطًا خفيفًا، عشرة أنفاس يعقبها شخير ضعيف
للغاية – كأنها لا تُشخِّر، وإنما تنشج في الحلْم، كانت قدماي تتدليان
بعض الشيء من الأريكة، في الخارج كان ليل شتاء بطرسبورج الحالك الظلمة
يلقي بسُتُره على المدينة، وعلى الرغم من أن الوقت كان متأخرًا، فقد
غمرني إحساس بأنه قد تبقَّى حتى الفجر زمن كأنه دهر – كان من الممكن
الآن الرقاد في هدوء دون تفكير أن من الواجب أن أنام؛ لأن الفجر بات
وشيكًا – كان هناك ثمة شخص وحيد يرتدي سروالًا أسود له نقش مربع، يعتمر
قبعة أسطوانية ويلبس معطفًا أسود على الطراز البرليني ذا جيوب منتفخة
بالشطائر، وقد راح ذيل المعطف يرفرف، وهو يهرول عبر الرصيف الذي غطاه
الثلج لإحدى محطات السكك الحديدية، الواقعة بين بادن وبازل، واثبًا
تارة، وتارة جالسًا القرفصاء، وهو يؤدي «خطوات» خرقاء، رافعًا عقيرته
بكلمات حول هذا الفرنك الذي لم يَستعدْه، لكن القطار كان قد غادر
المحطة منذ فترة بعيدة وحلَّ الليل، بينما كان هذا الشخص لا يزال يجري
ويجري، قافزًا تارة، وتارة جالسًا القرفصاء، كان كشَّاف المحطة المضيء
يتابعه دون توقف، كما لو كان ذلك المشهد يجري على خشبة مسرح، وفي حزمة
ضوء باهر كانت نُدَف من الثلج تدور وتسقط ببطء، مغطية وجهه وذقنه بغشاء
أبيض – انتهى الرصيف، وها هو يجري — الآن — على حبل ممدود فوق قبة
الكنيسة، وقد اتخذ الغشاء الأبيض، الذي كان يغطي وجهه شكل قناع المهرج،
وقد بدت من تحته خصلات شعره وانتفشت ذقنه التي علاها الشيب، بعد أن
انتزع قبعته عن رأسه، قذف بها إلى أعلى، ثم التقطها بسرعة، منحنيًا راح
يؤدي «خطوات» مستحيلة، ومن أسفل، من الصف الأول، كان هناك رجل ذو رأس
ضخم، له شعر كلِبْدة الأسد وذقن ناعمة، راح يتابع هذا الشخص الواقف في
ضوء الكشاف بإمعان، أما هذا الراقص البهلوان بقبعته الأسطوانية
السوداء، مرتديًا قناع المهرج، فكان يحاول أن يلفت انتباه هذا الرجل
الجالس في الصف الأول تحديدًا – وبعد أن توقف على الحبل، راح يرفع
قدميه إلى أعلى بالتناوب؛ اليمنى ثم اليسرى، مثل ممثلة تؤدي دورًا في
أوبريت، ملقيًا في هذه اللحظة بقبعته عاليًا لتصل إلى أعلى نقطة أسفل
قبة الكنيسة ذاتها، هنا بات سقوط هذا الراقص على الحبل أمرًا محتومًا،
أما وجه الرجل المتابع له فقد ظل جامدًا، باستثناء عينيه اللتين كانتا
تشتعلان خلف زجاج منظاره الزجاجي البارد أحيانًا بومضات من الحماس
مُعبِّرتَين عن تشجيعه له، ولكن ما إن سقط الراقص عن الحبل وطار إلى
أسفل، صانعًا في الهواء دورات يائسة، حتى أضاء وجه الرجل ذي الرأس
الضخم، والشعر الشبيه بلِبْدة الأسد، بابتسامة أرستقراطية ساحرة، وإن
شابَتْها مسحة من العجرفة، وبعد أن أبعد نظارته عَلَت وجهَه ابتسامةٌ
وراح يصفق تشجيعًا له، بعد أن سقط الراقص عن الحبل أخذ يجري مرة أخرى
فوق رصيف المحطة، الذي غطَّاه الثلج، لكن هذه المحطة لم تكن هي المحطة
الواقعة بين بادن وبازل، وإنما محطة تفير، الواقعة بين موسكو
وبطرسبورج، بعد أن جرى فوق الرصيف وقد رفرف ذيل معطفه، راح يصيخ السمع
إلى بعض المسافرين من الوُجَهاء، وهم يغادرون القطار السريع بغرض
التمشية قليلًا واستنشاق الهواء، ثم أخذ ينتقل من وجيه إلى آخر، وهو
يُمعِن النظر في أيديهم ونظراتهم، كان يطلب منهم شيئًا ما ثم ينحني في
مذلة – اختفى الوُجَهاء في عربة الدرجة الأولى، وها هو يجري من جديد
خلف القطار – كان الصيف يؤدي إلى السُّلم، الذي يقود بدوره إلى صالة
القمار، صعد إلى هناك عبر الدَّرَج الرخامي المفروش بسجادة، على مهل،
وهو ينظر باستهانة إلى كافة البولنديين واليهود، الذين كانوا يمرون
سريعًا أمام عينيه، لم يكن روتشيلد يمثِّل له أي أهمية؛ لأنه خلال بضع
دقائق — ربما — سوف يصبح أكثر ثراءً من روتشيلد نفسه – هذا اليهودي
البخيل، الذي جمع ملايينه من وراء الربا، بينما سيجني هو هذه الملايين
فقط بفضل الصُّدف السعيدة، التي يمكنه أن يَحزِرها، بل إن هذه الملايين
لا تهمه بقدر ما تهمه الفكرة، راح دون اكتراث يزاحم هؤلاء الفضوليين
والمقامرين، هؤلاء المهرجين والتافهين، وهو ينظر في غطرسة إلى هذه
الوجوه الصفراء التي أنهكها هذا الولع المريض، من الرهان الأول ربح نصف
مليون، ثم مليونًا آخر، لكن أحدهم جذب يده بشدة – هو رجل له وجه مسطح
مثل طست وأذنان بارزتان، كان ينظر إليه بوقاحة، وبتأثير هذه النظرة من
عينيه الجاحظتين المُبلَّلتين، إذا به يسقط على الأرض، ثم يزحف على
أربعٍ نحو باب الخروج، متدحرجًا على الدَّرَج، متخبطًا في درجات
السُّلم دون أن يشعر بالألم، بعد أن فقد قبعته الأسطوانية، اقتربا من
مرآة كبيرة، مُعلَّقة في بهو المحطة؛ لكي يُعدِّل من هندامه، ولكنه
بدلًا من أن يرى نفسه، رأى في المرآة صورة أشعيا فوميتش، عاريًا،
ضئيلًا، له صدر دجاجة، تراجع إلى الخلف، ليتراجع أشعيا فوميتش أيضًا
عنه، عندئذٍ راح يرمي أشعيا فوميتش بالشطائر التي ملأ بها جيوبه في تلك
المحطة، عندما صرخ بحدة بشأن الفرنك المنهوب المتبقي له في وجه
المرابي، حتى غطى صراخه على صافرة القطار، ولكن كلما رمى أشعيا فوميتش
بالشطائر أكثر في وجهه؛ ازداد أداء جسده الضئيل وضوحًا وحيوية، عندما
استيقظتُ كان الظلام ما زال سائدًا، من الباب المؤدي إلى الردهة، كانت
رائحة دخان سجائر لذيذة تصل إليَّ – كانت أنَّا ديمترييفنا، التي
تستيقظ عادة في السادسة صباحًا تدخن أول سيجارة «بيلامور» في غرفتها،
تلا ذلك صوتُ باب الدخول وهو يُصفَق بحذر، الأرجح أنها ليرا قد غادرت
المنزل في طريقها إلى ورديتها، أو ربما تكون قد عادت منها بعد انتهاء
الليل، كل نوافذ البيت المواجه لبيتنا تقريبًا، راحت الأضواء تسطع فيها
وخلف الستائر تحركت ظلال من بدءوا في الاستيقاظ والمسرعين إلى الذهاب
إلى أعمالهم، وفي المطابخ كانت ربات البيوت يتحركن في نشاط وهمة، وفي
الشارع — على نحو خاص — كانت عربات الترام الصباحية تُصدِر صريرًا عند
منعطف الطريق، ثم راحت بصليل أقل تدريجيًّا تمر بالقرب من المنزل،
منطلقة إلى مكان ما عبر الشوارع المعتمة المستقيمة التي لا نهاية لها،
وقد اصطفَّت في مكان ما — بعيدًا — صفوفُ أعمدة الإضاءة، كان المنزل
يهتز ويتأرجح، مثل سفينة تقف إلى جوار رصيف المَرسَى، في الغرفة
المجاورة كانت جيليا تغط في النوم وهي تُشخِّر بلطف، وعندما استغرقتُ
مرة أخرى في النوم كان ضوء النهار قد سطع، وإنما رمادي على نحو ما،
وخلف النافذة راحت نُدَف الثلج تتساقط – من الردهة تناهى إلى سمعي صوت
جيليا وخطواتها وهي تمشي في حرص، يبدو أنها أعطت بعض التعليمات
المنزلية لأنَّا ديمترييفنا، بعد أن مددتُ يدي نحو الكرسي نظرت إلى
الساعة – كانت العاشرة والنصف – صباح بطرسبورجي متأخر، اقتربتُ من
النافذة، بعد أن ارتديت بدلة التدريب الرياضية، كانت عربات الترام
والباصات تسير في الشارع وقد غطَّاها الثلج – كان الترام ذا عربات
ثلاث، أما الباصات فكانت تبدو غير عادية أيضًا على نحو ما، تشبه إلى حد
كبير السيارات السياحية أو تلك المخصصة للأسفار الطويلة، وعلى الرصيف
المقابل كان المارة يسيرون بسرعة، وخاصة ربات البيوت وقد الْتَفعْن
بمناديل على رءوسهن، وارتدين معاطف رثة من الفراء وحملن في أيديهن
حقائب، وفي نوافذ البيت القائم على الجانب المواجه، وهو بيت قديم
متهالك يشبه البيت الذي تسكنه جيليا، كانت النوافذ مضيئة؛ لأنه في ذروة
شتاء بطرسبورج لا يوجد نهار بالمعنى المفهوم – الفجر المتأخر يتحول على
نحو غير ملحوظ إلى ظلام مبكر، دخلت جيليا الغرفة مرتدية ثوبها المنزلي
وحذاءها الليلي دون جورب – كانت ساقاها بيضاوَيْن ذواتَيْ سِمانتين
ممتلئتين، وقد فكَّرتُ أنها كانت تناسب موزيا تمامًا في شبابها، على
الأرجح، انهالت جيليا عليَّ بالأسئلة التي لم أتمكن من الإجابة عليها:
«كيف نِمت؟ ماذا تحب أن تأكل؟ لعلك تود أن تأخذ حمَّامًا؟ متى تستيقظ
في موسكو؟» على أية حال فإنها لم تسمع إجاباتي – في طريقي إلى الحمَّام
اختلستُ النظر دون إرادة مني إلى غرفة ليرا عبر باب غرفتها الموارب،
لأشاهد فراشها وقد وُضعت عليه وسائد منفوشة وحَشيَّات من الريش – من
المحتمل إلى حد بعيد أن ليرا كانت تنام بعد ورديتها الليلية بعد أن
تغوص في هذه الحشيَّات، كانت بدلة التدريب الرياضية ملتصقة بجسدي بشدة،
أبطأت السير، بعد أن انتهيت من الحمَّام، آملًا أن ألتقي بها في
الردهة، من المطبخ كانت تفوح رائحة مثيرة للشهية لطعام لا هو مقلي ولا
هو مشوي – كان ثمة أصوات هناك تتعالى – ليس من بينها صوت تسيلا أو خايا
ماركوفنا، ربما كانت أصواتهن ومعهن أنَّا ديمترييفنا – كان المطبخ في
شقة جيليا واسعًا يكفي حتى لأربع ربات بيوت، وفي ركنه البعيد يوجد باب
يؤدي إلى سُلَّم خلفي، وهو يُغلَق ليلًا بخُطَّاف ضخم، يشبه — على
الأرجح — هذا الخُطَّاف الذي كان يُغلَق به باب شقة المرابية العجوز في
رواية «الجريمة والعقاب»، تناولت بعد ذلك طعام الإفطار مع جيليا – كانت
المائدة مُعدَّة بكرم بالغ، والخبز مُقطَّعًا في شرائح رقيقة، وقد وُضع
الجبن وقطع الخنزير المُدخَّن في الأطباق – كانت جيليا تتحرك هنا
وهناك، واضعة هذا الصنف تارة، وهذا الطبق وتارة، وهو نفس ما كانت تفعله
أنَّا ديمترييفنا، التي كانت تدخل إلى الغرفة وقد وضعت سيجارتها في
فمها، وقد انحنى ظهرها بشدة في السنوات الأخيرة، وهي تحمل بيدين
مرتعشتين مقلاة بيضاء بها بيض مخفوق بالزبد خصوصًا لي تارة، وإبريق
قهوة تارة، ثم قالت بصوتها الخفيض، الأجشِّ من أثر التدخين، وهي تنظر
مداعبة جيليا التي تتحرك كثيرًا حول المائدة: «كم من الوقت انتظرتك يا
جيليا ياكوفيليفنا! هل صحيح أنكِ ذهبتِ بنفسكِ لشراء لحم العجل، في مثل
هذا البرد القارس؟! لا أصدق»، كان رأسها يهتز، وهو ما أضفى على حديثها
شكل العتاب، «أوه، دعينا من هذا، يا أنَّا ديمترييفنا! أنا أذهب دائمًا
إلى السوق – قل لي ماذا ستأكل على الغداء؛ بطاطس مُحمَّرة أم مطبوخة؟»
– قلت: «مُحمرة بالطبع»، «هذا ما توقعته»، هكذا قالت جيليا بنبرة ذات
مغزًى، كأن قد حَزَرت رغبتي المكنونة التي أخفيتها بإحكام، كانت أنَّا
ديمترييفنا تهز رأسها بما يعني «لا، لا» أو «نعم، نعم»، وقد عَلَت
وجهَها ابتسامةٌ تفيض بالتسامح الذي يدل على إخلاص مُتفانٍ لجيليا، مع
الاحتفاظ برأيها الخاص الذي لا يمكن أن يغيره شيء، وقد أمسكت بالأطباق
الفارغة، وقد وضعت سيجارتها في فمها، كعادتها، وهي تغادر الغرفة على
