عزيز فهمي شاعر الحرية والشباب
١٩٠٩–١٩٥٢
هو الدكتور عزيز فهمي، من أعلام الحرية والأدب، وأبطال الوطنية
والجهاد.
وُلِد سنة ١٩٠٩ بطنطا، وهو نجل الأستاذ عبد السلام فهمي رئيس مجلس
النواب السابق ومن المجاهدين في الحركة الوطنية.
تلقَّى علومه الابتدائية والثانوية في المدرسة الابتدائية ثم في
المدرسة الثانوية بطنطا، ثم انتقل إلى مدرسة الجيزة الثانوية حيث نال
منها شهادة البكالوريا.
وبدَت عليه منذ أن كان يتلقى التعليم الثانوي ميوله نحو الحرية
والأدب والشعر، وأنشأ وهو في مدرسة الجيزة الثانوية مجلة أدبية كان
ينشر فيها آراءه وأشعاره.
وانتقل إلى التعليم العالي بالقاهرة، وجمع بين دراسة الحقوق في كلية
الحقوق ودراسة الأدب بالانتساب إلى كلية الآداب، فنال ليسانس الآداب
سنة ١٩٣٢، والحقوق في سنة ١٩٣٣، وكانت رسالته التي قدَّمها إلى كلية
الآداب في المقارنة في الشعر العربي بين العصر الأموي والعصر
العباسي.
وكان طَموحًا إلى الاستزادة من العلوم والآداب، فسافر إلى باريس سنة
١٩٣٣، والتحق بجامعتها وحصل منها سنة ١٩٣٨ على الدكتوراه في القانون،
وكان موضوع رسالته «الامتيازات الأجنبية في مصر ومعاهدة مونترو»، وكانت
أول رسالة من مصري عن هذه المعاهدة، والتحق في الوقت نفسه بالسوربون
للحصول على الدكتوراه في الأدب.
وقد شبَّت الحرب العالمية الثانية وهو في باريس، فعاد إلى مصر سنة
١٩٤٢ مملوءًا وطنية وتضحية، مُستكمِلًا دراساته العلمية
والأدبية.
وشغل مَنصب وكيل نيابة بالمحاكم المُختلِطة وقتًا قصيرًا، ثم ضاق
صدرًا بالقيود الحكومية، فاستقال مُؤثِرًا العمل الحر، والجهاد الحر،
واشتغل بالمحاماة والصحافة، ووقَف قلمَه ولسانه، وقلبه وجنانه، على
الجهاد في سبيل الحرية، ومكافحة الاستعمار والطغيان والفساد.
كان أديبًا شاعرًا، وخطيبًا مفوَّهًا، يجمع بين بلاغة العبارة وسلاسة
الأسلوب، وقوة التفكير وغزارة المادة، والشجاعة الأدبية، كان يُدافِع
عن الحرية بقلمه ولسانه على صفحات الجرائد، وبلسانه فوق المنابر، وفي
ساحات القضاء، وتحت قُبة البرلمان.
وقد اعتُقل وحُقِّق معه غير مرة بتهمة العيب في الذات المَلكية، أو
التحريض على الإخلال بالنظام، وكان في المحاماة يُدافِع عن الحرية وعن
المُتهَمين في جرائم الرأي، ويُهاجِم الطغيان والقلم السياسي
والإجراءات التعسفية.
دخل البرلمان سنة ١٩٥٠ نائبًا عن دائرة الجمالية بالقاهرة، فكانت
صفحته في دار النيابة أقوى صفحات حياته التي قضاها في الكفاح الوطني،
وعلى أنه انتُخب مرشَّحًا من الوفد، فإنه لم يتقيَّد بسياسة الحكومة
الوفدية، وعارَضها فيما يستحق المعارضة من تصرُّفاتها، وله في ذلك
المواقف المشرِّفة، وظهرت مواهبه البرلمانية كخطيب ومُناضِل برلماني من
الطراز الرفيع، كان يُناضِل عن الحرية في كل مناسبة، وله المواقف
المشهودة في معارضة نظام الاشتباه السياسي، ومعارضة القانون المعدِّل
لنظام مجلس الدولة؛ وهو القانون الذي قدَّمته الحكومة الوفدية إلى
البرلمان للانتقاص من سلطات المجلس واستقلاله، ودوَّى صوته مُجلجِلًا
مُعارِضًا مشروعات تقييد حرية الصحافة سنة ١٩٥١، وكان لمعارضته لهذه
المشروعات دويٌّ كبير وصدى استحسان عظيم في الرأي العام، وبلغت مكانته
الوطنية والبرلمانية ذروتها في معارضته لهذه المشروعات حتى انتهت
بسحبها من البرلمان، فكانت هذه النتيجة أعظم انتصار للفقيد في حياته
السياسة والوطنية.
