عبد الله نديم
١٨٤٥–١٨٩٦
ظل الشعر في مصر بعد وفاة رفاعة رافع الطهطاوي خلوًا من المعاني
الوطنية، إلى أن تجدَّدَت في شعر عبد الله نديم.
هو خطيب الثورة العرابية، وهو أيضًا شاعرها، انطبعت في خطبه وقصائده
روح الوطنية المُتدفِّقة، وروح الثورة.
وُلِد سنة ١٨٤٥ بالإسكندرية، وبدت عليه منذ صباه مخايل الذكاء
اللامع، وظهرت مواهبه في الترسل في الكتابة والشعر والزجل، والقدرة
الخطابية، مع خفة في الروح، وميل إلى الفكاهة، وجرأة وإقدام، واستخفاف
بأحداث الزمان.
ولما ظهرت الثورة العرابية أوائل ١٨٨١، انضم إليها بطبعه؛ إذ كانت
نفسه تتأجج وطنية، وتتطلع إلى الحرية والمجد، وتجلَّت مواهبه الخطابية،
فصار خطيب الثورة العرابية.
ومما يُذكَر عنه في صدد الحديث عن شعره الوطني أنه لما سافر الألاي
السوداني الذي كان يقوده الأميرالاي عبد العال حلمي أحد زعماء الثورة
من القاهرة إلى دمياط، في أوائل أكتوبر سنة ١٨٨١، كان سفره يومًا
مشهودًا، فاحتشدت الجموع في محطة العاصمة لتحية الألاي حين سفره، وكان
من بين المُودِّعين عرابي والبارودي وعبد الله نديم، فوقف النديم وسط
هذا الجمع الحاشد وألقى خطبة حماسية فياضة، بدأها بقوله مُخاطِبًا رجال الجيش:
حماةَ البلاد وفُرسانَها!
من قرأ التواريخ وعلِم ما توالى على مصر من الحوادث والنوازل
عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف وما كُتِب لكم في صفحات
التاريخ من الحسنات.
إلى أن قال: وهذا وطنكم العزيز أصبح يُناديكم ويُناجيكم
ويقول:
إليكم يُرَد الأمر وهو عظيمُ
فإني بكم طول الزمان رحيمُ
إذا لم تكونوا للخطوب وللردى
فمن أين يأتي للديار نعيمُ؟
وإن الفتى إن لم يُنازِل زمانه
تأخَّر عنه صاحبٌ وحميمُ
فرُدوا عنان الخيل نحو مُخيَّمٍ
تُقلِّبه بين البيوت نسيمُ
وشُدوا له الأطراف من كل وجهة
فمشدود أطراف الجهات قويمُ
إذا لم تكن سيفًا فكُن أرض وطأة
فليس لمغلول اليدَين حريمُ
وختم خطبته بقوله: وأحسن ما يُؤرَّخ به اسم الجهادية عند النوازل أن
يقال: «مات شهيد الأوطان!» فنادى الجميع: «رضينا بالموت في حفظ
الأوطان!»
ولما شبَّت الحرب العرابية لازم النديم عرابي في كفر الدوار ثم في
التل الكبير، وكانت مجلته «الطائف»، تصدر في معسكر الجيش
المصري.
وبعد أن وقعت الهزيمة، ظل مُخلِصًا للثورة في محنتها، فبرهن على وفاء
نادر ووطنية أصيلة عميقة، وكان ممن أمرَت الحكومة باعتقالهم، وعجزت عن
التعرف إلى مقره والقبض عليه، وظل مُختفيًا عن عيونها وجواسيسها نحو
تسعة أعوام، وأعيا الحكومةَ أمرُه، وجعلت ألف جنيه لمن يُرشِد عنه،
ولكنها لم تهتدِ إليه.
وقد وصف ما لقيه من الشدائد أثناء اختفائه في قصيدة تفيض وطنية
وإيمانًا وفخرًا وشجاعة، وهي من غُرَر قصائده. قال:
أتحسبنا إذا قلنا بُلينا
بَلينا أو يروم القلب لِينا
نعم للمجد نقتحم الدواهي
فيحسب خامل أنَّا دُهينا
تُناوِشنا فتقهرنا خطوبٌ
ترى ليث العرين لها قرينا
سواءٌ حربها والسِّلم إنا
أناس قبل هدنتها هُدينا
إلى أن قال:
إذا ما الدهر صافانا مرِضنا
فإن عُدنا إلى خَطبٍ شُفينا
لنا جِلد على جَلد يقينا
فإن زاد البلا زِدنا يقينا
ألِفنا كل مكروه تُفدَّى
له فرسانه بالراجلينا
فأعيا الخَطبَ ما يلقاه منا
ولكنا صحاح ما عيينا
•••
سلينا يا خطوب فقد عرفنا
بأنا الصلب صِلنا أو صِلينا
وقرِّي فوق عاتقنا وقولي:
نزلت اليوم أعلى طور سينا
علينا للعلا دين وضعنا
عليه الروح لا الدنيا رهينا
فهل يُمسي رهين في سرور
وهل تلقى بلا كدر مَدينا؟
إذا ما المجد نادانا أجَبْنا
فيُظهِر حين ينظرنا حنينا
يُغنِّينا فيُلهينا التغني
عن الباكي ويُنسينا الحزينا
ولسنا الساخطين إذا رُزئنا
نعم يلقى القضا قلبًا رزينا
فإنا في عداد الناس قوم
بما يرضى الإله لنا رضينا
إذا طاش الزمان بنا حلُمْنا
ولكنا نُهينا أن نَهينا
إلى أن قال:
سلوا عنا «مَنابرنا» فإنا
تركنا في منصتها فطينا
لحكمتنا تقول إذا هذرتم
ألا هُبي بصحنك فاصبحينا
سَرَى فينا من الآباء سرٌّ
يسوق البَر نحو المُعوزينا
فإن عِشنا منَحْنا سائلينا
وإن متنا نفَحْنا الزائرينا
وقال يصف إحاطة الجند بالمنزل الذي كان فيه يريدون اعتقاله فنجَّاه
الله من شرهم:
أأنسى يوم مصر والبلايا
تُطارِدني ولا ألقى مُعينا
فكنتَ
١ الغَوث في يوم كريه
أخاف الشهم والحبر السمينا
مُدِحنا فيه في إشراق شمس
فلما جاء مَغربه هُجينا!