مهل بعد الإفطار، جلسنا أنا وجيليا على أريكة موزيا السابقة ورحنا
نتجاذب أطراف الحديث؛ أخذت جيليا تسألني عن عملي، وعن معارفنا
المشتركين، كانت تحكي عن رئيسها الأسبق، عن علاقة ابنة أخيه وابن
أختها، الذي أسس — بعد طلاقه منها — أسرة جديدة، وعلى الرغم من أنها،
جيليا، لم يكن لديها أي شيء ضد زوجته الجديدة، فإنها لم تذهب إليها مرة
واحدة كما لم تستقبلها في بيتها، وخاصة أن هذه المرأة كانت صديقة حميمة
لزوجته الأولى، أي ابنة أخ رئيس جيليا، التي لم تخرج إطلاقًا من بيتهم،
وظلت متعلقة برقبته، أما رونيا (هكذا كانت الزوجة الأولى لابن أخت
جيليا تُدعى) فلم تكن تلاحظ شيئًا مما يدور حولها، وهو أمر مثير
للدهشة، فقد كان الجميع، بلا استثناء، يَرَون أن هذه المرأة متعلقة
برقبته، فجأة لمعت في عينَيْ جيليا البُنِّيتين الطيبتين — اللتين
فقدتا بريقهما الآن — ومضاتٌ غاضبة، اشتد صوتها، وتغيرت نبراته، وأخذت
تستخدم ألفاظًا غريبة عليها – راحت تقول: «كان لديه»، «كان لديها»، ما
هي إلا برهة، كما بدا، حتى هَبَّت جيليا واقفة وبدأت في التحدث، بل في
الصراخ باليديش، وهي اللهجة العبرية، التي كان يتحدث بها والداها، وهما
من ضواحي كييف، حيث وُلدت هي نفسها فيها، لكن الأكثر تشويقًا كان
حديثها عن حصار ليننجراد، وكيف أكل الناس القطط والكلاب، وكيف استبدلت
بقطعة من الخبز قطعتَيْ قماش ثمينتين كان يملكها موزيا، الذي لم يكن
قادرًا تمامًا على الوقوف من شدة الضعف، وقد لمعت عيناه بالقوة، عندما
أطعمته هذا الخبز، فضلًا عن بضع كرات من لحم الخيل، نجحت في الحصول
عليها من الموزع الخاص للعلماء، بعد أن وقفت في الطابور أيامًا بطولها،
ثم حَكَت كيف كانوا ينقلون الجثث المغطاة بالجليد عبر شارع نيفسكي وجسر
كيروفسكي، اللذين كانت تقطعهما مرتين يوميًّا؛ لأن المعهد الذي تعمل به
كان يقع في منطقة بتروجرادسكي، وكيف كان الناس يسقطون مباشرة أمام
أعيننا متجمدين من البرد، ثم يتم جمعهم بعد ذلك، وقد لا يتم، بعد أن
تكون أجسادهم قد التصقت بالأرصفة، فيظلون راقدين على هذا الوضع حتى
حلول الربيع – على أية حال، فقد كانت أكثر الأحاديث صراحة وحميمية تتم
عندنا عادة في المساء، بعد تناول طعام العشاء، كانت السماء قد أعتمت
قليلًا، مثلما يحدث قبل هطول المطر، لكن الظلام لم يحلَّ تمامًا، فهذا
زمن الليالي البيضاء، لم تكن هناك حاجة لمصابيح الإضاءة، لكنها ظلت
مضيئة في الشارع حتى الصباح، لم يكن أحد ليشعر بحلول الليل إلا عندما
تهدأ حركة الترام في الشارع، في هذه الأمسيات الشتوية الطويلة كانت
الأحاديث تبدو مريحة بشكل خاص، عندما لا يمكن للمرء أن يتوقع متى ينبلج
الفجر، وخلف النافذة كانت الزوابع الثلجية تهب، حاجبة تمامًا رؤية
المصابيح في الشارع، وفي مكان ما هناك، عند المنعطف، كان الترام يَصِر
فوق القضبان بصوت مكتوم، وتحت السقف كان المصباح ذو الغطاء الحريري
يهتز، بينما راح ضوءه يسقط بالكاد فوق مصباح مائدة جيليا، الموضوع فوق
مكتبها الصغير – مكتب نسائي قديم، اسودَّت نقوشه بفعل الزمن، كنت
مضطجعًا على أريكة موزيا، بينما جلست جيليا إلى جواري وهي تحكي تفصيلًا
وبسلاسة، لديها ذاكرة رائعة فيما يخص الماضي – حكت عن كيف سجنوا رئيسها
الأول، الكيميائي الشهير، وكيف أرسلوا به إلى معسكر خاص، حيث يعمل
العلماء المهمون للبلاد، وكيف ساعده رومان رولان٥٢ بعد ذلك، عشية اندلاع الحرب، في الحصول على حريته، بعد أن
توسط له، حتى كاد أن يصل إلى ستالين نفسه، وكيف تم بعد بضعة أشهر سَجْن
هذا الرئيس، الكيميائي الشهير، مرة أخرى، ثم ليختفي بعدها دون أثر،
انتقلت جيليا بعد ذلك لتحكي بعد سَجْن موزيا، وكيف راح المحقق — الذي
كان يحمل اسمًا يهوديًّا بارزًا — يستجوبه، كان هذا المحقق مشهورًا
بقسوته، حتى خارج حدود ليننجراد، ثم كيف عاد موزيا إلى البيت متأخرًا
ذات مساء، وكيف أصابها الذهول، وهي تراه ومعه صديقته الحميمة إلزا،
التي عاشت معه كل هذه الفترة العصيبة، التي قضاها في السجن، لا تزال
العتمة مستمرة حتى الآن – أوشك النهار الشتوي القصير على الانقضاء،
تناولنا طعام الغداء، لتدخل أنَّا ديمترييفنا إلى الغرفة من جديد وفي
فمها سيجارتها، أحضرَتْ أطباقًا ورفعَتْ بيدَيها المرتعشتَين طبق
الشوربة والمقلاة وباقي الأطباق، بينما ظلت جيليا تتحرك هنا وهناك،
مقدِّمة لها المساعدة، حتى إنها لم تتناول طعام غدائها تقريبًا، لكن
مساعَدتها بَدَت غير ضرورية، هنا راحت أنَّا ديمترييفنا تقول لها
بسخرية لا تخلو من طيبة القلب، وهي تهز رأسها علامة على العتاب وهي
تنظر إليهما في الوقت نفسه نظرة ملؤها الإخلاص: «جيلدا ياكوفليفنا،
لماذا تنشغلين عن ضيفك؟ لَكَم انتظرتِه طويلًا!» بعد انتهاء الغداء
دخلَتْ إلى الغرفة إما خايا، وإما تسيليا ماركوفنا، حاملة على نحو
احتفالي كعكة محشوة شهية على طبق، وبعد أن وضعتها على سطح البوفيه
القديم ذي الرخام الأبيض انسحبت إلى عزلتها، وفي المساء، وبعد أن أخذ
بها السأم كل مأخذ من جرَّاء المتاعب المنزلية، رقدت جيليا على أريكة
موزيا القديمة، عندها قلت لها إنني أود أن أتمشى قليلًا، «وماذا ستأكل
على العشاء؟» – كانت ترتجف، وبعد بضع دقائق دوَّى غناؤها الرقيق مع شيء
من ذلك الشخير القصير الرقيق أيضًا – كان الشارع قارس البرودة، والثلج
يَصِر تحت وقع الأقدام، بالقرب من إشارات المرور اصطفَّت طوابير من
عربات الترام، كان ضوء المصابيح والثلج يسقطان على الناس، الذين ازدحمت
بهم مواقف الباصات والترام، حيث راحوا يتحركون فوق الأرصفة، شراذم من
الرجال وقفوا بالقرب من محل المنتجات الغذائية عند ناصية الشارع، تخيلت
ثلاثة هناك، وأبعد منهم قليلًا، كان من الممكن — وأنا أبتعد عن المحل —
رؤية بعض الأشخاص ذوي وجوه مُمتقِعة شاحبة ملتصقين بحوائط البيوت، التي
تركت على ظهورهم آثار الجير، هؤلاء راحوا يزحفون ببطء على الرصيف،
ليرقدوا هناك رقادًا محتومًا، إلى أن تلتقطهم سيارات خاصة عليها علامة
الصليب الأحمر، سرتُ في اتجاه شارع نيفسكي، الذي كان مضيئًا عن بُعد،
كنهر في وقت الكرنفال، في كل الأحوال كان شارعًا مثل نهر حقيقي – كان
شارع نيفسكي يصب بعيدًا في مكان ما عند نهر النيفا، وكان فرع منه — هو
شارع مستقيم فسيح — يمتد قاطعًا كل حي نيفسكي بأكمله إلى جزأين؛ أحدهما
كان في غابر الزمان هو الجزء الأرستقراطي الذي حمل سابقًا أسماء عديدة؛
سيرجيفيسكايا، ناديجدينسكايا، باسيينايا، كيروتشنايا وشارع
فوسكريسينسكايا، الذي لا تشوبه شائبة من ناحية استقامته وصرامة مبانيه،
ثم ميدان الفنون، الذي يبدو مُتكلَّفًا نتيجة لنِسَبه الخارجة عن إدراك
العقل الإنساني وقد أحاطت به مجموعات من التماثيل، ثم ها هو حقل مارْس،
الذي يفوح برائحة الشجن والأجواء الاحتفالية، وعلى أطرافه تقع قلعة الهندسة٥٣ بأبراجها المُسنَّنة، وأفنيتها الداخلية المنيعة والمباني
الملحقة بها، والتي تحتفظ بين جَنَباتها بسرٍّ ما مثير للرعب، وكذلك
كورنيشا فونتانكا ومويكا المتعرجان العامران بالبيوت، وقد وُضعت على
غالبيتها لوحات تذكارية، ثم كنيسة سباس ناكروف، ذات القبة الحمراء
المذهبة، التي تظهر لك فجأة من مكان لم تكن تتوقع رؤيتها منه، وهذا
شارع مليونَّايا سابقًا، وقد أُقيمت على جانبيه الفيلَّات الأرستقراطية
المتعددة الأدوار بكرانيشها المنقوشة ونوافذها الزجاجية، كانت هذه هي
إرهاصات الكورنيش الإنجليزي، الذي لم تعد تصطفُّ عليه الآن مجرد
فيلَّات، وإنما قصور، تطل على نهر النيفا باتساعه المهيب كأنه خليج،
ليأخذك بعد ذلك إلى كورنيش دفورتسوفايا، حيث يقع قصر الشتاء، الذي جرت
تجزئته وتحويله إلى قطع عرض متحفية، أما الجزء الثاني فهو الجزء الذي
كان في غابر الأزمان يمثل الحي الشعبي بشوارعه، التي لم تكن تخضع
دائمًا لنظام الصفوف المستقيمة وكثيرًا ما كانت حاراته وأزِقَّته
المسدودة — التي كانت تقطعها قناة يكاتيرينا الضيقة والمتعرجة على نحو
غريب — تعاني من عدم الانتظام، كل هذه الشوارع التي كانت تُسمَّى
سابقًا بشوارع ميشانسكايا الكبير والمتوسط والصغير٥٤ أو بِحارة ستوليارني،٥٥ أُقيمت على جَنَباتها بيوت للإيجار من أربعة أو خمسة
أدوار، تمثل جميعها متاهة كاملة من الشوارع، وعلى حين غرة إذا بك أمام
سياج قناة يكاتيرينا، متاهة تَضاعفَ أثرها بفضل ما عانيته من قلق
واضطراب، كم تمنيت آنذاك ألَّا أفقد الشارع أو البيت اللذين كان عليَّ
أن أضعهما أمام عدسة كاميرتي، وأنا أُسرع لضيق الوقت وتقلُّب الوقت في
ليننجراد أو تحت إحساس التهديد بأن يتم إيقافي لقيامي بتصوير مبانٍ ليس
من المعتاد تصويرها، رحتُ أتجول في هذه الأماكن، ألتقطُ صورًا ﻟ «بيت
راسكولنيكوف» أو «بيت سونيا» أو «بيت المرابية العجوز» أو البيوت التي
عاش فيها مؤلف هذه الشخصيات؛ لأنه عاش هنا تحديدًا في مكان ما، في أكثر
فترات حياته غموضًا وخفيةً، في السنوات الأولى بعد عودته من المنفى
(إلى هنا تحديدًا، إلى البيت الواقع عند ناصية قناة يكاتيرينا، جاءت
إليه ذات يوم امرأة أسدلت على وجهها خمارًا، هي نفسها المرأة التي
سافرت معه فيما بعدُ في قَمَرة واحدة، ولم يجرؤ آنذاك على مجرد لمسها)
وذلك قبل ظهور أنَّا جريجوريفنا، التي جاءت إليه في واحدٍ من هذه
البيوت، الذي يقع في هذه المتاهة المشوشة من الشوارع التي تقطعها
القناة، بعد أن سبقت منافِستها في فصول الدراسة، وبعد أن صعدت السلم
الضيق الكئيب إلى الدور الثاني، اتخذت مقعدها خلف طاولة مستديرة في
غرفة مكتبه وقد غضَّت بصرها تواضعًا، واستعدت لكتابة ما يُمليه عليها
من رواية «المقامر» بأقصى ما يمكنها من سرعة، وهي تشعر بنظراته إليها
وقد راحت تُصيخ السمع إلى خطواته ودورانه في سيره حولها بقلب يخفق،
شاعرة باقترابه منها، وكأنه على وشك أن يلدغها لدغة لذيذة، عندما خرجتُ
إلى شارع نيفسكي، كان الشارع يظهر في هيئة كرنفال شتوي على النهر؛ على
امتداد النيفسكي راحت تسبح في الضباب القارس مئات الأضواء الحمراء
والخضراء والبرتقالية، وهي تنعكس مرات عديدة على سطح الشارع الثلجي
الذي اكتسب لون الفضة، وعلى جانبيه على أرصفة الشاطئ راحت حشود من
الناس تتحرك، كانت واجهات المحالِّ تتوهج من أثر الضوء، وقد غطتها سحب
من البخار البارد، الذي راح يخرج من أبواب الدكاكين والمطاعم المفتوحة
على مصاريعها، وفي أعلى أخذت الإعلانات بألوانها العديدة تتراقص