ولما شبَّت معركة القنال بين الفدائيين والإنجليز عقب إلغاء معاهدة
سنة ١٩٣٦ في أكتوبر سنة ١٩٥١، سافر إلى منطقة القنال، وساهم في حركات
المقاومة ضد القوات البريطانية واستُهدف للقتل غير مرة، فكان ذلك منه
غاية البذل والتضحية.
وكانت وفاته يوم أول مايو سنة ١٩٥٢ في حادثة فاجعة، بل مأساة أليمة؛
إذ كان يعتزم السفر إلى الفشن في صبيحة ذلك اليوم ليترافع أمام محكمتها
في إحدى القضايا، وكان ينوي السفر بالقطار، ولكن مواعيد السفر كانت قد
تغيَّرت ابتداءً من أول مايو لحلول الصيف، وقد فاته أن يعرف الموعد
الجديد للسفر، فلم يُدرِك قطار الصباح، فاستأجر سيارةً ركِبها قاصدًا
الفشن، وفيما هي تسير في الطريق الزراعي وقع لها قبل العياط ببضعة
كيلومترات حادثٌ فجائي، قلَبها رأسًا على عقب وهوى بها في الترعة
المحاذية للطريق، فمات الفقيد غريقًا، وكانت وفاته فجيعة للوطن وبنيه؛
إذ فقدوا بوفاته مجاهدًا صادقًا بين المجاهدين الأحرار.
كانت وطنيته فوق حزبيته، وعقيدته أساس شخصيته، كان يرى في الحياة
السياسية رسالةً يؤديها، لا يبتغي منها لنفسه مَغنمًا ولا نفعًا، ولا
يقصد إلا وجه الله والوطن، فلا غَرْو أن حزنت الأمة لوفاته حزنًا
عظيمًا.
اسلمي مصر
قال رحمه الله من قصيدة له سنة ١٩٣١ بعنوان «اسلمي مصر»:
اسلمي مصر على مرِّ القرون
حسبُكِ الله نصيرًا ومُعينْ
لن تُضامي أنت يا مهد الخلو
د وهذا بعض أشبال العرين
مَن تكن ليلاه مصر لا يَهِن
ساعة البذل ولو ذاق المنون
إلى أن قال:
لا رعاك الله يا عهدًا مضى
عهد بغي وافتئات وأُفون
محنةٌ لا عهد للناس بها
جزع الصبر لها والصابرون
عصفَت بالحرث والنسل معًا
وأعادت عهد كسرى ونرون
ونضَت سيفًا بَتوكًا كُلَّما
هبَّ ذُقنا بين حدَّيه المنون
دولة الحجاج إن قِيسَت بها
مثلٌ في الرفق عند المُنصِفين
وهوى الأوطان للأحرار دين
إلى أن قال في تمجيد التضحية:
في يمين الله ما ضحيتمُ
لا يُضيع الله أجرَ المُخلِصين
في هوى مصر يضحِّي عن حِجًا
ورضاء كلُّ مُستبقٍ ضنين
لن يَضيع العُرف عند الله إن
ضيَّع الخيرَ أصيلٌ وهجين
هو عند الناس جودٌ ووفا
وهو عند الله إيمان ودين
ولبانات الهوى شتَّى كَنا
رٍ سلِ التاريخَ عنها والمنون
فهوى ليلى بقيس متعةٌ
وهوى الأوطان للأحرار دين
هي ليلانا جميعًا فانظروا
هل قسطنا ما علينا من ديون؟
هل جمعنا من أفانين المُنى
ما تمنَّته على مرِّ السنين؟
ليتني أحيا إلى يومٍ أرى
فجرَ مصر فيه وضَّاء الجبين
لا أُبالي أعِظامي بعده
في سهوب
١ من ثراها أم حزون
لا سقاكِ النيل يا مصر إذا
لم نقرِّب من أمانيك الشطون
٢
ونُعِد مَجدًا سليبًا غابرًا
ونغيِّر بلِواك العالمين
لا يخشى الموت
كان رحمه الله يتنبَّأ بألا يطول به العمر وأنه سيموت في ربيع
الحياة، فكان يستعد للقاء الموت، ولا يهابه ولا يخشاه، وينشد
الخلود.
