أندريه أوستينوف
١
وهكذا ظهرت «صيف في بادن» في سياق الأدب العالمي، وإن غابت في واقع الأمر عن الأدب الروسي. أما واقعة تأخُّر نشرها في الأدب الروسي فهي ليست بالأمر الاستثنائي. فعادةً ما كان مثل هذا النشر يأتي مصحوبًا بروح استرجاع العدالة التاريخية بالنسبة إلى الكاتب وعمله. وبالنسبة إلى «صيف في بادن» فإن هذا الانتظار الطويل لم يكن مبررًا؛ فما الذي يمكن أن يضاف إلى مجاملات أفضل نقَّاد مجلات عروض الكتب في العالم؟! إن المقدمة — على أية حال — مهما كان قدر المغامرة فيها، لا تستطيع بدرجة كافية أن تشرح القيمة الرفيعة للرواية، ناهيك عن أهميتها للأدب، الذي تنتمي إليه.
يمكن أن نعتبر أن الطبعة الروسية فرصة مُقدَّمة للقُرَّاء الروس لكيلا يقرءوا الرِّواية مُترجَمة، ها هي الرِّواية بلغتها الأصلية، أي بالروسية، في صورتها الكاملة وفي طبعة مستقلة، بعد ما يزيد على عشرين عامًا من كتابتها. سوف يكون علينا أن نضيف بعض التفاصيل على مقدمة الرِّواية، وهي تفاصيل تمثل أهمية فائقة بالنسبة إلى القارئ الروسي تحديدًا.
٢
وبنفس الروح حاولت زونتاج التغلب على السعي التقليدي لإدراج هذا الأدب الروسي في قائمة أدب «الانشقاق». ومع ذلك فقد تشبث بعض النقاد بقشة «الرفض»، مفسرين انعدام شهرة الرِّواية بهذه الحواجز الاجتماعية تحديدًا.
لا تشبه شخصية تسيبكين أي نموذج مميز لزمنه؛ فهو رجل شديد الإتقان إلى حد الهوس، ناسكٌ مفرط الحساسية، يكتب لنفسه فقط، وباستثناء دائرة أسرته المُقرَّبة، لم يعرض ما كتبه على أحد، فضلًا عن أنه لم يحكِ لأحد أبدًا أنه يكتب «للدرج». اغترابه المطلق عن العملية الأدبية، سواء شبه الرسمية أو السرية تحول إلى موقف أدبي لأسباب شخصية بالأحرى، وليس لأسباب اجتماعية. عدد قليل من الأحداث الأدبية في سيرته تم رصدها بسهولة، ويبدو لنا كذلك أن «النزهة بصحبة دستويفسكي» على امتداد حياته بأكملها تتيح لنا إمكانية النظر في علاقاته المعقدة والمتنوعة، الحساسة والمتشابكة بالوسط الأدبي.
الشريك الثاني في نشر الرِّواية هو يفجيني روبين، رئيس تحرير «نوفايا جازيتا». وقد جاء في مقاله الذي صدر قريبًا عن هذا الموضوع قوله: لقد قصَّت سوزان زونتاج كيف اكتشفت هذه الرِّواية في محل لبيع الكتب المستعملة في لندن، التي نشرت في طبعة محدودة تحت اسم «صيف في بادن»، كما أوضحت أنه لما كانت مخطوطة الرِّواية قد اختفت للأبد، فقد تم نشر الرِّواية استنادًا إلى المصدر الوحيد الباقي، وهو «نوفايا جازيتا». في الحقيقة فقد ظلت المخطوطة سليمة، وقد طبعت الرِّواية استنادًا إليها، وبعبارة أكثر دقة، بناءً على المخطوطة التي كُتبت على آلة كاتبة من غنائم الحرب من طراز «إريكا».
في شتاء عامَي ١٩٨٦–١٩٨٧م نُشرت الرِّواية في مجلة «٢٢» الإسرائيلية في جزأين في عددين منفصلين، وقد صاحبتها شعارات بدائية تقول: «في اتجاه الخير والشر؛ رِواية ليونيد تسيبكين» «عن حياة دستويفسكي»، و«عظمة دستويفسكي وسفالته؛ رواية ليونيد تسيبكين «صيف في بادن»»، ودَعَت هذه الشعارات إلى تبرير ظهور دستويفسكي في مجلة تصدر في أورشليم، تُعنَى بقضايا الشتات اليهودي السوفيتي. وإلى جانب سعيها لاستغلال رِواية تسيبكين سياسيًّا وقوميًّا، فقد ارتكبت إدارة تحرير المجلة جرمًا لا يُغتفَر في حق الرِّواية؛ إذ قررت لسببٍ ما أن من الممكن إعادة تحريرها، دون أن تأخذ في الاعتبار لا القُرَّاء ولا ابن الكاتب. لقد تم قلب الرِّواية رأسًا على عقب، على نحو وقح، على الرغم من وجود قاعدة ذهبية للتحرير تقضي بأنه لا يجوز إعادة تحرير نصوص المؤلفين الذين رحلوا عن العالم. وإلى جانب التصحيحات الأسلوبية غير الملائمة للنص، قررت هيئة التحرير عمومًا أن تختصره. وهكذا اختفت من الرِّواية خمس عشرة صفحة تقريبًا من النص الأصلي، وقد ظهرت نتيجة هذا الانتهاك الصارخ، للأسف، على النص الأساسي المُعَد للنشر، بعد أن قطع الابن الأمل في نشره في روسيا. أشير هنا إلى أن الطبعة الحالية للنص قد تم ضبطها وفقًا للمخطوطة التي كتبت على الآلة الكاتبة مع الملاحظات والتصحيحات والتعليقات التي وضعها المؤلف.
وإلى جانب نفاد الطبعة بصورة فعلية، بسبب فكرتها الرائعة وإخراجها الجيد، كان هناك عاملان آخران أكدا عليهما؛ الأول: الحاشية التفسيرية التي وضعتها دار النشر على الغلاف، المفاجئ بالنسبة إلى نهاية التسعينيات الذي حمل روح الكليشيهات السوفيتية: «منتخب أعمال كاتب غير محترف …» وقد علَّق أحد القُرَّاء بقوله: «مثل هذا الكتاب لا يشتريه أحد.» الثاني: أن الإتلاف الذي حدث للنص لا يتحمل وزره المحرر، وإنما جاء لخطأ وقع بمحض الصدفة، وقد تكرر هذا النص في الكتاب الذي صدر في مجلة «٢٢». على أية حال فإن الإصلاحات التحريرية المنفردة قد تمت «في المكان» المناسب، على الأرجح، حتى يمكن إصلاح الأخطاء المطبعية الصارخة التي تم تنضيدها على الكمبيوتر. بدت الاختصارات التي جرت للسرد غير ملحوظة، ومع ذلك فهذه الطبعة تثير الإحباط. ومع علمنا بدقة المؤلف في اختيار الكلمات، والإتقان في بناء العبارات، فلا يمكن اعتبار أي تغييرات في النص أمرًا مقبولًا. إن الرِّواية الأخيرة لتسيبكين، دون أدنى شك، هي النص الأهم في تراثه الأدبي.
٣
بتتابع الظروف التاريخية أصبحت «صيف في بادن» تؤدي دور الخاتمة، التي تنتهي بها فصول تطور «الرِّواية الروسية العظيمة». ولمَّا كان هذا التعريف ذاته يُعَد على الأرجح تعريفًا ميتافيزيقيًّا، أكثر من كونه تعريفًا أدبيًّا، فعند إعداد قائمة بالكُتَّاب الروس سنجد أنه إلى جانب الأسماء المتوقعة لكل من ليف تولستوي وفيودور دستويفسكي، يصبح إدراج غيرهم في القائمة أمرًا فرديًّا في كل حالة على حدة. والذين اهتموا بهذه القائمة سيجدون أن كلًّا منهم طرح، أو ربما أجاب، أو لعله رفض الإجابة على «الأسئلة الخالدة» للوعي الذاتي الروسي. وفي الحالة الراهنة يمكن القول إن هذه الرِّواية تأتي استكمالًا للتقاليد الأصيلة للأدب الروسي، ومواكبة ﻟ «الاتجاه السائد» في النثر الروسي (لا يوجد مصطلح آخر أكثر ملائمة).