وتتلألأ، وقد تغطت أيضًا، في بعض الأحيان، بالبخار البارد، وقد تصاعدت
إليها أعمدة من هذا البخار، ما إن فُتحت إشارات المرور، التي كانت
أضواؤها تلمع في الشارع لبرهة، حتى اندفعت الحشود التي تتحرك على
الأرصفة لتنتقل عبر أماكن العبور إلى الجانب المقابل، وما إن وصلتُ أنا
أيضًا إلى الجانب الآخر حتى عرَّجتُ إلى شارع جانبيٍّ ما، بدا لي
مُعتِمًا يسوده الهدوء بعد صخب الأضواء في شارع نيفسكي – صفان فقط من
أعمدة الإضاءة كانا يمتدان إلى بعيد، وكلما امتدَّا تلاشت أنوارهما في
السواد الحالك، نظرت إلى إحدى اللافتات المعلقة على أحد البيوت،
فتبيَّن لي أنني أسير في شارع مارات، نيكولايفسكي سابقًا، في مكان ما
هنا، غير بعيد عن شارع نيفسكي، ربما، هناك تحديدًا، في المكان الذي
عبرت فيه الشارع الآن، لاحَقَه أحد السُّكارى، كان رجلًا بسيطًا من
عامة الناس، يرتدي معطفًا من فرو الضأن، ضَرَبه بقبضة يده على رقبته –
حدث ذلك قبل عامين تقريبًا من وفاته، وهو عائد إلى بيته بعد جولته
المسائية المعتادة – وقع على الأرض، تدحرج غطاء رأسه على الرصيف
المغطَّى بالثلج؛ إذ كان الوقت نهاية شهر مارس، وكانت هناك آثار ثلج لا
تزال، تجمَّع الناس حوله، ساعدوه على النهوض، كان الدم يسيل من وجهه،
تمكَّن شرطي ومعه بعض الشهود من اقتياد السكِّير إلى قسم الشرطة، بعد
بضعة أيام قرَّرَت المحكمة تغريم المتهم مبلغًا قدره ستة عشر روبلًا،
وقد طلب المجني عليه، الذي حضر التحقيق، أن تتفضل المحكمة بالصفح عن
المتهم، وقف عند الباب في انتظار الجاني، وعندما خرج دسَّ في يده ستة
عشر روبلًا – في هذه الفترة كان يكتب كثيرًا وخاصة عن المسألة
السلافية، مشدِّدًا على الدور المقدس للشعب الروسي المنوط به تحرير
أوروبا؛ لأنه في جوهر هذا التكليف الرباني إنما تَكمُن — في رأيه —
طبيعة العقل القومي الروسي الخاص وشخصيته؛ الأمر الذي جرت البرهنة
عليه، بالمناسبة، باستخدامه ألفاظًا نابية، قُبِلت بطريقة مختلفة
وبظلال متباينة لمعانيها، لتناسب البسطاء من الناس، لا بهدف احتقارهم
أو سَبِّهم، وإنما من أجل التعبير عن الإحساس المرهف والعميق بل
والحكيم أيضًا، والكامن في نفس كل روسي حقيقي، على امتداد الرصيف الذي
كنت أسير عليه، تكدست أكوام الثلج، كان ضجيج السيارات التي تمر بين
الحين والآخر يعلو على صرير خطوات بعض المارة، مثيرة وراءها ريحًا
ثلجية – انتهى الشارع، لكنني رحت أسير على غير هدًى، مَقودًا بشعور
داخليٍّ ما، إلى اليسار في البداية، ثم إلى اليمين لأعود من جديد للسير
مباشرة عبر نفس الشوارع الهادئة المغطاة بالثلج، المقامة على جانبيها
نفس البيوت المؤجَّرة المكوَّنة من أربعة أو خمسة طوابق، وقد راحت
نوافذها تشع بضوءٍ شاحب، وأمام كل باب من أبوابها مساحة عميقة سوداء
تبدو كأنها بئر، خلاصة القول فقد كنت أسير في نهاية الأمر بمحاذاة شارع
ليجوفكا، ودون أي انحراف عن هذا الاتجاه، وإذا بي أجد نفسي فجأة أمام
فناء منخفض لمنزل ذي طابقين، أبوابه مغلقة، وقد انتصبت عن يميني كنيسة
ضخمة بيضاء ذات قِباب غارقة في سماء سوداء، ومن أمامي انفتح سوق
كوزنيتشني، وعن يميني ومن خلفي كانت هناك كنيسة فلاديميرسكايا، لقد
دخلت بدقة متناهية إلى المكان المطلوب، حتى إن قلبي راح يخفق من الفرح
ومن جراء شعور ما آخر، شعور مبهم لا أعرف كُنهه – إلى اليسار من سوق
كوزنيتشني، بعد شارع واحد بالضبط، تراءى لي بيت من أربعة طوابق له
بدروم، حتى إنه يمكن اعتباره بيتًا من خمسة طوابق، بيت رمادي يقع عند
ناصية، وبدا أسودَ في الظلام، لم تكن زاوية البيت حادَّة تمامًا، على
أية حال، وإنما كانت مشطوفة، مثل كثير من بيوت بطرسبورج، التي تقع عند
النواصي، وهذا الجانب القائم عند الزاوية المشطوفة من البيت تصطفُّ
عليه نوافذ وشرفات الواحدة فوق الأخرى، وأسفلها مباشرة يقع باب البيت،
وللوصول إلى هذا الباب كان على المرء أن يهبط أولًا بضع درجات، حيث
يؤدي بك الباب بعد ذلك إلى بهو البدروم، وبه دولاب تجلس بجواره امرأة
خلف منضدة بالقرب من باب يؤدي إلى السُّلَّم – كانت المرأة تبيع تذاكر،
يمكنك أن تحتفظ بها على سبيل التذكار لأن أحدًا لا يقوم بمراجعتها،
فضلًا عن ذلك، فهي تقدم لك نشرة متواضعة للمتحف، طُبعت عليها على نحو
كئيب كليشيه لصورة الكاتب وتخطيط لغرفة مكتبه، والنشرة مشفوعة ببضع
عبارات وأقوال مأثورة من سالتيكوف وشيدرين، أو تعرض عليك دبوسًا
تذكاريًّا مستطيل الشكل من المعدن عليه نقش بارز لوجه الكاتب، أمام
الباب مباشرة مدخل يؤدي إلى قاعة كبيرة للجمهور تُلقَى بها المحاضرات،
وتُعرَض فيها الأفلام، أو يُقدِّم فيها الممثلون قراءات من مؤلفاته،
وفي الطابقين الثاني والثالث صفٌّ كامل من الغرف تبدو في حالة جيدة،
ذات أرضيات خشبية، تفوح رائحة شمع خفيفة، كأنك في كنيسة، وقد صُفَّت
فيها معروضات أدبية تذكارية – وعلى طاولات صغيرة مغطاة بالزجاج، وعلى
الحوائط، وعلى الحوامل؛ الثابت منها والدوَّار، وُضعت وعُلِّقت نُسخ
مُصوَّرة من الخطابات ومن الطبعات الأولى من مؤلفاته، ورسوم لصوره
الشخصية وصور فوتوغرافية له ولأفراد عائلته ومعاصريه، وقُصاصات من
الصحف عن الأحداث التي وقعت في بطرسبورج في ذلك الزمن، كما عُرِضت
مناظر بالحجم الكبير لبطرسبورج وقلعة أومسك، وكذلك لفلورنسا وروما
وجينيف – وهي الأماكن التي زارها في الخارج، وصور توضيحية لرواياته،
وصور فوتوغرافية لمشاهد من أعماله التي قُدِّمت على المسارح، والعديد
من الوثائق الأخرى، هنا يسود قاعاتِ المتحف هدوءٌ مُطبِق كهدوء
الكنائس، لا يقطعه اللهم إلا همسٌ مَهيب لزوج أو اثنين عرَّجا صدفة على
هنا، أو حفيف أوراق دفتر، راح شاب وحيد، على وجهه بثور، يسجل فيه شيئًا
ما بعناية، أو صوت طقطقة جافة لمفاتيح كهرباء لإضاءة اللمبات، تفتحها
النسوة العجائز المكلفات بمراقبة المكان مجاملة لزائر ما يقف في مكان
يحتاج إلى إضاءة، بعد أن يَترُكْن ما في أيديهن من شغل الإبرة لدقيقة،
وأحيانًا ما يقطع هدوءَ المتحف فجأةً صوتٌ مرتفع، صادر عن شخص يشرح في
ثقة شيئًا ما، إنها مجموعة من التلاميذ اقتربت مع دليلها – مجموعة
تلتزم على نحو صارم بنظام المشاهدة المحدد هنا، ينزلق المؤشر الذي
يحمله الدليل بسرعة على المعروضات، التي تُمثِّل أهمية ثانوية، أو يقف
به فترة طويلة على المواد، التي يرى الدليل — من وجهة نظره — أن لها
قيمة تعليمية جادة، والتلاميذ الذين وقفوا بعيدًا عن المعروضات، راحوا
يجذبون بعضهم بعضًا من أيديهم، وهم ينظرون إلى الأجانب وهم يضحكون
ضحكًا مكتومًا، يهبط أدلة المتحف عادة من الدور الثالث، حيث القسم
العلمي وإدارة المتحف، المديرة امرأة شابة تحمل اسمًا تتريًّا واسم
عائلة زوجها الجنرال المشهور، زوجة تتمتع بالجمال، لها وجه مستدير،
وعينان سوداوان نجلاوان رائعتان، كانت مشغولة دائمًا في غرفة مكتبها مع
ممثلين ما لإدارات بيروقراطية، وأحيانًا ما كانت تصعقهم بسؤال
ميتافيزيقي تطرحه عليهم، أو تتبادل الحديث معهم فجأة عن حالتها الصحية،
وإلى جوارها، في القسم العلمي، يقف موظفو المتحف، وهم رجال ونساء في
مُقتبَل العمر، لهم وجوه مثقفة تشي عن غير قصد بفكرة أنهم من أصول
يهودية، هؤلاء كانوا يتبادلون في حيوية آخر النمائم الأدبية أو يهاتفون
أحدًا ما، ثم يروح المتصل وهو يضحك يحكي للباقين كيف أن أحد الممثلين
المشهورين (يحمل بالمناسبة كنية يهودية أيضًا)، كان يمارس العمل في
قراءة قصص دستويفسكي وأحيانًا ما كان يقوم، بعد أن يؤدي دوره في قاعة
العرض، بالرقاد في الظهيرة في حوض الاستحمام، في هذا الوقت كانت زوجته
تجيب بأنه غير موجود بالمنزل، وقد اقترح أحد الموظفين الاتصال بالمنزل
والسؤال عما إذا كان لم يغرق بعد، وقد راح الموظفون يضحكون في مودة على
إثر ذلك، بعدها دخلت المديرة فجأة ليحكوا لها نفس القصة، كانت كل
الدلائل تشير إلى أنها كانت تود أن تضحك معهم، لكنها تصنَّعت الجد
لتسأل أحدهم عن شيء ما بخصوص العمل، وقد أجابوا على سؤالها، ولكن بغير
جدية على نحو ما، بل إنهم دخلوا معها في حديث يتعلق بموضوعاتها
الميتافيزيقية المفضلة، وإنما على نحو لا يخلو من الدعابة، على هيئة
طرح بعض الملاحظات أو العبارات، التي كان معروفًا للجميع أنها مُغرمة
بها، أما هي فقد تملَّصت منهم مُدِّعية الجدِّية والصرامة، ولكنها في
النهاية لم تتمالك نفسها فراحت تشاركهم الضحك، وهنا في الطابق الثالث
أيضًا، إذا ما اعتبرنا البدروم طابقًا، تقع شقته – عند المدخل وضعت على
حامل خاص مظلة لها مقبض معقوف في طرفها، قماشها أسود باهت – يُفترَض
أنه كان يأخذها معه في جولاته، وعلى شماعةٍ عُلِّقت قبعة قديمة للغاية
ذات حوافَّ عريضة – تُرى هل كانت قبعته فعلًا؟ – في الغرفة الأولى،
يبدو أنها غرفة الاستقبال، انتصب دولابان قديمان بهما كتب ومنضدتان أو
ثلاث صغيرة عليها نقوش كالحة وساتر خشبي منخفض – هناك منضدة تشبه منضدة
جيليا، على إحدى المنضدتين كانت هناك صفحة مُنتزَعة من دفتر، كُتبت
عليها بضع عبارات بخط طفولي أخرق وتوقيع «لوبا»،٥٦ على الحوائط عُلِّقت صور عائلة أنَّا جريجوريفنا – إحداها
مع الطفلة لوبا والابن فيديا، وفي واحدة من الصور، التي التُقِطت فور
وفاة الأب، تبدو لوبا ذات الأحد عشر ربيعًا شابة يافعة، فتاة كاملة
النضج تمامًا، وهو ما يظهر جليًّا في شعرها المنسدل وثوبها الطويل الذي
يغطي حذاءها، وبعد عدة سنوات من وفاة والدها انفصلت عن والدتها لتعيش
وحدها، بعد أن نظَّمت في بيتها شيئًا ما يشبه صالونًا أدبيًّا، وقد
راحت في هذا المكان تمارس حياتها كما تشاء، حتى إن أنَّا جريجوريفنا
بعد أن شاهدت ذات مرة أناسًا يخرجون من الكنيسة حاملين نعش فتاة صاحت
قائلة: «آه، ليتهم يحملون نعش ابنتي!» – بعد عدة سنوات سافرت لوبوف
فيودوروفنا إلى الخارج، حيث انغمست تمامًا في حياة بوهيمية، كانت إلى
حد ما وراء عدم اتزانها النفسي العميق، وربما كانت أيضًا وراء مرضها
النفسي، ومع ذلك كانت تنجح في الفترات التي تفصل بين نوبات الاكتئاب
الدورية التي تصيبها في كتابة ذكرياتها عن أبيها، وهي ذكريات لم يأخذها
دارسو دستويفسكي على محمل الجد تمامًا، معتبرين أن كثيرًا من الوقائع
التي قدمتها غير مقنعة، وإنما هي مناظرات هشة وغير موضوعية، وقد
اعتُبِرت محاولتُها نَسبَ دستويفسكي إلى النورمنديين على وجه الخصوص
فكرةً قهرية ببساطة – وقد بذل الناقد جورنفيلد، الذي كتب مقدمة كتاب