وهل أنسى هجوم الجند عمرًا
بلا علم وقد كنا فُجينا
أحاطوا بي وسدوا كل باب
وصِرنا بين أيدي الباحثينا
وكان السطح مملوءًا بجند
وخلف البيت كم وضعوا كمينا
فأدركت الوحيد وكان صيدًا
قريبًا من فخاخ الطالبينا
وأرشدتَ النديم إلى مكان
رآه بعد حيرته مَكينا
وأعمى الله عنا كل عين
وكنا للعساكر ناظرينا
وصِرنا فوق سطح فيه علو
يُحطِّم هاويًا منه مَتينا
فلم أرهب وثوبي من طمار
ولم أنظر شمالًا أو يمينا
ويوم الغيظ كنتَ لنا مُجيرًا
بسطوته من البلوى حُمينا
فقد كنا بلا ستر يرانا
أمام العين كلُّ القاصدينا
وكم سِرنا بلا خوف جهارًا
ركبْنا الخيل أو جئنا السفينا
وإني الآن في خَطب عظيم
أرى في طيِّه داءً دفينا
أتانا مُخبِر عن قوم سوء
أرادوا وصفنا للحاكمينا
وخاف الضُّر أحبابي جميعًا
وقالوا بالوشاية قد رُمينا
فعجِّل بالرحيل بلا توانٍ
ولا تُخبِر صديقًا أو خدينا
فأدرِك يا أبي نجلًا دهاه
من الأهوال ما يُوهي البدينا
فما خِفت المنون ولا الأعادي
نعم خِفت انشراح الشامتينا
•••
فسِرتُ الليلَ يصحبني ثبات
لخِل نحو منزله دُعينا
ورافَقني خليل كان قبلًا
يُوافي حين كنا ظاهرينا
وأدركنا القطار بغير خوف
وكنا بالثياب مُنكَّرينا
وألقى الله ستر الحفظ فضلًا
فلم ترَنا عيون المُبلِسينا
وكان الخِل مُنتظِرًا قُدومي
بخيل أوصلتْنا سالمينا
«ونجَّى الله بعد اليأس عبدًا
يرى الرحمنَ خير المُنقِذينا»
وإنك لترى هذا الشعر أقوى في الروح والأسلوب من شعره إبان الثورة،
وهكذا يبدو أن الهزيمة لم تنَل منه، بل زادته قوة وحيوية، وصلابة
وبلاغة، وأن الشدائد صقلت مواهبه كما تُصقَل المعادن وتُجلَى جواهرها
في لهب النار، فاحتفظ النديم في سِنِي المحنة بما حباه الله من إيمان
صادق، وعزم ثابت، وصمود على الأيام، وكذلك الشدائد والمِحَن، يختلف
أثرها في نفوس الناس؛ فبينما تبعث اليأس والجزع في النفوس الضعيفة،
نراها على العكس تزيد النفوس الكبيرة ثباتًا وصبرًا، وشجاعة وإيمانًا،
ومن هنا جاء شعر النديم بعد هزيمة الثورة أقوى منه في أوج
انتصارها.
وفي الحق أن النديم هو الزعيم الوحيد بين الزعماء العرابيين الذي
استمر في جهاده ضد الإنجليز ونضاله عن مصر في عهد الاحتلال، وتلك لعمري
ميزة كبرى جديرة بأن تُحيط اسمه بهالة من المجد والخلود، وقد اهتدت
الحكومة إلى مكانه سنة ١٨٩١ وقرَّرَت نفيه إلى خارج القطر، وفي أوائل
عهد الخديو عباس الثاني عفا عنه ورخَّص له بالعودة إلى مصر، فعاد
إليها، وأنشأ مجلة «الأستاذ» سنة ١٨٩٢، فتجلَّت فيها روحه الوطنية التي
لم تُضعِفها الهزيمة ولم تنَل منها الشدائد؛ مما أحفظ عليه الإنجليز
وصنائعهم، فتدخَّل اللورد كرومر، وأمر بإبعاده من مصر ثانية، فاضطر إلى
تعطيل صحيفته سنة ١٨٩٣، وودَّع قُراءه وداعًا مُؤثِّرًا في آخر عدد صدر
منها (في ١٣ يونيو سنة ١٨٩٣) قال:
ما خُلقَت الرجال إلا لمُصابَرة الأهوال ومُصادَمة النوائب،
والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال، وإن
كان المبدأ صعوبة وكدرًا في أعيُن الواقفين عند الظواهر؛ وعلى
هذا فإني أودع إخواني قائلًا:
أُودِّعكم والله يعلم أنني
أُحِب لقاكم والخلود إليكمُ
وما عن قِلًى كان الرحيل وإنما
دَواعٍ تبدَّت فالسلام
عليكمُ!
وانتهى به المطاف في منفاه إلى الآستانة حيث تُوفي سنة ١٨٩٦،
وشُيِّعت جنازته في احتفال مَهيب مشى فيه كثير من العلماء والكبراء،
يتقدمهم السيد جمال الدين الأفغاني، ودُفِن هناك.
بالأمس كان غريبًا في ديارهمُ
واليوم صار غريب اللحد والكفنِ!