من ناحية الشكل، فإن «صيف في بادن» لا تتفق إطلاقًا والمهمةَ الإبداعية المنوطة بها، فهذه، أولًا وقبل كل شيء، رِواية قصيرة للغاية، لكن الأمر الأكثر مفاجأة للقارئ هو أنه وعلى الرغم من الحيز المحدود للنص، فإننا نجد أن هذا الحيز الأساسي يتطور سريعًا ليشمل سردَين معًا في الوقت نفسه؛ حياة القاصِّ وسيرة حياة بطله.
… لماذا يذهب الآن إلى بطرسبورج وليس إلى ليننجراد، إلى بطرسبورج؛ ليسير عبر هذه الشوارع، التي قطعها هذا الرجل صاحب الساقين القصيرتين، متوسط القامة (مثله — على الأرجح — مثل غالبية سكان القرن الماضي على أية حال) هذا الرجل ذو الوجه الذي يشبه وجه حارس كنيسة أو جندي أُحيل على التقاعد؟
تتكون الرِّواية من ضفيرة من عصور مختلفة تتشابك مع بعضها البعض، وهي تُدير السرد، تُطوِّره وتنعطف به، بحيث تقدم كل الأحداث والشخصيات العابرة على قدم المساواة. إن الكاتب العظيم يوجه اهتمامه للشخصية الأدبية، والرِّواية تقدم محصلة دراسة مُحكَمة لدستويفسكي، تضع مفهومًا عامًّا لمعنى دستويفسكي في الوعي القومي، بل إنها تضع فكرة الوعي القومي بصفة عامة على المحك.
على امتداد رحلته يواصل تسيبكين الحركة في اتجاه دستويفسكي، متجنبًا الوقوع أسيرًا لحيرته الشخصية التي تثيرها هذه «الأسئلة الخالدة». إن الشجاعة التي طرح بها هذه الأسئلة شخص من عصر آخر، يفسرها لنا الاعتراف بهذه «الموهبة الفريدة لهذا التحليل النفسي والتعاطف»، وهما الشرطان الرئيسان اللذان صنعا من دستويفسكي «كاتبًا كبيرًا» كما قال يوسف برودسكي.
بالنسبة إلى تسيبكين فإن تراث دستويفسكي الأدبي أصبح «صك الأمان» في رحلته. يتسلل الزمن إلى الرِّواية في التفاصيل العابرة والتنويهات والتلميحات والاستشهادات، مستندًا في ذلك إلى المخطوطات النموذجية للنثر الروسي.
يتصرف تسيبكين كالمصور الفوتوغرافي، الذي يُصاب بالدهشة بعد إظهار الفيلم، عندما يجد في الصورة شيئًا ما غير متوقع؛ الأمر الذي يجعل الصورة تتخذ معنًى مغايرًا تمامًا. في الصور الفوتوغرافية، التي يضمها ألبوم أماكن دستويفسكي نشاهد بيوتًا للسكنى بالإيجار وفيلَّات تسد الطريق أمام المشاة، الذين لا يلاحظون الزخارف العزيزة على الكاتب. هذه البيوت أصبحت جزءًا من شخصية وأسطورة بطرسبورج بفضل وجود دستويفسكي، لكن قيمة الصور الفوتوغرافية تكمن في أمر آخر؛ لقد احتفظت لنا بصورة ليننجراد سبعينيات القرن العشرين، ففي شخصيات المارة العابرين، الذين ارتدوا ملابسهم وفق موضة ذلك الزمن، وفي اللافتات المُعلَّقة على البيوت في هذه الصور تم تسجيل بصمة الزمن.
وبنفس الطريقة نجد أن الكاتب، بعدما كتب ما لم يخطر على باله مطلقًا على نحو مفاجئ، إذا بالدهشة تصيبه بحق من أثر هذا التداعي في الأفكار الذي حدث له، فتسيبكين عندما وقف عند مدخل مصنع إيجورسكي، استشهد ببيت من قصيدة لبوشكين، وهذا البيت يكشف لنا كل «طريقته في التفكير»، وهو يعمد في البداية إلى السخرية من تداعياته الشخصية، ثم يذهب فيصب سخريته على الدراسات الخاصة ببوشكين، وأخيرًا تنصب سخريته على عبادة بوشكين على وجه العموم:
في سياق هذه القراءة يصبح مفهومًا لنا أن البيت الذي كتبه بوشكين يظهر في الرِّواية عن قصد تمامًا، وترجع أهميته لكونه يدفعنا لأن نلاحظ أنه «من المستحيل أن نجد هناك شخصًا شديد الولع ببوشكين مثلما كان دستويفسكي». وهنا سنجد أن مبدأ السخرية من المتخصصين في بوشكين، الذين «سوف يقومون بتحليل إيقاع ووزن هذه المقطوعة الشعرية أو تلك، ويكتشفون وهم يتجادلون حتى أعلى درجات الغضب والإعياء في محافل الدراسات الأدبية حول التاريخ الدقيق، والدوافع وراء هذا وذاك، والموضوع المكرَّسة له هذه القصائد»، ليس سوى مدخل فقط نحو الحديث التالي حول «دارسي دستويفسكي».
لا تزال «الأسئلة الخالدة» مطروحة على امتداد الرِّواية، لكنها تظل من دون إجابة، لتنتقل إلى مرتبة المسائل البلاغية. على هذا النحو — تحديدًا — ظلت قضية مُعاداة السامية عند دستويفسكي مُعلَّقة، وإلى الآن لا يزال «المختصون في دستويفسكي» والباحثون في تاريخ الثقافة الروسية في القرن التاسع عشر يتطلعون إلى الإجابة عليها. أما النقَّاد فقد انشغلوا بما ورد بشأنها في «صيف في بادن». سنجد واحدة من المقالات النقدية مُكرَّسة — على سبيل المثال — على نحو منقطع النظير لها بشكل واضح، كما فعلت ذلك بالضبط مقالات أخرى، وإنما في سياق تناولها لموضوعات أخرى، السؤال هنا؛ هل من الضروري أن نكرر الحديث فيما هو معروف، وخاصةً بالنسبة إلى دستويفسكي؟ ما الجديد الذي يمكن قوله بخصوص المسألة اليهودية في نهاية القرن العشرين؟ وما حدود مُعاداة السامية التي يمكن اكتشافها؟ وما النفع الذي سيعود من ذلك على القارئ؟
شارع يامسكايا، لا ينعطف يمينًا أو يسارًا، بل يسير مباشرةً وقد اكتسى بالثلج، وعلى جانبه نفس صف أعمدة الإضاءة، التي تتلاشى بعيدًا، في الحقيقة ما الذي جاء بي إلى هنا؟ ما الذي جذبني وشدني على هذا النحو الغريب إلى حياة هذا الرجل، الذي احتقرني («عن قصد»، و«عن علم»، كما كان يحب أن يعبر على نحو مهذب) أنا ومن هم على شاكلتي؟
على هذا النحو راح المؤلف يفكر، وهو يغادر متحف دستويفسكي، ليهيم على وجهه في حارات ليننجراد الغامضة، وها هو يلمح أضواء شارع ليجوفكا ليشعر أنه نجا، وهو العليم بعناوين دستويفسكي في بطرسبورج، وإلى واحد من هذه العناوين كتب دستويفسكي إلى أنَّا جريجوريفنا في العشرين من أغسطس عام ١٨٧٣م خطابًا جاء فيه: «… عثرت بالأمس أيضًا على شقة تقع بالقُرب من شقتنا تمامًا في ليجوفكا، ولكنها تقع في الجانب الآخر من شارع نيفسكي، على نفس المسافة بالضبط، التي تفصل بين شقتنا الحالية وهذا الشارع، أي إننا سنسكن تقريبًا في شارع نيفسكي، وإنما على الجانب الآخر من شارع ليجوفكا، بضع خطوات من محطة السكك الحديدية ثم يسارًا، رقم ٢٨، منزل نوجينوفا. المكان هناك خالٍ من الحركة والضجيج، اللذين يقعان بالقُرب من نوافذنا الآن؛ حيث ينقلون الأحمال منذ الرابعة صباحًا إلى المحطة. الهدوء هناك يسود المكان، والبيوت يسكنها عِلية القوم، وهي بيوت جميلة. الشقة تطل على فناء، والباب أيضًا يقع في هذه الجهة، إنه فناء رائع وعميق، يطل عليه أيضًا بيت حجري وجناح. كل شيء هنا نظيف ومرتب.»