لوبوف فيودوروفنا جهدًا حثيثًا في هذا الاتجاه، وقد رأى جورنفيلد أن
أدنى شك تجاه انتماء دستويفسكي إلى الأمة الروسية هو بمثابة تدنيس
للمقدس، واعتبره وكأنه إهانة شخصية له، أما فيديا الابن فكان يبدو في
هذه الصورة أشبه بطالب مجتهد في المدرسة الثانوية، ولكنه غبي، كانت له
جمجمة مشوهة الشكل، كما لو كانت كاريكاتورًا حقودًا لجمجمة أبيه، ثم ها
هي ذي الغرفة الثانية، الأرجح أنها غرفة أنَّا جريجوريفنا، وتحتوي
أيضًا على صور فوتوغرافية، إلى جانب بعض اللوحات عُلِّقت على الحوائط،
وطاولة صغيرة للكتابة، وغير بعيد تقع غرفة أخرى، منزوية، يمكن ملاحظتها
بالكاد، وأخيرًا غرفته وفيها مكتبه وقد رُصَّت فوقه كتبه ومخطوطاته،
سجائر وعلبة تبغ، وشمعتان تجمدتا على حالتهما بعد ذوبانهما، ومحبرة
ونتيجة، مفتوحة على تاريخ وفاته، وإلى جانب المكتب تقوم مكتبة من عدد
من الأرفف مليئة بالكتب، ووفقًا لحكاية أنَّا جريجوريفنا، التي أوردتها
في «مذكراتها»، فقد لعبت هذه المكتبة دورًا حاسمًا في النزيف الذي
اندفع من رئته، عندما قام بزحزحتها أثناء الليل حتى يستعيد المقلمة،٥٧ التي تدحرجت وراءها، سرعان ما توقف النزيف، لكنه عاد من
جديد وبقوة في اليوم التالي بعد أن أثار أحد الزائرين الدائمين — وفقًا
لحكاية أنَّا جريجوريفنا، وهو شخص طيب للغاية، ولكنه مجادل يائس — أثار
أعصاب فيودور ميخايلوفيتش دستويفسكي بشدة، في مذكراتها التزمت أنَّا
جريجوريفنا الصمت تجاه الزيارة، التي قامت بها في نفس هذا اليوم فيرا
ميخايلوفنا، الأخت الأثيرة لدى فيديا، والتي جاءت من موسكو خصوصًا
للحديث معه عن الميراث، كانت هي نفسها الأخت التي عاشت في وقت ما في
شارع ستاريا باسمانَّايا في معهد المساحة، والتي قامت أنَّا جريجوريفنا
وفيديا بزيارتها وعائلتها يوم عيد الماسلينيتسا٥٨ بعد زواجهما مباشرة، عندما جاءا إلى موسكو، آنذاك نزلا في
إحدى غرف فندق ديوسو، الذي يُطِل على قِباب كنائس موسكو المغطاة
بالثلج، وكذلك على الشارع المغطى أيضًا بالثلج، وقد انطلقت فيه
الزَّحَّافات وعربات الترويكا – استقلَّا واحدة منها، مغطاة بستائر من
الفرو، شقَّا طريقهما عبر موسكو كلها ليتوقفا بالقرب من كنائس، راح
فيديا، الذي يعرف موسكو جيدًا، يصفها لها كأنه هو صاحبها، نزلا من
الزَّحَّافة، انحنى فيديا ورسم علامة الصليب على الكنيسة بعد أن خلع
غطاء رأسه، رسمت أنَّا أيضًا علامة الصليب وانحنت على إثره، وفيما بعد،
في غرفة الاستقبال في بيت فيرا ميخايلوفنا، أبدت أنَّا رباطة جأش أمام
نظرات ربة البيت وأقاربها جميعًا، الذين كانوا قبل ذلك قد اختاروا زوجة
فيديا من بين أقاربهم، كانت تتلقى هذه النظرات والسخرية الصريحة، وهي
تنظر إليهم مُقطِّبة، بينما راحت تمسح بيدَيها على شرائط تنورتها
بلامبالاةٍ شديدة، لكن أصابعها كانت ترتعش ضد إرادتها لتترك آثار كرمشة
على القماش، كانت تشعر أن الصاري المنقذ — الذي تتمسك به لكيلا تسقط في
البحر — يكاد ينزلق من بين يديها، لقد تحملت كل هذه النظرات والتلميحات
اللاذعة وراحت تتمسك بقوة أكبر بالصاري، ولم تنسَ أنَّا مطلقًا هذا
اللقاء الأول مع هؤلاء الأقارب في موسكو – الذين كانوا مثلهم مثل أقارب
فيديا تمامًا في بطرسبورج – خاصة هذا المدعو باشا٥٩ بابتسامته الوقحة، ثم إميليا فيودوروفنا التي كانت زوجة
للمرحوم ميخائيل، شقيق دستويفسكي، هذه المرأة ذات العينين الضيقتين
الجارحتين، الشديدتَيِ السواد، كلاهما تعاملا مع أنَّا جريجوريفنا منذ
اللحظة الأولى على نحو عدواني، باعتبارها عقبةً كَئودًا في طريقَيهما،
معتبرين أن فيديا مُلزَم طوال حياته أن يمد لهما يد المساعدة، على
الرغم من أن إميليا فيودوروفنا كان لها أبناء راشدون، بإمكانهم أن
يَكفُلوها، أما باشا فكان شابًّا كسولًا ليست لديه أدنى رغبة في العمل،
وإنما اكتفى بالإساءة إلى سمعة فيديا، الذي كان يوفر له الوظيفة تلو
الأخرى، هنا وهناك، ولكنه في كل مرة كان يشعر بالخجل تجاه التصرفات
التي يأتي بها ربيبه – ومع ذلك استمر فيديا يساعده من جديد، قبل سفر
فيديا وأنَّا إلى الخارج قام باشا وإميليا فيودوروفنا بمنعهما من
السفر، بأن سدَّا باب الخروج عليهما بجسديهما، مطالبَين إياهما بالمال،
حتى إنهما أرغما فيديا على رهن البالطو الوحيد الذي يمتلكه، وبفضل أم
أنَّا الملائكية، التي أعطت المال إلى الربيب وخطيبته وزوَّدت فيديا
وأنَّا بالمال، لَما استطاعا آنذاك مغادرة بطرسبورج والحفاظ على
حياتهما الزوجية – وبعد عودتهما من الخارج، عندما تم الحجز على كافة
ممتلكاتهم مقابل ديون مصنع التبغ الذي كان يملكه الراحل أخوه، دفع
فيديا آنذاك عشرة آلاف روبل قيمة كمبيالات، جزء منها كان مزيَّفًا؛
الأمر الذي كان من عواقبه إفلاس مشروع دار النشر الذي بدأ في إقامته مع
أخيه، بفضيحة مُدوِّية، حتى إن فيديا نفسه كاد أن يُقاد إلى السجن
الخاص بالغارمين، وهنا — والحق يُقال — أمسكت أنَّا بزمام الأمور،
وراحت تُسوِّي أمورها مع هؤلاء الدائنين مصاصي الدماء، ومع ذلك، وحتى
والحال على هذا النحو، لم تكن الأمور لتسير دون مساعدة مالية من أمها،
فإلى جانب ما كان يدفعه فيديا لإميليا فيودوروفنا وباشا، كان عليه أن
يدفع لأخيه نيكولاي المريض والسكِّير خمسين روبلًا شهريًّا، على أية
حال، لم يكن فيديا عمومًا ليتوقف عن إهدار المال هنا وهناك – كان يعطي
كل متسول يصادفه، وأحيانًا ما يعطي نفس الشخص عدة مرات في اليوم
الواحد، حتى إنه ذات مرة في ستاريا روسا غطَّت أنَّا جريجوريفنا رأسها
ورءوس أطفالها بمناديل، ووقفت معهم على الطريق الذي اعتاد فيديا أن يمر
به، وعندما أصبح بمحاذاتهم قالت له: «أيها السيد الكريم، إن لديَّ
زوجًا مريضًا وأطفالًا»، وعلى الفور أخرج فيديا لزوجته صدقة – وهنا
ضحكت أنَّا في مرح، أما هو فانتابته حالة من الغضب – معتبرًا أن هذا
تجديف، صاح بها قائلًا بعدما سارا معًا في طريقهما إلى البيت: «إن هذا
هو نفسه، هو نفسه أن تضعي في يد الفقير الممدودة إليك حَجرًا، الأمر
هنا على العكس من ذلك، لا ينبغي أن يتصرف المرء على هذا النحو، إن هذه
سخرية من أنبل المشاعر الإنسانية، هل تفهمين؟» – حتى إن الناس راحوا
ينظرون إليهما، لكن أنَّا جريجوريفنا لم تشعر أنها اقترفت أي ذنب؛ لأن
فيديا في السنوات الأخيرة كان يُسرِف في إخراج الصدقات، مضطرًا أحيانًا
لذلك، حتى إن المستفيدين من وراء هذه الصدقات هم أنفسهم كانوا يسخرون
منه، كان ثمة شيء غير طبيعي في هذا الأمر، شيء هيستيري، كأنه كان
يُكفِّر عن ذنوب قديمة، أو يحاول أن يُخمِد في نفسه إحساسًا مناقضًا،
أو لعلها أيضًا غريزة، كل ذلك تحول على أية حال إلى حالة من الاضطراب
النفسي؛ الأمر الأهم أنه كان يوزع ما معه ذات اليمين وذات اليسار، غيرَ
آبهٍ إلى أن أنَّا جريجوريفنا تسدِّد نفقات البيت بالكاد، كما أن هناك
ديونًا لم تُسدَّد بعد، لقد كان على أنَّا جريجوريفنا التي افتتحت
لتوِّها تجارة الكتب أن تجلس حتى ساعة متأخرة من الليل في كتابة أسماء
المشتركين على الأظرف، ثم لصقها وتوزيعها عليهم، وأن تراجع الحسابات،
وأن تقوم في الوقت نفسه بالاشتغال بأمور البيت، وقد كان لديهما طفلان،
وكان من الضروري أن يتركا لهما شيئًا بعد رحيلهما عن الدنيا، كانت
بارقة الأمل الوحيدة وسط كل ذلك، والتي كانت أشبه بالضوء في نهاية نفق
مظلم طويل، هي ميراثه هو وأقاربه في جزء من عزبة في مقاطعة ريازان مِلك
لخالته كومانينا، التي تعيش في موسكو، وتبلغ مساحتها خمسمائة ديساتينا،٦٠ تحيط بهذه العزبة غابة أخشاب بناء رائعة، وعلى الرغم من أن
فيديا بدا وكأنه لا يعير هذا الأمر عناية كبيرة، فقد شرحت له أنَّا
جريجوريفنا كيف أن هذا الأمر هو الضمان الوحيد الآمن لمستقبلهما، وأن
الأهم هو مستقبل طفلَيهما، وأخيرًا أدرك فجأة أنه بالفعل كذلك، بل إنه
راح يتخيل أحيانًا أنه صار من أصحاب الأملاك، وقد راح يعرض العزبة التي
ورثها على أصدقائه ومعارفه، أو يتخيل أنه نفسه أصبح رجل أعمال أو عضوًا
في المجلس البلدي، على الرغم من أن هذه الأفكار نفسها كانت مشوشة لديه،
وأنه كان يحاول أن يكبت في نفسه هذا الإغراء، في هذا الوقت — بالمناسبة
— بات معروفًا لهم أن أخته الأثيرة لديه، فيرا ميخايلوفنا، التي كانت
تعيش في موسكو، استعدت للسفر إلى بطرسبورج في مهمة خاصة؛ لكي تطلب من
فيديا أن يتنازل عن نصيبه في ميراثه من الخالة كومانينا لصالح أخواته،
وعندما سمعت أنَّا جريجوريفنا ذلك انطفأت البقعة المضيئة التي كانت
تضوي في مكان ما في نهاية النفق الطويل المظلم، وعندما راح فيديا يذكر
شيئًا ما عن أخواته العزيزات، وخاصة فيرا ميخايلوفنا، التي كان يحمل
لها أرقَّ مشاعر الحب منذ طفولته، شحب وجهها، ثم نظرت إليه نظرة ثابتة
غريبة، باردة وعابسة، وقالت موضحة كل كلمة: «مرحى، ها قد وجدنا
مُحسِنًا على الإنسانية! لقد كنت دومًا ترقص على زمر أقاربك!» – شحب
وجهه هو أيضًا وظل يتحاشى أنَّا جريجوريفنا عدة أيام بعد ذلك، حتى إنه
لم يكن يتحدث إليها تقريبًا، وعندما زارتهما فيرا ميخايلوفنا بعد
وصولها إلى بطرسبورج لتناول الغداء ذات نهار شتوي بطرسبورجي معتم؛ راح
يتحدث إليها باهتمام بالغ وكأن أنَّا جريجوريفنا غير موجودة تمامًا،
راح يستفسر في دأب عن أقاربه في موسكو، عن المعارف المشتركين، لكن فيرا
ميخايلوفنا كانت شاردة، كانت تجيب باقتضاب، وعندما قُدِّم الحساء
انتقلت على الفور للحديث عن المسألة التي جاءت من أجلها، شارحة لأخيها
أنه سيكون من الأجدى له لو رفض نصيبه في العزبة، فسوف يحصل على أموال
بدلًا منها، وأن سفره إلى مقاطعة ريازان في ظروف مشاغله سوف يكون أمرًا
شاقًّا بالنسبة إليه، وسوف يكلفه السفر مالًا وجهدًا كبيرين، ظل فيديا
جالسًا دون أن ينبس ببنت شفة، وقد أطرق رأسه وراح يُكوِّر لب الخبز،
ولم يقترب نهائيًّا من الحساء، شاعرًا بنظرة أنَّا جريجوريفنا ترقبه،
وعندما قُدِّم الطبق الرئيس إذا بفيرا ميخايلوفنا تضع الشوكة والسكين
جانبًا لتخرج منديلًا من قماش الباتيستا وتروح تتمخط ثم تنخرط في
البكاء، وأثناء بكائها كانت تضع المنديل على عينيها وهي تقول إنه إذا
لم يوافق فإن ذلك سيكون أمرًا غير إنساني من جانبه تجاه أخواته، ودون
أن ينظر إلى أنَّا جريجوريفنا — التي كان يشعر بنظرتها النافذة إليه،
نظرة بدت له ثقيلة ساخرة — صاح قائلًا: «بالله عليكم، دعوني جميعكم