قال في هذا المعنى من قصيدة له سنة ١٩٣٣ بعنوان «لحن
الموت»:
أيها العرَّاف هل عند النجوم
سرُّ هذا الكون أو عند المنون؟
كاذبٌ علمُك ما لم تُنبِني
حِرتُ والله ولجَّت بي الظنون
جهلَ السرَّ أناسٌ قبلنا
وجهلْنا فوق جهل الأولين
حملوا العبء وقد ناءت به
أممٌ من قبلِ عادٍ و«أمون»
ولكَم ساءلت نفسي حائرًا
حيرة الساري بليلٍ ذي دجون:
ما وجودي؟ ما سبيلي؟ من أنا؟
ما جهادي؟ ما مصيري بعد حين؟
•••
يا بَني أمي لقد جدَّ نوًى
لا تقولوا مات في شرخ الصِّبا
ذلك الحق تجلَّى واليقين
ليس مِني مَن بكاني فارعَووا
لن يردَّ الدمعُ محتومَ المنون
•••
لا تقولوا ليته عاش! فقد
فارق الأصفادَ عصفورٌ سجين
شاقَني الخُلد كما شاق القطا
يا قارئ الكف!
وقال في هذا المعنى سنة ١٩٤٤ من قصيدة له بعنوان «يا قارئ
الكف»:
يا قارئ الكف ماذا أضمر القدَرُ؟
ولا عليك إذا لم يصدُق الخبرُ
وما اهتمامك باسمي؟ هَبْه عنترةً
وهَبْه زيدًا وجدي عمرٌو اوْ عمرُ
عليك بالكف فاقرأ بين أسطرها
ماذا يدل عليه الخط والأثر؟
•••
أَطالِع اليُمن أن الخط مُتصِل
وآية النحس أن الحد مُنبتِرُ؟
وما الشِّيات
٥ على جنبي ثمانية
تبدو كوشمٍ وتُخفي حولها غُررُ؟
•••
خبِّر عن الفأل لا تجفل فسانحةٌ
عندي كبارحة والشر ينتظرُ
هل أنسأ الله في عمري إلى أجلٍ
يُلحُّ فيه عليَّ الهمُّ
والكبَرُ؟
وهل أُبلَّغ آمالي؟ وأبعَدُها
عندي كأقربها ناءٍ ومُحتضِرُ
هَبْني ظفرتُ بآمالي على ظمأ
إذا ارتويت فماذا يعقب الظفرُ؟
وهل أُوسَّد حزنًا حَرةً وحصًى
في جوف هاوية أغوارُها حجرُ
أم هوجلًا
٦ قذَفًا
٧ تنبو براكبها
لا البيدُ عبَّدها يومًا ولا
الحضرُ
قفراء جرداء لم تكلأ حشائشَها
إلا السواقي ولم يعلَق بها مطرُ
أم تُقدَح النار من حولي فتُطعِمني
حيًّا وأُشوى بها أيَّان تستعرُ
«أم أن في مسبح الحِيتان مُنقلَبي
يوم الرحيل إذا نادانيَ السفرُ؟»
٨
•••
قُل ما بدا لك واهرف غيرَ مُبتدِع
فالرجم بالغيب — لو تدري — هو
الهذرُ
اللحد كاللحد والأكفان واحدة
ولا خيار لميْتٍ حين يدَّثرُ
والمال كالعُدم لولا أنه أمل
إن الغني إلى الأموال مُفتقِرُ
والسعد حال على الإنسان طارئة
«وعند صفو الليالي يحدث الكدرُ»
لولا التشابه في الأقدار ما صدقت
عرَّافةُ الحي مَن تُوفى لها
النذُرُ
الشورى
وقال من قصيدة له سنة ١٩٤٣:
بَني مصرَ هذا الحق أبلجُ واضح
وهذا صراطٌ يستوي عنده القصدُ
إذا شئتم الشورى فذلك حُكمها
وإن شئتم الفوضى فليس لها حدُّ
«تولَّى زمان الحاكمين بأمرهم
ولم يبقَ في الدنيا مَسودٌ ولا
عبدُ»
«تولَّى زمان الفرد لا عاد عهده
وبُدِّل بالدستور سلطانه الفردُ»
الضمير
وقال يصف الضمير من قصيدة له سنة ١٩٤٤:
صاحبٌ وَسْنان من طول السهرْ
إن تنَم ناداك أو تنسَ ادَّكرْ
كُلَّما غافلته في سكرة
من أمانيك تجنَّى أو عذَرْ
فإذا كفَّرت عن وزرٍ عفا
وإذا عُدتَ إلى إثمٍ ثأر
ليس ملموسًا فتدري كنهه
وهو ما كتَّمتَ يدري ما تُسِر
وتُواريه فيُغضي ساعة