في رِواية «صيف في بادن» يتحرك الزمن عبر الناس والأحداث، التي تمثل أهمية كبرى للكاتب بالدرجة الأولى، ليقوم برحلة حج على الطريقة الروسية، أي بالقطار.
٤
سعى تسيبكين — في سياق حفاظه على «العرض المزدوج» للرواية — إلى أن يقسِّم بطرسبورج، التي كانت ترجع إلى دستويفسكي وأبطاله، وإلى ليننجراد؛ محطة وصوله. كان يكتب قصة الرحلة من موسكو إلى بطرسبورج، لكن مظاهر الحاضر عند منعطف عقدين من القرن العشرين — عندما راح القاصُّ يقوم برحلته — قد غيرت خط سيره، مُوجِّهة القطار من بطرسبورج إلى ليننجراد. إن الإطار المحدد الزمن في الرواية أمر لا يقل أهمية عن استحداث التفاصيل الدقيقة للرحلة التي قام بها الزوجان دستويفسكي في الخارج.
كلتا الرحلتين (رحلة الكاتب ورحلة الزوجين دستويفسكي) بدأتا من نفس نقطة الانطلاق؛ قطار يغادر رصيفًا، تضم العربة أناسًا من كافة الأوساط، هنا يأكلون وينامون، يدخنون ويقرءون، الأمر الأكثر أهمية هو فيمَ يتحدثون، لا يمكن تصور ألا يشارك المرء في المُسامرة، وألا يفيض بمكنون قلبه دون خجل لرفيق الطريق، هذا ما كتبه ميخائيل بيزرودني في مقال له بعنوان «روسيا في السكك الحديدية»، وهنا من الممكن أن يستمر الحديث أو الاعتراف طويلًا إلى ما لا نهاية، فالقطار يسير عبر روسيا كلها. إن مؤلف «صيف في بادن» يقوم برحلته وحيدًا، دون رفيق للطريق، دون مسامرة، ليتحول مونولوجه إلى رواية، والباعث وراء ذلك هو — بطبيعة الحال — هذا الكتاب الذي اصطحبه معه.
وهذا الكتاب هو «مذكرات أنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا»، الصادر في عام ١٩٢٣م عن دار نشر «نوفايا موسكوفا» (موسكو الجديدة) باعتباره الإصدار السابع في سلسلة «وثائق في تاريخ الأدب والمجتمع» تحت رعاية الأرشيف المركزي. وفي مقدمته للكتاب كتب ن. ف. بيلتشيكوف عن تاريخ اليوميات، التي وُجدت مع مخطوطات أخرى، وجرى تسليمها في أغسطس عام ١٩٢٢م من اللجنة الشعبية للتعليم في جورجيا (السوفيتية سابقًا. المترجم)؛ ليضع دراسة زمنية دقيقة لها. كانت أنَّا جريجوريفنا قد أنهت دفتر يومياتها الأول في الفترة من ١٠–٢٢ يونيو وحتى ١٢–٢٤ أغسطس عام ١٨٦٧م، وقد أبدى تحفظًا خاصًّا مفاده أن «للمذكرات طابعًا محليًّا، في الخارج، وليس روسيًّا».
وقد أورد أيضًا في مقاله مُسوَّدة لأنَّا جريجوريفنا، حددت فيها خاصية يومياتها، التي كان الهدف الأساسي منها أن تحكي لأمها عن رحلتها بعد عودتها، وحتى لا تغيب عن ذاكرتها أمور كثيرة، بعد أن بذلت لها وعدًا أن تُعِد دفترًا «أسجل فيه يومًا بيوم كل ما سيحدث لي»، بعد ذلك كتبت تقول:
«في البداية كنت أسجل انطباعاتي فقط عن السفر وأصف حياتنا اليومية. ولكن شيئًا فشيئًا راودتني الرغبة في تسجيل كل شيء، أثار اهتمامي وأخذ بلُبي في زوجي العزيز أفكارُه، وأحاديثه، وآراؤه في الموسيقى والأدب وغيرها. كنت أسجل حتى خلافاتنا الصغيرة؛ احتجاجي على بعض من وجهات نظره، بخصوص قضية المرأة — على سبيل المثال — كان باستطاعتي أن أسجل بكل حرية؛ إذ كنت أعلم أن أحدًا غيري لا يمكن أن يقرأ ما سجلته.
كان فيودور ميخايلوفيتش يجلس عادةً في المساء ليعمل، وكنت أجلس إلى مكتب آخر، وأكتب مذكراتي بطريقة الاختزال. كم من مرة كان فيودور ميخايلوفيتش يقول لي: أدفع أغلى ما عندي لأعرف يا أنيتشكا ما الذي تعنينه بصنانيرك هذه التي تخطيتها، لعلك تشتمينني!
«ومن ذا الذي يجرؤ على أن يشتمك.» كنت أجيبه بهذه العبارة، التي أحيانًا ما كان يقولها لي على سبيل الدعابة.»
ولما كان النص المفترض أن أنَّا جريجوريفنا كتبته لنفسها فقط، كان نصًّا عسيرَ المنال حتى على زوجها، فقد أضفى تسيبكين على «اليوميات» أهمية فائقة، ثم ليختار بعد ذلك هذا الكتاب من بين كافة الطبعات الوفيرة والمنشورات والمذكرات، التي كُتبت عن دستويفسكي، بما فيها «مذكرات» أنَّا جريجوريفنا. كان يأمل عند قراءة هذا النص الذي «تم فك شفرته، والذي كتبته أنَّا جريجوريفنا بطريقة الاختزال في الصيف الأول بعد زواجها. في الخارج» أن يكتشف مفتاح فك ألغاز إبداع الكاتب، والأكثر أهمية بالنسبة إليه دون شك أن يرى دستويفسكي في تجلياته الإنسانية اليومية على مدى شهرين من عام ١٨٦٧م بعينَي أقرب إنسان إليه، وأن يقرأ ذلك من خلال كلماتها. وبالنسبة إلى مؤلف الرِّواية الذي لم يسعَ مطلقًا لكتابة سيرة دستويفسكي، وإنما حاول بإخلاص أن يفسر لنفسه سر تعلقه الأدبي الشخصي به، فإن وجود هذا الكتاب («المذكرات») كان أشبه بالمعجزة، أما قراءته فكانت بمثابة الاكتشاف. كان تسيبكين وهو يقرأ هذه اليوميات الشخصية العميقة يخلق «ولعه بدستويفسكي»، كان يستخرج تلك المشاهد، التي لا ينبغي أن توضع في شكل سيرة حياة، تمامًا كما كان يفعل المخرج أندريه تاركوفسكي.
٥
في عام ١٩٩٣م صدرت عن دار نشر «ليتيراتورني باميتنيكي» («الآثار الأدبية») الطبعة الجديدة من «يوميات ١٨٦٧م»، التي أعدتها س. ف. جيتوميرسكايا، حيث أُعيد نشر تاريخ دفاتر اختزال أنَّا جريجوريفنا مرة أخرى. وعلى امتداد سبعين عامًا اعتُبرت «المذكرات» استرجاعًا حرفيًّا لهذه «اليوميات»، لكن الدراسة التالية لها سمحت باكتشاف أن أنَّا جريجوريفنا، عند إعادتها كتابة دفاترها قامت بتحريرها في الوقت نفسه. أما الشكوك التي دارت حول جودة فكها لشفرتها، والتي قامت به بنفسها، فقد جاءت نتيجة للتغيرات التي تمت بناءً على التسجيلات الأخرى، التي تمت بشكل استعادي، والتي أخذت في الحسبان قُرَّاء المستقبل.