وشأني!» دفع بالطبق الذي كان البخار يتصاعد منه لا يزال، قفز مبتعدًا
عن المائدة، والمنشفة لا تزال محشورة في ياقته، وبخطوات سريعة دخل إلى
غرفته – صَفَق الباب ثم جلس إلى مكتبه وقد أسند رأسه بيديه، كان قلبه
يخفق بشدة وكأن مطرقة تدق في أذنيه، وهناك، في غرفة الطعام أو
الاستقبال، كانت تُسمع أصوات خافتة، ابتعدت بالتدريج، الأرجح أنها كانت
أنَّا جريجوريفنا تودع أخته عند الباب، كل شيء انقلب رأسًا على عقب،
المقابلة مع أخته، الغداء العائلي، الذي أُعِد من أجلها، الحلوى
المفضلة لدى فيرا ميخايلوفنا منذ الطفولة، التي اشتراها خصوصًا لها،
هذا ما كانا يستحقانه! كان يود أن يُحطِّم شيئًا، أن يلقي بأي شيء
ليزداد الأمر سوءًا، فجأة أحسَّ على كفَّيه برطوبة لَزِجة – كانت
الغرفة مظلمة تقريبًا – أشعل شمعة من الشمعتين الموجودتين على المكتب
بيدين مرتعشتين، هبَّ واقفًا عن المكتب فزعًا، كانت يداه مُلطَّختين
بالدم وكأنما ارتكب جريمة قتل لتوِّه، وبحركة لا إرادية مرَّ بيده على
ذقنه، الأرجح أنه كان يريد أن يمسح يده، لكن الدم راح يزداد على كفه،
أمسك بالمنشفة المحشورة في ياقته منذ تناول الغداء، كانت حمراء من أثر
ما عليها من دم، كأنها راية «المحولجي» الحمراء، ظل غير مُصدِّق أن ذلك
يحدث له تحديدًا، لكنه كان يدرك أن ثمة شيئًا لا يمكن إصلاحه قد وقع
له، اندفع نحو باب غرفة مكتبه، فتحه على مصراعَيه بكل قُواه صائحًا:
«آنيا!» – وعلى الرغم من أن صوته خرج ضعيفًا، فقد سمعته وهي في الجهة
الأخرى من الشقة، هناك في المدخل، حيث كانت تعتذر عن كل ما حدث وهي
تودع فيرا ميخايلوفنا، هرعت إليه متجاوزة الغرف كلها، دون أن تلقي نظرة
على الطفلين، مصطدمة في طريقها بالأثاث؛ إذ كانت تشعر بأن شيئًا ما
رهيبًا قد حدث، اليومان اللذان تبقيا له من عمره لم يغادر فيهما أريكته
المكسوَّة بالجلد، والمعزولة الآن بشريط عن الجزء الباقي من غرفة
المكتب، هذه الأريكة في الوقت الحالي ليست هي الأريكة الأصلية، لكنهم
أتوا بها إلى المتحف من بيت أحد ما من عائلة دستويفسكي، وهي موضوعة
أسفل صورة فوتوغرافية للمادونا الستينية، أهداها له أحد الأصدقاء، وقد
قامت أنَّا جريجوريفنا بتعليقها في غرفة مكتبه يوم عيد ميلاده، بعد أن
وصل الطبيب المداوم على علاجه، فحصه ثم قال إنه لا يوجد تهديد مباشر
على حياته، وكان المريض قد بدأ في النزيف مرة أخرى بعد وصول الطبيب
مباشرة، بل إنه فقد الوعي بعض الوقت – عندما أفاق نادى على أنَّا
جريجوريفنا، التي كانت جاثية إلى جواره على ركبتيها، طلب منها أن
تستدعي القس لكي يعترف ويتناول القربان، ظهر القس على الفور؛ لأن كنيسة
فلاديميرسكايا — التي كانت قِبابها غارقة الآن في السماء الليلية
الشتوية — تقع غير بعيد من البيت، قضت أنَّا جريجوريفنا الليل كله في
غرفة المكتب، جالسة على نحو ما على الكرسي، دون أن يغمض لها جفن، نفس
ما حدث مع الراقد على الأريكة، وذلك حتى يمكنها ضبط ملاءته أو تحسُّس
جبهته، في الصباح قال لها إنه يشعر بتحسن، حتى إن الطبيب الذي وصل أعرب
عن أمله في أن المريض سوف ينهض على قدميه خلال أسبوع، حتى إنه عبَّر عن
أسفه لأن فيديا تسرَّع في تناول القربان، كان صباحًا شتويًّا صحوًا،
غير أنه لم تكن هناك بادرة واحدة واضحة على اقتراب الربيع، ربما فقط
زرقة السماء، التي كان جزء منها يظهر من خلال نافذة غرفة المكتب، أو
ربما في الأصوات المُلحَّة للباعة الجائلين وبائعي أوراق اليانصيب،
التي انتظمت في الحارة أسفل النوافذ، وربما في تردد صليل جرس كنيسة
فلاديميرسكايا، تناول فيديا بعد ذلك خبزًا أبيض مع كافيار، ثم شرب
لبنًا وعصيرًا من التوت البري كانت قد أعدَّته له أم أنَّا جريجوريفنا،
أسرعت أنَّا جريجوريفنا بنفسها لدقيقة إلى المحل وأحضرت له عصير عنب
مُصفًّى، يصعب شراؤه أحيانًا في هذا الوقت من العام، وأثناء صعودها
مُهَروِلة على السُّلَّم، تذكرت فجأة لسبب ما أنه كان يشتري لها العنب
في بادن، العنب الأحمر على وجه الخصوص، كالذي كانا يأكلانه في عربة
القطار، وهما يغادران بادن، ولسبب ما أيضًا تذكرت كيف راح يركض عبر
رصيف المحطة بطوله حاملًا الشطائر، وقد أوشك القطار على الرحيل، أطعمته
وهي تحمل الطبق بالقرب منه، بعد أن وضعت على صدره منشفة مُنشَّاة،
جالسة على طرف الأريكة، بدا لها أن كل حبة عنب يأكلها تبث في أوصاله
قوة جديدة تعيده إلى الحياة، على امتداد اليوم جاء كثير من الزوار، من
هيئة التحرير، ومن الرقابة، بشأن أمسية بوشكين القادمة، التي كان عليه
أن يلقي فيها خطابًا، ببساطة، بعد أن يكون قد اعتنى بصحته – حتى إنه
أملى عليها بعض التصحيحات – عبَّر عن غضبه بضع مرات ليتحول إلى فيديا
المعتاد، وهنا اندفعت بسرعة لتحقق له نزواته، وعندما اقترب هذا اليوم
المخادع من نهايته دعت كل من في البيت للنوم قبل موعدهم وصعدت إلى
الدور الأعلى لتطلب من السيد هناك أن يكف عن السير في غرفته؛ لأن وقْع
أقدامه كان يسبب إزعاجًا دائمًا لفيديا، ثم عادت لتسجل بضع ملاحظات في
يومياتها، بعدها أعدت حَشيَّة وضعتها على الأرض إلى جوار الأريكة التي
يرقد عليها المريض، بعدما انتهت من كل ذلك كان الليل قد أرخى سدوله،
إنها الليلة الأخيرة له في هذا البيت وفي هذا العالم بأسره، استيقظت
عدة مرات، كان ضوء الشمعة منعكسًا على وجهه – كان شاحبًا، لكنه يتنفس
في سَكِينة وانتظام، وبعد أن اطمأنت عادت من جديد لنومها، وفي الصباح،
عندما فتحت عينيها، كان ثمة شيء في نظرته، انقبض قلبها بسببه، «سوف
أموت اليوم، يا آنيا»، قالها بهدوء وهو ينظر إليها، اقتربت منه، وبعد
أن أخذت يده بين يديها، راحت تقنعه أن كل شيء سيكون على ما يرام، وأن
الأطباء يرون أن الأمر ليس خطيرًا، لكنه وبعد أن أبعد يديها تحدث إليها
هامسًا؛ إذ لم يكن بمقدوره أن يتحدث بصوت مرتفع، طالبًا منها أن
تُناوِله الإنجيل، الذي أهدته إياه زوجات الديسمبريين في المعتقل،
والذي لم يفارقه مطلقًا، وقد وضع على حوافِّ صفحاته العديد من
الملاحظات، ثم بعدما فتحه كيفما اتفق، ودون أن ينظر فيه، طلب منها أن
تقرأ عليه بصوت جهير الإصحاح الثالث من أعلى، وقد قرأت: «فأجاب يسوع
وقال له: اسمحِ الآن؛ لأنه هَكذا يليقُ بنا أن نُكمِّل كلَّ بِر»،٦١ قال لها: «انظري؛ «اسمح الآن»، يعني أنني سأموت» – أَغلَق
الكتاب، وبعد أن جثت أنَّا على ركبتيها إلى جواره، أخذت يده مرة أخرى
في يدها، أما هو فبعد أن ضَم يدها إلى شفتيه قبَّلها، ثم أخذَتْه سِنَة
من النوم وهو يتنفس بهدوء وانتظام، بينما ظلت هي جاثية على ركبتيها
خوفًا من أن تهتز فتوقظه، وعندما استغرق في النوم، كان الصباح قد ظهر،
قام بنفسه بملء ساعته، بعدها طلب أن يغسل أسنانه وأن تساعده في ارتداء
ملابسه، وعندما راح يصفف شعره، محاولًا أن يغطي به صلعته، خشيت أنَّا
جريجوريفنا أن يمثل ذلك جهدًا كبيرًا عليه، فأخذت منه المشط وراحت تفعل
هذا بنفسها، لكنه غضب وراح يتحدث بصوت مرتفع، يصل إلى حد الصراخ؛ لأنها
تصفف شعره في غير الاتجاه المطلوب، حتى إنها على الرغم من الخوف الذي
انتابها من أن يسبب له هذا الغضب وحديثه المرتفع ضررًا له، فَرِحت في
الوقت نفسه من هذه الثورة التي أعطتها أملًا في شفائه؛ إذ إنها كانت
واحدة من خصاله، ارتدى ملابسه كلها بمساعدتها، ولكنه عندما راح يرتدي
حذاءه بصعوبة ظهر الدم مرة أخرى على شفتيه وذقنه – أسرعت تُرقِده في
فراشه بعد أن مسحت الدم عن شفتيه وذقنه بالمنشفة، رقد بملابسه على
أريكته، المكسوة بالجلد الأسود، ولم يحاول أن ينهض، لم يتوقف الزائرون
طوال اليوم، لكن أنَّا جريجوريفنا حاولت جاهدة ألا تسمح لهم بدخول
غرفته، جاء أطباء وذهب آخرون، يقيسون النبض ويستمعون إلى المريض، ثم
راحوا يهزون أكتافهم بشكل غير محدد ردًّا على نظرات أنَّا جريجوريفنا
المتسائلة وهي تودعهم عند مدخل الشقة، كان الجو مُعتمًا منذ الصباح،
وطوال اليوم ظلت الشمعتان الموضوعتان على مكتبه مُتَّقدتين، وكأنه جالس
هناك ليعمل، ثم قام ليغيب قليلًا أو ليرقد للراحة، لم تفارق أنَّا
جريجوريفنا المريض تقريبًا، واقفة بالقرب منه جاثية على ركبتيها ممسكة
بيده بين يديها، لم يعد — الآن — قادرًا تمامًا على رفع رأسه، وفي وقت
ما أثناء هذا النهار، الذي لا يمكن تمييزه عن الليل، وصل باشا، وقد
استمعت أنَّا جريجوريفنا إليه وهو يقف خلف الباب وقد راح يتحدث إلى شخص
ما حول موثق العقود، من الواضح أن المريض سَمِعه؛ إذ إنه أشار بإيماءة
من رأسه إلى ثقب الباب، بما يعني أن باشا يختلس النظر إليه، دخل باشا
بخطوات خافتة، اقترب من زوج أمه، انحنى على يده، لكن الراقد على
الأريكة أزاح يده وهز رأسه، مشيرًا إلى أنه لا يرغب في رؤية باشا أكثر
من ذلك، ثم طلب بصوت مسموع بالكاد استدعاء الأطفال ليودعهم، أدخلَتْهم
أنَّا جريجوريفنا إلى الغرفة، ولعلهم سوف يتذكرون طوال حياتهم ملمس ذقن
أبيهم الشائك، عندما راحت أنَّا جريجوريفنا تدفعهم، وقد أخذت بهم
الحيرة والخوف كل مأخذ، اقتربوا من الأريكة، وعلى نحو ما فعلت أمهم
جثوا على ركبهم بالقرب من رأس الأريكة، بينما أدار هو رأسه ليُقبِّلهم
في جباههم – لوبا أولًا، ثم فيديا، بعدها رفع يده ليرسم عليهما علامة
الصليب، بعدما خرج الأطفال، أغلق عينيه ورقد دون حراك، حتى بدا لأنَّا
جريجوريفنا فجأة أنه قد توقف عن التنفس، سألته في هدوء وقد مالت بجسدها
فوقه: «هل نمت؟» فتح عينيه لترى فيهما من جديد نفس التعبير الذي رأته
في الصباح، أدركت أن هذا هو تعبير الحزن وأنه سوف يموت – شعرت أنَّا
بغُصَّة مريرة في حلقها، وحتى لا تنفجر في البكاء في حضوره، غادرت غرفة
المكتب لدقيقة أطلقت خلالها العنان لدموعها، وقد مالت برأسها على
مكتبها الصغير في غرفتها، حتى إن شعرها — الذي كان دائمًا مُصفَّفًا
بعناية شديدة — تَهدَّل فوق المكتب، بعد أن أغلقت يديها، لم يكن
بمقدورها الانطلاق في البكاء، ولهذا كان نشيجها أشبه ما يكون بالضحك أو
بداية السقوط في حالة هيستيرية – كان الأطفال ينظرون إليها في فزع، أما
ماريا الطاهية، العجوز ذات الوجه المجدور، فقد راحت تسير نحو الباب
مُدبدِبة بأقدامها وقد لفَّت منديلًا على رأسها، ومن المدخل وغرفة
الاستقبال كانت تصل أصوات متحفظة وسعال – هؤلاء كانوا من الأصدقاء
والمعارف والزوار، وقد راحوا تدريجيًّا يملئون الشقة، أما الآخرون فقد
فتحوا بحذر باب غرفتها، ثم دخلوا، وبعد أن توقفوا على مسافة من هذه