ثم يستيقظ في لمح البصر
ليس عقلًا أو شعورًا خالصًا
بل تراثًا من شعور وفِكَر
فهو عقل باطن أو مُلهِم
وهو إحساس قديم مدَّخَر
كم جرعت الصابَ من ترياقه
واستسغت الشُّهد مما قد هصر
أنتما الدهرَ طريدٌ آبقٌ
وغريمٌ طاردٌ أو منتصِر
أينما ولَّيت أحصى مُرجئًا
موعدًا حتمًا فأيَّان المَفر؟
•••
يتراءى شاحبًا أو إمعًا
فهو كالظل إذا الظل انتشر
وهو جبارٌ عنيفٌ تارة
وهو أحيانًا ضعيفٌ يأتمر
وهو إعصار وريح صرصر
وهو كالسيل إذا السيل انهمر
وهو كالبحر إذا البحر طغى
وهو كالموج إذا الموج انحسر
وهو كالسهم إذا السهم رمى
وهو كالسيف إذا السيف بتر
آمرٌ ناهٍ وعاصٍ طيِّعٌ
وهو الآمر وهو المُزدجَر
لا ينام العمر إلا ساعة
فترقَّبها وبالِغ في الحذر
ساعةً إن نمتَ عنها غافلًا
عُدت كالمخمور أو كالمُحتضِر
أيها الساهر نَم أو لا تنَم
وترفَّق وتجلَّد واستعِر
إن جنَينا فعلَينا وِزرنا
وإذا نحن أنَبنا فاعتذِر
ومصر تُناديهم وصوتي يردِّد
وقال في يونيو سنة ١٩٤٦ وهو مُعتقَل في سجن الأجانب:
كفاك عزاءً أنك اليوم أوحَدُ
وقد يسكن الغمدَ الحسامُ المجردُ
يهون عذاب السجن والليل مُوحِش
ويُذهِب عنك الحزن فيه تجلُّدُ
وقد يُؤسَر الليث المَنيع عرينه
ويُرهَب منه الصوت وهو مصفَّدُ
«أهَبتُ بقومي أن يذودوا عن الحِمى
وما زِلتُ أدعوهم وما زِلتُ
أشهدُ»
أهبت بقومي والخطوب زواحف
تُلمُّ بهم طورًا وطورًا تهدِّدُ
«وأنذرت حتى بُح صوتي ولم أزَل
ومصر تُناديهم وصوتي يردِّدُ»
نذرت نفسي قربانًا لفاديها
ومن قصيدةٍ أخرى نظَمها وهو في سجن الأجانب سنة ١٩٤٦:
شكَت إلى الله من عدوان أهليها
وعاث غاصبها في أرض راعيها
وا حرَّ قلباه من يأسٍ يُصارعها
يكاد لولا بقايا الصبر يُردِيها
فزعت من غدها علمًا بحاضرها
ورُضتُ نفسي على نسيان ماضيها
وقفت قلبي عليها في شبيبته
فشاب منها ومن عدوان ساليها
لما أفقت من الماضي بلا أمل
نذرت نفسيَ قربانًا لفاديها
•••
ذكرت مصر فهاجَتني مَواجعها
وعزَّني الدمع حتى كِدتُ أبكيها
يا لائمي وأنا الجاني على كبدي
دع عنك لومي فإن اللوم يُغريها
كلٌّ يغنِّي ليُشجي سامرًا وهوًى
وقد يغنِّي لأوطارٍ يرجِّيها
وليس لي سامر فيها ولا وطرٌ
ولا زعمت جوادي من مذاكيها
وإنما هي آلامي أكتِّمها
حتى يضيق بها صدري فأحكيها
•••
نزحت عنها فلم أعدل بها وطنًا
وبات قلبي أسيرًا في مَغانيها
وصُنتُ شعريَ إلا عن مفاتنها
وهِمتُ في الأرض مسحورًا بواديها
ورقَّ شعري كما رقت جداولها
وراق وصفي كما راقت مجاليها
وما رأيت كناسًا فيه جؤذرُه
إلا ذكرت غزالًا في مراعيها
•••
لما رُدِدتُ إليها رُد لي أملي
عند اللقاء وأحياني تدانيها
وقد طويت إليها اليم واقتربت
بيَ السفينة من أُولى موانيها
فكاد يطفر قلبي من توثُّبه
وقد تنسَّم ريحًا من نواحيها
وحال قلبي دموعًا عندما اتأدت
فرُحتُ أنثر دمعي في ضواحيها
سجدت لله عرفانًا لنعمته
لما حلَلتُ رفيقًا من روابيها
فكيف حالت حياتي عندها سقرًا
وكيف أُصلِيت نارًا من سواقيها!