بعد الطبعة التي أصدرها ن. ف. بيلتشيكوف تم اكتشاف دفترين آخرين في أرشيف دستويفسكي يحتويان على تسجيلات أخرى كُتبت بطريقة الاختزال. وقد اعتُبرت هذه التسجيلات هي أصل يوميات أنَّا جريجوريفنا التي كتبتها في الخارج، ولكن كان من المستحيل، كما كتبت جيتوميرسكايا، «إضافتها إلى الطبعة، أو حتى وضعها على نحو منطقي، فلم يكن هناك من يستطيع قراءة النص الاختزالي».
بفضل جهود ت. م. بوشيمانسكايا، التي درست كتاب الاختزال، الذي وضعه أولخين وقارنته باليوميات المطبوعة بالنصوص الأصلية لدستويفسكي، وفي عام ١٩٥٠م تم العثور على مفتاح شفرة نظام الاختزال. بعد قراءة التسجيلات الاختزالية التي كتبت في صيف ١٨٦٧م من جديد، بما في ذلك الدفتر الثالث الذي تم فك شفرته، والذي ظل مجهولًا لبيلتشيكوف، استطاعت بوشيمانسكايا أن تعيد إلى الحياة النص الأصلي. ووفقًا لشهادة جيتوميرسكايا، فإن التصحيحات التي أدخلتها أنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا إلى نص الدفتر الأول من اليوميات، كانت كبيرة للغاية، وغيرت منه على نحو جوهري، حتى إن النص المطبوع والمعروف حتى الآن لهذا الدفتر يجب اعتباره نصًّا لم تُفَك شفرته، وإنما هو نص ثانٍ تميز بالتحديد.
إلى جانب عملية التحرير المفترضة ﻟ «الحقائق العائلية الحميمة» فقد وضعت أنَّا جريجوريفنا جانبًا «اليوميات» التي تحتوي على أكثر الملاحظات حدةً، والمتعلقة بسَوْرات غضب دستويفسكي ونوبات تهوره، لتبقي صورتها باعتبارها الزوجة المخلصة؟ فضلًا عن كونها النصير الأدبي له. ومن الملاحظ أيضًا أنه في حالات متفرقة كانت تُدخِل تعديلات على وصفها للخلافات العائلية؛ حيث استغلت أنَّا جريجوريفنا، كما لاحظت جيتوميرسكايا تصحيحاتها لترفع الذنب عن كاهل الزوج وتضعه على كاهل الزوجة. وفي الوقت نفسه فقد احتفظت أنَّا جريجوريفنا في النص بمقاطع منفصلة ﻟ «الاعتذارات الملتهبة» قبل النوم، والمشاهد الحميمة الزوجية: «عندما كنت أتأهب للنوم كان يوقظني لكي يعتذر، لتبدأ أحاديثه الطويلة، كلماته الرقيقة، الضحك، القبلات، وهذه النصف ساعة – الساعة كانت تمثل أسعد لحظات يومنا وأكثرها ودًّا. كنت أقص عليه أحلامي، وكان يشاركني انطباعاته عن اليوم بأكمله، كنا سعداء للغاية.»
تقع التسجيلات الأولى عن بادن في الدفتر الأول من «اليوميات»، وكلها مكرَّسة عمليًّا للعب القمار. أما التصحيحات التي أَجْرتها أنَّا جريجوريفنا عليها فتتعلق جميعها بالمبالغ التي ربحها (دستويفسكي) والتي خسرها، ولكنها بعد أن راحت تخطئ في الأرقام تخلت عن هذه الفكرة. تظهر بادن-بادن في سيرة دستويفسكي باعتبارها تجسيدًا لولعه بالقمار، بينما شكَّلت الانطباعات، التي تركتها عليه هذه المدينة الصغيرة فتمثل العناصر الرئيسة في بناء رِواية «روليتنبورج»، التي أطلق عليها دستويفسكي، بناءً على طلب ناشره ف. ت. ستيلوفسكي «المقامر»، بحيث يتفق هذا العنوان مع سيرة الكاتب الذاتية.
الجزء الأكبر من الانطباعات عن بادن يدخل في الدفتر الثاني لليوميات. وقد شَرَعت أنَّا جريجوريفنا في العمل على فك شفرة دفترَيها في عام ١٨٩٤م، ثم انقطعت عن مواصلة العمل عدة مرات لتتركه نهائيًّا في شتاء عام ١٩١٢م، متفرغةً تمامًا لإعداد «المذكرات». كانت أنَّا جريجوريفنا ترى الأهمية الكبرى لهذه المذكرات في أن تحكي الحقيقة عن زوجها «برغبة مفعمة بالصدق والإخلاص»، وأن «تضع أمام القُرَّاء فيودور ميخايلوفيتش دستويفسكي بكل حسناته وعيوبه، تمامًا على النحو الذي كان عليه في حياته العائلية والخاصة». لكن سعيها لخلق صورة «الإنسان الإيجابي الرائع» قادها إلى تحويله — حتمًا — إلى أسطورة. كثير من المشاهد الشبيهة بالتي وردت في «اليوميات» جاءت في «المذكرات» بصورة أدبية تمامًا.
المراد قوله هنا إن «اليوميات» تظل شاهدًا وثائقيًّا أساسيًّا و«مصدرًا للمراقبة» (بحسب تعبير جيتوميرسكايا) على «المذكرات». لا شك أن تسيبكين قارن على أي نحو راحت الأحداث تجري في هاتين الطبعتين. وفي كل مرة كان يفضل — تحديدًا — ما ورد في «اليوميات». من الضروري أن نشير إلى أن الأحداث التي تم تسجيلها في الدفتر الثاني من اليوميات بطريقة الاختزال، والتي تعود إلى فترة وجودهما في بادن؛ غير موجودة في الأصل. في عام ١٩٩٣م أُعيد طبع هذا الدفتر بعد فك شفرته، بنفس الصورة، التي أصدرها بها بيلتشيكوف، الأمر الذي كان من نتيجته أن راح تسيبكين يعمل استنادًا إليه، باعتباره مصدرًا لم تدخل عليه أي تعديلات، والذي استحق أن يصدر في الطبعة الأكاديمية. كان هذا يعني شيئًا واحدًا فقط؛ أنه اختار الصحيح لمستقبل رِوايته.
٦
تستمر رحلة دستويفسكي بالتوازي مع بقاء تسيبكين في القطار. لا يُحسب الزمن هنا بالساعات، وإنما بالأحداث، والأحداث تتوالى حدثًا تلو الآخر. إن موضوع القطار يظهر أيضًا لأن القطار في أسطورة الأدب الروسي يُعَد هو المجاز الأفضل تقريبًا لجريان الزمن. إن المسافرين في عربات هذا المجاز هم دائمًا ظواهر مؤقتة، إنهم يركبون ثم يغادرون، أما القطار فيواصل الحركة، التي لا تتوقف سوى في محطات معلومة، لا يختلف بعضها عن بعض تقريبًا. إن الاقتراب من هذه المحطات في الرِّواية يرتبط دائمًا بهذه «اللازمة»: «راحت أبواب العربة تصفق». وفي المحطات ينصرف اهتمام القاص عن نص «المذكرات»، يرفع عينيه عن الكتاب، يتأمل المنظر الطبيعي وراء النافذة، ثم يعود إلى السرد، مستلهمًا الأحداث المناسبة من سيرة الكاتب.
التوقف في محطة كالينين يأخذنا للحديث عن عودة دستويفسكي من المنفى، وعن الانتقال من سيميبالاتينسك إلى تفير، وعن الالتماسات العديدة التي يقوم بها إلى الموظفين الكبار الذين يمقتهم، من أجل السماح له بالعودة إلى بطرسبورج.
حلت بدايات الخريف، على أنه سرعان ما ساد الخريف الحقيقي، ليسدل المساء ستره مبكرًا، وينبلج الفجر متأخرًا، ويهطل المطر مدرارًا، فتغرق المدينة في الوحل، وها هو يهرول من مصلحة إلى أخرى، ثم إلى مكتب البريد، مرسلًا الطلبات المليئة بكل أنواع الاستعطاف، ويبعث بالعرائض والالتماسات من أجل إعطائه التصريح اللازم له للإقامة في سان بطرسبورج.