الباكية، راحوا يتهامسون – خرجت أنَّا، بعد أن مسحت دموعها وأصلحت من
هيئة شعرها، مهرولة تقريبًا نحو غرفة المحتضر – كيف استطاعت أن تتركه
وحيدًا ولو للحظة واحدة؟! كان راقدًا على ظهره لا يزال، بعد أن فتح
عينيه، موجهًا ناظريه إلى مكان ما في السقف، كأنما يحاول قراءة شيء ما،
أحيانًا كان يقول شيئًا ما همسًا، لكن كلامه بدا غير مترابط: «يا لهم
من ظالمين! (الأرجح أنه كان يعني بهذه الكلمات أخواته) … لا تنهاري
(لعله يقصد أنَّا جريجوريفنا) … هل أطفأت ماريا المدفأة؟ هل العنب
كافٍ؟ لقد دفعتُ بكِ إلى الإفلاس»، كل هذه الكلمات، ثم وصول صديقه جريجوروفيتش٦٢ وغيرها من أحداث، استطاعت أنَّا جريجوريفنا أن تسجلها في
يومياتها، على الرغم من أنها بدت منعزلة إلى حد ما عن الآخرين، صحيح
أنها فعلت ذلك بعد وفاته، لكن بعضًا منه سجلته في نفس الليلة، على أية
حال، فهي لم تفقد اتزانها على وجه العموم، كما لم تفقد — كما يحب البعض
الآن التعبير بقولهم — سيطرتها على إدارة الأحداث – كانت ترسل في طلب
الأطباء، وتحاسب الحوذية، وترسل ماريا في طلب الثلج الذي كانوا يعطونه
للمريض ليبتلعه حسب وصف الطبيب، كما أنها لم تسمح لموثق العقود بأن
يدخل إلى البيت؛ الأمر الذي راح باشا يُصِر عليه بأقصى ما في استطاعته،
أحاطت الزوار علمًا بالحالة الصحية لزوجها، حتى إنها وقَّعت على
مستندين رسميين أو ثلاثة، كانت الساعة حوالي السابعة مساءً، استبدلت
الشموع الموجودة على مكتبه، وعندما عاد إليه النزيف مرة أخرى مسحته عن
شفاهه وذقنه بالمنشفة، التي كانت مُعلَّقة على ظهر المقعد، نادت على
ماريا لتساعدها في وضع وسادة أخرى تحت رأسه حتى يستوي لأعلى، كما نصح
بذلك الطبيبان كوشلاكوف وفون بيرتسل، اللذان أشرفا على علاجه بشكل
دائم، ووقفا إلى جواره، وبالتناوب راحا يقيسان نبضه وهما يتبادلان
نظرات ذات مغزًى عميق، خيط رفيع من الدم راح يسيل من جديد من زاوية
فمه، تمامًا كما يحدث لمن لديه جرح في صدره، مسحته أنَّا جريجوريفنا،
ولكنه عاد ليسيل من جديد من نفس المكان السابق – لم يتمكن أحد من وقف
نزيف الرئة الذي تجدد، وقد راح الدم يصل إلى الوسادة – عادت من جديد
لتجثو على ركبتيها إلى جوار أريكته، ممسكة بيده، منحنية تقريبًا فوقه،
على نحو يذكِّرنا بتمثال المرأة المكلومة التي يصوِّرونها أحيانًا عند
شواهد القبور – كان يرقد وقد أغمض عينيه، دون أن يفتحهما استجابة
لندائها، عندما راحت تردد اسمه بصوت خفيض بين الفينة والفينة، يبدو أنه
دخل في هذه اللحظة في حالة من فقدان الذاكرة، وفي الغرف المجاورة كانت
تُسمع أصوات الزوار المتحفظة، بينما كان رنين جرس الباب يدق بلا انقطاع
وإنما بشيء من الحرص، كانت تمسح يده برقة، وأحيانًا ما كانت تتصور فجأة
أنه يعاني من مجرد نوبة، كالتي حدثت له مرارًا، وأنه لم يَثُب ببساطة
إلى رشده بعد، وأنه بعد دقيقة واحدة من الآن سوف يفتح عينيه، ويتعرف
عليها، ويطلب منها مساعدته على النهوض، وأحيانًا أخرى كانت تتصور أن
ذلك مجرد حلم، وأنها ستفيق منه وستستمع إليه وهو يسير في غرفته، وكيف
تُصلصِل الملعقة في كوبه؛ لأنه كان يمشي جيئة وذهابًا وهو يحمل كوبه
ليصب فيه شايًا ثقيلًا، لكن الأصوات من الغرف المجاورة أصبحت أكثر
ارتفاعًا ووضوحًا، راحت تستمع إلى حركة أقدام، وخطوات ما – أكثر وضوحًا
وأكثر اقترابًا، الأرجح أن الزوار دخلوا إلى غرفة مكتبه، عندئذٍ أدركت
بإحساس بالفزع أن كل ذلك يحدث بالفعل، وأنها لا تزال جاثية على ركبتيها
أمام زوج يحتضر – هو زوجها فيديا، الذي كان يأتي إليها كل مساء ليُعرِب
لها عن اعتذاره، أو يكتب لها من منتجع «إمس»، الذي كان يسافر إليه كل
صيف للاستشفاء، خطابات مُطوَّلة، ملتهبة ومبهمة، أو يُمثل أمامها مشاهد
الغيرة أثناء قراءتهما الأدبية، عندما تبادلت مع شخص ما كلمة، أو عندما
تصور أنها تنظر إلى شخص ما، فيعودان إلى المنزل بعدها كلٌّ على حدة،
لكنه لم يكن يحتمل، فيلحق بها ويطلب منها أن تسامحه، كان يقول لها إنها
إن لم تسامحه فإنه سوف يجثو أمامها هنا في الشارع على ركبتيه – كانت
تسامحه، ثم يسيران معًا – يتأبَّط ذراعها بحرص وينظر في عينيها، ثم بعد
أن يُوقِفها يهرع إلى المحل ويشتري لها كثيرًا من الحلوى والمكسرات
والزبيب والمُلبَّس، وعندما يعودان إلى المنزل كانا يشربان الشاي،
ويقدم لها وللأطفال الحلوى، وعندما يصيبها البرد كان ينفعل ويطلب منها
أن تكف عن العطس، فكانت تضحك، فيبدأ هو نفسه في الضحك، دخل القادمون
إلى غرفة المحتضر، اصطفوا في الناحية المواجهة لغرفة المكتب في نصف
دائرة مهيبة، دون أن تواتيهم الشجاعة بعدُ على الاقتراب من الأريكة حيث
يرقد، لكن المرأة الجاثية على ركبتيها، مُجسِّدةً الحزن، كانت تشعر
بأنفاس هؤلاء القادمين الذين — بناءً على قانون ما مكتوب، قانون لا
يعرف الرحمة — كان لديهم الحق الآن في زوجها، لقد استطاعت في حضورهم أن
تسمح لنفسها بالبكاء وأن تسقط في استسلام رأسها على يد المحتضر، أحدهم
راح يقنعها بأن تقف على قدميها وأن تتنفس قليلًا، بينما راح آخر بكل
لطف يقدم لها مقعدًا ويساعدها في حرص بالغ على النهوض، كانت أضواء
الشمعتين الموضوعتين على المكتب تنعكس على نوافذ الغرفة، أما الصورة
الفوتوغرافية للمادونا الستينية، المُحلِّقة في السُّحب مع وليدها،
فكانت مُعلَّقة هناك فوق الأريكة، التي يرقد عليها المحتضر، بينما ساد
ليل شتوي بطرسبورجي خلف النافذة – أغلب الظن أنه كان ليلًا مثل ليلتي
هذه الآن، على الأرجح، وقد غطت فيه الثلوج الشوارع، وعلى نفس النحو،
نفس السماء الليلية التي غرقت فيها قِباب كنيسة فلاديميرسكايا – ولكن
عندما سمعت أنَّا جريجوريفنا خطوات خفيفة ما راحت تقترب منها، ورأت
أمها، لم تتمالك نفسها وانفجرت في بكاء يقطع نِياط القلوب، مُلقِية
برأسها في صدرها، أما أمها فلم تتمالك نفسها وانخرطت بدورها في البكاء،
وإلى جوار المحتضر وقف الدكتور كوشلاكوف وقد انحنى قليلًا ممسكًا بيد
فيديا، التي راح نبضها يتلاشى رويدًا رويدًا، ناظرًا إلى ساعته الفضية
الكبيرة، كأن ذلك سوف يُغيِّر من الأمر شيئًا، سقطت أضواء الشموع على
اتساعها على وجه الميت، الذي ذاب بياضه تقريبًا مع بياض الوسادة، لولا
بعض من الظلال السوداء التي كانت تحيط عينيه، ولولا لحيته التي بدت
سوداء، كان يرتدي بدلته، التي ساعدته أنَّا جريجوريفنا في الصباح على
ارتدائها، كأنه شخص تلقَّى جرحًا مميتًا لتوِّه، كان صدره يعلو على نحو
متشنج، وهناك داخله كان يُسمَع صوت غرغرة مستمرة، تصعد إلى حلقه لتخرج
بصعوبة إلى الخارج من خلال فمه وأنفه، على هيئة رغوة دموية، بينما عادت
أنَّا جريجوريفنا لتجثو من جديد على ركبتيها بالقرب من الأريكة لتتصور
مرة أخرى أنها مجرد نوبة؛ لأنها تعلم أنه بعد النوبة كانت تظهر دائمًا
تلك الرغوة عند فمه، وأن شيئًا كان يغرغر في صدره، وأن كل ذلك سيمر،
وأنه سيفتح عينيه الآن، سينادي عليها، لكن حشد الزوار الذين اصطفوا
فيما يشبه المدرج، بعد أن شغلوا نصف الحجرة تقريبًا، كان يتمايل على
نحو ثابت، وعلى رأس كل هؤلاء المشاهدين مرَّ جريجوروفيتش بقامته
الطويلة وشعره الأشيب، هذا «الفرنسي»، كما كان الراحل يسميه منذ فترة
غير بعيدة، عندما رآه في إحدى قراءاته الأدبية يقبِّل يد أنَّا
جريجوريفنا، كان هذا واحدًا من مشاهد الغيرة التي قام بتمثيلها لأنَّا
جريجوريفنا في السنوات الأخيرة، لم يحب دستويفسكي جريجوروفيتش على وجه
الخصوص مطلقًا، لكنه بعد هذا المشهد أصبح يأتي على ذِكره بحقد
واستهزاء، وكان يسميه لسبب ما بالأفَّاق، ثم لينفصل بطريقة تخلو من
اللياقة عن جماعته، على أية حال، ربما يكون فيديا قد اكتشف أمر هذا
الرجل متأخرًا، بعد أن ظل هذا الأمر هاجسًا غامضًا يراوده، ففي تلك
السنوات، التي راح فيها أعضاء جماعة بانايف يضطهدونه، كان جريجوروفيتش
تحديدًا هو الشخص الذي سكن معه في فترة ما في شقة من الشقق المشتركة،
وقد قام آنذاك بدور الراعي والمحسن تقريبًا، والذي حمل معه رواية
«الفقراء» ليذهبا بها إلى نكراسوف، كما أصبح معروفًا فيما بعد بلا أدنى
شك — من مذكرات بانايفا التي كانت من الشخصيات الاجتماعية البارزة
آنذاك — أن جريجوروفيتش هو الذي نقل إلى جماعة بانايف – تورجينيف
ونكراسوف وبيلينسكي، تلك الكلمات الطائشة المستفزة، التي قالها عنهم
مؤلف «الفقراء» في نوبة صراحة إلى جاره حسن النية، الذي كان يقيم معه
في الغرفة المجاورة، والذي تطوع بنقلها إليهم، ثم ليعيد إليه فيما بعد
ما قاله هؤلاء الناس عنه من كلام ساخر وملاحظات لاذعة أحيانًا، ملقيًا
بذلك بذور العداوة، مشعلًا في الوقت نفسه مشاعر الكراهية بينهم، كانت
أم جريجوروفيتش فرنسية بالفعل، كما كانت — على ما يبدو — مُمثلة أو
راقصة، وكان جريجوروفيتش الشاب طويل القامة، طويل الساقين، باحثًا عن
المتعة، وكان دائمًا ما يقوم بتنظيم وقيادة حفلات الرقص، ينتقي أكثر
«خطوات» الرقص رقة، قائدًا خلفه أربعة أزواج من الراقصين، ثم يجثو على
ركبته أمام رفيقته على نحو ما رشيق ومتميز، والآن ها هو يعود ليقوم
بدور القائد، وهو يتحرك قليلًا تارة إلى اليمين، جاذبًا أنظار هذا
الحشد من الزائرين، ثم تارة إذا به يعلو عن الصف، سائرًا على أطراف
قدميه، مؤديًا بضع خطوات في الهواء متجهًا نحو الأريكة، بينما راح
الزوار يتحركون إلى الأمام مذعنين لإشارته، على أية حال، ربما بدا كل
ذلك خيالًا داعب أنَّا جريجوريفنا، حيث إنها كانت جاثية على ركبتيها
بالقرب من الأريكة، وقد أحنت رأسها بشدة فوق وجه المحتضر، ولم يكن
باستطاعتها أن ترى ما يحدث في الغرفة خلفها، كانت تستطيع أن تشعر وأن
تخمن فقط، وفضلًا عن ذلك، وبناءً على مقاطع من مدوناتها التي وردت في
يومياتها، كان جريجوروفيتش يأتي إليهم للزيارة نهارًا، ولكن على الجانب
الآخر، ما الذي منعه — وهو من علية القوم، والشخصية الودودة، فضلًا عن
أنه كان صديقًا سابقًا للمحتضر — ألَّا يبقى لكي يشاهد كل شيء إلى
النهاية؟ – الآن جلست أم أنَّا جريجوريفنا على المقعد، ثم أسندت يديها
إلى كتفي ابنتها، التي كانت جاثية لا تزال على ركبتيها بالقرب من رأس
الأريكة، على أية حال، فقد كان على أنَّا أن تنسحب لبضع دقائق لكي تذهب
لمتابعة الأطفال، الذين بقوا لليوم الثالث دون رعاية، عندئذٍ راح الحشد
الذي تجمع في الغرفة في التفرق على نحو مهيب؛ لكي يفسحوا لها الطريق،