•••
جارت عليها صروف الدهر واختلفت
أيدي الرماة فآهًا من أعاديها!
راشوا لها السهم مسمومًا فشتَّتها
وكاد لولا يد الرحمن يُصميها
وأثخنوها جراحًا في مَقاتلها
يا لَلجريمة من عدوان آسيها
إلى أن قال:
فزعتُ من شرَكٍ يُلقيه غاصبها
قبل الجلاء لعل «الوعد» يُغريها
وما الجلاء إذا شُدَّت
٩ بسلسلة
من القيود و«شرط الحِلف» يُمليها
تشعَّب الرأي والأحزاب سادرة
ومصر صابرة والصبر يُضنِيها
وكيف تنهض من أسرٍ يكبِّلها
والقيد آمرها والقيد ناهيها
بني وطني أهبت بكم زمانًا
وقال في نوفمبر سنة ١٩٤٦ يندِّد بالإنجليز على أثر الاعتداءات
الدامية التي وقعت منهم في القاهرة والإسكندرية، ويدعو المواطنين
إلى البذل والتضحية:
سلُوا مَن سامها
١٠ هذا العذابا
ومن شرع الأسنَّة والحِرابا
سلوا جلَّادها تبَّت يداه
بأيِّ شريعةٍ فرض العقابا
أما ينهاه عقلٌ أو ضمير
يرد له المَحجة والصوابا
ضلالٌ أن يعاتَب مستبِدٌّ
وأولى بالمسوَّد أن يُعابا
وجهلٌ أن يُخاطَب غيرُ أهل
فلا تحزن عليه إذا تغابى
يصعِّر خده صلفًا وحمقًا
ويُورِدها على ظمأٍ سرابا
وكم أسدَت إليه وكم تجنَّى
ولم يحسب لعاقبةٍ حسابا
بأي جريرة وبأي عدل
تجرَّع مصر كأس النصر صابا؟
ولولا مصر ما غنِموا فلاة
ولولا مصر ما غلبوا ذبابا
•••
سلوا «دنكرك» هل نهضوا بعبء
وقد غنِموا السلامة والإيابا
سلوا «الصحراء» عنهم كيف طاروا
وهل تخِذوا النعام لهم ركابا
سلوا «العلمين» هل ثبتوا بأرض
وقد سبقوا مع العَدْو السحابا
فكيف تعاظَموا بعد انكسار
وكيف تبدلوا أُسدًا غضابا
سلوا «الميثاق»
١١ هل وأَدوه صبحًا
وهل نسجوا من الكفن الإهابا
وكيف جرى على فمهم كِذابًا
وسال على سواعدهم خِضابا
وكيف استبدلوا شرعًا بشرع
فأضحى الحق عندهم اغتصابا
كذلك تلدغ الأفعى كريمًا
جزاءَ صنيعه وتمدُّ نابا
وبين الناس رقطٌ وابن آوى
وذؤبانٌ ومَن غلب الذئابا
إلى أن قال:
ويا وطني فدَيتك من جِراح
إذا نكأت حملناها عِذابا
وهل يأسو الجريحَ سوى جريحٍ
يُشاطِره الفجيعة والمُصابا
وكم من قَسْور ورَد المنايا
يروع ببطشه السبع السغابا
إذا كرَّت عليه الخيل فرَّت
وإن سام الجياد حمى العرابا
روى دمه ثراك ففاح مِسكًا
وأينع روضةً وزكا ترابا
وآخر في «الجنوب» ثوى شهيدًا
فضجَّ النيل واجتاح الرحابا
لحى الله الخوارج والمطايا
ومن أضحت نفوسهمُ خرابا
ولا كان الجلاء إذا أحلُّوا
مع الحِلف المُرافِق والرقابا
وطوبى للأُلى ذهبوا فداءً
إلى الرضوان واستبقوا الثوابا
•••
بَني وطني أهَبتُ بكم زمانًا
فلما بُح صوتيَ قيل هابا
ولو نطق الجماد كما نطقنا
لأسمعه الصدى عنكم جوابا