الوصول إلى بولوجوي؛ «المحطة الثانية والأخيرة» للقطار المسافر على خط سير موسكو-ليننجراد، حمل معه القاص إلى بحيرة إيليمين في ستاريا روسا، التي اعتاد دستويفسكي قضاء الصيف فيها مع أطفاله:
«ناظرَين إلى قِباب كنائس نوفجورود وهي تتلاشى بعيدًا، انحنى فيودور ميخايلوفيتش أمامها ورسم علامة الصليب، وقد ضم أصابعه الثلاثة بجدية، حتى إنها تركت على بدلته المتهدلة بعض الشيء على كتفيه اللذين ازدادا نحولًا في الآونة الأخيرة؛ بعضًا من الانبعاجات، وعلى إثره رسمت أنَّا جريجوريفنا بدقة أيضًا علامة الصليب مع انحناءة، وكانت ترتدي شالًا أسودَ، ثم قاما كلاهما برسم علامة الصليب على طفلَيهما؛ ليوبوتشكا وفيدينكا، طفلَيهما العزيزين، كما دأبا على تسميتهما في خطاباتهما، كانت سونيتشكا، التي وُلدت في جينيف، قد تُوفيت سريعًا وهي لا تزال رضيعة.»
وفي «مذكراتها» تعود أنَّا جريجوريفنا إلى انطباعاتها عن الخارج هي ودستويفسكي، التي أثارتها في نفسها هذه الأماكن: «كان يومًا رائعًا، بَدَت فيه بحيرة إيليمين بلون الفيروز لتذكرنا ببحيرات سويسرا.»
تواصل الرِّواية مسيرة الرحلة، ويعكس الحكي أيضًا تباطؤ القطار، الدفعة الحادَّة في البداية، يعقبها تقلقل سلس، الابتعاد عن الرصيف، ثم استنفار السرعة شيئًا فشيئًا، ثم دبيب العجلات، عندما تبدأ القراءة في الانتظام على الإيقاع المنتظم، ويصبح تيار التفكير سلسًا ومستقرًّا. وفي بعض الأماكن يتوافق الإيقاع المتقطع لحركة القطار مع التوتر العاطفي للأحداث، التي ورد وصفها في «اليوميات»، والتي أُعيد إنتاجها في الرِّواية، مثل مشهد الندم على سبيل المثال:
«… كانت العربة تتأرجح من هذا الجانب إلى الجانب الآخر بكل الركاب الجالسين بداخلها، ومعهم المصابيح المعتمة، والحقائب التي انعكست صورتها على نحو متكرر على زجاج النوافذ السوداء، والتي كانت مساحات شاسعة لا تُرى من الثلج تجري خلفها، حتى إن أنَّا جريجوريفنا اضطُرت للتوقف عن كتابة «اليوميات» حتى لا تسقط أوراقها على الأرض من فوق الطاولة الصغيرة المهتزة، ولكيلا تتقافز الأسطر أمام عينيها. ما إن وصلا إلى البيت حتى جثا فيديا على ركبتيه أمام أنَّا جريجوريفنا، حتى إنها ذُهلت وأخذت تتراجع إلى مكان ما في زاوية الغرفة، لكنه زحف على ركبتيه خلفها مكررًا: «سامحيني، سامحيني» و«أنتِ ملاكي»، لكنها استمرت في التراجع جانبًا، أما هو، فبعد أن هبَّ واقفًا على قدميه راح يضرب الحائط بقبضتَيه، ثم عاد ليضرب بهما رأسه، وقد بدا الأمر وكأنه يفعل ذلك عن قصد، كأنما يؤدي دورًا هزليًّا …»
في الحقيقة فإن الرحلة الرعوية عبر ألمانيا، عبر «شفارتسفالد وتيورينجن، أو ربما أي جبال أخرى» كانت تثير لدى القاص تشابهًا مع حركة «هذا القطار الصغير الأشبه باللعبة، بعجلاته الحمراء فوق القضبان ومدخنته الطويلة». كان هذا القطار يشبه ذلك النموذج الكارتوني الذي بناه في رِواية «الشياطين» ممثل «القبيلة الألمانية» للمحافظ فنون لمبكه، الذي راح يعمل عامًا كاملًا على نموذج هذا القطار «حتى تمكن من لصق قطار السكك الحديدية بأكمله، ومرة أخرى يخرج شيء ناجح للغاية، خرج الناس من المحطة ليدخل آخرون إلى العربات حاملين حقائبهم، مصطحبين أطفالهم وكلابهم. راح المحصلون والموظفون يتمشَّون هناك وهناك، دق الجرس، أُعطيت الإشارة، وبدأ القطار في التحرك».
في الحادي عشر من أغسطس (الثالث والعشرين بالتقويم الجديد) غادر الزوجان دستويفسكي بادن في طريقهما إلى جينيف، ليصلا في اليوم التالي إلى بازل.
هنا ينتهي الجزء الثاني من يوميات أنَّا جريجوريفنا. أغلق الكاتب الكتاب بعد أن انتهى من قراءته، ليصل إلى محطة موسكو في ليننجراد لتستقبله بالأحضان جيليا (كلارا ميخايلوفنا روزنتال)؛ الصديقة المقربة من أمه، والتي أهدى إليها روايته. انطباعات جديدة تدخل إلى الأحداث. السرد هنا يتخذ طابع السيرة الذاتية عن حج القاص إلى أماكن دستويفسكي، محتفظًا بنفس درجة التوتر المخلص، التي ميَّزت تسجيلات أنَّا جريجوريفنا في يومياتها.
٧
إن علاقة تسيبكين بلغة نثره لا تتفق إطلاقًا مع الحركة المعتادة للكُتَّاب، الذين يهتدون بمعشوقيهم من الأدباء، فدستويفسكي الكاتب غير موجود على الإطلاق في الرِّواية، بينما هناك دستويفسكي الشخصية الروائية. إن أسلوب استخدام تسيبكين للكلمة يتمثل في القراءة الدقيقة لنص حياة دستويفسكي، الذي تبقَّى لنا على صورته النهائية، والذي فُكَّت شفرته للأجيال القادمة على يد زوجته؛ الشخص الأقرب له، والأكثر أهلًا للثقة، والتي سجَّلت كل انطباعاتها عنه بكل خضوع واستسلام. «آنيا» الشابة تكتب يومياتها، أما أنَّا جريجوريفنا العجوز فتعيد كتابتها من جديد، ثم تُنحِّي كل هذا المشروع جانبًا لتشرع في كتابة «المذكرات». وبالنسبة إلى «اليوميات» فقد بدت تشكيلة مأخوذة من أحداث ومواقف من حياة دستويفسكي الكاتب أَضْفت عليه نوعًا من القداسة. دستويفسكي في «اليوميات» هو الشخصية الرئيسة، التي تأثرت بها زوجته الشابة.
لم تَقُم أنَّا جريجوريفنا بتهذيب انطباعاتها العامة أو مُعاناتها الخاصة، خذ مثلًا ترتيبها للأشياء، أو تعرضها للصدمات العنيفة، مثل حادثة اكتشافها لخطاب أبوليناريا سوسلوفا، التي أطلقت عليها اسم «بريلكينا»، وهو ما يُعَد بمثابة إهانة لاسم عائلتها «سنيتكينا» قبل الزواج: «عدت إلى المنزل على عجل، وقد أصابني جزع شديد (كنت قد ذهبت إلى مكان ما)، تناولت سكينًا وفضضت به الخطاب بكل حرص. كان خطابًا شديد السخافة والوقاحة، يدل على فقدان هذه المرأة لأقل قدر من الحصافة، لكنني كنت على يقين أنها كانت تعاني من الكدر بشدة بسبب هذا الحادث، وأن هذا الخطاب يعكس ما شعرت به من إهانة (وقد تحقق ظني؛ كان الخطاب مرسلًا من درزدن). قرأت الخطاب مرتين، الذي أطلقت عليَّ فيه اسم بريلكينا (وتعني غبية وسخيفة). اقتربتُ من المرآة ورأيت كيف احتقن وجهي كله. بعد ذلك أخرجتُ حقيبته ورحت أتفحص خطاباته.» هنا تترك «اليوميات» لدى القارئ إحساسًا بوجود اضطراب في الأسلوب.