والآن سجا الليل البطرسبورجي الحالك خلف النافذة، لتنعكس عليها فقط
صورة المادونا مع وليدها، وهي تحلق في السحب، وقد فقدا كلاهما جلالهما
التقليدي المقدس؛ لأن الحشد الذي يتحرك كثيرًا كان يحجب الشموع
المشتعلة هناك فوق المكتب، ولم يعد بمقدور ضوئها أن ينعكس على النافذة،
كان الدكتور كوشلاكوف، وقد راح ينحني قليلًا بين الفينة والفينة فوق
الأريكة، يجس نبض المحتضر، الذي بات ضعيفًا ومضطربًا، وذلك من قبيل
اللياقة بداهة، وعندما وصل الدكتور تشيريبنين، انضم إلى زميله وأخرج من
جيب صديريته نفس الساعة الفضية الكبيرة، ذات السلسلة الفضية أيضًا، وضع
يده على معصم المحتضر، الذي أصبح من المستحيل تقريبًا الإحساس بوجود
نبض فيه – لقد تبقى الآن بينه وبين هذا العالم مجرد خيط رفيع واهٍ،
لكنه يزداد ضعفًا مع مرور كل دقيقة، ها هو المحتضر يغرق دون رجعة في
هوة عميقة لا قاع لها، هوة أشبه بفوهة بركان، لعله الآن يتصور أنه يصعد
إلى أعلى جبل في العالم، جبل أعلى بكثير من كل تلك الجبال التي اعتلاها
أو حتى التي حاول اعتلاءها يومًا ما، وقد تصور أنه يفعل هذا بسهولة
مدهشة، إنه يسير بهذه البساطة كأنه لا يتسلق، وإنما يهبط إلى أسفل،
وأحيانًا كان يُخيل له أنه يطير بأجنحة لا مرئية، وفي نهاية الطريق،
عند قمة الجبل التي راح ينزلق عليها، أَعْشت الشمسُ هناك بصرَه للحظة،
رأى إلى أي حد كانت تلك الجبال التي ارتقاها من قبل، منخفضة وتافهة،
لقد كانت جميعها مجرد تلال بائسة، ومن قمة هذا الجبل الهائل انفتحت
أمامه ليس الأرض بأسرها وبما يعيشه سكانها من بطلان، فقط، بل ومعها
الكون كله بنجومه الضخمة الساطعة، وفي لمح البصر انكشفت له الأسرار
الرهيبة لهذا الكوكب السحيق، لكن الشمس في هذه اللحظة انطفأت ليغرق كل
شيء في ظلام سرمدي، تراصت حلقة المشاهدين بصورة تامة، لتنتقل بين صفوف
الحضور من واحد إلى الآخر زفرة الارتياح والهمس المكتوم، كما يحدث في
المسرح عندما تأتي الذروة بعد حل العقدة، كانت آخر خفقة للقلب حددها
الدكتور تشيريبنين، الذي وضع سماعته إلى صدر المحتضر، وبعدها ظل
محتفظًا بهذه الساعة باعتبارها أثرًا عائليًّا، حدث ذلك، وفقًا لأنَّا
جريجوريفنا، في الساعة الثامنة وثمانٍ وثلاثين دقيقة مساءً – أما
الأديب ماركوفيتش، الذي كان حاضرًا ضمن حشد المشاهدين، فقد نشر ملاحظته
في الصحيفة عن الساعات الأخيرة من حياته، معتبرًا أن لحظة النهاية كانت
في الثامنة وستٍّ وثلاثين دقيقة، بدأ الجمهور في الانصراف على مهل وقد
علا وجوهَهم حزنٌ يليق باللحظة، هذا التعبير الذي تغير، مع ذلك، في
اتجاه بعض الجلبة نظرًا للحركة باتجاه مدخل البيت، وكذلك ارتفع الهمس،
الذي تحول تدريجيًّا إلى حديث دنيوي، أو إلى نقاش عملي، وفي مقدمة
الجمع كان هناك — بطبيعة الحال — جريجوروفيتش، الذي راح يؤدي على
السُّلَّم «خطواته» المبتكرة، داعيًا الزوار المنصرفين أن يحذوا حذوه،
بعد انصراف الضيوف أضيئت الأنوار في كافة الغرف، كأن هناك احتفالًا
بالعيد في البيت، ظلت الأبواب مُشرعة تقريبًا، وقبيل لحظة غُسْل الجثة،
وصل فجأة شقيق أنَّا جريجوريفنا، الذي وصل صباحًا قادمًا من موسكو،
والذي لم يكن يعرف شيئًا عن وفاة صهره، لولا نفرٌ من البسطاء كانوا
يدقون بأقدامهم على السُّلَّم، يرتدون قفاطين طويلة من الجوخ، راحوا
يطلبون منه الإسراع في طلب تابوت لكاتب ما تُوفي هنا، وقد أوحت إليه
هذه الكلمات بفكرة رهيبة، وما هي إلا بضع ثوانٍ حتى كانت أنَّا
جريجوريفنا تبكي على كتف أخيها، إبان غُسْل الجثة وصل سوفورين٦٣ قادمًا مباشرة من المسرح، حيث كان يشاهد مسرحية لهوجو
بصحبة السيدة ستريبيتوفا، وقد أدهشه بياض جسد الميت، وكيف أن هذا الجسد
قد أصبح، الآن، مجرد قشرة – قلَّبوها ثم وضعوها في القش، نفس القش الذي
كان يستخدمه في المعتقل مرارًا كفِراش، يستحوذ — الآن — على هذا الجسد،
بحلول الساعة الثانية عشرة ليلًا كانت الاستعدادات الضرورية كلها قد
اتُّخذت – أرقَدوا المتوفَّى على طاولة وُضِعت على نحو مائل، وقد اكتسب
وجهه مظهر الجدية والسكينة، كما يحدث لدى كل الموتى وعلى النحو الذي
رسمه كرامسكوي، الذي حضر صبيحة اليوم التالي ومعه منصة الرسم والألوان،
وفوق رأس الميت، أسفل الأيقونة، كان هناك قنديل مضيء، وفوق يديه
المتقاطعتين على صدره وُضِعت الشموع، وحتى الرابعة أو الخامسة صباحًا
ظلت الأنوار مضاءة في كل غرف البيت، أما الآن فإن كل النوافذ في هذا
البيت الذي أقف قبالته باتت مظلمة، كأن أحدًا لم يعد يسكنه، فقط كانت
نوافذ ناصية البيت، التي كانت تجسد — كما يبدو — مثلها مثل كافة نواصي
البيوت التي يختارها للسكن، القمة التي كان يسعى دائمًا إليها، كانت
هذه النوافذ تلمع بضوء خافت وبقع ضوئية مُلوَّنة، لعل ذلك كان مرجعه
تلك الأضواء البعيدة المتلألئة لهذا الكرنفال الليلي الصاخب في شارع
نيفسكي، أما باقي النوافذ الزجاجية الكبيرة في سوق كوزنيتشني، وكذلك
النوافذ الصغيرة ذات السياج لكنيسة فلاديميرسكايا، التي كانت تضم
مخزنًا أو مستودعًا ما، فقد غرقت جميعها في السكون، كانت الرياح تصفر
عند تقاطع الطريق من الجهات الأربع، فيتطاير الثلج مكونًا ما يشبه
العاصفة الثلجية – دنوتُ من البيت، على اللافتة المعلقة بالقرب من
ناصيته كان مكتوبًا: «شارع دستويفسكي»، ولكنني وددت لسبب ما لو أنه ظل
شارع «يامسكايا» كما كان اسمه سابقًا، سرت بالقرب من هذا البيت في شارع
يامسكايا، الذي أُقيم فيه صف واحد مستقيم من أعمدة الإنارة النادرة،
باهتة الضوء، وقد راح ضوءها يتلاشى في مكان بعيد، بالقرب من هذه البيوت
الأخرى التي تشبهه، أو تشبهه تقريبًا، وهي بيوت حكومية، ذات طوابق أربع
أو خمس، لها مداخل عميقة سوداء، يؤدي إلى فناء بطرسبورجي تقليدي يشبه
البئر، مررت بواحد من هذه الأفنية لكي أعايش روح المكان أكثر، من
الفناء الخالي، المحصور بين أربعة جدران داخلية، وعبر هذه المساحة كان
من الممكن العبور إلى الفناء الآخر، وهذا الفناء الخالي رباعي الزوايا،
بالمساحة الخالية فيه، يؤدي إلى الفناء التالي، سرت في شارع يامسكايا
المغطَّى بالثلج والخالي تقريبًا من البشر، وعلى امتداد الرصيف كانت
هناك أكوام من الثلج، كانت العاصفة الثلجية تدور حولها، أما حذائي الذي
كان يصرصر تحت قدمي، فكانت تبدو عليه بعض البقع الضوئية، وكأني أرتدي
حذاءً أبيض شتويًّا من اللباد، سرت بجانب بيوت حكومية ذات حوائط ضخمة
ونوافذ صامتة أو إضاءات خافتة، كأن الكهرباء بها تضيء بنصف توهجها، أو
كأن التي تضيء هناك مصابيح تعمل بالنفط، كما كان يحدث في زمن الحرب،
وبالقرب من واحد من هذه البيوت عُلِّق إعلان أُلصق بعناية كُتب عليه:
«أغلِق الباب بإحكام، وَفِّر الدفء»، وبطبيعة الحال فقد تراءت أمامي
على الفور ليننجراد إبَّان الحصار، على نفس النحو الذي تخيلتُه كما
وصفَتْه الصحف والكتب وحكايات شهود العيان، وحكايات جيليا على وجه
الخصوص، الأرجح أن هذه المدينة لا تزال تحتاج إلى الدفء حتى الآن؛ إذ
لا تزال الذاكرة حية حول ذلك الشتاء الرهيب، شارع يامسكايا، لا ينعطف
يمينًا أو يسارًا، بل يسير مباشرة وقد اكتسى بالثلج، وعلى جانبه نفس صف
أعمدة الإضاءة، التي تتلاشى بعيدًا، في الحقيقة ما الذي جاء بي إلى
هنا؟ – ما الذي جذبني وشدني على هذا النحو الغريب إلى حياة هذا الرجل،
الذي احتقرني («عن قصد»، و«عن علم»، كما كان يحب أن يعبر على نحو مهذب)
أنا ومن هم على شاكلتي؟ – ألمْ آتِ إلى هنا لأسير تحت جنح الليل، مثل
لص، في هذه الشوارع الخالية من البشر، المكسوَّة بالثلج؟ – ألمْ آتِ
إلى هنا لأزور شقته، المتحف في حارة كوزنيتشني أو لأرى أي أماكن أخرى
ارتبطت به؟ لقد عَلِقتُ على نحو ما بهذه الناحية أو هناك ورائي، كأنني
وقعت هنا بمحض الصدفة، كما لو أن كل ذلك لم يعجبني؟ – ألم أرَ، عند
جيليا، فيما يرى النائم في تلك الليلة «البعيدة» (كما كان سيقول)، كيف
راح أشعيا فوميتش يخاطبها، في نهاية الأمر، أكانت مجرد محاولة بائسة من
جانب لا وعيي «لتقنين» ولعي به؟ – الشارع، الذي كنت أسير فيه، والذي
يلقي بالبقع المضيئة على حذائي الشتوي، كان من الممكن أن يأخذني إلى
بعيد جدًّا، إلى حي مجهول، لعله من الصعب أن أخرج منه – عرَّجتُ على
إحدى الحارات الجانبية وشاهدت أمامي شارع ليجوفكا، الذي أنقذني بعربات
ترامه، يُخيَّل إليَّ أن الحارة كان اسمها حارة سفيتشني، تتفرع من شارع
ما اسمه بوروفويا، اسما الحارة والشارع كانا اسمين قديمين، كما كانا
منذ مائة عام مضت، فكرت أنه قد قطعهما — على الأرجح — أكثر من مرة، عند
مفرق هذين الطريقين كان هناك إما مُصلًّى صغير قديم، وإما كنيسة دون
قبة، يحيط بها ثلج متلألئ ناصع البياض، كان المكان مضيئًا هنا تمامًا –
إما لقربه من شارع ليجوفكا، وإما من أثر الثلج المتلألئ الناصع البياض،
عائلة ما – والدان يرتديان ملابس بالية فقيرة، معهما طفلة تبلغ من
العمر سبع أو ثماني سنوات، ترتدي أيضًا معطفًا باليًا، مرت العائلة
بالقرب من المُصلَّى الصغير السابق أو من الكنيسة، كانت وجوههم بيضاء
فنلندية، الأب — الذي كان يمشي في الخلف قليلًا مترنحًا — لَحِق بزوجته
والفتاة، ثلاثتهم سقطوا في كومة ثلج، نهضت الفتاة أولًا، نفضت عن نفسها
الثلج، راحت تقول شيئًا ما لوالديها، اللذين لم يستطيعا النهوض بسرعة
وحماسة، وعندما نهضا ليواصلا سيرهما لاحظت أن أم الفتاة كانت تمشي
مترنحة أيضًا، سارت الفتاة في المقدمة، مثل الذي يقود عميانًا،
أو — ربما — خَجْلى ببساطة من والديها، عند هالات أعمدة إضاءة حارة سفيتشني
راحت نُدَف الثلج تدور – اقتربتُ من شارع ليجوفكا، وهناك، ورائي في
مكان ما، كان الطريق شبه مظلم، شارعًا مستقيمًا لا نهاية له، مُغطًّى
كله بالثلج، تقطعه ريح ثلجية، تكدست فيه أكوام الثلج، خيَّم الصمت على
المباني الحكومية، أما أكثر البيوت صمتًا وظلامًا فكانت تلك البيوت
القائمة على النواصي – ما هي إلا بضع دقائق حتى وصلت بعدها بالترام إلى
بيت جيليا، وبعد نصف ساعة عدت لأجلس مرة أخرى لأتحدث معها، كنا جالسين
على أريكة موزيا سابقًا، وقد راحت تحكي لي عن الحصار وعن موزيا وعن
العام السابع والثلاثين، وخلف النوافذ أسدل الليل الشتوي البطرسبورجي
سُتُره، وعندما كان الترام في الأسفل يسير مصلصلًا في الشارع كان البيت
كله، ومعه مصباح موزينا، يرتجَّان مثل سفينة تقف إلى جوار رصيف
المرسى.