تبدو هذه الطريقة في تناول الرِّواية غير قابلة للتطبيق. يقوم تسيبكين بصقل عباراته، ثم يملؤها بكل حرص بألفاظ بالغة الوضوح تروح تهتز داخل هذه العبارات، مثل سائل عجيب في وعاء دقيق الصنع للغاية. إن لغة الإشارة عند الكاتب هي لغة أستاذ بارع، يستحثُّ عباراته الواحدة وراء الأخرى بحرفية واضع الألغاز الثلاثية الأبعاد، إن تقديره للأمور بمجرد النظر في هذه الأبنية يقوم على امتلاكه لمادته.
يؤكد جوزيف فرانك على «المعرفة الرائعة للمصادر البيوجرافية، مثل إحاطته التامة بأعمال دستويفسكي». يتم استخدام المصادر في نص الرِّواية على نحو بنَّاء، وليس على نحو حرفي، بطريقة تُذكِّرنا دائمًا أن «صيف في بادن» ليست «فانتازيا بروح دستويفسكي»، وليست سيرة في قالب روائي، وإنما رواية يمكن أن نجد فيها بسهولة العديد من الحكايات لنفس الواقعة، على سبيل المثال إعادة بناء لقاء دستويفسكي بتورجينيف، على نحو يحاكي فيه تسيبكين أحد الكليشيهات المقتبسة من تاريخ المثقفين:
«… لقد تبارزا بالسيوف، وهما جالسان على جانبَي مائدة اللعب المستديرة المُطعَّمة، ليطعن كل منهما الآخر، لقد دخلت هذه المُبارزة تاريخ الأدب الروسي باعتبارها معركة بين روسيا والغرب …»
لقد تحققت هذه الواقعة في الوقت نفسه وفقًا لإعادة الحكي الذي تم في «اليوميات»، واستنادًا إلى خطاب دستويفسكي إلى أبولُّون مايكوف من جينيف المؤرَّخ ١٦ (٢٨) أغسطس عام ١٨٦٧م، وعمومًا فإن وضع العلاقات بين دستويفسكي وحلقة بيلينسكي، وانتهاءً بذكر لعبة البريفرانس، التي ورد ذكرها في مذكرات أفدوتيا بانايفا: «كان بيلينسكي يتحاشى الدخول في أي أحاديث جادة حتى لا يضطرب، وقد عزا دستويفسكي هذا البرود تجاهه من جانب بيلينسكي، الذي كان يتحدث بهدوء مع نكراسوف وهو يشاركه لعب الورق، وهو في الوقت نفسه يُصيخ السمع أحيانًا إلى دستويفسكي وقد احتدم غضبه وهو يجادل تورجينيف قائلًا: «ما الذي جرى لدستويفسكي! يقول سخافات ما، وعلى هذا النحو من الحدة.» عندما راح تورجينيف يحكي لبيلينسكي، بعد أن غادر دستويفسكي المكان، عن آراء دستويفسكي الحادَّة والخاطئة بشأن واحد من الكُتَّاب الروس، قال له بيلينسكي: لقد تعاملتم على نحو جيد مع شخص مريض، ولقد حملت عليه وكأنك لا تعرف أنه في نوبة من نوبات الغضب، لا يعرف هو نفسه ماذا يقول أثناءها.»
الأرجح أن تسيبكين قد استخدم المراسلات العائلية، إلى جانب «اليوميات» باعتبارها واحدة من المصادر الأساسية للرواية. وبالنسبة إلى تسيبكين، الذي كان يسعى — وإن لم تُتَح له الأراشيف — للدراسة الدقيقة للمجلدات، التي تضم خطابات دستويفسكي، وكتاب «تراث دستويفسكي»، فقد كان ذلك هو الاقتراب الأقصى فعليًّا من اليوميات الصادقة للسيرة الأدبية لشخص آخر. إن المعلومات المستخلصة منها يمكن أن تؤدَّى في الرِّواية باعتبارها وسيلةً إضافيةً من أجل إجراء تحوُّل في السرد، وباعتبارها أيضًا مبررًا للربط بين الموضوعات التالية ذات الصلة.
قدَّم شكل الرِّواية للكاتب «رخصة أدبية»، ومن ثَم فليس هناك من معنًى للبحث عن عدم الدقة. إنها مُعتمَّدة في كل مكان، أما الاستشهادات فقد أُدخلت عليها بعض التعديلات لصالح القص. كان تسيبكين يستخدم عبارات من الذاكرة أو مقاطع تتفق على نحو دقيق والتتابعَ الزمني للأحداث، ولكنه كان يطورها بصورة مختلفة، وذلك دون أن يهبط إلى درجة «عدم التقيد بقواعد الشعر». إن ذاكرة الكاتب ينبغي ألَّا تكون ذاكرة حرفية في كل شيء، ولهذا فإن الكلمات المقتبسة من خطاب دستويفسكي — على سبيل المثال — إلى أخيه ميخائيل المؤرخ الثلاثين من يوليو عام ١٨٥٤م من سيميبالاتينسك: «أنا لا أتذمر؛ فهذا قدري، وأنا أستحقه، إنني أكتب هذه الكلمات لك وحدك، لكي أستلَّ منك ولو بضع سطور، من دونها يصبح من الصعب عليَّ، في الحقيقة، أن أعيش في هذا العالم.» أما في الرِّواية فقد تحولت هذه الكلمات لتصبح على النحو التالي:
«أحمل صليبي وأنا أستحقه.» هذا ما كتبه في واحد من خطاباته، ولكن كان عليه من أجل ذلك أن يطرح كل أفكاره السابقة، التي تألَّم من أجلها، أفكاره الخاطئة وحتى الإجرامية، وقد فعل ذلك دون وعي منه بالطبع …
وبنفس القدر جرى عرض المقاطع الأخرى تمامًا وفقًا لمصدرها، أو اتخذت في الرِّواية منحًى فنيًّا مختلفًا. خذ مثلًا الملاحظة التي أبدتها أنَّا جريجوريفنا وهي في قمة شعورها بالاستياء إبان الجدل الذي دار مع أقارب دستويفسكي:
«… شحب وجهها، وبعد أن رمقته بنظرة غريبة باردة مقطبة، قالت، موضحةً كل كلمة: «مرحى! ها قد وجدنا مُحسِنًا على الإنسانية! لقد كنت دومًا ترقص على زمر أقاربك!» شحب وجهه هو الآخر وظل يتحاشى أنَّا جريجوريفنا عدة أيام بعد ذلك، حتى إنه لم يكن يتحدث إليها تقريبًا …»
إليكم كشفٌ «لشفرة» تسجيلات اليوميات: «كان دستويفسكي يجيب: إن في القمار شهوة، ولهذا فهو لا يستجيب (للنصائح)، أما في الأمور الأخرى فإنه كان دائمًا ما يعوم على عومي، لقد شعرت عندئذٍ بالألم والحزن، حتى إنني قلت له، وقد فقدت أعصابي: إن ما يضحكني هو فكرة ربح الملايين في القمار، وفي سورة غضبي وصفته ﺑ «محب الإنسانية». أثارت هذه الكلمات حفيظة فيديا وسألني ما الذي أعنيه بهذه الكلمات. عمومًا فقد شعر بالإهانة، لنفرض جدلًا أنني أنا نفسي ندمت لأنني قلت هذه الكلمة، لكن الحقيقة أنني أنا التي كنت أشعر دائمًا بالإهانة عندما يقول في كل مرة يربح فيها في القمار إنه يجب عليه حتمًا أن يساعد فلانًا، أو أن نُقدِّم هدية لهذا أو ذاك. أنا على يقين أننا نحن اللذان ربحنا، فهل من المحتَّم أن يستغل هؤلاء الأنذال فقط ما ربحناه؟! ونحن — في واقع الأمر — كنا نخرج في النهاية خاليَيِ الوفاض تمامًا، إنهم هم بلا شك أقارب دستويفسكي، الذين كانوا يحصلون على رعايته وتدليله.»
يمكن القول — على نحو مؤكد — إنه ليس هناك مقطع واحد تم اقتباسه من «يوميات» أو «مذكرات» أنَّا جريجوريفنا قد استُخدم في الرِّواية صدفةً. أما بعض الموضوعات والشخصيات — التي تكررت المرة تلو الأخرى، من مثل الحديث عن القبعات، وقمة الجبل، والمشاهد التهريجية — فتستحق بلا شك أن تدخل في إطار التجريب الأدبي في الرِّواية. إن «التكرار الممل» و«الإعادة التي لا يمكن تصورها» يترددان باعتبارهما الموتيفات الأساسية للسرد، وهما الأمران المفضَّلان لدى كل من جيرترودا شتاين وهنري موللر. بطبيعة الحال، فبالنسبة إلى مؤيدي الأسلوب البارع في الكتابة يبدو هذا الأمر مثيرًا للضجر، وهو ما دفع دان ياكوبسون — على سبيل المثال — أن يكتب عن «الحركة المكرَّرة، المتقدمة إلى الخلف في السرد، على الرغم من قِصَرها».
٨
«العنب الأحمر»؛ واحد من الموتيفات المكرَّرة، التي ظل دستويفسكي يرددها عند احتضاره. هذه الكلمات غير موجودة في «المذكرات»، ولكن في الرِّواية يُسمَح بقول ما يبدو أنه طيف من الذكريات. في البداية أكل الزوجان دستويفسكي العنب في بادن، ثم أكلاه بعد ذلك في القطار في طريقهما إلى بازل، ولكن «للأسف، اشترى فيديا قليلًا جدًّا منه»، وفي محطة أووس «راودته الرغبة من جديد، كما كتبت أنَّا جريجوريفنا، في شراء العنب الأحمر». لم يشترِ دستويفسكي عنبًا، ولكنه اشترى شطائر من محطة أخرى، حيث وقعت له حادثة مؤسفة.
وحتى أُقيِّم بصورة كاملة حِرفيةَ تسيبكين؛ أسمح لنفسي أن أُورد حكاية الشطائر كما وردت في يوميات أنَّا جريجوريفنا من جانب، ثم كما وردت في نصف رِواية «صيف في بادن» من جانب آخر:
«في محطة ما، لا أتذكر اسمها تحديدًا، حيث توقفنا عشر دقائق، نزلنا لشراء شطائر، لم تكن هناك قطع نقدية صغيرة لدى فيديا، الذي راح يبدل عشر فرنكات، لكن الذي حدث أن البائع لم يُعطِ فيديا — عن قصد بطبيعة الحال — فرنكًا متبقيًا له، وإنما أخذ مقابل الشطائر اثنتين وأربعين كرويسر. عندئذٍ دق جرس القطار، فأسرعت إلى العربة، لكن الباب كان قد أُغلق، رأى الشاب أنه ينبغي أن يصيح على المحصِّل ليساعدني في فتح الباب، نجحت في الدخول، لكن الباب أُغلق من خلفي مرة أخرى، أما فيديا فلم يكن قد وصل بعد. رجوت المحصل أن ينتظر وأنا أشعر بالخوف الشديد، أن يتحرك القطار من دون فيديا. وعلاوة على ذلك فلم تكن لديَّ تذكرة، ومن ثَم فقد كان عليَّ على الأرجح التوقف في أقرب محطة وانتظار فيديا. أخيرًا ظهر وفتحنا له الباب. عندما لاحظ المحصل أنني اندفعت بحثًا عن زوجي، اقترب من عربتنا وسألني إن كان الجميع موجودين. وصل فيديا في حالة من الغضب العارم، حكى لي أن البائع، بعد أن أخذ النقود، تظاهر أنه لا يسمع حديث فيديا، وراح يتحدث مع شخص آخر. بينما راح فيديا يصيح بأعلى صوته حتى يعطيه البائع الفرنك الباقي، وفي الوقت نفسه كان المحصل يصيح منبهًا أن القطار سيتحرك الآن. قصَّ فيديا ذلك في سَورة غضبه على الشاب، ثم أضاف بصوت مرتفع أنه لا يوجد مكان به كل هذا العدد من النصابين سوى في ألمانيا.»
«… في واحدة من المحطات نزل فيديا ليشتري شطائر، ولكن تبيَّن أنه لم تكن معه قِطع نقدية صغيرة، أعطى البائع عشرة فرنكات، أعاد البائع له الفكة ناقصة فرنكًا، أخبره فيديا أن هناك فرنكًا ناقصًا، لكن البائع تظاهر بأنه لم يسمع، وانشغل مع مشترين آخرين، في هذه اللحظة دق الجرس الثالث، كانت أنَّا جريجوريفنا جالسة في العربة وراء الباب المغلق، بينما كانت التذاكر مع فيديا، عندما سمع الجرس الثالث صاح فيديا بأعلى صوته لكي يعطيه البائع الفرنك الناقص، كان صوته مرتفعًا حتى غطى على صوت صافرة القطار، اندفع فيديا نحو العربة وقد تشعَّث شعره، وامتقع وجهه، وفي حالة من الاضطراب الشديد، راح يحكي كل ذلك على الشاب الألماني الثرثار، وأثناء ذلك أضاف قائلًا إنه لا يوجد نصابون في أي مكان قدر ما في ألمانيا.»
وفقًا لتتابع العرض سنجد أن النصين الأساسي والمعدل متوافقان، وإنما يختلفان فقط في التأكيد على مضمون الحدث. وفي سياق السرد الروائي سنجد اهتمامًا خاصًّا أَولاه الشاب الألماني لأنَّا جريجوريفنا، مما أثار حنق دستويفسكي:
«… وافق الألماني الشاب — على سبيل المجاملة — حتى إن فيديا شعر بدرجة ما، بداهةً، بالانتقام من الحادثة المؤسفة التي وقعت له بسبب الشطائر، وكذلك لهذا الاهتمام الصريح من جانب هذا الألماني تجاه أنَّا جريجوريفنا.»
الوصف التفصيلي للأيام الثلاثة الأخيرة من حياة دستويفسكي، ثم وفاته، بدأ أيضًا كما ورد في «المذكرات» عندما نزف الدم من حلقه صباح السادس والعشرين من يناير ١٨٨١م عندما «وقع له في الليل حادث صغير؛ فقد سقطت حاملة ريشة الكتابة على الأرض وتدحرجت تحت المكتبة (وكان شديد الاعتزاز بها؛ لأنه كان يستخدمها، فضلًا عن الكتابة، لحشو سجائره)، وحتى يتمكن من استعادتها، فقد اضطُر لتحريك المكتبة جانبًا.»
وقد ظهر موضوع الموت فجأة لتسيبكين في الطريق عندما ترك العنان لأفكاره حول بوشكين ومقدار الحب الذي كان يُكِنه له دستويفسكي:
«… لو كنت فنَّانًا، لرسمت لوحة ولأسميتها «زواج بوشكين بالموت»، حيث أرسم بوشكين على نحو واقعي، أما جونتشاروفا فأرسمها على هيئة خطوط ملتوية بطريقة مبتكرة، بحيث يرمز كل خط منها إلى جزء محدد من الجسم؛ الأيدي، أو الأقدام، أو الرأس، أو الجذع؛ ذلك التعقيد الذي يزيِّف تمامًا تصورنا عن نِسَب الجسد البشري …»
من الجائز أن تسيبكين، مثله مثل أي مصور فوتوغرافي، قد أولى في رِوايته اهتمامًا خاصًّا للفنَّانين؛ رفاييل، تيتسيان. إن وصف الزيارة إلى معرض بازل ومشاهدة لوحة «موت عيسى المسيح» لهولباين، التي «أثارته بشدة»، «حتى إنه اعتبر هولباين فنَّانًا وشاعرًا رائعًا»؛ تعتبر بمثابة استهلال لمشهد موت دستويفسكي، أما اللوحة، التي سجَّلت مشهد الوفاة، بريشة كرامسكوي، فقد ورد ذكرها ثلاث مرات في الرِّواية:
رقد مستلقيًا على الوسادة وقد خارت قواه، مُغلقًا عينيه، أما هي فقد أخذت تجفف العرق عن جبهته، مستندةً إلى مرفقها، وحول رأسه الغارق في الوسادة تكونت حول رأسه كرمشات، انتشرت في هيئة أشعة، بنفس الشكل الذي ظهرت به في صورة كرامسكوي، التي رسمها له وهو في سُبات الموت، لكن وجهه فيها كان خاليًا من الصرامة ومن السكينة أيضًا.