١
راسكولنيكوف: بطل رواية «الجريمة والعقاب». (المترجم)
٢
«المادونا الستينية»: لوحة رفائيل سانتي (١٤٩٣–١٥٢٠م) الشهيرة،
رسمها في الفترة من ١٥١٥م إلى ١٥١٩م. (المترجم)
٣
هولباين الصغير (بالألمانية: Hans Holbein der
Jüngere) (١٤٩٧–١٥٤٣م): فنان ألماني من عصر
النهضة، ويُعتبر من أكبر رسَّامي البورتريهات في عصره، والده هو
الرسَّام هانز هولباين الكبير. استقر في إنجلترا تمامًا منذ عام
١٥٣٢م، وكان قد نال حُظوة كبيرة عند ملوك إنجلترا، وأصبح رسَّام
البلاط. (المترجم)
٤
كريفتسوف: من رواية «ذكريات من منزل الأموات». ضابط برتبة ميجر،
رئيس السجن، قام بتعذيب دستويفسكي. (المترجم)
٥
جوستيني دفور: في المدن الروسية القديمة مجمع معماري تجاري مربع
الشكل تحيطه بواكٍ ذات أعمدة ومحالٌّ ومخازن تطل عليها. وفى مدينة
بطرسبورج يقع في شارع نيفسكي الشهير، ولا يزال قائمًا حتى الآن
بنفس الاسم. (المترجم)
٦
إيفان نيكولايفيتش كرامسكوي (١٨٣٧–١٨٨٧م): رسَّام، صاحب أشهر
الصور الشخصية لكُتاب مثل تولستوي ونكراسوف، تعرف على دستويفسكي
عام ١٨٨٠م في بيت الكاتب سوفورين. (المترجم)
٧
تفير: الاسم القديم لمدينة كالينين. (المترجم)
٨
في المسوَّدات الأولى لرواية «الشياطين» كان ستافروجين يظهر تحت
اسم الأمير، وكانت زوجته أيضًا تسمِّي ستافروجين بالأمير، الأعرج.
(ملحوظة المؤلف)
٩
فيرخوفينسكي: من أبطال رواية «الشياطين». (المترجم)
١٠
الأضواء البنغالية: نور أزرق (أو نار زرقاء) تُستعمل في المسارح
وفى الألعاب النارية. (المترجم)
١١
ماكار ديفوشكين: بطل رواية «الفقراء». (المترجم)
١٢
ليامشين: من أبطال رواية «الشياطين». (المترجم)
١٣
شاتوف: من أبطال رواية «الشياطين». (المترجم)
١٤
بالينا ألكسندروفنا: البطلة الرئيسة لرواية «المقامر»، وهي تجسيد
لشخصية صديقة دستويفسكي أبوليناريا سوسلوفا. (المترجم)
١٥
يليزافيتا تاراكونوفا (حوالي ١٧٤٥–١٧٧٥م): ادَّعت أنها ابنة
الإمبراطورة يليزافيتا بتروفنا، وأعلنت أن لها الحق في عرش روسيا،
في عام ١٧٧٥م تم سجنها في قلعة بتروبافلوفسك. (المترجم)
١٦
ميخائيل لومونوسوف (١٧١١–١٧٦٥م): أول عالم روسي في العلوم
الطبيعية، وهو شاعر، ومؤرخ، وعالم لغة، تَحمِل جامعة موسكو اسمه.
(المترجم)
١٧
بطرس الأول (الأكبر) (١٦٧٢–١٧٢٥م): قيصر روسيا منذ عام ١٦٨٢م،
مؤسس مدينة سان بطرسبورج. (المترجم)
١٨
سالتيكوف-شيدرين (١٨٢٦–١٨٨٩م): كاتب وتنويري روسي.
(المترجم)
١٩
«تجلِّي المسيح على الشعب»: أشهر لوحات الفنان الروسي ألكسندر
إيفانوف (١٨٠٦–١٨٥٨م). (المترجم)
٢٠
ألكسندر هيرتسن (١٨١٢–١٨٧٠م): ثوري روسي، كاتب وفيلسوف، من أشهر
أعماله: «مَن المذنب؟»، أصدر صحيفة «الجرس» فضح فيها الاستبداد في
روسيا. (المترجم)
٢١
نيللي: بطلة رواية دستويفسكي «المُذَلون المهانون».
(المترجم)
٢٢
نيتوتشكا: بطلة رواية دستويفسكي «نيتوتشكا نيزفانوفنا».
(المترجم)
٢٣
ماتريوشا: من أبطال رواية «الشياطين». (المترجم)
٢٤
بانايف، إيفان إيفانوفيتش (١٨١٢–١٨٦٢م): أديب، وصحفي، ناقد، مؤسس
مشارك مع نكراسوف لمجلة «المعاصر»، الزوج الأول لأفدوتيا بانايفا،
التي وقع دستويفسكي في هواها، لينقطع عن زيارة الأسرة وعن حلقة
بيلينسكي، بعدما رفض دستويفسكي الانضمام لمعسكر «المعاصر»، لينشر
أعماله بعد ذلك في «حوليات الوطن». (المترجم)
٢٥
نكراسوف، نيكولاي ألكسييفيتش (١٨٢١–١٨٧٧م): كاتب، وناشر لعدد من
التقاويم الأدبية، وناشر، ورئيس تحرير مجلة «المعاصر».
(المترجم)
٢٦
تورجينيف، إيفان سيرجييفيتش (١٨١٨–١٨٨٣م): كاتب، مؤلف «مذكرات
صياد»، و«مياه الربيع»، و«آسيا»، و«الحب الأول»، و«رودين»،
و«الآباء والبنون». (المترجم)
٢٧
بيلينسكي، فيساريون جريجوريفيتش (١٨١١–١٨٤٨م): أبرز نقَّاد زمنه
وأكثرهم نفوذًا، تعرف عليه دستويفسكي في مطلع عام ١٨٤٥م عندما قرأ
مخطوطة «الفقراء». (المترجم)
٢٨
الليالي البيضاء: ظاهرة جغرافية يظل الليل فيها مضيئًا، وتحدث في
مطلع الصيف في نصفَي الكرة الأرضية الأعلى والأدنى عند خطوط العرض
فوق ٦٠، عندما يكون مركز الشمس على الأفق، تستمر الليالي البيضاء
في بطرسبورج من ١١ يونيو وحتى ٢ يوليو. (المترجم)
٢٩
جونتشاروف، إيفان ألكسندروفيتش (١٨١٢–١٨٩١م): كاتب، مؤلف روايتَي
«قصة عادية» و«أوبلوموف». تعرَّف عليه دستويفسكي عام ١٨٤٦م، لم يكن
دستويفسكي على علاقة ودية به وإن أشاد بروايته «أوبلوموف».
(المترجم)
٣٠
ليتفينوف: اسم بطل رواية تورجينيف «الدخان»، والإشارة هنا إلى
تورجينيف نفسه مؤلف الرواية. (المترجم)
٣١
باتوجين: أحد أبطال رواية «الدخان». (المترجم)
٣٢
Unordnung بالألمانية تعني فوضى.
(المترجم)
٣٣
«فريميا» (الزمن): اسم نشرة الأخبار. (المترجم)
٣٤
«زفيوزدا» و«كومسومولكا»: صحف سوفيتية. (المترجم)
٣٥
المانك manqué: سلسلة أرقام من ١
إلى ١٨ يُراهَن عليها في الروليت. (المترجم)
٣٦
باص passé: تخلِّي لاعب القمار
عن الاستفادة من دوره في اللعب. (المترجم)
٣٧
جروشينكا مينيشوفا – النموذج الأصلي لجروشنكا سفيتلوفا، بطلة
رواية «الإخوة كارامازوف». (ملاحظة للكاتب)
٣٨
المقصود هنا هو السيد المسيح. (المترجم)
٣٩
روزانوف، فاسيلي فاسيليفيتش (١٨٥٦–١٩١٩م): كاتب وفيلسوف روسي، له
دراسات نقدية هامة عن جوجول ودستويفسكي، من أشهرها: «أسطورة المفتش
الأعظم» – تزوج من أبوليناريا سوسلوفا، صديقة دستويفسكي السابقة في
نفس عام وفاة دستويفسكي. (المترجم)
٤٠
الفنان هو ماتياس جرونيفالت (١٤٧٠–١٥٨٥م): رسَّام للأعمال
الدينية من عصر النهضة. (المترجم)
٤١
قصر الكريستال: قصر مصنوع من حديد الزهر والزجاج، أُقيم للمرة
الأولى في هايد بارك في لندن لاستقبال المعرض العالمي عام ١٨٥١م.
(المترجم)
٤٢
كرامسكوي، إيفان نيكولايفيتش (١٨٣٧–١٨٨٧م): رسَّام روسي قام برسم
معظم الأدباء الروس في عصره. (المترجم)
٤٣
بالطو يشبه بدلة المايسترو. (المترجم)
٤٤
قصر الكريستال: هو قصر للمعارض مصنوع من الحديد الزهر والزجاج،
أُقيم للمرة الأولى في هايد بارك لاستقبال المعرض العالمي لعام
١٨٥١م، أول معرض عالمي، تم تفكيكه في وقت لاحق، وأُعيد بناؤه بشكل
موسع جنوب لندن. احترق القصر في عام ١٩٣٦م. كان قصر الكريستال أكثر
وجهة سياسية، وجذب الناس من جميع الخلفيات الاجتماعية.
(المترجم)
٤٥
السريناد: لحن يُعزَف أو يُغنَّى ليلًا في الهواء الطلق، وبخاصة
من قِبل عاشق تحت نافذة محبوبته. (المترجم)
٤٦
الترويكا: عربة تجرها ثلاثة خيول. (المترجم)
٤٧
الديسمبريون: ثوريون روس من النبلاء انتفضوا في ديسمبر عام ١٨٢٥م
ضد الحكم المطلق والعبودية والإقطاع. كان معظمهم من الضباط.
(المترجم)
٤٨
العصر الذهبي: في تصور العديد من شعوب العالم القديم هو فجر
الوجود الإنساني، عندما كان الناس يعيشون شبابًا خالدًا، لا يرهقهم
الهم أو الأحزان، عندما كانوا مثل الآلهة وإن كانوا يذوقون الموت،
ولكن مثل حلم لذيذ يأتيهم. وفى المعنى المجازي فالعصر الذهبي هو
زمان ازدهار الفن والعلم أو الزمن السعيد. (المترجم)
٤٩
الحديث يدور هنا عن التاجر روجوجين بطل رواية دستويفسكي
«الأبله». (المترجم)
٥٠
محطة موسكو للقطارات في ليننجراد. (المترجم)
٥١
طعام يهودي مكون من الخضراوات المُحلَّاة. (المترجم)
٥٢
رومان رولان (١٨٦٦–١٩٤٤م): كاتب فرنسي، وعالم في الموسيقى،
وشخصية اجتماعية وسياسية بارزة. مؤلف الرواية-الملحمة «جان
كريستوف». كتب مقالات عديدة ضد الحرب الإمبريالية. رحب بثورة
أكتوبر عام ١٩١٧م. حاصل على جائزة نوبل عام ١٩١٥م.
(المترجم)
٥٣
هي نفسها مدرسة الهندسة التي درس بها دستويفسكي.
(المترجم)
٥٤
في ربيع عام ١٨٤٦م عاش دستويفسكي في شارع ميشانسكايا الكبير، وفى
الفترة من عام ١٨٦٤م إلى ١٨٦٧م عاش في شارع ميشانسكايا الصغير في
منزل التاجر ألونكين، حيث كتب روايته «الجريمة والعقاب»، وتعرف فيه
على أنَّا جريجوريفنا، وكتب فيه روايته «المقامر».
(المترجم)
٥٥
حارة ستوليارني (حارة النجارين): الحارة التي عاش فيها
راسكولنيكوف بطل «الجريمة والعقاب». (المترجم)
٥٦
لوبا: اسم التدليل للوبوف، وهي لوبوف فيودوروفنا ابنة فيودور
دستويفسكي. (المترجم)
٥٧
ما زال الناس في ليننجراد يسمون القلم الذي يستخدمونه في الكتابة
بالمقلمة. (ملاحظة للمؤلف)
٥٨
الماسلينيتسا: عيد ذو أصول وثنية قديمة، يرتبط باستقبال فصل
الربيع، ويسبق عيد الفصح بثمانية أسابيع، ويستمر سبعة أيام من
نهاية فبراير ومطلع مارس، ويأتي بعده الصوم الكبير.
(المترجم)
٥٩
باشا: بافل ألكسندروفيتش إيسايف: ربيب دستويفسكي، ابن زوجته
الأولى ماريا إيسايفا. كان ضد زواج دستويفسكي من أنَّا جريجوريفنا،
وظل يعاملها معاملة سيئة، ولم تكن هي تحمل له أي مشاعر طيبة.
(المترجم)
٦٠
ديساتينا: وحدة القياس في روسيا قبل الثورة، وتساوي هكتارًا.
(المترجم)
٦١
إنجيل متى، ٣: ١٥. (المترجم)
٦٢
جريجوروفيتش، ديمتري فاسيليفيتش (١٨٢٢–١٩٠٠م): كاتب روسي، درس مع
دستويفسكي في مدرسة الهندسة، عاش معه في شقة واحدة، وكان شاهدًا
على تاريخ كتابة رواية «الفقراء»، ساءت علاقتهما فيما بعد.
(المترجم)
٦٣
سوفورين، ألكسي سيرجييفيتش (١٨٣٤–١٩١٢م): أديب وصحفي، رئيس تحرير
«العصر الحديث»، كتب عنه دستويفسكي كثيرًا على نحو سلبي في «مذكرة
الكاتب»، بينما ذكرت أنَّا في مذكراتها أن سوفورين كان يحمل مشاعر
طيبة لزوجها. (المترجم)