من المفترض أن الموت هو نقطة النهاية. لعل تسيبكين كان مهتمًا دائمًا بالموت، الذي راح يلاحقه، ومن ثَم كان يتحاشى وضع النقاط في رِوايته. إن ترقيم العبارات عنده مبني على تجاوز ضرورة وضع خاتمة لها. وهنا تقوم الشَّرطة بربط نسيج الرِّواية.
على أن الرِّواية لها جانب آخر مستند إلى اختيار «يوميات أنَّا جريجوريفنا» باعتبارها «وثيقة حاكمة» من أجل الوصول إلى سيرة صادقة لدستويفسكي. من الجدير بالذكر هنا أن نتذكر كلمات إينوكينتي أنينسكي عن لغة الكاتب: «وماذا عن أسلوب دستويفسكي؟ الإطناب، المبالغات، الحديث المتلاحق … ولكن تأملوا فقط هذا الشكل الغريب، وسوف تكتشفون فيه أهمية كبرى؛ على هذا النحو ينبغي أن تكون لغة الضمير القَلِق، تُكثِّف، تُوجِع، تُلِح، وتلهث، والتي تخشى في سياق ذلك أن تُولِي ثقتها لكثافة ألوانها وقوة تصويرها.»
كُتبت رِواية «صيف في بادن» بروح الاعتراف، ولهذا فإن أحداث التاريخ السوفيتي تَنفُذ من خلال المعاناة الشخصية للقاص نفسه، الذي تأثر بدستويفسكي وحكايات كلارا ميخايلوفنا (جيليا)، وجولاته عبر حواري وأزقة ليننجراد، هنا يشكل «الضمير القَلِق» الذي لا سبيل إلى اجتنابه، نسق الجمل التابعة للرواية، الركض عبر الصفحات، الذي تقطعه بعض الوقفات لالتقاط الأنفاس. يكشف عمل تسيبكين مستخدمًا الشكل الكبير عن امتلاكه للأسلوب وصقله؛ في رِوايته «جسر على نهر نيروتش» تُستخدم تلك العبارات من أجل الاختبار، أما في رِوايته «نورارتاكير» وهي تقف معها على قدم المساواة، أما في رِوايته الأخيرة، فإنها تُقصي كافة الأشكال الأسلوبية الأخرى. إن عمليات البحث عن أسلوب تتحول إلى عمليات بحث عن النوع الأدبي، وإضفاء صبغة بيوجرافية على الانفعالات النفسية.
يصل هذا النوع الأدبي إلى ذروته في «صيف في بادن» ليدخل إلى الأدب الروسي، الذي طاله التشويه والإنهاك نتيجة لتطرف النزعة الطليعية من جانب، والعمل بمبدأ الطلب الاشتراكي من جانب آخر، يدخل باعتباره نفحة من الهواء النقي. إن هذا «الهواء المسروق» في ستينيات القرن العشرين يتحول فجأة إلى إمكانية تنفُّس هواء الثقافة بمثابة ملء الصدر ودون توقف، بالأحرى، فقد كان تنفسًا لهذا الهواء، وهذه الحرية التي تم الحصول عليها من جديد والدهشة إزاء شعور كان قد تم نسيانه. لقد انتهت الحالة الهيستيرية التي طبعت العصر إلى لا شيء، وفي سياق النثر الروسي شغلت «صيف في بادن» نفس المكانة التي شغلتها قصيدة فينيدكت يروفيف «موسكو الديكة». إن الإنتاج الأدبي الذي لا يُحصَى، سواء الرسمي منه أو الصادر عن «الساميزدات»، هذه الرحلات «خارج الزمن وخارج المكان» احتضنت بصعوبة تقاليد النثر الروسي، فضلًا عن أنها أوجدت لنفسها طرقها الخاصة لاستمراره بعيدًا عن الخلفية الأدبية السائدة، المرتبطة بالمتطلبات العاجلة للوضع الأدبي أو السياسي.
٩
في الصفحات الأخيرة من الرِّواية وجدت نفسي على حين غِرة قريبًا من بيتي. رحت أتسكع مع الكاتب على إيقاع بعض الجمل الإنجليزية في الشارع الذي أسكن فيه، شارع يامسكايا سابقًا، الذي تغير اسمه في عام ١٩١٣م ليصبح شارع دستويفسكي.
عرَّجت على إحدى الحارات الجانبية وشاهدت أمامي شارع ليجوفكا، الذي أنقذني بعربات ترامه، يُخيَّل إليَّ أن الحارة كان اسمها حارة سفيتشني، تتفرع من شارع ما اسمه بوروفويا، اسما الحارة والشارع كانا اسمين قديمين، كما كانا منذ مائة عام مضت، فكرت أنه قد قطعهما — على الأرجح — أكثر من مرة، عند مفرق هذين الطريقين كان هناك إمَّا مصلًّى صغير قديم، وإما كنيسة دون قبة يحيط بها ثلج متلألئ ناصع البياض، كان المكان مضيئًا هنا تمامًا.
قرأتُ هذه الرِّواية الروسية في ترجمة إنجليزية، ثم عدت إلى ليننجراد حيث كنت أقيم عند ناصية شارع دستويفسكي وحارة سفيتشني، في بيت لونه أصفر قَذِر، وهو البيت الذي كنت أعمل فيه الذي كان يمثل للكاتب منارةً. هنا ترعرع ابني، وكنت أدفع عربته وهو طفل عبر خط سير ثابت — حول سوق كوزنيتشني، الذي يقع أمامه بيت دستويفسكي، أو في الجانب الآخر — في ساحة سيميونوفسكي، حيث كان عليهم أن ينفذوا فيه حكم الإعدام، لكنهم حكموا عليه بالنفي والأشغال الشاقة. الآن كانت هذه رحلتي من بطرسبورج إلى ليننجراد.
هذه رِواية لكل العصور، صُنعت لكي تُظهِر النثر الروسي في النصف الثاني من القرن العشرين داخل المشهد المتغير دومًا للأدب العالمي. إنها تنطلق مثل مُذنَّب مخالف للقانون إلى مستوى جوزيه ساراماجو، وخورخي بورخيس، وف. ج. زيبالد، وسلمان رشدي وصمويل بيكيت. لقد كتب ليونيد تسيبكين رِواية روسية تستحق أن تشغل مكانها بين هؤلاء. إن صليل عجلات القطار في البداية، ثم عربات ترام ليننجراد، «الأسئلة الخالدة» التي طرحها في الرِّواية؛ تتصاعد جميعها مثل أضواء شارع ليجوفسكايا، ثم تتلاشى في الماضي. ولسوف تبقى في ذاكرة القارئ مشاهد من هذا الماضي.
إن الرحلة من صيف بطرسبورج إلى شتاء ليننجراد، التي قام بها ليونيد تسيبكين في رِوايته، بدت بمثابة «الرحلة إلى الخلود». وبالنسبة إلى شخص شديد الاهتمام بقضايا الموت، وهو الطبيب المحترف، فإن الأمر هنا يبدو شديد التناقض، فهذا الرجل الذي يقف إجلالًا أمام الموت، سوف ينال مجدًا عالميًّا رغمًا عن هذا الموت، وفي الوقت نفسه فإنه يدعو القُرَّاء للقيام بهذه الرحلة متمنيًا لهم في هدوء وهو يودعهم «رحلة سعيدة».